قضايا إقليمية

مغزى فـوز شارون على أرضية التحولات السياسية في إسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى

تعيش إسرائيل, منذ النصر الساحق الذي أحرزته على العرب عام 1967, حالة مخاض عسير على مستوى تحديد وتكوين هيكلية نظامها السياسي العام, وعلى مستوى الحفاظ على استمرار نظامها الديموقراطي, الذي شهد منذ ذلك الحين وحتى اليوم هزات وتصدعات عنيفة ومذهلة. وتمثلت أبرز هذه الهزات في تغيير نظامها الإنتخابي أكثر من مرة, وفي عدم إستقرار أحزابها وحكوماتها, وبالتالي في التخبط الكبير والدراماتيكي على صعيد صياغة إستراتيجياتها السياسية والأمنية. وقد شكل إغتيال رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين ذروة مأسوية في هذا التخبط المستمر الى وقتنا الحالي.
لقد شكلت الأحزاب الإسرائيلية منذ المراحل الأولى لقيام الدولة, العنصر الرئيسي الذي صاغ شخصية المجتمع الإسرائيلي الوطنية والقومية. ويمكن القول أن إسرائيل تمثل حالة متطرفة من تدخل الأحزاب في حياة المجتمع المدني بكل تفاصيلها.


فالأحزاب هي التي منحت وما تزال تمنح الشرعية للنظام في تعريف المصلحة الوطنية العامة, وقد نشطت كوسيط فاعل في علاقات القوى الداخلية, وفي التحكم في الأزمات التي طالما هددت النظام العام في البلد. وكان الثمن الذي دفعه المجتمع الإسرائيلي, بسبب هذا الدور, المركزية الشديدة في الحكم, وتخليد أسلوب توزيع الموارد وإعاقة ظهور قوى تمثيلية جديدة.
ورأى العديد من الباحثين الإسرائيليين أن عجز القيادة السياسية عن إتخاذ القرارات الحاسمة, في السلم والحرب, إنما نجم, أساساً, عن التغيير الذي حدث في أداء الأحزاب ودورها في النظام السياسي. ففي العقدين الأولين لقيام الدولة, ساهمت الأحزاب (المعراخ, وحزب العمل) في مصادرة القرار السياسي من المجتمع وفي عزل القضايا الخارجية والأمنية عن الخلافات الداخلية.


وبعد عام 1973 ضعف دور الأحزاب ولم تعد قادرة على القيام بدورها السياسي الفعّال, فانهارت صورتها الإيجابية خاصة في أعقاب تحول النظام السياسي في إسرائيل الى نظام حزبي تعددي متقاطب, في حين أن الحزب المهيمن في كل قطب لا يحصل على أغلبية في الكنيست, الأمر الذي ينعكس صعوبة بالغة قد تصل الى حد الشلل الكامل في آلية اتخاذ القرارات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي, وفي مستوى أداء التنظيمات والمؤسسات البيروقراطية.
هذا الواقع أدى في إسرائيل, الى أن السياسة فيها راحت تتحول تدريجياً الى سياسة شعبوية وشخصانية تعتمد على الكاريزما الشخصية للقيادات المطروحة على الساحة. وبنتيجة ذلك أيضاً بدأت الأحزاب الكبرى بنوع خاص (العمل والليكود), تفقد تدريجياً مسؤولياتها وقدراتها على فرض تصوراتها السياسية الخاصة وبرامجها الجاهزة, وأصبح القادة السياسيون (شارون ومتسناع في الوقت الراهن), يتنافسون في ما بينهم حول مدى تكيفهم لاكتساب الرأي العام بواسطة لغة بلاغية رمزية, ذات خلفيات ديماغوجية في أغلب الأحيان, مشحونة بالشعارات والعواطف والإيحاءات والوعود, حتى أن الصحافة الإسرائيلية راحت تركز على التشابه الكبير في مواقف الحزبين الكبيرين السياسية وتسمي حزب العمل بأنه نسخة طبق الأصل عن الليكود. وكانت الرموز والقضايا الأسهل إستخداماً ما بين المتنافسين, الرموز الدينية والقومية وتلك المتعلقة بقضايا الأمن.


