مقدمات وتداعيات قرار مجلس الأمن 1559 حول الوضع في لبنان و المنطقة لا سيما بعد 14 شباط 2005

مقدمات وتداعيات قرار مجلس الأمن 1559 حول الوضع في لبنان و المنطقة لا سيما بعد 14 شباط 2005
إعداد: د.احمد سرحال
رئيس مركز الدراسات، استاذ القانون الدولي في كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية في الجامعة اللبنانية

اتُّخِذَ القرار 1559 تاريخ 2/9/2004 بتأييد تسعة أعضاء وامتناع ستة في مجلس الأمن الدولي عن التصويت، في إطار ما يعرف بالفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة المعنون «في حل النزاعات حلاً سلمياً»([1]). وعلى الرغم من أن الوضع في لبنان مكرس بالتباين الحاصل بين مختلف أفرقاء الداخل حيال مسألة التمديد لرئيس الجمهورية([2])، والتبنـّي السوري لهذه المسألة، لم يكن في حينه، يشكّل على حد تعبير بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي أنفسهم، نزاعاً يهدّد الأمن والسلم الدوليين، إلا أن المبادرة الفرنسية - الأميركية أعطت ثمارها على هذا المستوى بتمرير القرار المذكور، الذي رأى فيه الكثيرون ومن بينهم أمين عام وزارة الخارجية اللبنانية السفير محمد عيسى الذي مثل لبنان في جلسة مناقشة مشروع القرار، تدخّلاً في الشؤون الداخلية لدولة عضو في المنظمة الدولية، مستنبطاً في مداخلته نص المادة الثانية في فقرتها السابعة من ميثاق الأمم المتحدة الذي لا يُسَوّغُ للمنظمة أن «تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق وإلخ»([3]).

والحكومة اللبنانية، بالمناسبة، لم تعرض أو تطلب من مجلس الأمن اتخاذ مثل هذا القرار الذي وصل حد التصوّر بالبعض لاعتباره «سابقة مؤسفة» يجب ألا تتكرّر ويجب ألا يحيّد المجلس عن مهامه بشكل خطير وكي لا تتضرّر مصداقيته([4]).

وواقع الأمر أن المواقف المعارضة والناقدة للقرار 1559، سواء كانت داخلية أو خارجية، مبنيّة على قراءة سكونية وجامدة لنصوص ميثاق المنظمة الدولية، وتنطلق من أحكام القانون الدولي العام التقليدي، أي ما قبل بداية تسعينيات القرن الماضي وسقوط منظومة الدول الاشتراكية، وتحوّل المشهد الدولي من الثنائية القطبية «الجامدة» أو «المَرِنَة»([5])، إلى الأحادية القطبية مكرَّسة بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية وإمساكها بالمفارق الأساسية للعلاقات الدولية. فالنظام الدولي الذي أعقب قيام الأمم المتحدة بُني على مبادئ احترام السيادة، وأنا أفضّل كلمة الاستقلال، والمساواة بين الدول، واستطراداً عدم التدخّل في شؤون بعضها البعض بمعنى إفراز حيِّز واضح ومعلوم (Domaine Réservé ) ويقع في محيط الصلاحية الوطنية لكل دولة، ناهيك عن واجب الامتناع عن اللجوء إلى القوة، أو حتى التهديد بها في العلاقات الدولية.

 بيد أن هذا النظام بدأ بالتآكل مع التطوّرات الكبيرة التي شَهِدَها الاتحاد السوفياتي (السابق) نتيجة لحدث البيريسترويكا والكلاسنوست، والذي أدى في العام 1991 إلى تفسّخ الاتحاد وسقوط تلك القوة العظمى وما تلاه من زوال الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، كنهاية للتاريخ على حدّ تعبير المؤرّخ الأميركي الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما، وإيذاناً بانتصار الديموقراطية الغربية. ومن هذا المنطلق بالذات، بدأ الحديث بقوة على لسان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب ومنظّره في ذلك الوقت وزير خارجيته جيمس بيكر، وبمناسبة حرب الخليج الثانية تحريراً للكويت من الاحتلال العراقي، عن بناء نظام دولي جديد يرتكز على مقولات احترام حقوق الإنسان وما تجيزه من تدخّلات خارجية تحت مسمّى «التدخل الإنساني»، ونزع أسلحة الدمار الشامل، وتعميم نشر الديموقراطية.

  ومع أحداث 11 أيلول (سبتمبر 2001) والهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر البنتاغون في واشنطن، أضيفت على تلك المقولات الثلاث مقولة جديدة وذائعة الصيت، وهي مقولة محاربة الإرهاب، كركائز أساسية في بناء العلاقات الدولية.

  وهكذا كان على المنظمة الدولية، كي لا تسقط ويكون مصيرها كسابقتها عصبة الأمم([6])، أن تتكيّف مع هذه التطورات، وأن تعمّق نهج التعاملات الجديدة التي تزيل الكثير من الفواصل والحدود بين ما هو داخلي وما هو خارجي أو دولي، وأن تصعّد العديد من المسائل التي كانت تعتبر في صلب ما هو داخلي، وتجعلها شأناً من شؤون الأسرة الدولية، لدرجة يصح معها الكلام عن سقوط مضمون نص الفقرة السابعة من المادة الثانية المذكورة من الميثاق. وجوهر نص هذا الأخير والاتجاه الفقهي الغالب، على أي حال، يجعل من أحكام القانون الدولي المرجع الصالح لتحديد نطاق ما هو دولي وبالتالي ما هو داخلي.

  بل يمكن ملاحظة أن بواكير هذا النهج الجديد للأسرة الدولية بدأت قبل أوائل التسعينيات. فقد تحوّلت الكثير من المسائل الموقوفة على علاقة المواطنين ومجموعاتهم الخاصة بدولهم أو بين بعضهم البعض، أي المحكومة بالقوانين والأنظمة الداخلية، إلى مسائل تهمّ الأسرة الدولية بمجملها. وهذا ينطبق على قضايا حقوق الإنسان، أي ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 والعام 1966 حول الحقوق السياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان، لا سيما بعيد انعقاد مؤتمر هِلْسِنكي للأمن والتعاون في أوروبا العام 1975 ومثله الأمر حيال التمييز العنصري الذي أضحى من الجرائم الدولية «ويهدّد الأمن والسلم الدوليين» والذي مكّن اعتباره كذلك الأمم المتحدة من إسقاط حكومة «أيان سميث» للأقلية البيضاء في روديسيا أواخر الثمانينيات. وذلك ما حصل أيضاً بالنسبة للحكومة العنصرية في جنوبي أفريقيا، نتيجة سلسلة من الإجراءات ومنها قرار صريح لمجلس الأمن الدولي باعتبار دستور العام 1984باطلا، لعدم أخذه بمبدأ المساواة ونَفْيِه صفة المواطنية عن الرعايا السود، توصّلاً في النهاية لتجاوز التميّز وتخلّي حكومة لوكليرك البيضاء عن السلطة لصالح الأكثرية السوداء التي جاءت العام 1994 بنلسون مانديلا إلى رئاسة الدولة، بعد سجن دام حوالي 26 سنة.

وعلى اتصال بالمسألة العنصرية في جنوبي أفريقيا، أمكن للأمم المتحدة أن تنهي انتداب إتحاد جنوبي أفريقيا على إقليم جنوبي غربي أفريقيا وأن تسير بهذا الأخير لِتُكَوِّنَ منه دولة مستقلّة تحت تسمية «ناميبيا» مع كل ما استلزمه ذلك من تجهيز وإدارة وتدريب وإعداد وإشراف على العمليات الانتخابية والاستفتاء، إلى درجة قيام الرئيس الناميبي المنتخب بحلف اليمين الدستورية أمام الأمين العام للأمم المتحدة في 12/3/1990 ([7]).

