مستقبل القوى العظمى والنظام الدولي

مستقبل القوى العظمى والنظام الدولي
إعداد: د. غسان العزي
أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

من المتفق عليه، بين المراقبين الدوليين، أن ما وعد به الرئيس الأميركي بوش، في غمرة انتصاره على العراق في حرب الخليج الثانية، وتحديداً في بداية آذار 1991، من "نظام دولي جديد" تسوده العدالة والمساواة بين الدول، لم ير النور بعد وقد لا يراه في يوم من الأيام. وما يعيشه العالم اليوم ليس "نظاماً دولياً جديداً" بل مرحلة انتقالية نحو هذا النظام الموعود. ويسود التساؤل، في أوساط الباحثين، عن طبيعة هذا "النظام" الجديد: هل سيبقى أحادي القطبية على ما هو عليه الحال الراهن تحت هيمنة أميركية واضحة أو مضمرة، مباشرة أو غير مباشرة، أم يعود ثنائي القطبية كما كان عليه في العقود الخمسة المنصرمة؟ ومن سيكون القطبين الجديدين عندئذ؟ أم أن العالم سيشهد تعدديـة قطبية اعتاد عليها طويلاً قبل القطبية الثنائية التي شكّلت مزدوجاً كبيراً أو حادثاً طارئاً في التاريخ، كما يقول أحد كبار الباحثين الفرنسيين([1]

إن أهمية هذه التساؤلات ليست محض نظرية، إذ أن بقاء النظام الدولي على أحاديته الراهنة سوف يضيّق الخناق على الدول المتأثرة سلباً بهذه الأحادية ويفقدها هوامش التحرّك الضرورية على الساحة العالمية. والدول المتأثرة سلباً ليست بالضرورة تلك التي تملك وجهات نظر مختلفة أو متباينة مع الولايات المتحدة؛ فحلفاء هذه الأخيرة أيضاً متضررون، وقد عبّروا عن ذلك في غير مناسبة وعبر أكثر من موقف وطريقة.

في محاولـة لرصد اتجاهات القوى العظمى ومستقبل النظام الدولي ينهج هذا البحث نهج مدرسة "الواقعية الدبلوماسية" التي تعتمد على تحليل الواقع الجيوسياسي على أساس توازن القوى. ويرى القسم الأول، في العلاقات الدولية، علاقات قوة ونفوذ، فيتعرّض للمتغيرات التي طرأت على مفهوم القوة ومعاييره وأسسه وضوابطه وأدواته، قبل أن يبني عليها مسار اتجاهات القوى العظمى نحو القرن الحادي والعشرين. وانطلاقاً من ذلك يحاول القسم الثاني تقدير نقاط قوة وضعف اللاعبين الكبار المرشحين لمركز الدولة الأعظم في مطلع القرن المقبل وتلمس العناصر الجاذبة وتلك الطاردة، في محرك اندفاعة كل منهم نحو هذا المركز.

 

I- العلاقات الدولية: معايير القوة وأدواتها

يقول أساتذة "الواقعية السياسية" بأن المجتمع الدولي ليس إلا ساحة سباق نحو القوة وأن مبدأ توازن القوى balance of power هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحقيق شيء من العدالة والتخفيف من حدّة لعبة الأنانيات والسلطة، رغم أن هذا المبدأ متغيّر وغير مستقر ويعجز عن منع النزاعات المسلحة بين الدول. ويؤكد هانس مورغانثو على أن "السياسة هي مجال السلطة والعمل السياسي هو الكفاح من أجل القوة" وأن "أساس السياسة الخارجية لكل دولة هي المصلحة الوطنية المصاغة بمفردات السلطة Interests defined as power والمصلحة الوطنية مطلقة في حين أن السياسة الدولية نسبية"([2]). لذلك يمكن التوفيق بين السياسات بفضل الدبلوماسية والتي هي، بنظره، فن إقامة أهداف محددة ممكنة التحقيق في نظام دولي يتّسم بالانقسام والتخاصم.

ويعتقد هنري كيسنجر أن "القوة ما تزال الحكم الأخير في العالم"([3]) وأن السلام الشرعي يتأسس على توازن القوى؛ وهو ليس مرادفاً للعدالـة بالضرورة([4]). هذه النظرة "الواقعية" للعلاقات الدولية سيطرت على التفكير الستراتيجي الأميركي خلال الحرب الباردة، وما تزال على الأرجح، بعد هذه الحرب. ففي عالم يؤمن الجميع فيه تقريباً بأن القوة تستطيع كل شيء والعدالة لا شيء يبقى التسابق نحو القدرة والسلطة أمراً راهناً. لكن مهما علا شأنها واتسع دورها في العلاقات بين الدول تبقى القوة معياراً نسبياً وأساساً هشاً ومفهوماً متغيراً.

 

1-نسبية معايير القوة

المعيار التاريخي الأول للقوة كان المعيـار العسكري الذي ساد قبل تصفية الاستعمار décolonisation إلى درجة أن قدر الدولة الضعيفة عسكرياً كان الاختفاء أو الخضوع للأقوى.

أما اليوم فقد ضعف تأثير هذا المعيار وإن لم يختف، ذلك أن القطاع العسكري قد يستنزف طاقات البلد على حساب الاستثمار في القطاعات المدنية المهمة والضرورية لبقاء الدولة. فالاتحاد السوفياتي، القوة العظمى عسكرياً، انهار دون حرب مباشرة، تحت وطأة وضع اجتماعي واقتصادي أنهكـه المجهود الحربي. وفي المقابل فإن الدول التي لم تسع وراء القوة العسكرية (ألمانيا واليابان تحديداً) هي الرابحة الفعلية بالحرب الباردة، إذ أنها أصبحت قوى اقتصادية عظمى. ومن السهل للقوة الاقتصادية أن "تتعسكر" لكن العكس غير صحيح فالاتحاد السوفياتي (السابق) يعجز عن التحول إلى قوة اقتصادية.

أضف إلى ذلك أن ظهور تهديدات جديدة (بيئية، مافيات، تهريب مخدرات، إرهاب، مناطق رمادية، صراعات عرقية وإثنية...) تعجز عن مواجهتها الحلول العسكرية التقليدية، قد أدى إلى إضعاف معيار القوة العسكرية. ويمكن القول، في المحصلة، أن هذا المعيار لم يعد الأهم أو الأول في قياس القوة رغم بقائه أساسياً في هذا المجال.

ويجدر التأكيد على أن قياس القوة العسكرية لا يتم عبر التعداد الرقمي للقوى فحسب، إذ أن حيازة العدد الأكبر من الجنود والعتاد لا تعني حيازة القوة العسكرية الأهم. يجب إدخال عناصر أخرى تقنية ونوعية ومعلوماتية واتصالية وستراتيجية وغيرها. كذلك أصبحت حيازة أسلحة الدمار الشامل من نووية وبيولوجية وكيميائية وغيرها مكوّناً أساسياً من مكونات القدرة العسكرية.

أما المعيار الاقتصادي فيفرض اليوم نفسه بقوة أكثر من أي وقت مضى. ويدور الحديث حول "الحرب الاقتصادية". أليس الاستقلال هو، قبل كل شيء، استقلالاً اقتصادياً؟

فالبلد الغني، بكل بساطة، لا يحتاج للمساعدة ولا يضطر للخضوع إلى الشروط السياسية التي ترافق عادة مثل هذه المساعدة. ومن المعروف أن صندوق النقد الدولي (على سبيل المثال لا الحصر) يتدخل بشكل سافر في شؤون الدول التي يقدّم لها المساعدات المشروطة. والدول الكبرى تلجأ إلى المساعدات كشكل من أشكال الهيمنة على الدولة الصغرى.

والقوة الاقتصادية تسمح بالتحول نحو القوة العسكرية أو، على الأقل، تحمل كلفة حيازة مثل هذه القوة العسكرية. فخلال الحرب الباردة أنفقت الولايات المتحدة على قوتهـا العسكرية أكثر بكثير مما أنفقه الاتحاد السوفياتي ولكن اقتصادها سمح لها بتحمل الكلفة([5]).

ويفيدنا التاريخ الحديث بأن قوة الدول تبنى، قبل كل شيء، على قواعد صناعية. ويمكن شرح انحطاط الدول من خلال فقدان الفاعلية الاقتصادية وانهيار الأجهزة الإنتاجية الوطنية. وقد أصبحت إنكلترا في القرن الماضي قوة اقتصادية مهيمنة لأنها كانت البلد الصناعي الأول وحققت تقدماً كبيراً على منافسيها. فمع اثنين في المئة فقط من سكان العالم عام 1860 أنتجت المملكة المتحدة أكثر من خمسين في المئة من الإنتاج الصناعي العالمي، خصوصاً في القطاعات الستراتيجية من النسيج إلى صناعات الحديد والصلب([6]). والولايات المتحدة تربعت على عرش القوة العظمى، في النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل هيمنتها الصناعية وتفوقها في مجالي التكنولوجيا وإدارة الأعمال. وفي عام 1970، في قمة سيطرتها، أنتجت 45 في المئة من الإنتاج الصناعي في العالم غير الشيوعي وكان عدد سكانها يشكل عشر (10/1) سكان العالم.

