معًا نواجه

مشهد تضامن وطني واجتماعي وإنساني يحق للبنانيين أن يتفاخروا به
إعداد: جان دارك أبي ياغي

 مع تدهور الأوضاع الإنسانية في لبنان من جرّاء العدوان الإسرائيلي المتمادي على مختلف الأراضي اللبنانية، والذي أدّى إلى سقوط آلاف الشهداء والجرحى وأجبر نحو ثلث المواطنين على مغادرة منازلهم ومناطقهم، برزت مبادرات احتضان النازحين ودعمهم في مختلف المناطق. جسّدت هذه المبادرات الشعبية العفوية القِيَم التي طالما ميّـزت المجتمع اللبناني في أوقات الشدّة، وعكست روح التكافل والتضامن والتعاون بين اللبنانيين.

فقبل أن تتأطّر الجهود الرسمية والمدنية لاستيعاب موجات النزوح التي لم يسبق أن شهد لبنان مثيلًا لها، وقبل أن تبدأ المساعدات بالوصول من الخارج، كانت المبادرات الشعبية والفردية هي السبّاقة، وقد شكّلت خير دليل على ما يستطيع اللبنانيون فعله حين يتضامنون ويعتبر كل واحد منهم نفسه مسؤولًا.

بدأت هذه المبادرات في آب الماضي، إذ جرى تأمين أماكن إقامة مؤقتة للعائلات النازحة قبل أن تُفتح مراكز الإيواء في المدارس والجامعات وأماكن أخرى. ومع توسُّع رقعة الحرب وخروج مئات الآلاف من مناطقهم، ازداد الوضع تعقيدًا ما هدد بحصول كارثة إنسانية، لو لم يهبّ اللبنانيون إلى المساعدة، كلٌّ بما استطاع تقديمه أو فعله.

مقابل المشهد الصادم لآلاف العالقين في سياراتهم على الأوتوستراد بين الجنوب وصيدا، برز المشهد المشرق لأصحاب النخوة الذين سارعوا إلى تفقّد العالقين وتقديم المياه والسندويشات وسواها من المستلزمات لهم.

لاحقًا، تنامت المبادرات لتشمل حملات للتبرع بالملابس والفرش والأغطية، وإعداد وجبات طعام يومية، وتوفير مستلزمات النظافة للمدارس الرسمية والخاصة ومراكز الإيواء التي خصّصتها الدولة اللبنانية. وقد نشط عدد كبير من المتطوعين في جمع هذه المساعدات وترتيبها وفق المقاسات لتوزيعها على النازحين في تلك المراكز، وحتى في الأحياء التي استضافتهم في مختلف المدن والقرى.

هنا أدت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في الإضاءة على الواقع والحاجات وحثّ الجميع على الانخراط في حملات الدعم، وفي توجيه المساعدات إلى الأماكن التي كانت بحاجة إليها.

طبعًا، ما سبق لا يعني أنّ كل الأمور سارت على ما يرام، فالحاجات كبيرة جدًا، والواقع قاسٍ جدًا. لكن المهم أنّ المشهد الطاغي هو مشهد تضامن اجتماعي ووطني وإنساني يحقّ للبنانيين أن يتفاخروا به.

 

كلٌّ بما ملكت يداه...

لم يتردّد مشعل وزوجته ريم في التطوّع للمساعدة بشكلٍ عاجلٍ فور وصول نازحين إلى بلدتهما العبادية، ساعدت ريم في تأمين المياه والفراش والملابس الضرورية، فيما قدّم زوجها الألبسة من المتجر الذي يملكه.

خضر مدير مطعم في شارع الحمرا في بيروت، كتب في منشور عبر منصة «فيسبوك»: «قررنا أنا والشيف والشباب أن نقوم بطهي الطعام وتوزيعه على المدارس التي تضم نازحين، وفي الأسبوع الأول ستتم تغطية النفقات من جيبنا الخاص». وفي منشور آخر كتب: «اليوم كان طويلًا، واستطعنا الوصول إلى نحو 700 إلى 800 شخص... نحن لسنا جمعية ولا نتبع لأي جهة، والمبادرة فردية... وصلتنا مساعدات كمواد غذائية وتحويلات أموال... سيستخدم ذلك لتلبية تكاليف الغاز».

ماريا التي تدير أحد بيوت الضيافة في جبل لبنان كانت تعوّل على موسم سياحي جيد خلال الصيف، المأساة التي حلّت بالوطن غيّرت مشاريعها جذريًا، فانبرت إلى المساعدة عبر تأمين وجبتَي طعام لنازحين في محيطها ثلاث مرات في الأسبوع. مبادرتها لقيت التشجيع عبر المساعدات التي تلقّتها من أصحاب أيادٍ بيضاء، وبالتالي توسّعت المبادرة لتشمل محتاجين للمساعدة في بيروت.

