- En
- Fr
- عربي
أوراق من التارخ
سُمّيت معركة الأمم نظراً إلى ضخامة الحشود من الفريقين، وكأنّها حربٌ عالمية في معركة واحدة. وتُعتبر أكبر معركة في تاريخ أوروبا إذا ما استثنينا الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تمهيد
حصلت في منطقة لايبزغ في ألمانيا الحالية (بروسيا سابقاً) ما بين 16 – 19 تشرين الأول 1813، وشكّلت حدثًا مفصليًا في مسار انهيار الأمبراطورية النابليونية. أما طرفا هذه المعركة فكانا: فرنسا بقيادة نابليون بونابرت ومعه مقاطعة بافاريا البروسية وقوات بولندية وإيطالية بعديد قوات بلغ حوالى 190 ألف جندي وألف مدفع. في مقابل روسيا ومعها بروسيا والنمسا والسويد بعديد 400 ألف جندي.
مجريات المعركة
أرعب صعود نابليون القارة الأوروبية مجتمعة، فضابط المدفعية هذا الذي اعتُبر من أشهر القادة العسكريين عبر التاريخ، جعل من فرنسا قوة ضاربة هددت البرّين الروسي والأوروبي، وخاض عددًا كبيرًا من المعارك، منها ما شكّل علامة فارقة في النصر الساحق وسطوع عبقريته العسكرية، ومنها ما كان هزائم نكراء حطمت طموحات هذا القائد التي لا حدود لها، ومن أكبر هذه الهزائم معركة لايبزغ.
شكّل غزو نابليون لروسيا في العام 1812 كارثة حقيقية بالنسبة إلى نابليون وجيشه وقدراته، فمن أصل 500 ألف جندي فرنسي عاد 27 ألف فقط إلى أرض الوطن! لكن إرادة نابليون وعزمه لا يقف أمامهما حائل. وبحلول العام 1813، كان قد أعاد بناء جيش فرنسي كبير، لكن معظمه كان من حديثي السن قليلي الخبرات، وذلك بسبب هلاك معظم عسكرييه المدربين في الحرب الروسية، بالإضافة إلى فقدانه لسلاح الفرسان للسبب نفسه.
أما من ناحية أعدائه الحلفاء، فكانوا متناقضي المصالح والغايات والعقيدة القتالية، وإنما جمعهم العداء لنابليون ولضرورة التخلص من هذا الخطر المستدام إلى الأبد، أو لجمه ضمن الأراضي الفرنسية في أسوأ تقدير.
أدرك نابليون واقع الحلفاء هذا، فقرر مواجهة كل دولة على حدة، فحقق العديد من الانتصارات المحدودة التي سبقت المعركة الأم، لكنه لم يستطع استثمارها لعجزه عن ملاحقة فلول أعدائه المنسحبين بسبب النقص الحاد في سلاح الفرسان كما ذكرنا أعلاه.
أما استراتيجية الحلفاء، فتلخصت بضرورة قضم القوة العسكرية الفرنسية تباعًا، وتجنب خوض مواجهة فاصلة ومركزية مع نابليون لتفادي خسارة شبه مؤكدة، وذلك بسبب حنكته ومهاراته العسكرية المعروفة. فكان أن خاض الحلفاء سلسلة من المعارك الجانبية مع قوات فرنسية يقودها جنرالات نابليون. فهذا الأخير لم يكن باستطاعته المشاركة على عدة جبهات وقيادة المعركة في الوقت نفسه.
قبيل المعركة الأم وبعد هزيمته في برلين، قرر نابليون وضع كافة قطع وتشكيلات القوى الفرنسية تحت إمرته المباشرة، وحقق مركزية قصوى في القيادة وذلك لتقويض خطة الحلفاء تلك، وقرر الانكفاء إلى منطقة لايبزغ والتحصن فيها.
حاول نابليون شن عدة هجمات مباشرة في ثغرات جيوش الحلفاء، لكن قلة خبرة الجنود وعدم طواعيتهم في تنفيذ أوامره ومناوراته جعلها تفشل جميعًا، فخسر 40 ألف جندي مقابل العدد نفسه من الحلفاء، لكن وقع الخسارة عليه أكبر بكثير لأن الحلفاء يستطيعون تعويض هذا العدد، بينما هو فلا، لأنه يقاتل خارج الأراضي الفرنسية. عندها قرر طلب عقد هدنة، لكن الحلفاء رفضوا طلبه هذا بعد اكتشافهم الإعورار في صفوف الفرنسيين. هنا ظهرت العبقرية الفريدة لنابليون، فعندما أدرك أنه سيقع في التطويق الكامل، قرر الانسحاب من منطقة لايبزغ بأسرع ما يمكن من خلال الجسر الوحيد على نهر "إلستر".