ثم يأتي المعيار الديمغرافي، وهو سلاح ذو حدين. فالنمو السكاني الزائد، بحسب نظريـة مالتوس، يؤدي إلى إضعاف الدولة. وإذا كان العدد مهماً في السابق فلأن المزيد من السكان كان يعني المزيد من الجنود. ويعتقد بعض المحللين أن ألمانيا استطاعت، بفضل عديد سكانها، أن تحشد عدداً من الجنود، في حرب 1870، يبلغ ضعف ما حشدته فرنسا، وكان ذلك مدخلاً للانتصار في الحرب([7]). وكان ارستيد بريان وزير الخارجية ورئيس الوزراء الفرنسي بين الحربين العالميتين يقول بأن سياسة بلده الخارجية لا تستطيع أن تتجاهل واقع التراجع الديمغرافي الذي ينعكس سلباً على القوة العسكرية والتوسع الخارجي.

لكن المعادلة (المزيد من السكان = المزيد من القوة) لم تعد بهذه الآلية. فالتقدم التكنولوجي اكتسح الأهمية العددية. لا بل أن المزيد من السكان يعني اليوم، في بعض البلدان، مزيداً من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والتخلف والتلوث البيئي والتبعية الغذائية وغير ذلك من الأمراض العصبيّة.

رغم ذلك يبقى المنظار النسبي ضرورياً لرؤية أوضح للأمور. فعدد سكان الدول يساعدها أحياناً في بسط ثقلها دولياً. وتتذرّع أثيوبيا ونيجيريا بعدد سكانهما بحثاً عن دور مهم في منظمة الوحدة الإفريقيـة. وإيران ترى في قوتها الديمغرافية وسيلة لتحقيق زعامتها على الخليج. وتسعى كيبك، عبر زيادة عدد سكانها، إلى تأكيد قوتها حيال كندا الأنغلوفونية. ويأمل فلسطينيو الأراضي المحتلة، عبر تزايدهم السكاني، أن يغرقوا الدولة العبرية مستقبلاً. وقد أتاح توحيد الألمانيتين فرصة حل المشكلة الديمغرافية لألمانيا. ومن جهتها فإن فرنسا، الساعية وراء المحافظة على موقعها الأوروبي والعالمي، تمارس سياسة تشجيع الولادات. لكن الصين، الساعيـة وراء مركز القوة الأعظم، تفرض على سكانها سياسة الولد الواحد غير الشعبيـة والتي مكّنتها من لجم الانفجار السكاني.

على مستوى آخر تطرح الخارطة الدولية علينا السؤال التالي: أية مساحات لأية قوى؟ من هو الأقوى منغوليـا أم لوكسمبورغ؟ لختنشتاين أو كازاخستان؟ هذه المقارنات الشاذة ظاهراً تبرهن بأن الحجم الصغير يمكن أن يحمل ثروات تزيد بكثير ما تنتجه المساحات الواسعة. واليابان التي أصبحت قوة اقتصادية عظمى تقوم على أرخبيل يكاد لا يصلح للسكن ولا تحتوي بواطنه البركانية على أيـة ثروة طبيعية تذكر، في حين أن بلداناً عديدة في العالم تضيق بأرضها الثروات الطبيعية والكنوز تكاد تعجز عن إطعام شعوبها.

هذا لا يعني استبعاد العامل الجغرافي من مكونات ومعايير القوة، لكن يجب النظر إليه بعين نسبية، إذ هناك شروط أخرى ضرورية تتعلق بالمجتمع المدني الذي يعيش على الأرض وبالتنظيم السياسي الذي يديرها([8]). فالحوادث المؤخرة التي عصفت بالمعسكر الشرقي السابق بيّنت عن خطوط الانكسار، الإثنية والدينية والإيديولوجية، الموجودة في مساحات هذا المعسكر الشاسعة. والتناغم السياسي الاقتصادي للمساحة يضفي تماسكاً على الوظائف الإيجابية للاتساع الجغرافي، لكن ذلك يفترض صلابة كبرى للمجتمع الذي يعيش على هذه المساحة.

وهكذا فإن معيار الاتساع الجغرافي يبقى، بدوره، نسبياً وهشاً، ومن شأنه إما إضعاف وإما تقوية المجتمعات التي تعيش عليه. كما أن قوة تماسك هذه المجتمعات هي التي تحمي هذه المساحة من رياح التفتت والتشرذم التي قد تعصف بها.

يبقى أن هناك معايير وأسس للقوة لا تقل أهمية عما ورد أعلاه. فمستوى التربية والتعليم عامل مهم من عوامل القوة. كوريا الجنوبية (43 مليون نسمة) لديها 1.4 مليون طالب جامعي في مقابـل 145 ألف طالب فقط في إيران (54 مليون نسمة) و15 ألف في أثيوبيا (45 مليون نسمة) و159 ألف في فييتنام (64 مليون نسمة). وفي عـام 1980 منحت المعاهد والجامعات الكورية شهادات في الهندسة، بفروعها المختلفة، يوازي ما منحته المؤسسات البريطانية والسويدية والألمانية مجتمعة([9]). هذا الخزان البشري يشكل ثروة دفعت المراقبين الدوليين إلى التفاؤل بقدرة كوريا الجنوبية على تخطي آثار الكارثة الماليـة التي عصفت بها إثر انهيار البورصة الكبير في أواخر العام 1997 وبدايات 1998.

هناك معيار آخر مهم هو التماسك الوطني والاجتماعي. وقد ورد في "الكتاب الأبيض حول الدفـاع" الصادر في باريس في شباط 1994 بأن "القوة لا تأتي من اتساع الأرض الوطنية بقدر ما تنجم عن التنظيم الاجتماعي وتربية المواطنين وتضامنهم والقيم التي تجمع فيما بينهم"([10]). ففي غياب سلم أهلي واجتماعي تضطر أقوى الدول إلى التخلي عن قسم من طموحاتها على الأقل.

وفي المحصلـة يمكن القول بأن ليس هناك من عامل مسيطر من ضمن عوامل القوة ومعاييرها. فهذه الأخيرة تنجم عن مزيج مركب من مجموع المعايير ومن تلاؤمها الداخلي. فالبلد الفقير الذي يعاني من انفجار سكاني، والبلد الغني قليل السكان، وذلك القوي عسكرياً والضعيف اقتصادياً...إلخ هم أقل استقراراً وقوة من الدولة التي تتمتع بتناغم وتوازن نسبيين بين هذه الأسس والمعايير المختلفـة. فالقوة عبارة عن سلسلة من الحلقات المترابطة والتي يمكن قياس مقاومتها انطلاقاً من الحلقة الأضعف فيها.

 

2-هشاشة أدوات القوة

تمارس الدول لعبة القوة عبر وسائل وأدوات: دبلوماسية وعسكرية واقتصادية بالإضافة إلى وسائل أخرى "خاصة".

فالحذاقة السياسية والدبلوماسية، في كثير من الأحيان، تبدو أجدى وأنفع من القوة العسكرية. والانتصار العسكري لا يجدي نفعاً في غياب دبلوماسية تجيد قطف ثماره. وكأداة من أدوات قوة الدولة فإن أبرز ما تسعى إليه الدبلوماسية هو صياغة التحالفات وعقد الاتفاقات، والتي برهن التاريخ الدبلوماسي بأنها كانت دوماً مؤقتة ومتغيرة ومتبدلة.

والأحلاف وسيلة تلجأ إليها الدول الضعيفة لحماية نفسها ضد جار قوي أو ضد قوة إقليمية طامعة، كما أنها وسيلة تلجأ إليها الدول الكبرى لبسط سيطرتها على منطقة أو مجموعة من الدول، وأحياناً على جزء كبير من الخارطة الدولية. وما تزال الولايات المتحدة إلى اليوم تمارس نوعاً من الهيمنـة على أوروبا وقسم كبير من العالم عبر حلف الأطلسي التي تسعى لتجديده وتوسيعه.

وجيوبوليتيك الأحلاف ليس سهلاً البتة، لا في تطبيقها اليومي ولا في هيكليتها الداخليـة التي تتطور تبعاً للحالة السياسية للدول التي تتكون منها([11]). والتحالفات أدوات هشة مؤقتة وزائلة من أدوات القوة سواء صيغت على شكل معاهدات رسمية قانونية أو بطريقة واقعية ضمنية غير مكرّسة باتفاقات مكتوبة واضحة([12]).