  وترسَّم هذا النهج وتدعَّم بعد التسعينيات في بوتقة العمل على حماية حقوق الأقليات ومنع الإبادة([8])، ولا سيما في تبنّي عملية التَحَوُّل الديموقراطي أو إعادة الديموقراطية في ما يعرف اليوم بمقولة نشر الديموقراطية، حمايتها وتعميمها، فالمنظمة الدولية أضحت بلسان أمينها العام الذي نشر «الأجندة من أجل الديموقراطية» في بداية التسعينيات تعتبر أن الديموقراطية ضمان للسلم وضد اندلاع النزاعات الداخلية والخارجية». وأن ثقافة الديمقراطية هي في الأساس ثقافة السلام، وأن العلاقة بين الديموقراطية والسِلْم الداخلي وطيدة ومؤكّدة([9]). وأصبح من الجائز الادعاء مبدئياً أن «الشرعية الديموقراطية» أضحت بمثابة مبدأ قانوني عام حيث نُصَّ عليها في مختلف النظم الدستورية للدول برغم اختلاف المضمون ودرجة التقيّد به. وليس من المستبعد أن يكون هذا المبدأ قد استوى، أو هو في طور التحوّل إلى قاعدة عرفية بمفهوم الأمم المتحدة وعلى الطراز الغربي.

  وفي هذا المنحى فوَّض مجلس الأمن الدولي، بمناسبة الانقلاب العسكري في البوروندي رئيسه إصدار بيان 25/10/1993، برفض الانقلاب ودعوة العسكريين الرجوع إلى ثكناتهم من أجل إعادة الديموقراطية والنظام الدستوري للبلاد. وقد كرّر المجلس موافقته على إعلان لرئيسه يدين فيه بشدة العمليات التي أدَّت إلى قلب النظام الدستوري مجدّداً في البوروندي العام 1996 (الجنرال بويويا)، قبل أن يصدر في اليوم التالي قراره رقم 1072 تاريخ 30/8/1996 بنفس المعنى ويلزم الفريق العسكري بالعودة إلى النظام والشرعية الدستورية([10]). وقد وصل الأمر بمجلس الأمن أن اعتبر أن الانقلاب الحاصل في هاييتي العام 1991،  ومثله الانقلاب الحاصل في سيراليون العام 1995 بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين، مما استلزم اتخاذ إجراءات قسرية، وإلى حدّ اللجوء إلى القوة بحق الانقلابيين وإعادة الهيئات الشرعية إلى السلطة (قرار 940 تاريخ 31/7/1994 بالنسبة لهاييتي وقرار 1132 تاريخ 8/10/1997بالنسبة لسيراليون).

  وهكذا، ومن ضمن هذا التوجّه والمنهج الجديد للأسرة الدولية، اتخذ القرار 1559 ووجب فهمه، بصرف النظر عن المعطى السياسي والجيوستراتيجي للدول المبادرة إلى اتخاذه ضمن هذا السياق. وهو لم يكن القرار الأول، ولن يكون الأخير الذي يتناول الأوضاع اللبنانية والتي لم تكن يوماً بمنأى عن التأثيرات الإقليمية والدولية، وحيث اعتبر الكثير من الأفرقاء أنه لم يعد من الجائز، لا سيما بعد 2000/5/25 وتحرير معظم الجنوب والبقاع الغربي أن يستمر استثناء «حزب الله» والمخيّمات الفلسطينية من حل الميليشيات ونزع السلاح، وتعطيل الحياة الديموقراطية في لبنان بفعل تدخّل أجهزة الأمن والمخابرات اللبنانية السورية في الشأن العام والحياة السياسية والاجتماعية ومنع تداول السلطة، ودليلهم الضغط السوري الواضح للتممديد للرئيس لحود في 3/9/2004. فلقد اهتم مجلس الأمن الدولي بالملف اللبناني، حسب تقرير الأمين العام للمنظمة حيال القرار 1559([11])، واتخذ منذ العام 1987 ستة وسبعين قراراً - تصبح  ثمانية  وسبعين إذا ما أضفنا إليها القرارين 1595 تاريخ 7/4/2005، القاضي بتشكيل لجنة تحقيق دولية في مقتل الرئيس رفيق الحريري، و1614 لشهر تموز 2005 حول تجديد فترة ولاية قوّات الطوارئ الدولية في جنوبي لبنان - من ضمن ما يطالب فيها الأفرقاء الداخليين بوقف العنف وحماية المدنيين، ناهيك عن احترام السيادة اللبنانية وبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها وانسحاب القوات الإسرائيلية من هذه الأراضي.

  بل أن لدى الكثير من المسؤولين والمهتمين بالشأن اللبناني، إعتقاداً راسخاً منهم بحقيقة كون الخارج دائماً فاعلاً في الداخل ([12])، يرون عدم الحكمة في العبث بالأولويّات الدولية أو الذهاب إلى حد التعارض مع الشرعية أو المشيئة الدولية في بلد كلبنان (دون حماية دولة كبرى أو أكثر)، وتلمساً لهذه الحقيقة، وبمناسبة الجدل حول تعديل قانون الانتخاب وإجراء الانتخابات، جاء تصريح رئيس مجلس النواب نبيه بري في 10/5/2005، «إن الانتخابات في موعدها، وإن أمر التأجيل عند الفرنسيين والأميركيين، وليس عندنا». ومثله تصريح رئيس الحكومة، في حينه نجيب ميقاتي، من أنه «إذا لم تُجْرَ الانتخابات في موعدها، فإننا نتعرّض للمساءلة»، في الوقت الذي أكدَّ من جانبه النائب وليد جنبلاط، أنه تلقّى «نصائح دولية بالمضي في الانتخابات على أساس قانون الألفين» ([13]).

وقد جرت الانتخابات التشريعية فعلاً في مواعيدها، أي ابتداءً من 29/5/2005، وبحضور أكثر من بعثة دولية لمراقبتها (بعثة الاتحاد الأوروبي وهي الأكبر، بعثة الأمانة العامة للأمم المتحدة، وبعثة المنظمة الفرنكوفونية)، على الرغم من أن حكومة الرئيس عمر كرامي التي سبقت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي أشرفت على الانتخابات، كان لها مَوْقِفٌ سلبيٌ من حدث المراقبة الدولية للانتخابات وعلى أساس كونه يَمسّ بالسيادة اللبنانية.

  وبالإسقاط على القرار 1559 فقد تطوَّر الموقف الرسمي اللبناني من اعتراض على مناقشة مثل هذا القرار في مجلس الأمن وشيء من التحدي لـه بتصويت مجلس النواب في اليوم التالي لاتخاذه أي في 3/9/2004 على تمديد ولاية الرئيس لحود لثلاث سنوات، مخالفة للنص الدستوري بمنطوق وجوهر القرار ([14])، إلى موقف ملتبس للمسؤولين اللبنانيين، بمعنى أن البعض منهم إلتزم الصمت، بينما ربط البعض الآخر، ومنهم رئيس الجمهورية العمل، بمكوّنات القرار بقيام المنظّمة الدولية بتنفيذ قراراته السابقة المتعلّقة بالشرق الأوسط ومنها القرار رقم 194/48 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، في حين جاهر فريق ثالث منهم ومن بينهم رئيس الحكومة لاحقاً عمر كرامي، طارحاً في فترة من الفترات مقولة «جماعة القرار 1559، والذين ضدّه».

 

وساد الاعتقاد أنه بالإمكان تجاهل القرار المذكور لسببين: السبب الأول له الطلب القانوني وإن القرار مجرّد توصية لمجلس الأمن، حيث أنه لم يصدر في إطار الفصل السابع من الميثاق، بصرف النظر  عن التعهّد العام، من قبل الدول الأعضاء في المنظّمة الدولية بموجب نص المادة 25 من الميثاق بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها، والسبب الثاني له الطابع السياسي والعملي ويتمثّل بإمكانية اللعب على التباين بين الأعضاء الفاعلين في الأسرة الدولية، وبالتخصيص الخمسة الكبار في مجلس الأمن الدولي، وتوقّع نجاح سوريا في فتح قناة اتصال مع الإدارة الأميركية، تؤدّي إلى اتفاق ما حيال الوضع في لبنان إستناداً إلى تجارب سابقة، آخذاً بعين الاعتبار أن الحكومة اللبنانية أبلغت الأمين العام للأمم المتحدة، بأن «الوضع الأمني الهش في المنطقة، والأخطار المحدقة باستقرار لبنان، وغياب عملية سلام شاملة إقليمية، أمور تجعل من الصعب تطبيق القرار فوراً وبالكامل» ([15]).