على الرغم من صوابية قراره بالانسحاب، إلّا أنّ الكارثة الحقيقية وقعت خلاله، فعادت قلة الخبرة إلى الظهور مجددًا. ففي بدايته، جرت عملية الانسحاب على ما يرام، إلى أن أقدم عريف فرنسي على تفجير الجسر قبل انتهاء القوى كافة من العبور، تاركًا 30 ألف جندي فرنسي على الضفة الأخرى، مات معظمهم غرقًا مع خيولهم، وأُسر الباقون أثناء محاولتهم عبور النهر سباحة. وهكذا تلقى خسارة فادحة إضافية قبل وصوله إلى فرنسا والتحضير للمدافعة عن وطنه الأم.
بعد انتصارهم، وفي ذروة الانكسار النابليوني، ارتكب الحلفاء خطأ سياسيًا فادحًا، عندما قاموا بتقديم عرض إلى نابليون يقضي بوقف الحرب بشرط أن ينكفئ إلى داخل بلاده ويتعهد بعدم التوسع خارجها. إن الذي جعل الحلفاء يرتكبون هذا الخطأ الفادح هو خوفهم المتجذر من هذا القائد العسكري، ورؤيتهم له كمشروع نصر دائم على الرغم من هزيمتهم له في لايبزغ.
لم يستغل نابليون خطأ الحلفاء هذا، ولم يسارع إلى استثمار هذه الفرصة السانحة ويقبل بعرض الحلفاء، بل قابل خطأهم بخطأ أفدح منه عندما رفض عرضهم هذا، فقرر الاستمرار في المعركة، وكان أمامه خياران إثنان:
إما التحصن في باريس وهو ما سيعرّضه للحصار الطويل وبالتالي الاستسلام، وإما الانتشار على كامل التراب الفرنسي ما يمنحه حرية المناورة وشن الهجمات، فاتخذ الخيار الثاني.
هنا بدأ الحلفاء بشن الهجوم، وقرروا احتلال باريس، وسرعان ما انهارت القوى الفرنسية المنهكة أصلًا، فسارع نابليون بحنكته السياسية إلى الإعلان عن تخلّيه عن العرش وتنازله عنه لصالح إبنه القاصر في مقابل معاهدة صلح. لكن الحلفاء هنا لم يرتكبوا خطأهم السابق، بل تابعوا هجومهم وسقطت باريس، وعزلوا نابليون عن الحكم وأعادوا الملكية إلى فرنسا، وتم نفي نابليون إلى جزيرة ألبا بتاريخ 6 نيسان 1814 وبقي فيها حتى 16 شباط 1815، حينما نجح بالهرب والعودة إلى فرنسا، فأرسلت الحكومة الملكية قوة من الجيش لاعتقاله، وهم في الحقيقة من جنوده السابقين. وبعد مخاطبته لهم وتذكيرهم ببطولاتهم السابقة، انضمّوا إليه وتابع مسيره إلى باريس حيث التحقت به باقي قطعات الجيش واستلم الحكم مجددًا، وحكم لمئة يوم آخر، حيث انهزم للمرة الأخيرة في معركة واترلو بتاريخ 18 تموز 1815، ونُفي إلى جزيرة القديسة هيلانة وسط المحيط الأطلسي حيث مات هناك بتاريخ 5 أيار 1821.
خلاصة
إنّ دارسي ومحللي هذه المعركة من مؤرخين وقادة عسكريين وغيرهم، أجمعوا على أنها حدث اجتمعت به عوامل مختلفة بالإضافة إلى تلك العسكرية، وهي التي حددت نتيجتها النهائية، فنرى تحالفًا أوروبيًا هائلًا متفوقًا على معسكر بونابرت في العدة والعتاد وخبرات الجنود، نجده يقف مترددًا غير واثق من النصر، ومقدمًا عروضًا سخية إلى بونابرت لتفادي المعركة. وفي المقابل نجد نابليون قد بالغ في تقدير قدراته وثقته بنفسه وبالنصر، وأهدر هذه الطروحات الأوروبية للصلح، وأصر على القتال، فكان أن انهزم هزيمة نكراء أدت إلى تلاشي امبراطوريته بصورة نهائية.
وإذا دققنا في هذه الأخطاء الاستراتيجية من الطرفين، نجد أنّ سببها عند الحلفاء هو المبالغة في الاحتراز من نابليون وقدراته وتكتيكاته الحربية، أما من جانب نابليون، فهي أيضًا المبالغة نفسها في التقدير ولكن لقدراته الذاتية وليقينه من النصر. وهكذا، فإن معركة لايبزغ كانت وما زالت حدثًا جللًا في التاريخ العسكري، قدمت لنا عبرة مفادها أنّ المبالغة في تقدير قوة العدو مساوية في خطورتها لتقدير قوة الذات.