وتسعى الدول لامتلاك الأداة العسكرية التي تبقى، في رأيها، الضامن الأكبر للقدرة والسلطـة. وتضم هذه الأداة كل الوسائل البحرية والبرية والجوية - وحتى الفضائية في عصرنا هذا - التي تمتلكها الدولة، في وقت السلم وفي زمن الحرب، بغية تأمين تحقيق أهدافها الجيوبوليتيكية([13]). والغرض الأساسي لهذه الأداة هو خوض غمار الحرب عند الاقتضاء أو منع مثل هذه الحرب من الاندلاع. ذلك أن الدول الضعيفة قد تكون سبباً للنزاعات والحروب بسبب طمع الأقوياء بها، وأحياناً كثيرة تكون حيازة القوة العسكرية (النووية خصوصاً في عصرنا هذا) خير واقٍ من الحروب لما تشكله من رادع للطامعيـن. وهذا ما عبّر عنه ريمون آرون بالدعوة إلى حيازة القوة العسكريـة "تحديداً من أجل عدم استخدامها" قبل أن يتابع بالقول أن "العلاقات بين الدول تتضمن في جوهرها تعاقباً بين الحرب والسلم. وفي حين أن كل دولة تميل إلى احتكار العنف لنفسها فإن الدول، عبر التاريخ، باعترافهـا المتبادل ببعضها البعض، إنما تعترف بذلك بشرعية الحروب التي تشنّها ضد بعضها البعض(13)".

والحرب نوعان دفاعية وهجومية رغم أن كل الدول تشنّها تحت شعار الدفاع عن النفس حتى عندما ترسل قواتها آلاف الكيلومترات خارج الحدود الوطنيـة. والحرب هي تطور الطموح الجيوبوليتي من مرحلة النفوذ والضغط إلى مرحلة المواجهة والعنف المسلح. وبهذا المعنى فإن دراسة طريقة تنظيم وتنسيق الوسائل العسكرية لبلد معين تساعد على معرفة خصائصه وطموحاته الجيوبوليتية([14]). وهذا يتطلب تحليلاً كمياً ونوعياً للقوى وطبيعتها وطريقة انتشارها وتموقعها الحيّزي أو المكاني، مما يساعد على استنتاج نوايا القيمين عليها (دفاعية، هجومية، توسعية...). ولا ينفصل تحليل القوة العسكرية عن دراسة الطبيعة الجغرافية للدولة([15]). كذلك ينبغي التساؤل عن قدرة البلد على صنع السلاح بنفسه أو استيراده من الخارج، و "عمن يصنع ماذا ولماذا؟" و "ما هي الأسلحة المنتجة؟ وتلك المصدّرة؟ ولمن؟ وبأي دافع؟"...إلخ. فالأداة العسكرية مهما اشتدت وقويت تبقى هشة إذا اعتمدت، في وجودها، على الآخرين الذين يستطيعون الضغط على الدولة وابتزازها عبر فرض حظر على الأسلحة أو المعدات أو قطع الغيار مثلاً. وهذه حال الدول غير الصناعية التي، وإن امتلكت جيوشاً جرارة فإنها تبقى رهينة مموّليها بالعتاد والسلاح.

ورغم التقدم الهائـل لأدوات الفتك والتدمير فهناك حقائق ما تزال ثابتة منذ قرون. إذ أن الجيوش الجرارة تبقى عاجزة أمام حروب العصابات المتكررة ويفقد السلاح النووي كل فعالية أمام حروب الأدغال والمدن. ثم أن انتشار هذا السلاح وغيره من أسلحة الدمار الشامل في دول الجنوب أو في يد منظمات إرهابية، قد يؤدي إلى تغيّر جذري في مفهوم القوة العسكريـة من أساسها ويفرض إعادة التفكير في جدوى الأدوات العسكرية وفي تراتبية القوى على الحلبة الدولية.

أما القدرة الاقتصاديـة فهي هدف تسعى إليه كل الدول والجماعات وهي، في الوقت نفسه، سلاح أو أداة في يدها تستخدمها في لعبة القوة على المسرح الدولي([16]). والأداة النقدية أو المالية هي الرافعة الكبرى المستعملة من قبل الدولة القومية الحديثة للتربع على كرسي القوة. والنقد، منذ وقت طويل، هو وسيلة هيمنة؛ فالبلدان المهيمنة هي، في الوقت نفسه، بلدان تصك العملات العالمية. وهذه حال بريطانيا والولايات المتحدة اللتان فرضتـا الليرة الاسترلينية، ثم الدولار، كعملة أساسية في العلاقات النقدية العالمية خلال القرنين التاسع عشر ثم العشرين.

ويقال عن المال بأنه عصب الحرب وهو سلاح ستراتيجي فعال في الحرب الاقتصادية التي تخوضها الأمم حالياً. وتساهم حركات الرساميل الدولية في تحديد الاتجاهات الأساسية للهيمنة الاقتصادية. وهذه خصوصاً حال عمليات الاستثمار المباشر الهادفة للسيطرة على الشركات الأجنبية.

وفي ظل تنامي ظاهرة العولمة([17]) فمن المتوقع أن يستمر المال في دوره المسيطر لكن قد تتم ممارسة السيطرة بطريقة مختلفة لأن أشكال التنافس وعلاقات القوة بين الدول سوف تتطور. والتغيرات المستقبلية للاقتصاد العالمي من زاوية العلاقات بين القوى الاقتصادية الكبرى يمكن أن تتميز بالظواهر الثلاثة الجديدة التالية:

-نهاية النظام القائم على الهيمنة الاقتصادية لقوة كبرى، إذ أن قوى عديدة سوف تسيطر على الاقتصاد العالمي. إنه نوع من المرور نحو نظام قائم على "اوليفارشية" صناعية ومالية، وهو مسار بدأ مع القيادة الاقتصادية النقدية المشتركة للعالم من قبل الثلاثي: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان([18]).

-بموازاة ذلك سوف نشهد أقلمـة متنامية للاقتصاد العالمي؛ أقطاب إقليمية تتشكل: آسيا الجنوبية-الشرقية حول اليابان أو/و الصين؛ أميركا مع نافتا (NAFTA) (اتفاق التبادل الحر لأميركا الشمالية بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك)؛ وأوروبا المتحدة. وهكذا فإن مفهوم المساحة الاقتصادية يتعرض للتبدل مع الإضعاف المستمر لدور الدول. وهذه حال المجموعة الأوروبية حيث يخسر المستوى الوطني تدريجياً لحساب السلطة الإقليمية وفوق - الوطنية. وقد نشهد ظواهر تنافس شديد يصل إلى حدود الحرب الاقتصادية بين هذه المساحات الإقليمية، مما قد يدفعها إلى تأسيس سياسات تعاون جديدة، خصوصاً في الميدان النقدي (إعادة بناء نظام نقدي عالمي جديد مثلاً).

-وبالإضافة إلى الدول الحديثة التصنيع NPI فقد نشهد ظهور قوى صناعية جديدة ليس فقط في آسيا وأميركا اللاتينية ولكن في الجمهوريات التي كانت سوفياتية سابقاً.

في جميع الأحوال يبدو أن المعطيات الاقتصادية الحالية للقوة سوف تتبدل بشكل واسع خلال القرن المقبل وبأن السلاح الاقتصادي، كأداة من أدوات القوة الدولية، لن يكون حكراً على دولـة واحدة أو مجموعة من الدول الكبرى كما كانت عليه الحال حتى الأمس القريب. وهذا يعني أن هذه الأداة، رغم فعاليتها الأكيدة، سوف تبقى متغيرة ونسبية إلى حدود بعيدة جداً.

تبقى الإشارة إلى "الوسائل الخاصة" التي تستخدمها الدولة في لعبة القوة على الساحة الدولية. وهي مجموعة الأجهزة الاستخباراتية المدنية والعسكرية العاملة داخل الحدود وخارجها. وتلعب هذه الأجهزة أحياناً دوراً مقرراً في العلاقات الدولية، في السلم كما في الحرب. وفي الحربين العالميتين ساهمت في انتصار الحلفاء أكثر مما ساهمت المدافع والدبابات. والصور التي التقطتها السي. آي. إيه للصواريخ الكوبية فتحت إحدى أخطر الأزمات بين الجبارين الأميركي والسوفياتي في الحرب الباردة. والمخابرات المركزية الأميركية هذه تمارس نشاطات "خاصة" تشمل بقاع العالم كافة وتصل إلى مستوى تعيين الحكومات وعزلها في بلدان عديدة. وفي المنطقة العربية قام جهاز الموساد، وما يزال، بكل أنواع الأعمال "الخاصة" من قتل وإرهاب وزعزعة استقرار وغيرها، وبفضله تمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق انتصارات عسكرية هامة([19]).

والإرهاب من الوسائل "الخاصة" التي تلجأ إليها الدول عبر أجهزتها السرية. وبفضل التقدم التكنولوجي أصبحت هذه الوسيلـة أفتك بكثير من ذي قبل. ففي بداية هذا القرن كانت العملية الإرهابية (بالمسدس أو أي سلاح آخر خفيف) تقتل عدداً من الأشخاص يكاد لا يذكر مقارنة بما تقدر عليه اليوم وسائل القتل الإرهابية (بالشحنات المتفجرة والتي يمكن تفجيرها من بعد) التي ابتكرها العلم منذ سنوات معدودة([20]). وهذا "التقدم التكنولوجي" في مجال الإرهاب جعل من هذا الأخير لاعباً مهماً في العلاقات الدوليـة ووسيلة فعالة في يد الجماعات والدول تتيح لها، على الأقل، ممارسة نفوذ فاعل لدى الرأي العام. فهدف الإرهاب ليس القتل من أجل القتل بل إجبار الدولة المستهدفة، تحت ضغط الرأي العام فيها، على التراجع عن موقف معين أو اتخاذ إجراء سياسي ما. ويجد الإرهاب، في وسائل الإعلام الحديثة، خير حليف بفضل ما تمارسه من نفوذ وتأثير لدى الرأي العام المستهدف([21]).