وبالفعل لم تحمل الأسابيع التي تلت اتخاذ القرار أية مؤشّرات ملحة في تطبيقه. فالتمديد لرئيس الجمهورية حصل بالتعارض كما سبقت الإشارة مع جوهر ومقصد البند الخامس من القرار في إجراء انتخابات رئاسية حرّة وعادلة ودستورية، دون تدخّل أو تأثير خارجي. ولم يصار إلى تنفيذ بقية بنود القرار وتخصيصاً انسحاب القوات الأجنبية الباقية في لبنان، وتحديداً القوات السورية([16]) (بند رقم 2)، ولم تحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية كافة وتجرّد من سلاحها([17]) (بند رقم 3)، أضف إلى عدم بسط الدولة اللبنانية سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية ([18]) (بند رقم 4)، وهذا ما خلص إليه تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول القرار المقدّم إلى مجلس الأمن الدولي بعد مرور ثلاثين يوماً على إصدار القرار الذي اعتبر أن تطبيقه كاملا، يصبّ في مصلحة لبنان وسوريا والمجتمع الدولي. ومثل هذا الإحجام عن السير بتطبيق أحكام القرار 1559، يؤكّده البيان الصادر عن رئاسة مجلس الأمن الدولي بتاريخ 19/10/2004.

  وإذا كان بيان الأمين العام وبيان رئاسة مجلس الأمن المذكوران، يلقيان بمسؤولية عدم الاستجابة لما ورد من مطالب وبنود في القرار 1559 على الحكومتين اللبنانية والسورية إلا أن الدول المبادرة في اقتراح مشروع القرار، لم تظهر هي أيضاً قدراً كافياً من الجدّية في العمل بكامل بنود القرار إذ استمر ممثّلوها في لبنان ومبعوثوها إليه بالتعامل مع رئاسة الجمهورية حتى بعد انقضاء الولاية الأساسية للرئيس اللبناني في 23/10/2004، وبدء سريان فترة التمديد لثلاث سنوات في اليوم التالي. علماً أن العزم على التمديد للرئيس اللبناني اتخذ كذريعة وكسبب مباشر ومعلن لإصدار هذا القرار.

  أما أن يقال أن تعيين الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً له لمتابعة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن بتاريخ 14/12/2004، هو بمثابة مؤشّر باتجاه إعادة تأمين مستلزمات تنفيذه، فقد يصح ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بطء تَحَرُّك الدبلوماسية السورية وتناقضها بالاستجابة السورية بالتقسيط للمطالب الأميركية حيال الوضع في العراق وتجاهل ما جاء في القانون الأميركي للعام 2003 حول «محاسبة سوريا وتحرير لبنان» ،في نفس وقت استمرار التركيز على أولوّية العلاقة مع الولايات المتحدة من ناحية، وتغاضي سوريا عن الالتفات لترتيب علاقتها مع فرنسا المتأزّمة لأكثر من سبب ([19])، من ناحية ثانية، ساهم بشكل أساسي باتخاذ مثل هذا القرار بدايةً ومثل تلك الخطوة لمتابعة تنفيذه تالياً. ورغم ذلك لم يحقّق تيري رود لارسن في الأسابيع الأولى من مهمّته ونتيجة جولاته المكّوكية بين بيروت، دمشق، باريس، واشنطن ونيويورك سوى نجاحات بسيطة إنعكست بقيام القيادة السورية بإعادة انتشار «جديدة» وجزئية لقواتها باتجاه البقاع اللبناني ([20])، معتمدة سياسة الخطوة خطوة في الانسحاب واستمرار المراهنة على متغيّرات دولية تأتي لصالحها، وتصرف النظر عن القرار 1559.

 * وبالفعل، تطوّر الوضع بصورة جذرية ومأساوية ولكن بالتناقض مع التوقّعات والآمال السورية، بتفجير موكب رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في بيروت بتاريخ 14/2/2005، واستشهاده مع رفاقٍ ومرافقين لـه. فقد خَلَقَ هذا الحدث الكبير وضعاً داخلياً ودولياً عدائياً تجاه سوريا لا سابق له، ولصالح تنفيذ القرار 1559 في بنده الثاني الذي تضمّن وجوب انسحاب القوات السورية من لبنان. ففي الداخل، تحرّكت المظاهرات وأقيمت الاعتصامات وتعطّلت حركة الأسواق وتأزّم  الوضع بصورةٍ لا سابق لها في سياق حملة اتّهامات شديدة وواسعة ضد الأجهزة الأمنية اللبنانية السورية، تارةً بتحميلها مباشرة وزر الجريمة وما سبقها من جرائم اغتيالات وتفجيرات، وتارةً أخرى بصورة غير مباشرة باعتبارها إما متغافلة وإما مقصّرة في منع ارتكاب الجريمة([21]).

 

وتعاظمت المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، وتأليف لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري، بالإضافة إلى إقالة المسؤولين الأمنيين في لبنان أو استقالتهم. ووصل الأمر إلى حد اتهام بعض المسؤولين السياسيين اللبنانيين ومن بينهم رئيس الجمهورية بتحضير الأجواء لوقوع الجريمة وضرورة استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي التي تحقّقت في 28/2/2005. ولم ينفع مع هذا الوضع المتأزّم إصرار ما عُرف «بتجمّع عين التينة» (مقر رئيس مجلس النواب)، أي مجموعة الأحزاب والقوى والشخصيات الحليفة لسوريا ومن ضمنها الأكثرية البرلمانية، من إعادة تسمية الرئيس عمر كرامي لتشكيل الحكومة، وقيام المظاهرة الحاشدة التي دعا إليها «حزب الله» في 8 آذار 2005 في ساحة رياض الصلح في بيروت تحت شعار «الوفاء لسوريا» وإظهاراً للالتفاف الشعبي حول الحزب وخيار المقاومة المسلّحة التي يقودها، وكرد على مرامي القرار 1559 الذي يستهدف، كما أسلفنا في بنده الثالث نزع سلاح المقاومة. فمظاهرة 8 اذار، رُدَّ عليها بمظاهرة أضخم عرفت «بانتفاضة» 14 آذار 2005 دعا إليها في ساحة الشهداء في بيروت ما عرف «بلقاء البريستول» أي مجموعة الأحزاب والقوى والشخصيات المعارضة والمتحالفة مع تيار المستقبل (أي تيار الرئيس الحريري)، مؤكّدة على نفس المطالب المرفوعة إثر مقتل الرئيس الحريري وعلى رأسها معرفة حقيقة من ارتكب الجريمة، شارك أو حرضَّ على ارتكابها، وخروج القوات السورية من لبنان.