في مدينة صيدا الجنوبية، قام أحد أطباء الأسنان بتحويل عيادته إلى مطبخ لطهي الطعام وتوزيعه على النازحين في المدينة. وفي مشهد تحيطه أجواء الفرح والتعاطف، رأينا راهبات وكهنة يقومون بإعداد الطعام بمساعدة نساء من البلدة التي استضافت نازحين، وأخريات من العائلات النازحة.

في الشمال، لبّى الأفراد احتياجات النازحين من مواردهم الخاصة. ففي طرابلس، تولّى خالد، مع غيره من المتطوعين، تأمين الأدوية للمرضى  كما استخدم بعض الشبّـان المتطوّعين مولّداتهم الكهربائية الشخصية لتأمين الطاقة للنازحين.

 

مؤثّرون يطلقون النداء

وفي إطار المبادرات الشعبية التي لاقت أصداءً كبيرة، مشاركة عدد كبير من المؤثرين اللبنانيين ممّن يتابعهم مئات الآلاف، وبين هؤلاء فنانون وإعلاميون وفئات أخرى، لقيت حملاتهم تجاوبًا واسعًا وأثمرت عبر تخفيف وقع المأساة على كثيرين.

«بيتنا بيتك»، «وقت للتضامن»، «معًا في السراء والضراء»، «شتاء من دون برد» وسواها من عناوين جمعت أصحاب مبادرات وشبانًا وشابات عملوا على تأمين مراكز إيواء ومساعدات لتلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين، وبذلوا في هذا الإطار جهودًا جبارة مظهرين أقصى درجات الالتزام الإنساني والوطني. فهنا ملهى ليلي يتحوّل إلى مركز إيواء مجهّز بالمياه والكهرباء والإنترنت.. وهناك جمعية كشفية تعمل بنشاط، ونادٍ أخذ على عاتقه مسؤولية توزيع الحصص الغذائية وسواها. وهنا وهناك شبان نازحون يتولّون منذ أكثر من شهر نقل المساعدات من المراكز التي تقدمها إلى مختلف المناطق من دون أن يتقاضوا أي أجر سوى كلفة المحروقات... لكن إلى متى يستطيع هؤلاء الصمود والمتابعة في ظل استمرار العدوان ومحدودية الإمكانات وحلول الشتاء ومعه مزيد من الحاجات؟

في هذا السياق، تلفت لَما إحدى الناشطات إلى خطورة امتداد فترة النزوح، فعلى الرغم من المبادرات الفردية وجهود الجمعيات والدولة لتقديم المعونة، يبقى القلق من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، «إذ يصعب التكهّن ما إذا كنّا سنقدر على تلبية احتياجات هذه الأعداد المتزايدة من النازحين بفاعلية».

 

خدمات طبيّة وغذاء

من البديهي أن تكون المبادرات التي تُقدمها جمعيات منظمة على قدر عالٍ من الفاعلية، في هذا الإطار نجح فريق عمل مركز ورد المقاصد (التابع لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية)، في تأمين مئات الوجبات الساخنة يوميًا وتوزيعها على النازحين في مراكزها المنتشرة  في بيروت. كما تجوب مستوصفات المقاصد النقّالة (يضم كل منها فريقًا طبيًا متكاملًا) مراكز النزوح لمعاينة النازحين وتقديم الأدوية اللازمة والمتوافرة لهم، أو إحالتهم إلى أحد مراكز الرعاية الصحية التابعة للجمعية والذي تمّ ربط مكان الإيواء به. وفي حال الحاجة لمستلزمات طبية علاجية، وأدوات مساعدة، تتم إحالة ملف المريض الطبي لوزارة الصحة، لتزويده بما يحتاج عند توافره.

 

الفرح: خدمة وعطاء

وفي السياق نفسه، تمكّنت جمعية «فرح العطاء» بالتنسيق مع بلدية بيروت، من تحويل عقارٍ مهجور في منطقة الكرنتينا إلى مركز آمن ومريح يستضيف النازحين، وذلك بعد ترميمه وتزويده كل المستلزمات الأساسية للعيش في غضون عشرة أيام فقط، وبجهود رئيس الجمعية مارك طربيه وفريق عمل من المتطوّعين والتقنيين والاختصاصيين.

يضم هذا المركز أكثر من مئة غرفة مع مستلزماتها ويؤمن استضافة أكثر من 1300 نازح ممن كانوا يفترشون الطرقات. ويوفّر المركز الدعم اللازم على الأصعدة النفسية والطبية والغذائية (ثلاث وجبات يوميًا) بالإضافة إلى الأنشطة الترفيهية.