لكن مهما قويت وأسند عودها تبقى فعاليـة أجهزة المخابرات نسبية وهشة في بعض الأحيان. فالمخابرات الأميركية التي جنّدت آلاف الفيتناميين، لم تستطع درء الهزيمة عن الجيش الأميركي؛ والكا. جي. بي التي تمكنت من التغلغل إلى داخل المخابرات الغربية كلها، لم تستطع الإمساك بخيوط المقاومة الأفغانية المعتمدة على ثوار فيهم الكثير من الأميين؛ ورغم الأسطورة المحيطـة بجهاز الموساد الإسرائيلي فإنه فشل في النفاذ إلى صفوف المقاومين في جنوب لبنان والناشطين في الأراضي الفلسطينية المحتلة الذين انتقلوا في الآونة الأخيرة إلى تنفيذ عمليات نوعية، انتحارية وغيرها، شبيهة بما كانت تنفذه المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.

ويجب الملاحظة، في مجال آخر، أنه في الآونة الأخيرة، وبسبب العولمة الاقتصادية المتنامية والتحول الجذري الذي طرأ على العلاقات الدولية بعد الحرب الباردة فقد حصل بعض التراجع في المجال العسكري للاستخبارات لصالح الهمّ الاقتصادي الذي انخرطت فيه أجزاء مهمة من أجهزة الدول السرية.

 

II-سباق القوى العظمى نحو القرن الحادي والعشرين

إن ظاهرة القوة العظمى قديمة قدم التاريخ نفسه. والدولة الأقوى أو الأعظم هي، ببساطـة، تلك التي تملك ما لا يملكه منافسوها من وسائل وأدوات القوة. "فالقوة السياسية علاقية ونسبية ولا تظهر إلا في ظل علاقات بين وحداتها. ولا يمكن وصف الدولة بأنها ضعيفة أو قوية إلا مقارنة بدول أخرى وفي مواقف معينة. وهي ذات طبيعة تراكمية وتحويلية. بمعنى أن امتلاك مقدار منها يؤدي إلى امتلاك مقدار آخر، وأنه يمكن تحويلها من شكل إلى آخر واستبدالها بقيم أخرى"([22]).

وهكذا مثلاً فمن العبث قياس قوة دولة ما بالمطلق، أي وفقاً لمعايير محددة جامدة. فالولايات المتحدة هي الدولة الأعظم فقط قياساً بقوة باقي دول العالم في الوقت الراهن. وبريطانيا اليوم هي أقوى وأغنى مما كانت عليه في القرن التاسع عشر عندما كانت الدولـة الأعظم التي تكتب قواعد التجارة الدولية وتسير وفقاً عليها بقية دول العالم. رغم ذلك فبريطانيا اليوم "قوة عظمى ناقصة"([23]) لا تملك ما تملكـه الولايات المتحدة من وسائل القوة.

وإذا سلّمنا بأنه رغم كل التحولات العميقة التي تطاول اليوم معظم الظواهر والمفاهيم التي سادت في الماضي فـإن "الوحدات السياسية" - الدول - ما تزال اللاعب الأساسي في العلاقات الدولية وما تزال تبحث عن تحقيق مصالحها الوطنية عبر حيازة الحد الأقصى الممكن من القوة، وبأن النظام الدولي يقوم على مجموعات من الدول تبرز فيها قوى إقليمية ثم قوى دولية عظمى فأعظم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من هي القوة (ى) الدولية التي قد تحل محل - أو إلى جانب - الولايات المتحدة في مركز قيادة النظام الدولي في القرن الحـادي والعشرين؟ أم أن النظام الدولي سوف يبقى على أحاديته الراهنة تحت سيطرة أميركية مستديمة؟

ينبغي قبل كل شيء استعراض الحالة الأميركية التي تشكل اليوم نقطة الاستدلال في فضاء القوة الدولية قبل استطلاع أوضاع المرشحَين الكبيرّين لمركز القوة العظمى في العلاقات الدولية المقبلة: الاتحاد الأوروبي والصين.

ورغم ما تتمتع به كل من روسيا واليابان من ثقل في الساحة الدولية فإنهما تفتقدان إلى الكثير من المعايير والأدوات الضرورية للدخول في سباق القوة العظمى. روسيا رغم قوتها العسكرية الهائلة، التقليدية والنووية، وإمكاناتها الجيوبوليتية والجغرافية والديمغرافية وماضيها كقوة عظمى منذ الإمبراطورية القيصرية حتى "الإمبراطورية" البولشفيـة قبل الانهيار الكبير، فإن ما تعانيه من وهن اقتصادي وتمزق اجتماعي وتخبط سياسي وتراجع سريع في ميادين علمية وتكنولوجية عديدة وسيطرة للمافيات والفساد وتربص لجماعات إثنيـة عديدة تحبذ الانفصال...إلخ يضعها خارج ميدان سباق القوى العظمى لعقود عديدة مقبلة. هذا لا ينفي قدرتها على ممارسة وزن دولي فاعل من خلال مقعدها الدائم في مجلس الأمن ونفوذها لدى دول عديدة تناهض الولايات المتحدة والغرب وقوتها العسكريـة المهابة وصناعاتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية وتحالفاتها المعقودة والممكنة...إلخ لكن كل ذلك لن يرتقي بها إلى أكثر من قوة إقليمية عظمى ودولية فاعلة، أي ما دون القوة العظمى الدولية ببون قد يتسع وقد يضيق.

أما اليابان والتي كادت تحتل مركز القوة الاقتصادية الأعظم فإنها بدأت مساراً تراجعياً منذ العام 1993 عندما بدأت نسبة نموها الاقتصادي بتحقيق أرقام سلبية (ما دون الصفر). وفي الآونة الأخيرة وصلت الأمور إلى حد إفلاس مصارف عديدة ومؤسسات مالية كبرى مثل يامايتشي. هذا لا يعني أن اليابان في طريقها إلى التحول إلى دولة فقيرة أو حتى عادية ولكنه يعني أن "النموذج الياباني" لم يعد يقوم على أسس متينة تجعله قابلاً لتحويل البلد إلى مثال عالمي يحتذى. ثم أن اليابان عندما كانت في أوجها كان ينظر إليها المراقبون على أنها "عملاق اقتصادي وقزم سياسي وحشرة عسكرية". وما يحصل اليوم هو أن هذا "العملاق” الاقتصادي يتقلّص تدريجياً دون أن يرافق ذلك تقدماً في المجال العسكري يبقى مشروطاً بموافقة واشنطن أولاً ثم دول المحيط الذين لا يرضون بأي حال من الأحوال أن تستعيد اليابان ولو جزءاً من قوتها العسكرية التي مارست في الماضي كل أشكال الهيمنة على الجيران.

 

1-الولايات المتحدة الأميركية: العرش الزائل

يتفق كل المحللين تقريباً على أن "القرن العشرين كان أميركياً"([24]) تمكنت خلاله الولايات المتحدة من احتلال المواقع المتقدمة الأولى في الميادين جميعها، العسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والثقافية، وصارت زعيمة "للعالم الحر" الغربي في مواجهة الاتحاد السوفياتي طيلة نصف قرن، قبل أن يتركها سقوط هذا الأخير على نفسه لتصبح القوة العظمى الوحيدة المتربعة على عرش النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة.

لكن للعملة وجه آخر، فالقوة الأميركية العظمى تحمل في أحشائها بذور التراجع والانحطاط. والكلام عن هذا الانحطاط بدأ في الثمانينات وازداد بشكل ملحوظ خلال ولاية الرئيس ريغن الثانية. وكان بول كينيدي([25]) أول من فتح هذا النقاش بطريقة علمية منهجية، معتمداً على مقارنة تاريخية ما بين القوى المهيمنة التي تعاقبت منذ القرن السادس عشر، ليستنتج بأن انحطاط القوة العظمى يبدأ عندما يصبح إنفاقها العسكري أكثر من قدرة اقتصادها على تحمله، فتصبح القوة Power عندئذ رهاناً بحد ذاته، ويصبح "التوسع الإمبراطوري المفرط" Imperial Overstretching أكثر من قدرتها على الاضطلاع به وتحمل مسؤولياته. والمحرك الأساسي للهيمنة يقبع في هذه العلاقة المتوازنة ما بين الثروة والقوة العسكرية. وبالغريزة تلجأ القوى الاقتصادية التي تتعرض للانحطاط، إلى زيادة نفقاتها العسكرية فترمي نفسها في حلقة مفرغة من التراجع والانحطاط. والولايات المتحدة، بنظر كينيدي، تواجه هذه المعضلة، وبالتالي فإن انحطاطها قد بدأ، والقرن المقبل لن يشهد قوة عظمى أميركية.