 وقد تبرعم على هذا الوضع الداخلي موقف دولي لا يقل قساوةً وإلحاحاً باتجاه تنفيذ كامل بنود القرار 1559. فرئيس مجلس الأمن الدولي أصدر في اليوم الثاني على وقوع الجريمة أي في 15/2/2005، بإسم المجلس، بياناً أدان فيه الجريمة وطلب من الأمين العام للأمم المتحدة ملاحقة الوضع عن كثب في لبنان، وإعداد تقرير على نحوٍ طارئ عن الأوضاع وأسباب ارتكاب العمل الإرهابي ونتائجه (وثيقة S/PRST 2005/4). وفي 18/2/2005 أعلن الأمين العام للمنظّمة عن نيّته إرسال فريق تقصّي الحقائق في الجريمة، ليصل الفريق المذكور برئاسة نائب مفوّض الشرطة الإيرلندية «بيتر فيتزجيرالد» إلى بيروت في 22/2/2005، وينضم إليه لاحقاً عدد من الخبراء السويسريين في المتفجرات والقذائف الباليستية والحمض النووي في 6/3/2005. وفي 16/3/2005، تنهي اللجنة مهمّتها في بيروت، ويقدّم رئيسها فيتزجيرالد تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 24/3/2005، الذي يرفعه بدوره إلى مجلس الأمن الدولي (S2005/203) متضمّناً أربعةً وستين فقرة تستعيد الكثير من الاتهامات المتداولة وما يطلق من أقاويل في الساحة الداخلية اللبنانية، وتشير إلى مسؤولية السلطات السورية في توتير الوضع السياسي الذي سبق وقوع الجريمة، وفشل الحكومة اللبنانية في تأمين الحماية المناسبة لمواطنيها وتخصيصاً للرئيس الحريري، والخلل الكبير في إجراءات التحقيق التي قامت بها السلطات اللبنانية من فشلٍ في الإشراف بطريقة مناسبة على موقع الجريمة، أو الحفاظ على جميع الأدلّة، بل والعبث بمكوّنات الموقع، وإزالة أغراض كان يمكن أن تشكّل أدلة، ودون تدوين ذلك. هذا ناهيك عن اقتراح إجراء تحقيق دولي مستقل في الجريمة من قبل فريق دولي «مكتفٍ بذاته»، يتمتّع بالمعرفة ويحوز على ما يلزم من سلطات تنفيذية لإتمام عمليات الاستجواب، التفتيش وغيره».

وكان الرئيسان الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك عقدا لقاءً في بروكسل في أواخر شهر شباط 2005 ليجددا مطلب تنفيذ القرار 1559 بعد أن عرَّج البيان الصادر عنهما على ضرورة إجراء تحقيق دولي في مقتل الرئيس الحريري. ويقال([22]) أن الرئيس شيراك أقنع الرئيس بوش خلال اللقاء بأن فشل المحاولة الأميركية في العراق لإقامة الديموقراطية «النموذجية والموعودة» للشرق الأوسط يمكن أن يعوَّض في لبنان حيث أن الممارسات اللبنانية المعارضة وتراث الحفاظ على الحريات في حدوده الدنيا، يسمح بإنجاح تجربة العمل الديموقراطي وتحفيز بقية الشعوب العربية بهذا الاتجاه. ويبدو أن الرئيس الأميركي كان مهيأً لمثل تلك القناعة، ليس بمنطق الغيرة على لبنان والحفاظ على التجربة الديموقراطية فيه وترقيتها، إنما بمنطق احتمال الهروب إلى الأمام وصرف النظر عما تواجه الإدارة الأميركية من مصاعب في العراق ([23])، وبالتوافق مع خطط هذه الإدارة في إقامة «شرق أوسط جديد» عملاً بنظرية «عدم الاستقرار الخلاق» والمعروفة بنظرية «الفوضى البنّاءة أو الإيجابية» ([24]).

وبالتالي، وفي ظل تركيز الاهتمام الدولي على لبنان واستنفار الرأي العام الداخلي ومطالبته بكشف الحقيقة، أمكن لمجلس الأمن الدولي أن يتخذ بالإجماع القرار 1595 تاريخ 7/4/2005 القاضي بتأليف لجنة تحقيق دولية، لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق في جميع «جوانب العمل الإرهابي» وبتكرار دعوة الحكومة اللبنانية لأن تقدّم إلى العدالة مرتكبي التفجير وأن تكفل مراعاة نتائج واستنتاجات التحقيقات مراعاة تامة»، ناهيك عن التعاون التام مع اللجنة التي سيكون لها سلطة جمع المعلومات والأدلة الإضافية، وأيضاً إجراء مقابلات مع جميع المسؤولين والتمتّع بحرية التنقّل في جميع الأراضي اللبنانية، مستفيدة مما تقدّمه الحكومة من تسهيلات وامتيازات وحصانات، بالإضافة إلى دعوة جميع الدول والأطراف للتعاون التام مع اللجنة وتزويدها بما لديها من معلومات ووثائق.

 

وقد اعتبر هذا القرار بدوره وما نتج عنه من تعيين للقاضي الألماني ديتليف ميليس رئيساً للجنة التحقيق ([25])، مدماكاً إضافياً من المداميك التي أرساها القرار 1559، على الرغم من عدم الربط النصيَّ بين الاثنين، واتخذ كذريعة لدول هذا الأخير لرفع منسوب الضغوط إلى درجة عالية على سوريا مقرونة باشتباه بها حيناً، واتهام لها حيناً آخر، في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ففي هذا الوقت بالذات، أعاد تيري رود لارسن، مبعوث الأمين العام لمتابعة تنفيذ القرار 1559، الحيوية لحركته واتصالاته مع السلطات السورية التي وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ قرار انسحاب قواتها بما فيها أجهزة المخابرات إلى ما وراء الحدود في سوريا، كما أعلنه الرئيس بشار الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب السوري في شهر آذار 2005، تذكر بنصوص اتفاق الطائف للعام 1989، واستجابة للقرار 1559 في ما يتعلّق بسوريا ([26]).

وعلى الأثر تسارعت وتيرة الانسحابات السورية التي لم تتوقّف في البقاع في مرحلة أولى كما ينص اتفاق الطائف، وكما كانت ترغب دمشق، وإنما جاءت نهائية، وأنجزت كاملة في 26/4/ 2005، أي في حدود شهر من اجتماع اللجنة العسكرية السورية اللبنانية التي يرتئيها اتفاق الطائف لتقرير مثل هذا الأمر الذي سبق أن اتخذته القيادة السورية قسراً تجنّباً لتداعيات سلبية محقّقة حيال النظام داخل سوريا لو استمر تجاهل مستلزمات القرار 1559 في ظلّ إصرار دولي على تنفيذه.

ولم تستطع السلطات في سوريا النأي بنفسها عن مستلحقات القرار 1559 بمنطوق وجوب التعاون مع لجنة التحقيق الدولية المشكّلة، لكشف حقيقة جريمة اغتيال الرئيس الحريري عملاً بنص البند 7 من القرار 1595 تاريخ 7/4/ 2005، وعلى أساس احتمال كون تلك الجريمة من تداعيّات القرار 1559، لا سيما وأن تقرير فيتزجيرالد أشار إلى المسؤولية السورية في توتير الأجواء التي سبقت إرتكاب الجريمة، وإلى النكوص في حفظ أمن المواطنين من قبل السلطات اللبنانية والسورية المعنية.

أما الحكومة اللبنانية التي ترأسّها نجيب ميقاتي في نيسان 2005 فحرصت على إرسال مجموعة من الإشارات الإيجابية تجاه القرار .1559 واتخذت سلسلة من التدابير الملحّة، ومنها التصرّف بمعظم رؤساء الأجهزة الأمنية (المعنيين بتقرير فيتزجيرالد رئيس لجنة  تقصي الحقائق في جريمة الاغتيال)، وبدء إجراء الانتخابات النيابية إنطلاقاً من 29/5/2005 أي خلال فترة الشهرين المحدّدة دستورياً وقانونياً، وبالتجاوب مع الرغبات والتحذيرات الدولية في هذا الخصوص بالرغم مما يشوب قانون الانتخاب (للعام 2000) من عدم مساواة، وتجاوزات ونواقص، وما يلاقيه من معارضة.

وكانت دول القرار 1559، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، تأمل بأن تسفر الانتخابات النيابية، عن تشكيل أكثرية نيابية جديدة (مؤلّفة من تيار المستقبل وحلفائه)، من شأنها أن تتبنّى أو تساعد في استكمال بنود القرار المذكور وتجعل أصحاب خيار المقاومة «أقلية» معزولة.