من هنا اكتسب القادة السياسيون (والتركيز هنا بنوع خاص على آرييل شارون), قوة أكبر على حساب الأحزاب التي يمثلونها, بحيث أصبح القائد يختصر في شخصه الحزب والدولة معاً, لا سيما بعد أن أصبح خطاب هذا القائد خاضعاً لشروط التعبئة الشعبية التي هي في جوهرها قومية دينية, حتى في أبعادها الأمنية العسكرية, فكانت النتيجة الحتمية أدلجة القرار السياسي الاستراتيجي من موضوع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967, والتي تحولت الى جزء لا يتجزأ من دولة اليهود التاريخية “أرض إسرائيل الكاملة”, بحسب الأسس الشعبوية الجديدة للشرعية. ولقد حاول حزب العمل بقيادة رئيسه السابق بنيامين بن اليعزر التكيف مع هذه الأجواء الجديدة من خلفية إنتهازية بحتة سعياً لاستعادة زمام المبادرة من الليكود مع مرور الوقت. وهو كان يحاول تكرار تجربة رابين مع شامير عام 1992, إلا أنه كان فاقداً تماماً لمصداقية الأول والكاريزما الأمنية التي تحلى بها. واليوم يعمل عميرام متسناع على الإيحاء بإنتهاج خط ذي صدقية عالية, ولكن ضمن أجواء سياسية وأمنية غير ملائمة لذلك على الإطلاق. فمستوى المواجهة الدموية الراهنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين دخلت حالة اللارجوع, بحيث يستحيل معها تطبيق سياسة براغماتية قائمة على الفعل البارد, الأمر الذي يستفيد منه شارون الى أقصى حد, خصوصاً مع ما تختزنه شخصيته الدموية من رموز أيديولوجية قومية ودينية, بالرغم من علمانيته المعلنة والمفرطة, فشارون لا يجد من هذا المنطلق أي حل مع الفلسطينيين والعرب سوى تبادل الرسائل الدموية بهدف إحداث هزيمة في الوعي الوطني لهؤلاء واولئك, حسبما يصرح به وزير دفاعه الجنرال شاؤول موفاز.


وقد علق الصحافي عوزي بنزيمان على ذلك في صحيفة هآرتس فقال: “لقد أثبت (شارون) أنه لا يعرف تقبل النقد الموضوعي, وأنه لا كوابح لديه في قراراته ولا في تنفيذ مخططاته, وهو يرد بوحشية وبأسلوب يدعو الى الرعب عندما يحس بالإهانة”. وكتبرير لذلك يقول شارون في مذكراته: “وضع البلاد كان يقلقني باستمرار. وشعرت بصوت يستدعيني. الزمن لم يبق على حاله, والمنطلقات الجديدة آخذة بالظهور. وأنا لا أريد أن اتخلف عن الركب”.


لقد كان فوز شارون الأول في شباط 2001 مذهلاً من حيث أن النسبة المئوية التي حاز عليها من مجمل أصوات الناخبين, كانت هي الأعلى في تاريخ الإنتخابات الإسرائيلية قاطبة, ولكن فوزه الساحق مرة أخرى في الإنتخابات الأخيرة للكنيست السادس عشر لم تكن كذلك, لأن المجتمع الإسرائيلي بات مكشوفاً أمام الجميع من حيث قراره الحاسم بالإنقطاع عن كل ما هو واقعي وحقيقي في هذا العالم, خاصة على صعيد التعامل مع الفلسطينيين والعرب الذين يقول عنهم شارون أنهم مقاتلون جيدون ولكن “يجب ضربهم ضربة قاصمة وكبيرة لكي نجتث من داخلهم الرغبة في القتال”.
هذا ما يريده المجتمع الإسرائيلي ويتمناه على طريقة ضربة واحدة وننتهي الى الأبد, وهو أعطى تفويضه الكبير لشارون لتحقيق هذه الأمنية بالرغم من معرفته بأن شارون كان قد خدعه وغشه في حربه الضروس على لبنان عام 1982 وبالرغم من ارتكابه مجازر صبرا وشاتيلا, وهو الآن خدعه مرة أخرى بوعده الساقط بشأن المئة يوم للقضاء على إنتفاضة الأقصى بالرغم من مجازر جنين ونابلس ورام الله وسواها.


والخـلاصة التي نستنتجها مما تقدم هي أن المجتمع الإسرائيلي بتفضيله شارون, إنما يكون قد عبّر عما يجيش في داخله من تقديس للنزعة العسكرية القائمة على القوة المتوحشة المغطاة بالتضليل والأباطيل السياسية والديبلوماسية والإعلامية, التي هي اليوم أكثر خطورة على حقوق العرب والفلسطينيين من أشد الأسلحة الإسرائيلية فتكاً وتدميراً. وفي هذا السياق وصف الصحافي الإسرائيلي بن كبيت أوضاع شارون الحالية من دون مشاركة حزب العمل في حكومته المقبلة بأنه “رجل من دون خطة لأن ما يفكر به لا يوجد له مثيل في العالم”.