وتكثر الأطروحات القائلة بانحطاط القوة الأميركية العظمى وانهيارها المقبل([26]). وبالطبع لا تتحدث هذه التوقعات عن هزيمة عسكرية كبرى أو اجتياح للأراضي الأميركية ولكن عن انفجار على الذات Implosion نتيجة أزمة اقتصادية واجتماعية وانهيـار النظام القيمي الذي شكّل مصدر فخر للأميركيين طيلة القرن الحالي. وكانت قد صدرت دراسات عديدة تؤكد "الاكتئاب الصامت"([27]) الذي يعاني منه الاقتصاد الأميركي منذ عام 1973 حين عرفت الإنتاجية انخفاضاً مفاجئاً وحافظت على مستواها المنخفض منذ ذاك، وتؤكد صعوبة الخروج من المديونية المفرطة ومن الأزمة التي تعود إلى أسباب بنيوية أكثر منها ظرفية([28]).

كذلك على الصعيد الاجتماعي تعاني الولايات المتحدة من أزمة، بنيوية هي الأخرى وليس ظرفية عابرة، تشكّل مكوناتها العديدة أوضاع التربية والتعليم ونظام التأمين الصحي والاجتماعي والإفقار المستمر للطبقات الاجتماعية والمتوسطة وتفاقم مشكلة الضواحي والفيتوهات والعنصرية والجريمة والمخدرات وغيرها. وهكذا فإذا كانت التعدديـة وبوتقة الانصهار Melting-Pot ونظام القيم والحلم الأميركي American Dream وطريقة الحياة الأميركية American way of life كلها من مصادر اعتزاز الأميركيين بنموذجهم فالمفارقة أنه، على أبواب القرن الحادي والعشرين، تحول ذلك إلى مصدر تساؤلات وهموم مرشحة للتفاقم([29]).

لكن إدارة الرئيس كلينتون التي وعدت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1991-1992 بالانكباب على الوضع الداخلي، تمكنت في الحقيقة من التصدي للعديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومنها على سبيل المثال لا الحصر مشكلة العجز الخزيني المتفاقمة منذ عقود. فعندما أتى كلينتون إلى السلطة عام 1992 كان هذا العجز بحدود الـ 290 مليار دولار. وراح ينخفض تدريجياً. وفي شباط 1998 وللمرة الأولى منذ ثلاثين سنة تقدمت الحكومة الأميركية بموازنة فيها فائض وليس عجز. وهذا الفائض يقدّر بحوالي 9 مليارات دولار للعام 1999([30]). كذلك تمكنت إدارة كلينتون من محاربة مشكلة البطالة عبر تأمين أكثر من خمسة ملايين فرصة عمل. كذلك استعاد الاقتصاد الأميركي مركزه العالمي الأول في أكثر من مجال، خصوصاً بعد تراجع منافسيـه الآسيويين نتيجة الأزمة اليابانية وانهيار البورصات في "نمور" آسيا الجنوبية-الشرقية.

رغم ذلك يمكن تسجيل تراجع واضح في المكانة الأميركية المهيمنة عالمياً. إذ تمكّنت واشنطن في حرب الخليج الثانية 1991 من حشد أسطول عسكري دولي قل نظيره في التاريخ وتربّعت على رأس ائتلاف عالمي ضم معظم دول العالم. لكن بعد سنوات قليلة وتحديداً في بداية العام 1998 لم تستطع واشنطن حشد القليل من المؤيدين لها مما اضطرها للتراجع عن حرب ضد العراق كانت قد استعدت لها عسكرياً وإعلامياً وسياسياً. ويبدو واضحاً أن عدد الدول الراضية بنظام عالمي أحادي القطبية تحت السيطرة الأميركية آخذ بالتراجع وبوتيرة جد متسارعة.

 

2-الاتحاد الأوروبي: آمال وعثرات

يقول الأوروبيون المتحمسون للاتحاد أن هذا الأخير يملك جميع حظوظ النجاح المادية والإنسانية التي تمكنه من التطلع إلى أن يكون قوة عالمية عظمى. فالاتحاد النقدي الأوروبي سوف يحتل المركز الاقتصادي الأول في العالم (بناتج قومي قائم قدره 5888 مليار دولار) أمام الولايات المتحدة (5567 مليار دولار) واليابان (3158 مليار دولار)([31]). والاتحاد الأوروبي هو القوة الوحيدة التي تتسع وتقوى بالانضمام الإداري الاختياري لجيرانه. ويتوقع لستر ثرو أن يكون القرن المقبل أوروبياً وأن "البيت الأوروبي، بوصفه أكبر سوق في العالم، هو الذي سيكتب قواعد التجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين، وسيكون على بقية بلدان العالم أن تتعلم كيف تمارس اللعبة الاقتصادية وفقاً لهذه القواعد"([32]). وكان البروفسور هانتنغتون قد توقع أيضاً أن تنتقل "سفينة القيادة العالمية" في القرن المقبل من أميركا، ليس إلى اليابان أو الصين أو روسيا، بل إلى "فدرالية أوروبية"([33]).

كما يتوقع خبراء نقديون واقتصاديون عالميون أن تصبح العملة الأوروبية الموحدة - الأورو - منافساً خطيراً للدولار بمجرد أن ترى النور، وأن تحل محله، في النظام النقدي العالمي في غضون سنوات قليلة([34]). ومن هؤلاء الخبراء من يخشى أن يمر ذلك عبر صراع اقتصادي تجاري مكشوف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على غرار الصراع الذي نشب خلال مفاوضات الغات وجولـة الأوروغواي تحديداً (1986 - 1993).

والحقيقة يمكن القول دون مجازفة أنه إذا قدّر للاتحاد الأوروبي أن ينمو ويتطور بحسب التصور الذي وصفه مهندسوه فإنـه سيصبح في بدايات القرن المقبل قوة عظمى تملك كل الوسائل والأدوات الموصلة إلى مركز الدولة الأعظم. فالسوق الأوروبي، المؤلف من حوالي 450 مليون من السكان ذوي التعليم الجيد والتكنولوجيا العاليـة يتهيّأ لاستيعاب المزيد من المنضوين فيه من أوروبا الشرقية وغيرها ليضم، في نهاية المشروع، بين 850 و 900 مليون نسمة فيصبح عندها أكبر وأهم سوق موحد في العالم.

لكن يبدو أن دون ذلك عقبات كثيرة وطنيـة وسياسية وعسكرية واجتماعية وغيرها. ويتساءل المشككون: كيف ستعمل أوروبا في مجالات حساسة مثل سياسة الهجرة المشتركة والعملة المشتركة والبنك المركزي الموحد والقوات المسلحة المندمجة (أو الفيديراليـة على الأقل) والسياسات الخارجية الدفاعية الموحدة؟ أليس من الطوباوي تصور خمس عشرة أمة (أو أكثر) كل واحد منها لها تقاليدها الخاصة كوحدة ذات سيادة، وهي تصبح الولايات المتحدة الأوروبية، كما أمل الفيديراليون الأوائل؟ أليس من الأجدى عملياً القيام بإصلاحات أكثر تواضعاً دون إضاعة الطاقات في تحويل أوروبا إلى لاعب دولي موحد([35]

هذا على الأقل رأي البريطانيين الذين يفضلون أوروبا سوقاً تجارية موحدة فحسب دون الدخول في متاهات السياسة الخارجية والدفاع وغيرها. أما الفرنسيون فما يزالون يحلمون الحلم الديغولي الشهير: أوروبا واحدة موحدة من الأطلسي إلى الأورال. وتنقسم الدول الأوروبية بين مفهومين لأوروبا: نظام دولي فدرالي أو تعاون دول ذات سيادة تقرر سياسة مشتركة. والمعروف أن بريطانيا تبقى معارضة لكل تصور أوروبي قائم على الفدرالية، وهي التي أفشلت نصاً كانت الدول الأعضاء المتفاوضة قد اتفقت عليه عشية التوقيع على معاهدة ماستريخت، ويقول أن هدف المعاهدة على المدى الطويل هو قيام فدرالية أوروبية. كذلك فقد انسحبت لندن من نظام آلية العرف الأوروبي ولن تدخل في الاتحاد النقدي في سنينه الأولى.

ومن المنطقي أن أوروبا عسكرية من دون دينامية سياسية خارجية موحدة تحركها لا مستقبل لها أكثر من أوروبا سياسية موحدة من دون مسؤوليات عسكرية تلتزمها وتعطيها مصداقية، كما يبرهن ذلك العجز الأوروبي في إدارة أزمات مثل أزمة يوغسلافيا السابقة([36])، التي اندلعت في قلب أوروبا وعلى مقربة من عواصم أوروبية كبرى. ويغزي العجزان السياسي والدفاعي بعضهما البعض منذ أربعين سنة، أي منذ فشلت أولى محاولات قيام اتحاد سياسي ثم دفاعي أوروبي مطلع الخمسينات.

وآخر "تجليات" هذا العجز الأوروبي برز خلال الأزمة العراقية - الأميركية في شباط 1998 حين سارت بريطانيا، التي كانت ترأس الاتحاد الأوروبي وقتها، وراء الركب الأميركي دون استشارة حلفائهـا في الاتحاد، في حين وقفت فرنسا ضد الضربة العسكرية الأميركية للعراق، وتراوحت مواقف الدول الأوروبية الأخرى بين التردد والحيرة والانقسام بين فرنسا وبريطانيا([37]).