بيد أن «حزب الله» تمكّن عن طريق انفتاحه على الجميع وبكثير من الجهد من تكريس قناعة داخلية مفادها أن موضوع المقاومة وسلاحها شأن داخلي يعالج بين الأفرقاء اللبنانيين توخياً لمصلحة لبنان، ولا يجوز أن يتحوّل مورداً لنزاع أو فتنة داخلية بعد إنجاز تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي. وقد جاءت التحالفات الانتخابية لتكرّس هذه القناعة جامعةً حتى بعض الذين كانوا ينادون بنزع سلاح المقاومة، التزموا بشكل أو بآخر، لدى تركيب اللوائح بالحفاظ على سلاح المقاومة حتى تحرير بقية الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وكفرشوبا، وبالتالي تحقق التداخل بين «انتفاضتي» 8 و14 آذار .2005 واعتبرت نتائج الانتخابات والفوز فيها للوائح «حزب الله» وحلفائه بمثابة «استفتاء» على المقاومة في مواجهة القرار .1559 وتمكّن «حزب الله» من المشاركة في السلطة التنفيذية بتمثّله بعدد من الوزراء في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الحالية التي نالت ثقة مجلس النواب بأغلبية كبيرة (93 نائباً من أصل 128) في 30/7/.2005

ومع عدم تحقّق آمال دول القرار 1559 بنتائج الانتخابات النيابية لجهة نزع سلاح «حزب الله» لم تدعم هذه الدول السعي والإصرار في هذا الاتجاه. وكانت المناسبة هذه المرة اجتماع مجلس الأمن الدولي في أواخر شهر تموز 2005 لتمديد فترة ولاية قوات الطوارئ الدولية في جنوبي لبنان، بموجب القرار رقم .1614 فقد تضمّن هذا الأخير، على غير ما درجت عليه قرارات التمديد السابقة، تأكيداً واضحاً على واجب الحكومة اللبنانية إرسال الجيش إلى الجنوب ونشره بما في ذلك على امتداد الخط الأزرق، مما اعتُبِرَ على أنه محاولة مواربة للسير بتنفيذ القرار 1559 في بنده الثالث (حل الميليشيات ونزع سلاحها)، بحجّة تنفيذ البند الرابع منه الذي يقول «بدعم بسط سلطة الحكومة اللبنانية على كافة التراب اللبناني». ويبدو أن فرنسا بذلت الجهود لاستبدال القرار 1559 بتنفيذ دقيق للقرار 1614 لما لهذا الأخير من إيجابيات، إذ أنه لا يذكر سلاح المقاومة، وبالتالي فهو يتجنّب النقاش حول هذا الموضوع وما قد ينتج عنه من مخاطر على الوضع الداخلي اللبناني. وتأسيساً عليه جرى اقتراح:

أولاً - إنشاء قيادة مشتركة بين قوات الطوارئ الدولية في جنوبي لبنان والجيش والقوى الأمنية اللبنانية، مقرّها الناقورة،

ثانياً - زيادة عديد القوة الأمنية اللبنانية المشتركة المنتشرة في الجنوب، بصورة كبيرة وسريعة ونشرها في محاذاة «الخط الأزرق».

ثالثاً - عدم تواجد عناصر المقاومة على امتداد الخط المذكور ([27]).

ومجدّداً لم تلق تلك الاقتراحات والطروحات رداً إيجابياً سواء من السلطات اللبنانية الرسمية أو من المقاومة، التي ذهب بعض مسؤوليها للتصريح العلني، وفي أكثر من مناسبة، بأن «لا فائدة من التلهّي بالقرارات الدولية، وأن القرارين 1559 و1614 أصبحا وراءنا» ([28])، أو أنه «لا القرار 1559 يستطيع أن يغيّر الحقائق التاريخية، ولا القرار 1614، ولا يمكن لما يصدر من قرارات عن مجلس الأمن الدولي أن تغيّر حقائق علمية وأساسية بُنيِ عليها لبنان، وتشكّل ركائز أساسية لبناء لبنان المستقبل» ([29]). ولكن هذا لا يعني أن الوضع استتب في لبنان أو أن دوامة القرارات الدولية والخط الدولي المتمثّل بالقرارين 1559 و 1614 على حد تعبير العلاّمة محمد حسين فضل الله، لم يعد يشغل لبنان ويربك الوضع الداخلي ويخلق بعض الأوضاع الجدلية» ([30]).

فدول القرار 1559 قد تكون تتهيّأ لرهان جديد، ولكن هذه المرة على نتائج التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري من خلال ما يتم تسريبه سواء لكيفية التفجير، تحت الأرض أم فوقها، أو الجهة التي تملك ذلك النوع من المتفجّرات، أو الوسيلة المعتمدة، والتركيز على مسألة شاحنة «الميتسوبيتشي» التي رصدت في المكان لحظة التفجير، وترجيح احتمال وقوع عملية إنتحارية، كون الشاحنة المذكورة خرجت من ضاحية بيروت الجنوبية، كأن المراد من هذا الأمر إلقاء الشبهة على «حزب الله» والاشتباك مع المخيّمات الفلسطينية الموجودة بدورها في الضاحية الجنوبية، وبالتالي تحضير الساحة الداخلية اللبنانية، في أقصى الحالات وأسوئها، لصدام يذهب بالمقاومة وسلاحها، أو على الأقل يصرفها عن وجهتها الأساسية في ردع إسرائيل، وفي أدنى الأحوال، إتباع سياسة شفير الهاوية مع «حزب الله» وحلفائه للقبول بما يسوّق دولياً من حلول لتخليه عن السلاح.

إن تقرير القاضي ديتليف ميليس الإجرائي، أو ما يعرف «بإحاطة ميليس» لمجلس الأمن الدولي تاريخ 25/8/2005، يتضمّن ذكر الدول التي تعاونت مع التحقيق بالإسم الأردن وإسرائيل أضف إلى الحكومة اللبنانية، وأشار إلى أن سوريا لم تستجب للمراسلات والطلبات التي قدّمتها اللجنة لإجراء بعض المقابلات مع بعض المسوؤلين فيها لا سيما الأمنيين الذين عملوا في لبنان وتزويد اللجنة بما هو ضروري من معلومات ووثائق تفيد التحقيق، كأن في الأمر تحميل سوريا مسؤولية التأخير في إنهاء التحقيق، وتالياً الوصول إلى كشف الحقيقة ومحاكمة المجرمين([31]).

 

وهكذا فإن تنفيذ ما تبقى من القرار 1559 ومستلحقاته ما زال يشكّل عنصر إشتباك، قد يمهّد لإعادة النظر بوضع المنطقة وهيكليتها من جديد وبرّمتها. فلبنان غير قادر على رفض صريح للعمل ببقية بنود القرار على مستوى نزع سلاح المقاومة والتنظيمات العسكرية الفلسطينية وغيرها من التنظيمات، دون أن يتسبّب بإغضاب بعض الأطراف الداخلية، وإثارة بعض الحساسيات الطائفية ناهيك عن استجراره شبه إجماع دولي ضده، على أساس أنه لم يعد من مبرّر لاستمرار المقاومة المسلّحة بعد «استكمال التحرير» وانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوبي لبنان قبل 25/5/2000 وتنفيذ القرار 425/87 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 19/3/1978 وهو من ناحية ثانية لا يتحمّل الذهاب إلى تنفيذ القرار، قسرياً، ضد مقاومة حرّرت معظم الأراضي المحتلّة في جنوبي لبنان.[32]

البعض يرى بأن حزب الله يملك قوة ردع (صاروخية) لا يستهان بها في مواجهة إسرائيل ويمكن أن تفرض حالة من الذعر على المجتمع الإسرائيلي الذي تمسكه القوة ويستمر بها. وإن إيران قادرة من حيث المبدأ على إغراق الخليج في وجه الملاحة الدولية وبالتالي فرض حالة إرباك وفوضى إقتصادية عالمية عارمة قد تمنحها طوق أمان ضد مهاجمتها أو المساس بحقّها في تطوير طاقاتها العلمية والنووية، أو بمصالحها الحيوية في المنطقة (ومن ضمنها تشكيل «حزب الله»). البعض الآخر يرى على النقيض، أن بوسع إسرائيل بعد أن تكون قد استوعبت وقع ردّ «حزب الله» أو خلاله أن تدمّر معظم مقوّمات الحياة المدنيّة في لبنان من شبكات مواصلات وكهرباء وماء، وعلاقات إجتماعية، وما يستتبعه ذلك من مخاطر على الوحدة الوطنية، وإيقاظ لطروحات تقسيمية نائمة([33]).