اللافت في هذه التجربة أنّ نسبة كبيرة من المتطوعين هم من بين النازحين وقد انتصروا على الألم الذي يعانونه من خلال الفرح الذي يحلّ في قلوبهم حين يستطيعون المساعدة. سنتيا المسؤولة عن فريق المتطوعين والمطبخ ترى أنّ الخدمات التي يقدّمها هؤلاء تعزز شعورهم بالمسؤولية تجاه «أهلهم وناسهم». الشيف علي النازح من منطقة زوطر - النبطية، يؤكد كلام سنتيا واضعًا نفسه في خدمة أهله، فيما يُبدي زميله الشيف لؤي الاندفاع نفسه وهو الذي يُعِد يوميًا نحو ألف منقوشة للنازحين. أما محمد، فيرى في عمله التطوعي أداءً وطنيًا يجسد قيم المحبة والتسامح والاحترام، وهي سِمات تُجمِع عليها كل الطوائف، وقد تجسّدت من خلال الوقوف إلى جانب النازحين ومساعدتهم.

من جانبهم يوجه المتطوعون: جنى، جورج، ماريانا، جاد، جواد، ومهدي، رسالة للشباب اللبناني، داعين إياهم للانخراط في العمل التطوعي والمساهمة في دعم النازحين، مشيرين إلى أنّ هذه التجربة تمنحهم إحساسًا بالفرح الداخلي الذي يتجاوز قيمة الشهادات الجامعية في ظل هذه الظروف الصعبة. وكانت جمعية «فرح العطاء» قد قدّمت خلال زيارة لقائد الجيش مشروعاً لمساعدة عدد من عائلات العسكريين النازحين في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان.

 

ظاهرة طبيعية ومتوقعة

ترى الدكتورة ميراي فرنسيس الاختصاصية في علم النفس، أنّ احتضان المجتمع اللبناني للنازحين وتضامنه معهم هو ظاهرة طبيعية متوقعة، وهي تشكّل تجسيدًا للروح الإنسانية التي تتجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية، مؤكدة أنّ الاحتضان هو إحساس بالإنسانية قبل أن يكون شعورًا بالمواطنة. فالطبيعة البشرية تدفعنا إلى إطعام الجائع، أو مساعدة الشخص الذي ينزف على الطريق مثلًا. فنحن بالدرجة الأولى بشر، وفي الظروف الصعبة يتقدّم الشعور الإنساني على كل ما عداه.

تعزو الدكتورة فرنسيس هذا السلوك إلى مفهوم يُعرف بـ «Mycelium» وهو يحاكي واقع ظهور الفطريات التي تتغذّى من جذور الشجر فيما تنسج هذه الجذور تحت الأرض، شبكة تواصل في ما بينها لتغذية بعضها. فحيث الطعام، تكون الحياة، إلّا أنّنا كبشر لا نرى سوى الفطر الذي ينبت فوق الأرض. من هنا، فهي تعتقد أن الترابط بين البشر يشبه هذه الشبكة الخفية، فهو جزء طبيعي من التعبير عن الحياة والوجود. وترى أنّ الانقسامات ما هي إلّا مظاهر خارجية، فيما الطبيعة الإنسانية تدفعنا إلى تبادل المساعدة. وإلّا كيف نفسّر ظاهرة الاستجابات الإنسانية التي تُطلَق في بعض الدول لمساعدة دولٍ أخرى تشهد حروبًا أو كوارث؟

وتستشهد الدكتورة فرنسيس بالتاريخ القريب للبنان، عندما استقبل في عدّة مراحل جاليات غير لبنانية (كالعراقيّين والأرمن والسوريين، وغيرهم...) وكيف بادر اللبنانيون كردة فعل طبيعية إلى مساعدتهم وتقديم العون لهم، وهذا ليس بغريب عن الثقافة اللبنانية والعربية.

وتُعرِب، في الختام، عن أمنيتها أن يصل اللبنانيون يومًا إلى الاعتراف بأنّ التنوّع الذي يتكوّن منه المجتمع اللبناني هو هويته الحقيقية، وأن يتعايشوا معًا تحت راية الأرزة اللبنانية. فالتعدديّة لا تلغي الانتماء للدولة، وأعطت المثل عن سويسرا وغيرها من البلدان التي تتعدد فيها الأحزاب والطوائف والأديان والثقافات، ورغم ذلك فهي تحتكم لمعيار الدولة. وأكّدت أنّ اللبناني عنده ما يكفي من المقوّمات لتقبّل الآخر المختلف عنه واحترام خياراته للعيش مع أخيه في المواطنية بسلامٍ.

في الخلاصة، يجسّد اندفاع اللبنانيين للتعاون في ما بينهم روح الوحدة الوطنية المتجذّرة في داخلهم، ويتجلّى ذلك من خلال تعاطي المواطنين بعضهم مع بعض في الحياة اليومية، وبخاصة خلال الأزمات والمحَن.