وكانت فرنسا، الدولة الأكثر حماساً لمشروع الدفاع الأوروبي المشترك، قد أقنعت حلفاءها بالضغط على الولايات المتحدة ومفاوضتها بغية الحصول على اتفاق يسمح بتشكيل فيلق أوروبي خاص داخل حلف الأطلسي يقوم بعمليات خاصة دون مشاركة أميركية. وتم التوقيع على هذا الاتفاق في برلين في حزيران 1996، الأمر الذي اعتبره وزير الخارجية الفرنسي إيرفيه دو شاريت وقتها "خطوة في طريق الاستقلال الدفاعي الأوروبي عن الولايات المتحدة"، فرد عليـه المراقبون الأميركيون بأن القوات الأوروبية المنبثقة عن اتفاق برلين لن تتمتع باستقلال كامل عن الولايات المتحدة لأنها ستحتاج دوماً إلى العتاد اللوجستي والسلاح وأجهزة الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة التي تملكها أميركا([38]). ذلك أن حلف الأطلسي كمؤسسة "يملك القليل جداً من الإمكانات العسكرية والبشرية، ومعظم قواته ليست سوى قوات أميركية (...) وهو لا يملك إلا بعض الوسائل القليلة (...) غير القادرة على العمل من دون العتاد الأميركي وطائرات النقل الضخمة الأميركية الصنع وطائرات التزود بالوقود وأقمار التجسس الاصطناعية"([39]). ولهذه الأسباب وغيرها يعتقد محللون دوليون عديدون أن "أوربة حلف الأطلسي ليست سوى أسطورة"([40]) وبأن الولايات المتحدة سوف تستمر بالإمساك بزمام الأمور داخل هذا الحلف وبالهيمنة على أوروبا عن طريقه.

ومهما يكن من أمر فإن الدرب الذي اختطته أوروبا الاتحادية لنفسها درب لا عودة فيه. إن ثمن أوروبا غير الموحدة أي العبء الذي يقع على اقتصاديات المجموعة الأوروبيـة، إن لم تتحد، مرعب جداً([41]) في عالم يحتدم فيه السباق والتنافس. لكن اتحاد أوروبا الفدرالي سيتطلب وقتاً طويلاً، ولقد اقتضى بالفعل قرابة أربعين عاماً لمجرد أن يصل إلى النقطـة التي يمكن عندها إلغاء ضوابط الحدود.وسيلزم وقت طويل آخر لتكملة الاتحاد العسكري والسياسي. والأرجح أن يكون التقدم غير منتظم، خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الخلف، خطوة إلى اليسار، خطوة إلى اليمين، في طريق ملأى بالألغام والعثرات تقود إلى ما يطمح به المتحمسون لأوروبا. استعادة الدور التاريخي في قيادة شؤون العالم.

 

الصين: قوة عظمى واعدة

يعتبر مؤتمر الحزب الشيوعي الحادي عشر عام 1978 الذي بايع دينغ شياو بينغ خلفاً لماو تسي تونغ، بعد التخلص من "عصابة الأربعة" والذي وافق على مشروعه الإصلاحي القائـم على الانفتاح، نقطة انطلاق التحول الصيني الكبير. فبعد أقل من عقد ونصف من الزمن حقق مشروع دينغ أول وأكبر إنجاز، إذ لم تعد الصين تعتمد في غذائها على الخارج بل حققت اكتفاءً ذاتياً لإطعام أكثر من مليار ومئتي مليون نسمة، عدد سكانها عام 1995. كذلك تحققت السيطرة على المشكلة الديمغرافية عبر سياسة "الولد الواحد" رغم المشاكل السوسيولوجية الكثيرة التي أفرزتها.

ثم راح ينطبق على الصين وصف "المعجزة الاقتصادية" كما تدل الأرقام والمؤشرات الاقتصادية. فمنذ عام 1978 أخذت نسب النمو السنوية تحقق أرقاماً خيالية تخطت 13 بالمئة عام 1993 "مقابل صفر في فرنسا واليابان مثلاً" لتستقر عند نسبة متوسطها 9 - 10 بالمئة خلال هذه السنين المنصرمة. وعرف الناتج الوطني القائم نمواً معدله الوسطي حوالي 9 بالمئة من 1978 إلى 1995 مع قفزات قدرها 11 بالمئة عامي 1991 و 1994([42]). كذلك بلغت نسبة النمو الصناعي 18 بالمئة عام 1992 فرفعت الصادرات (أكثر من 24 بالمئة من العام نفسه). وقد ارتفع مستوى المعيشة أربع مرات في عشر سنوات، مما يشكل بديلاً عن الدمقرطة؛ فالنجاحات الاقتصادية تعقي النظام، في رأيه، من تقديم تنازلات في المجالات السياسية([43]).

لقد دخلت الصين في نادي المصدّرين العشرة الكبار في العالم وارتفعت صادراتها بمعدّل وسطي قدره 14.5 بالمئة سنوياً بين 1979 و 1993. وفي عام 1994 ارتفعت بنسبة 31.9 بالمئة لتصل إلى 121.5 مليار دولار.

ويسبّب الفائض التجاري الصيني مشاكل مع الولايات المتحدة وصلت إلى حدود التهديد بعقوبات اقتصادية عام 1995. فقد وصل هذا الفائض إلى 39.5 مليار دولار عام 1996 بعد أن كان في حدود العشرة مليارات عام 1990([44]). وإحدى وسائل الضغط التي تلجأ إليها واشنطن في وجه بيجينغ هي إعاقة دخولها في "المنظمة العالمية للتجارة OMC".

ويمكن القول، باختصار شديد، أن الصين تتمتع بكل المزايا تقريباً التي تؤهلها لاعتلاء مركز القوة العظمى أو ربما الأعظم كما تقول تقديرات عديدة (صادرة عن مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومراكز أبحاث غربية مرموقة): شعب يتمتع بتماسك ولحمة ثقافة (كونفوشيوسية) تزيد من هذه اللحمة([45])؛ مستوى تربية وتعليم يزداد رقياً يوماً بعد يوم ليضاهي نظرائه في أكثر الدول الغربية تقدماً؛ مستوى تكنولوجي يسير على وتيرة تطورية مرتفعة جداً، قوة عسكرية ضخمة تدعمها أسلحة متطورة تقليدية ونووية؛ قوة اقتصادية يُتوقع لها أن تصبح الأولى في العالم مع نهاية العقد الأول من القرن المقبل؛ مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي يسمح للصين بممارسة تأثير كبير على مجرى الأحداث العالمية؛ علاقات دولية منفتحة وقدرة على ممارسة نفوذ في عدد كبير من بلدان العالم النامي...إلخ.

لكن للعملة وجه آخر ترتسم عليه علامات الخطر والانحطاط المتمثلة عموماً في الفساد الذي ضرب صفوف الجيش والحزب والإدارة وفي الإنماء غير المتوازن بين المناطق الصينية. فعندما بدأ دينغ شياو بينغ مشروعه الإصلاحي قال أن للرأسمالية حسناتها ودعا شعبه للاستفادة منها والسعي لكسب المال والثروة، ولكنه كان واثقاً من سلبياتها عندما قال عام 1981: "حتى تتقدم الصين لا بد من فتح النوافذ. ولا بأس إذا دخل البعوض، إذ علينا طرده بعد ذلك"([46]).

وكانت الحكومة قد سمحت للجيش منذ العام 1990 بالعمل في المجال التجاري المدني بغية دعم ميزانيته وتحديث أجهزته وتغطية نفقاته. كذلك شجعت أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي الحاكم على الانغماس في التجارة والتصدير. وقد نجح الجيش في تأمين نفقات وزارة الدفاع عام 1993 وكشف نشاط الحزب عن نجاحات تجارية لا يستهان بها.

وكان هذا النجاح النافذة التي دخل منها بعوض "الفساد والرشوة". ووصلت الأمور إلى حد أن الرئيس زيميـن اعتبر، في خطاب له في آب 1993 أن "النضال ضد الفساد هو العمل السياسي العاجل للحزب "مشيراً إلى أن" الفساد بات ينتشر في جسم الحزب والدولة كفيروس مؤذ وأن فشل مهمة محاصرته يعني سقوط سلطة الدولة والحزب"([47]). وقد شنّت الحكومة حملات واسعة متتالية ضد الفساد وقامت بتطهير الجيش والحزب والإدارة من آلاف المتورطين والمشتبـه بهم، وصدرت أحكام بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة بعدد من الكوادر وقادة الحزب الشيوعي في المناطق.