هذا على الجبهة اللبنانية، أما على الجبهة الإيرانية والسورية، فالخطط الأميركية المعروضة في بعض جوانبها على قيادة الحلف الأطلسي([34])، تفيد بأن البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، أوصى الإدارة الأميركية بأنه قد يكون بات متعذّراً إقفال الملف العراقي - وغيره من الملفات في لبنان وفلسطين - وانسحاب القوات الأميركية من العراق ما لم تضرب إيران أو سوريا بقوة عسكرية جوّية شديدة، في الوقت الذي تطمئن تلك المواقع الإقليمية أن الآلة العسكرية الأميركية غير قادرة على توجيه ضربة الآن إلى أية دولة أخرى في الشرق الأوسط بسبب  غرقها في الوحول العراقية، وتتناسى حقيقة التقارير القائلة بقدرة القوات الجوّية والبحرية والبرية الأميركية - رغم حرب العراق- على القتال في دولتين أو أكثر في وقت واحد. وتؤكّد أوساط البنتاغون، في تطمين لقيادة الأطلسي، من عدم تمكّن الإيرانيين من ضرب المنشآت النفطية في الخليج أو تعطيل الملاحة فيه، أو مهاجمة إسرائيل بقذائف بيولوجية أو كيميائية صاروخية، بالقول: «سوف يصحون ذات صباح ليجدوا كل شيء إنتهى».

قد تصل الأمور إلى هذا الحد؟ سواء بتصوّر هذا البعض أو ذاك؟ الجواب عند من يملك الحق، وعند الذين يحوزون المعرفة ويطّلعون على خبايا القرارات. وبالتأكيد فإن ممارسة السياسات الوطنية في الظروف التي تمرّ بها المنطقة والعالم ليست في اجترار الكلمات الكبيرة والمستهلكة بانتهاء زمنها ومفعولها، بقدر ما هي في التعامل مع الممكن وتحسين شروطه. وإنها لقرارات خطيرة في هذه الظروف الصعبة، والرجاء أن يحسن اتخاذها من بيدهم الأمر.

وقد تكون ثمّة مؤشّرات إيجابية في هذا المنحى وباتجاه محاولة تفكيك تلك الأوضاع الصعبة. فسوريا سبق لها أن اتخذت «ما بوسعها» من إجراءات جدية ومحسوسة لمراقبة حدودها مع العراق ومنع تسلّل المقاتلين إليه، ونفّذت الشق المتعلّق بها من القرار 1559، وسحبت قواتها من لبنان، وتعد على لسان أعلى مرجعية فيها الرئيس بشار الأسد، بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية وتمكينها من مقابلة أي مسؤول فيها تبياناً للحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ([35]).

ولم تعد ترى مصلحتها في معارضة تنفيذ الشق المتبقّي من القرار 1559، والمتعلّق بغيرها. ويرجّح أن تكون القيادة السورية قد فاتحت المسؤولين الإيرانيين، خلال زيارة الرئيس الأسد الأخيرة إلى طهران، بموضوع سلاح «حزب الله» في لبنان وعدم معارضتها لأي حل على أساس الصيغ المطروحة([36])، بحيث يخرج الحزب عن دائرة استهداف القرار 1559، ويجنّب نفسه وحلفائه في الداخل والخارج أية ضغوط إقليمية وغربية جديدة ([37]).

 

و«حزب الله» الذي بلغ بالموقف السوري الجديد والمرحّب أيضاً بفتح الحوار بين «الحزب» والأميركيين، لا تنقصه الحكمة والجرأة للمناقشة ([38])، والوصول إلى الحلول التي تحفظ لبنان، وألا يكون الصاعق المفجّر للوضع في المنطقة. والأهم في هذا كله إطّلاع الولايات المتحدة الأميركية على السياسة السورية الجديدة التي تتّجه أيضاً للانسحاب من ملف «الرفض الفلسطيني»، والمخيّمات وسلاحها في لبنان، ومن مؤشّراتها:

  - إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية الأصولية في دمشق.

  - حصر العلاقة السورية الفلسطينية عبر دمشق - رام الله، أي جعلها رسمية بين سوريا والسلطة الفلسطينية.

  - دعم هذه الأخيرة في توجّهها لنقل عدد من المقاتلين الفلسطينيين الموالين لها من مخيّمات لبنان إلى قطاع غزة في ما يقارب تنفيذ الشقّ الفلسطيني للقرار 1559 حول سلاح المخيّمات ([39]).

- تشجيع بعض الأفرقاء اللبنانيين على الاحتذاء بالموقف السوري وضبط اتصالاتهم مع القيادات الفلسطينية الرافضة من مثل القيادة العامة (أحمد جبريل) وفصائل الانتفاضة (أبو موسى).

كل ذلك من ضمن جهد سوري متطوّر ومتنامٍ، وإن بدأ بطيئاً، لامتلاك الوسائل المطابقة للمرحلة، وللتدليل على صلاح سوريا كمحاورٍ جادٍ مع الولايات المتحدة، واستعادة ثقتها بسوريا كطرف مفيد في الحفاظ على الاستقرار، وتيسير الحلول لأزمات المنطقة وحصر الصراعات التاريخية المزمنة فيها. وقد وجد هذا الجهد، وما ظهر من ليونة دبلوماسية سورية، إستجابة لدى بعض الأطراف الفاعلة دولياً وإقليمياً، إذ حالت روسيا والجزائر ومعهما الصين ومجلس الأمن الدولي من إتخاذ قرار أو إصدار بيان رئاسي يدين سوريا لعدم تعاونها مع لجنة التحقيق الدولية بمقتل الحريري، وتأخير هذا التحقيق كما اقترحته فرنسا مؤيِّدَة من الولايات المتحدة الأميركية، بمناسبة اجتماع المجلس بتاريخ 25/8/2005 للبحث في التقرير الإجرائي للجنة المذكورة.

والحال أن الولايات المتحدة الأميركية لم تَعُدْ، بعد تجربتها المريرة في العراق، مطلقة اليدين بالتصّرف دون وازع أو رادع كما خطّط لـه ويريده ما يعرف بفريق «المحافظين الجدد» أو المتشدّدين في إدارتها. وفرنسا الحريصة بالحفاظ على إستقلالية الكيان السياسي اللبناني وسيادته، وحرية اللبنانيين وخصوصيتهم، ليست بوارد السير إلى حد تفجير هذا الكيان والقضاء عليه. والأسرة الدولية بمجملها، صاحبة القرار 1559 بمسعى تأكيد الدعوة «للإحترام الدقيق لسيادة لبنان وسلامة أراضيه ووحدته واستقلاله السياسي»، متيقّنة من حساسية الأوضاع ودقتها وخشيتها من أن اللبنانيين ما برحوا يعيشون مرحلة ما قبل تشكيل الدولة بمعناها الحديث، وأن العبث يطال كل شيء فيه حتى قدسيّة النصوص، وبالتالي فهي واجبة الحذر في أن لا تؤدّي الآليات المرتقبة الاعتماد لتنفيذ ما بقي من القرار 1559، وأيضاً نتائج أي تحقيق تضطلع به، إلى نقيض ما تدعو إليه، وتشدّد على أن يتصرّف الجميع بأقصى قدر من ضبط النفس، وأن يكون تقرير مستقبل لبنان عن طريق الوسائل السلمية وحدها، حسب ما تضمّنته رسالة الأمين العام للمنظمة الدولية إلى مجلس الأمن بتاريخ 24/3/2005، بمناسبة تسلّمه تقرير فيتزجرالد رئيس لجنة تقصّي الحقائق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وبالنهاية، أليس القرار 1559 إجراء سياسي ويندرج في محيط إلتِمَاس الحلول السلمية كما سبق وبدأنا به هذا البحث؟ وبالتالي فإن المنطق، والمصلحة أيضاً، يقتضيان معالجة تنفيذه بوسائل وآليات سلمية وحبّية، ومن نفس الطبيعة، وإن تطلّبت المعالجة مزيداً من الوقت والصبر. ويبقى الأمل معقوداً على انتصار منطق الحوار والسلام.