على صعيد آخر قامت الصين منذ العام 1980 بفتح "مناطق اقتصادية خاصة" تسمح لها باستقبال الاستثمارات والرساميل الأجنبية بعد أن شرّعت قوانين تهدف إلى تشجيع دخول وعمل الاستثمارات الأجنبية في شركات صينية - أجنبية تستفيد من شروط وإعفاءات خاصة بغية دعم التصدير([48]). ومع الوقت ازدهرت هذه المناطق، الموجودة خصوصاً في الساحل الجنوبي، وفي وقت بقيت فيـه مناطق الداخل مغرقة في التخلف. وينتج عن هذا التفاوت الإنمائي بين المناطق مفاعيل سلبية عديدة أهمها الهجرة من الريف إلى المدينة وبالتحديد إلى مناطق الواجهة البحرية في الجنوب، الأمر الذي قد يقضي على القطاع الزراعي الذي يعاني من مشاكل مستفحلة. ومن هذه المفاعيل السلبية أيضاً قيام نزاع إداري واقتصادي وسياسي بين الأقاليم الغنية والمركز. وتشكل الضرائب أكبر نقاط الخلاف بين المركز والأقاليم. وقد صدرت دراسة عن أكاديميـة الصين للعلوم الاجتماعية، عام 1993، تحذّر من تفكك الصين بسبب الطموح نحو الاستقلالية الاقتصادية عن المركز في بيجينغ، وهو أمر عانت منه الصين طيلة تاريخها([49]).

هناك مسألة أخرى كانت تزرع المخاوف على مستقبل الصين ووحدتها السياسية، وهي الصراع على السلطـة بين الأجنحة المتنوعة التي تشكل منها قمة الهرم السياسي، وهو صراع كان يتوقع له المراقبون أن ينفجر غداة وفاة دينغ شياو بينغ. لكن مات الرجل في شباط 1997 وتمكن خلفه جيانغ زيمين من حسم الأمور لصالحه في المؤتمر الخامس عشر للحزب الحاكم المنعقـد بين 12 و 18 أيلول 1997 عندما تمكن من إزاحة منافسيه والسيطرة على كل مفاصل الحكم من الحزب إلى المؤسسة العسكرية إلى الإدارة بكاملها([50]). واستطاع زيمين إدخال "نظرية دينغ شياو بينغ" في صلب الدستور مما يعني أن "اقتصـاد السوق الاشتراكي" القائم على الانفتاح الاقتصادي والتشدد السياسي هو الإيديولوجية التي ستحكم الصين بالإضافة إلى مبدأ "بلد واحد لنظامين" أو أكثر الذي عادت بموجبـه هونغ كونغ إلى الصين في الأول من تموز 1997 والذي قد يغري تايوان بالعودة مستقبلاً بعد أن تكون هونغ كونغ قدمت الدليل على نجاح التعايش بين الازدهار الاقتصادي و "الديمقراطية على الطريقة الصينية".

وبعد ترتيب الوضع الداخلي ووضع خطة لمحاربة الفساد وتحقيق الإصلاحات المتبقية على طريق الليبرالية الاقتصادية وتحقيق الإنماء المتكامل والمتوازن، اتجه الرئيس زيمين صوب الخارج بغية تعزيز مكانة بلاده الدولية. فكانت الزيارة "التاريخية" للولايات المتحدة في تشرين الأول 1997 والتي أسست لحقبة جديدة من العلاقات بين البلدين مع الاتفاق على تزويد الصين بمعدات تكنولوجية حساسة جداً كانت إدارة ريغان قد فرضت حظراً على تصديرهـا للصين. وهكذا استطاعت هذه الأخيرة الحصول على ما كان يلزمها لدفع المسار الإنمائي إلى الأمام بعد أن تعهّدت بوقف كل تعاون نووي مع إيران.

بعد ذلك أنتجت الزيارات المتبادلة بين الرئيسين يلتسين وزيمين اتفاقاً "تاريخياً" هو الآخر، إذ تم الاتفاق على ترسيم الحدود بين البلدين. وبذلك وضع حد لخلاف عمره أكثر من ثلاثة قرون. وكانت الصين قد وقّعت اتفاقات تجارية عديدة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي تكريساً لتحسين العلاقات معهما.

وهكذا فإن الدول الكبرى في العالم تتجه نحو التعامل مع الصين كأمر واقع وسوق هام ودولة عظمى يستحيل تجاهلها. وإذا استمرت الأمور على وتيرتها الحالية من الإنجازات الداخلية والحضور الدولي، وفي غياب مفاجآت كبرى في المدى المنظور فإن العقود، وربما السنوات، المقبلة قد تشهد تكريساً لنبوءة نابوليون بونابرت الذي قال: "عندما تستفيق الصين يرتجف العالم"([51]).

 

خلاصة

يمضي القرن العشرون بعد أن خلّف وراءه تحولات جذرية تربك المحلّلين والدول؛ لكنه ترك أيضاً كوابح وضوابط وخطوطاً حمر. فالارتباط النقدي العالمي المتبادل يشكّل سقفاً للتنافس والتصارع المالي والتجاري بين الدول الفاعلة في الساحة العالمية. دلّ على ذلك الأزمة التي عصفت بالبورصة العالمية في تشرين الأول 1987 وبعدها بعشر سنوات بالضبط في منطقة آسيا الجنوبية - الشرقية. لقد بدت البورصات العالمية كأحجار الدومينو إن سقط الواحد صعب على الآخرين تدارك السقوط وتحاشي فعل "الذبذبات الارتدادية" بحسب تعبير رجال المال والأعمال. كذلك فالسلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل المنتشرة في العديد من الدول تضع كوابح فاعلة أمام انفجار الحروب الكبرى. والظواهر العديدة العابرة للقارات والأوطان مثل المخاطر البيئية والمخدرات والمافيات والأمراض وغيرها تزيد من الهموم المشتركة بين الدول.

لكن كل ذلك لا ينفي أن الصراع بين الدول سيبقى قائماً والتسابق نحو القوة أيضاً؛ تماماً كما كان الوضع بالأمس وقبله وعبر التاريخ. فالدول سوف تستمر في سعيها للحصول على المزيد والمزيد من وسائل القوة وأدواتها. وسوف يستمر السباق نحو مركز القوة الأعظم، الإقليمية، والدولية إذا أمكن، في عالم تحكمه المصلحة والأنانية الفردانية ويفتقر إلى العدالة والكفاء. وستبقى البلدان الفقيرة والضعيفة محط أطماع القوى الكبرى الباحثة عن الأسواق والنفوذ والموارد الطبيعية.

من ستكون هذه القوى/ة الكبرى في "النظام الدولي الجديد"؟ وهل ستحكم هذا الأخير أمادية أم ثنائية أم تعددية قطبية؟

كل الدول "النافذة" أو الكبرى تمتلك من العناصر الجاذبة ما يؤهلها لاعتلاء سدّة النظام العالمي المقبل. وفي المقابل تنوء جميعها تحت عدد من العناصر الطاردة ما ينأى بها عن الفوز في سباق القوة الأعظم.

لكن يمكن القول أن روسيا يلزمها سنوات، وربما عقود، قبل أن تلم أشلاءها وتدخل في حظيرة الدول الكبرى وفقاً للحد المعقول من معايير القدرة الدولية وأدواتها. واليابان، وإن كانت لا تزال تتمتع بكل المزايا الاقتصادية المؤهلة لاعتلاء المنصب الأول في العالم إلا أنها تفتقر إلى كل أدوات ومعايير القوة الأخرى، في وقت يتعرض نموذجها الاقتصادي نفسه إلى عملية إعادة نظر خطيرة. أما الصين والاتحاد الأوروبي فهما بصدد بناء قوتهما المستقبلية الطامحة لاحتلال المركز الأعظم. ومن هنا حتى يتم هذا البناء فقد تحمل الأوضاع الدولية مفاجآت غير محسوبة. وهكذا ففي الوضع الراهن وللمدى المنظور على الأقل، وبما أن القوة نسبيـة ولا تقاس إلا بقوة الغير، فالسباق يبدو محسوماً لصالح والولايات المتحدة التي تملك وحدهـا كل معايير القوة وأدواتها في كافة المناحي والميادين.

لكن من يراقب حركة الدبلوماسية العالمية يلاحظ خيوطاً تنسج علاقات من التقارب أو "التحالف" الظرفي العابر ربمـا، والقائم على رفض النظام الدولي القائم على الأحادية القطبية. فقلما يصدر بيان روسي - صيني مشترك، في مناسبة أو أخرى، دون أن يدعو إلى نظام دولي متعدد الأقطاب بعيداً عن هيمنة دولة واحدة. وفي الأدبيات السياسية الأوروبية، والفرنسية خصوصة، فإن تعبير "الأمبريالية" الأميركية و"الغزو الأميركي" الثقافي والاقتصادي والسياسي لأوروبا يحتل حيزاً خاصاً. ومشكلة الفائض التجاري الياباني تسمّم العلاقة بين واشنطن وطوكيو المتذمرة من التسلّط الأميركي.

وعلى عكس النظام الثنائي - القطبية السابق الذي انضوت تحته الدول طوعاً أو كراهية، فإن النظام الحالي يتعرض لرفض شديد ومقاومة من معظم دول العالم. ويترافق ذلك مع سعي عملي لإعادة ترتيب سلّم القوى الدولية. والجليّ أن منافسي أميركا يعودون إلى مبدأ التوازن، أي موازنة القوة الأميركية المهيمنة عبر التحالفات المواجهة لها، العابرة أو الراسخة، الظرفية أو الستراتيجية، الاقتصادية أو الدبلوماسية...