 

[1] الأعضاء المؤّيدون: إسبانيا، ألمانيا، أنغولا، بنين، رومانيا، تشيلي، فرنسا، المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، والولايات المتحدة الأميركية.

[2] جرى التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود ثلاث سنوات عشيّة اليوم التالي لاتخاذ القرار أي في 3/9/2004 بتصويت 96 نائباً مع و29 نائباً ضد وغياب ثلاثة نواب على تعديل نص المادة 49 من الدستور اللبناني الذي سمح بذلك.

[3] أنظر مداخلته أثناء مناقشة المشروع في مجلس الأمن الدولي (المحضر الرسمي لجلسة مناقشات مجلس الأمن منشور في جريدة السفير اللبنانية عدد 6/9/2004).

[4] أنظر مداخلة المندوب الجزائري في مجلس الأمن ومثلها مداخلة المندوب الباكستاني (مرجع مذكور سابقاً).

[5] القصد من ذلك التعبير عن مرحلة نشوء وتكوّن كتلة عدم الانحياز إبتداءً من العام 1955 (مؤتمر باندونغ - إندونيسيا)، ومحاولتها حجز دور لها في تكييف العلاقات الدولية بين الكتلتين: الغربية (بزعامة الولايات المتحدة) والشرقية (بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق).

[6] تضمّنت تصريحات العديد من المسؤولين الأميركيين، لا سيما هؤلاء المعروفين «بالمحافظين الجدد»، انتقادات عنيفة للمنظمة الدولية وضرورة تخطّيها في حال معارضتها للسياسة الأميركية، وإعادة النظر الجذرية بهيكليّتها باتجاه إفراد مركز مميّز للولايات المتحدة الأميركية  لا يساويها مع بقية الدول الموصوفة بالكبرى وصاحبة حق النقض في مجلس الأمن الدولي، ويعكس بالتالي واقع حالها كأقوى قوة عسكرية، وأضخم إقتصاد في العالم.

[7] سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن أصدرت القرار رقم 181 تاريخ 29/11/1947، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، دون الركون إلى استفتاء السكان والأهالي. وفي العام 1960، ألزم مجلس الأمن الدولي القبارصة بالاستقلال بالرغم من أن الاستفتاء جاء لصالح الانضمام إلى اليونان. وتصرّ المنظمة الدولية حالياً، من خلال المشروع المقدّم من الأمين العام لحل المشكلة، على توحيد الجزيرة على الرغم من أن استفتاء 24/4/2005 في القسم اليوناني من الجزيرة جاء سلبياً. وكان أن ألزم مجلس الأمن الدولي جيبوتي بالاستقلال على الرغم من أن نتيجة الاستفتاء حول المسألة لعامي 1967 و1976 لم تكن في هذا الاتجاه إنما لاستمرار الارتباط بفرنسا وضمناً الانضمام إلى الصومال، على أساس أن مثل هذا الانضمام لم يكن مضمناً للاستفتاء وبحجّة تفادي الحرب بين أثيوبيا والصومال حول جيبوتي.

[8] أصدر مجلس الأمن الدولي في إطار حماية الأقلّيات ومنع الإبادة ومنع التطهير العرقي عديداً من القرارات التي تتناول جملة من المسائل كانت تعتبر من مرجعية القانون الداخلي لبعض الدول كالعلاقة بين مختلف المجموعات الاتنية والدينية فيها، والتي ستمهّد لانخراط المنظمة في نشاطات من طبيعة وطنية صرف بالمبدأ والاضطلاع بإدارة شؤون سياسية وأمنية وقضائية، تصل إلى حد الحلول محل الحكومات في بعض الكيانات. ومن ذلك القرار 787 تاريخ 16/11/1992، المتعلّق بالنزاع في جمهورية البوسنة - الهرسك، والقرار 942 تاريخ  23/9/1994، القاضي بفرض عقوبات على صرب البوسنة بهدف دفعهم للموافقة على خطة السلام المعدّة من قبل مجموعة الاتصال التي أقامتها الأمم المتحدة (ألمانيا، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، إنكلترا وروسيا)، والذي استتبع بإجازة عملية عسكرية واسعة قادها حلف الأطلسي ضد صرب البوسنة في أوائل شهر أيلول 1995، وانتهت بإجبار الصرب على قبول اتفاقات دايتون للعام 1995 التي نصّت على قيام فيدرالية كرواتية ومسلمة من جهة وجمهورية صربية من جهة أخرى تتمتّعان بدستورين منفصلين ومؤسسات محلية خاصة تحت حكومة مركزية، ورئاسة جماعية ثلاثية بالتداول ومجلس نيابي بيكا ميرالي مشترك ومحكمة دستورية.

 أضف إلى القرار 1160 تاريخ 31/3/1998، الذي أعقب المجازر التي ارتكبها الصرب في إقليم كوسوفو، وجاء ينص على حل الأزمة سلمياً وتمكين الإقليم من وضع قانوني متطوّر. وبعد طرد الصرب من الإقليم بعملية عسكرية لحلف الأطلسي، وإجبارهم على وقف للنار في 9/6/1999، جاء القرار 1244 ممهّداً لاضطلاع المنظمة الدولية، عن طريق بعثة دولية ضخمة ومركّبة (حوالي سبعة وعشرين ألف موظف مدني وشرطي وعسكري) بإدارة سياسية، أمنية واجتماعية متكاملة للإقليم تحضيراً لاستقلاله الذاتي وتزويده بالمؤسسات التشريعية، التنفيذية والقضائية اللازمة. وهذا تقريباً ما قامت به المنظمة الدولية في تيمور الشرقية بدءاً من تنظيم استفتاء 30/8/1999، توصّلاً إلى إنشاء «مجلس الإدارة المؤقّتة للأمم المتحدة» في تيمور الشرقية (Atnuto) وتفويضها ممارسة السلطة التشريعية والتنفيذية خلال فترة السير بالاستقلال في هذا الإقليم المنفصل عن إندونيسيا بمعنى إنشاء دولة جديدة.

بل إن المنظمة الدولية تجاوزت، تحت واجهة محاربة الإرهاب وبناء الديموقراطية، قيام الولايات المتحدة الأميركية بشن الحرب على أفغانستان إبتداءً من 7/10/2001، وإسقاط حكومة الطالبان، بحجة الدفاع عن النفس واعتبار الإرهاب بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين كما تضمنه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1368 تاريخ 12/9/2001، وعادت وساهمت في عملية استواء نظام جديد. فبعد أن أيّد مجلس الأمن الدولي بقراره رقم 1378 تاريخ 14/11/2001 الجهود الدولية لاستئصال الإرهاب، رحّب بعزم الممثّل الخاص للأمين العام في أفغانستان الأخضر الإبراهيمي، دعوة الأطراف الأفغانية لاجتماع يتقرّر فيه إقامة إدارة جديدة إنتقالية جرى الاتفاق عليها لاحقاً في اجتماع بون بتاريخ 5/12/2001، وحيث أصدر مجلس الأمن في اليوم التالي قراره رقم 1383 معلناً دعمه لهذه الإدارة. وفي 28/3/2002، صدر قرار المجلس رقم 1401 القاضي بإقامة «بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان» توصّلاً لإعداد دستور أفغاني جديد جرى إقراره في 4/1/2004 من لدن المجلس التمثيلي «اللوياجيرغا» المؤقّت، ولإجراء انتخابات رئاسية، أفرزت رئيساً أفغانياً جديداً هو حميد قرضاي.