وقد كشفت المواقف الدولية من الأزمة العراقية - الأميركية في شباط 1998 عن هذا التوجّه الدولي الجديد. فقد انقسم مجلس الأمن بين فريقين: واحد يضم واشنطن ولندن ويستعد لضرب العراق، وآخر يضم فرنسا وروسيا والصين يعارض مثل هذه الضربة ويعمل على منعها بالطرق الدبلوماسية. وبذلت الدبلوماسية الفرنسية جهوداً واسعة في هذا الاتجاه، وهدّدت الصين باستعمال حق النقد - الفيتو في مجلس الأمن، في حين أن الرئيس يلتسين ذهب في معارضة للولايات المتحدة إلى حد التحذير من "نشوب حرب عالمية ثالثة" في حال قامت واشنطن بتوجيه ضربتها للعراق. لقد عجزت الإدارة الأميركية عن تأمين موافقة دولية - وليس مشاركة بالضرورة كما حدث عام 1991 - على حربها المقررة رغم كل الحشود العسكريـة والدبلوماسية والضغوط التي استخدمتها للحصول على مثل هذه الموافقـة. الأمر الذي يفرض إضفاء المزيد من النسبية على مقولة "الهيمنة" الأميركية على الأمم المتحدة والنظام الدولي.

ومن المرجح أن تشهد العقود القليلة المقبلة صعوداً للقوى المنافسة للولايات المتحدة وتراجعاً لهذه الأخيرة. وليس أكيداً أن يكون القرن المقبل صينياً أو أوروبياً أو أميركياً كما تقول التوقعات المختلفة، ولكن ربما تسود التعددية - القطبية والدبلوماسية متعددة الطرف على غرار النظام الذي حكم القرن التاسع عشر.

وخارج نادي الدول الكبرى فليس من المؤكد أن الدول الـ185 الأعضاء في المنظمة الدولية ستكون متساوية في الحقوق. ومن صفوف هذه الدول قد تنهض قوى إقليمية تتمتع بنفوذ معيّن تستغلّه لممارسة ضغوط على مراكز القرار لدى الدول العظمى (مثل إسرائيل، إيران، تركيا، مصر، كوريا الجنوبية، المكسيك، البرازيل، كندا...إلخ). وفي سعيها وراء المصلحة والقدرة، لا مناص للدول من الانفتاح على بعضها البعض، وسلوك درب الدبلوماسيـة الباحثة عن قواسم مشتركة مع الآخرين، في عالم تغلب فيه الواقعية السياسية على الطوباوية الإيديولوجية.

 


[1]- BAECHLER Jean. "La grande parenthèse", éd. Calmann - Lévy, Paris 1993.

[2]- MORGENTHAU Hans. "Politics among nations", Alfred Knopf, 5th ed., New York 1975, P. 82.

[3]- Time, December 27, 1976, P. 43.

[4]- sir ZORGBIBE Charles. "Relations internationales", éd. P.U.F. Paris 1979, P. 21.

[5]- KISSINGER H. & VANCE C. "Bipartisan objectives for American foreign policy", foreign affairs, summer 1998.

[6]- PLILHON D. "Les base économique de la puissance", in BONIFACE   P. (sous la direction de). "La puissance internationale", éd. Dunod, Paris 1994. P.P. 65-73.

[7]-BERTILLON A., "Le problème de la population", éd. A. Colin, Paris 1897.

[8]- THUAL  F., "L'étendue", in BONIFACE  P. op. cit. P.P. 59 - 64.

[9]- KENNEDY Paul. "Préparer le XXIème siècle", éd. Odile Jacob, Paris 1994, P. 242.

[10]- "Livre blanc sur la défense", Paris 1994, P. 28.

[11]- THUAL François. "Méthodes de la géopolitique", éd. Ellipses, Paris 1996, P. 26.

[12]- cf. bid. P.P. 26 - 30.

[13]- ARON Raymond "Paix et guerre entre les nations", éd. Calmann - Lévy. Paris 1984. P. 18.

[14]- THUAL F. op.cit. P. 33.

[15]- CELERIER Amiral Pierre. "Géopolitique et géostratégie", éd. P.U.F. col. Que sais-je? No 693. Paris 1969.

[16]- cf. FERRIER Jean-Pierre. "Les relations internationales", éd. Gulino éditeur, Paris 1996. Chap. 17: l'arme économique. P.P. 187 - 194.

[17]- cf. FERRANDERY Jean- Luc. "Le point sur la mondialisation", éd. P.U.F. Paris 1996.

[18]- cf. VALANCE Georges. "Les maîtres du monde, Allemagne, Etats Unis, Japon", éd. Flammarion. Paris 1992.

[19]- cf. DAN Uri. "Mossad, 50 ans de guerre secrète", éd. Presses de la cité, Paris 1995.

[20]- THUAL F. op.cit. P. 44.

[21]- Ibid.

[22]- موسوعة العلوم السياسية. جامعة الكويت 1993 / 1994. ص. 491.

[23]- بحسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي أوبير فيدرين. النهار 12-6-1997.

[24]- RAMONET Ignacio. "Le siècle des Etats Unis", Le Monde Diplomatique, (manière de voir, no 31, Août 1996), P. 6; VALLADAO Alfredo G.A. "Le XXIème siècle sera américain", éd. La Découverte/essai. Paris 1993.

[25]- KENNEDY Paul. "The rise and fall of the great powers", New York 1989.

[26]- أنظر عل سبيل المثال: CALLEO David P. "Beyond American Hegemony", Basic book, New York, 1987; LUTTUACK Edward N. in commentary, March 1992; CROZIER Michel. "Le mal américain", éd. Fayard. Paris 1980.

[27]- PETERSON Wallace C. "The Silent Depression", in challenge, July 1951.

[28]- BRAILLARD Ph. & DJALILI M.R. "Les Etats Unis et leur rôle dans le monde", Studia Diplomatica, vol XLVI, 1993, no 2.

[29]- Ibid.

[30]- Le Monde 4-2-1998.

[31]- BAUDIS Dominique. "L'union", éd. Laffont / Ramsay. Paris 1994.

[32]- ثرو لستر. "الصراع على القمة" ترجـمة أحمد فؤاد بليع، سلسلة عالم المعرفة رقم 204، الكويت 1995، ص. 85.

[33]- HUNTINGTON Samuel. "The U.S.: Decline or Renewal?" Foreign Affairs, vol. 67, no 2, Winter 1988 - 89 P.P. 93 - 94.

[34]- COURY Emile. "L'Europe et les Etats Unis, un conflit potentiel", éd. De l'aube. Paris 1996.

[35]- cf. "Who Wants What in the Brave New Europe" Economist, December 1, 1990, P.P. 46 - 47.

[36]- GNESOTTO Nicole. "La défense européenne au carrefour de la Bosnie et de la CIG". Politique étrangère, no 1/1996, P.P. 113 - 124.

[37]- cf. QUATREMER Jean. "Soupir d'aise à Bruxelles", Libération 24-2-98.

[38]- أنظر الحياة 24-6-1996.

[39]- International Herald Tribune, June 7, 1996.

[40]- GORDAN Philip H. "Europeanization of NATO: A convenient myth", International Herald Tribune, June 7, 1996.

[41]- cf. AGNELLI G. "The Europe of 1992", Foreign Affairs, vol. 68, no 2, Fall 1989; JOFFE J. "Reunification II: This time, no Hobnail Boots", New York Times, September 30, 1990.

[42]- RAMSES 97, Dunod, Paris 1996. P. 116.

[43]- TOURAINE Marisol. "Le bouleversement du monde", éd. Seuil, Paris 1995, P. 256-7.

[44]- النهار 24-10-1997 (نقلاً عن رويتر).

[45]- حوالي 95 بالمئة من الصينيين هم من الهان والـ5 بالمئة الباقية تتوزع بين عدد من الأقليات. ورغم وجود بعض المناطق المتمردة وبعض الجماعات الانفصالية إلا أن وزنها يبقى ضعيفاً ولا يكفي لزعزعة استقرار البلد. ثم أن الكونفوشيوسية تشكل درعاً حصيناً يحمي البلد ويشكل ضمانة لاستقراره. أنظر: "الصينيون المعاصرون" (جزءان)، سلسلة عالم المعرفة رقم 210 و 211. الكويت 1996، تحديداً فصل "الكونفوشياسية الجديدة".

[46]- PAULET Jean-Pierre / MOR Isabelle. "L'Asie et la croissance", éd. Ellipses, Paris 1996. P. 192.

[47]- د. كرار جعفر أحمد. "الصين بعد رحيل دينغ شياو بينغ" السياسة الدولية، العدد 128، إبريل 1997 ص. 26.

[48]- يبلغ عدد هذه الشركات حالياً أكثر من مئة ألف شركة.

[49]- د. كرار جعفر أحمد. مصدر سابق.

[50]- أنظر الأسبوع العربي، العدد 1981، 29-9-1997؛ الأنباء (الكويتية) 29-9-1997؛ Le Monde 20-9-1997.

[51]- cf. PEYREFFITE Alain. "Quand la Chine s'éveillera", éd. Fayard, Paris 1990.