وهذا ما حصل نسبيّاً حيال العراق تحت يافطة إرتباط نزع أسلحة الدمار الشامل بمحاربة الإرهاب واستواء النظام الديموقراطي. فقد أقرّ مجلس الأمن بموجب القرار 1483 تاريخ 22/5/2003، بواقع الاحتلال الأميركي للعراق محقّقاً مع بداية شهر نيسان 2003 وخوّل سلطة الاحتلال الاشراف على عملية سياسية تنتهي بتنظيم انتخابات وتكوين حكومة «ديموقراطية»، ناهيك عن تعيين ممثّل خاص للأمين العام للمنظمة، تكون من بين مهامه الأساسية التعاون مع السلطة والشعب العراقي وباقي المجموعات المعنية، على إعادة بناء المؤسسات الوطنية والمحلية، أو بعثها بما يسمح بإقامة حكومة تمثيلية معترف بها من قبل المجموعة الدولية. وتابع المجلس اهتمامه بالشأن الداخلي العراقي باتخاذه للقرار 1511 تاريخ 16/10/2003، داعياً مجلس الحكم المعيّن من طرف سلطة الاحتلال أن يقدّم في موعد أقصاه 15/12/2003، جدولاً زمنياً وبرنامجاً لصياغة دستور جديد للعراق وإجراء إنتخابات تشريعية. وبالفعل، ونتيجة لجهود حثيثة بذلها ثالث مبعوث خاص للأمين العام إلى العراق الأخضر الإبراهيمي نفسه، أقيمت حكومة عراقية إنتقالية تسلّمت السيادة إسمياً على الأقل في 30/6/2004، وأجرت انتخابات تشريعية في 31/1/2005، وحدّدت منتصف شهر آب 2005 كموعد للاتفاق على مسودة دستور جديد دائم (تأخر موعد إعلانه ونشره لبضعة أسابيع) بانتظار إجراء إنتخابات تشريعية جديدة في ظله خلال شهر كانون الاول /ديسمبر 2005.

[9] من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في افتتاح مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان المنعقد بتاريخ 15/6/.1993

[10] إتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأيضاً لجنة حقوق الإنسان، قرارات عديدة في السنوات القليلة الماضية، تطالبان فيها الأنظمة القائمة في كثير من الدول باحترام الشرعية الديموقراطية. ففي نيجيريا مثلاً داومت الجمعية العامة منذ انقلاب عام 1993 وحتى عام 1995 وتحت عنوان «حقوق الإنسان في نيجيريا»، على مطالبة الحكومة النيجيرية باتخاذ إجراءات فورية وملموسة من أجل إعادة النظام الديموقراطي في هذا البلد وإقامة حكومة تمثيلية تنبثق عن انتخابات يشارك فيها الشعب، في إطار تعدّدية حزبية. وكانت الجمعية العامة قد أصدرت مثل هذه التوصيات حيال بيرمانيا منذ العام 1991 تطالب فيها الحكومة العسكرية في تلك البلاد باحترام نتائج انتخابات العام 1990.

[11] أنظر تقرير كوفي أنان حول القرار 1559 (النص منشور في صحيفة صدى البلد عدد 2/10/2004).

[12] تؤشّر الملاحظة التاريخية لتطوّر الأحداث، منذ جواز الحديث عن نشأة كيانية سياسية لبنانية، على أن العامل الخارجي والدولي كان دائم الحضور في الحياة السياسية اللبنانية، بل وفي أصل وضع الأطر التأسيسيّة والتنظيمية لهذه الحياة وبنية الحكم في لبنان. فمع عهد الامارة المعنية، دشّنت الدول الأوروبية تدخّلها في لبنان ليتسع هذا التدخل ويكبر مع الامارة الشهابية، وصولاً إلى القضاء عليها العام 1840، ووضع نظام القائمقاميتين العام 1842، وهو من بنات أفكار المستشار النمساوي مترنيخ، وما عرفه العام 1845 من إصلاحات، وهي أيضاً صنع خارجي (إصلاحات شكيب أفندي وزير خارجية تركيا) وبداية تأسيس المشاركة الطائفية في حكم لبنان. وبعده، وإثر الأحداث الدامية للعام 1860، وإرسال فرنسا لـستة آلاف جندي، مساعدة في توطيد الأمن ونشر السلام (بطمأنة المسيحيين) في لبنان، إتفق قناصل الدول الأوروبية ومندوب السلطان العثماني في الأستانة على إقامة نظام المتصرفية بالاستناد إلى بروتوكول 9/6/1861، الذي حلّ محلّه بروتوكول 1864، مولياً السلطة في جبل لبنان لحاكم مسيحي غير لبناني يدعى المتصرّف، تعيّنه الحكومة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية. وكنتيجة للحرب العالمية الأولى وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، فكان أن اتخذ المفوّض السامي الفرنسي الجنرال غورو سلسلة قرارات تأسيسية ومنها القرار 299 تاريخ 3/8/1920، القاضي بسلخ أقضية حاصبيا، راشيا، المعلقة وبعلبك عن سوريا، وضمّها إلى جبل لبنان ليصبح لبنان بحدوده الحاضرة، والقرار 318 تاريخ 31/8/1920، الذي أعلن قيام «دولة لبنان الكبير»، لتحل محلّها تسمية «الجمهورية اللبنانية»، بموجب صدور الدستور اللبناني بتاريخ 23/5/1926، والذي اعتبره الكثيرون مجرّد منحة من السلطات الفرنسية، لننفرد نحن في اعتباره بمثابة عقد بين السلطة المنتدبة والمجلس التمثيلي اللبناني، بالإستناد إلى وثيقة دولية ملزمة هي صك الانتداب للعام 1922 (راجع أحمد سرحال: النظم السياسية والدستورية في لبنان والدول العربية كافة، دار الفكر العربي، بيروت، 1990، ص 82 وما بعد). ولم يخل الميثاق الوطني للعام 1943، سواء في مقدّماته أو ما نتج عنه من صيغة حكم من تأثير العامل الخارجي المتمثّل بدور فعّال للمفوض السامي البريطاني الجنرال سبيرس، ورئيس وزراء مصر النحاس باشا، خصوصاً في الاتفاق على نسبة 5/6 في تمثيل المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي. إن محاولة الإخلال بالتوازن الذي أرساه الميثاق الوطني وتصادم التيّار المؤيّد للسياسة الغربية متمثّلة بحلف بغداد والتيار العروبي، أدّى إلى ثورة العام 1958 وإنزال القوات الأميركية على الشواطئ اللبنانية، لتنتهي الأزمة بإرسال الأمم المتحدة لفريق مراقبين دوليين إلى لبنان، وباتفاق عبد الناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة: مصر وسوريا) ومورفي (مساعد وزير الخارجية الأميركي) على الإتيان باللواء فؤاد شهاب قائد الجيش اللبناني رئيساً للجمهورية. وكان جلياً أثر العامل الإقليمي والدولي - لا سيما الفلسطيني - في اندلاع أحداث العام 1975، وما تلاها من اجتياح إسرائيلي العام 1978 والعام 1982، وما نتج من إرسال قوات ردع عربية وقوات طوارئ دولية إلى لبنان، توصّلاً إلى انعقاد إتفاق الطائف للوفاق الوطني اللبناني العام 1989، وهو ليس مجرّد إتفاق بين نواب لبنانيين، إنما نقطة توافق بين قوى دولية وإقليمية فاعلة وتخصيصاً الولايات المتحدة الأميركية، الإتحاد السوفياتي، فرنسا، الفاتيكان، سوريا والسعودية، وهذا ما أكسبه تبنّي الأسرة الدولية لـه ببيانين صادرين عن رئاسة مجلس الأمن الدولي الأول رقم  157/89 بتاريخ 7/11/1989 والثاني بتاريخ 22/11/1989، أضف إلى قرار الاتحاد الأوروبي تاريخ 9/12/1989.

[13] أنظر الصحف اللبنانية لفترة 11-14/5/2005، وفي نفس المعنى يصرّح ميشال سماحة في 18/5/2005، وزير الإعلام اللبناني السابق، بأن الوضع في لبنان ترعاه سفارتان أو ثلاث (يقصد السفارة الأميركية والسفارة الفرنسية والسفارة السعودية)، وأن مختلف التيارات الخارجية عن الانتخابات تنسّق في ما بينها لتلاقي المصالح، وأن كل ما في الأمر تغيُّر في الجهات الخارجية الراعية للوضع (أنظر صحف 19/5/2005).

[14] يقول الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره إلى مجلس الأمن حول القرار 1559 (وثيقة رقم S2400/777)، أنه في قناعته «لا يجدر بالحكومات والقادة الاحتفاظ بولاياتهم أبعد من الفترة القانونية المسموح لهم بها». علماً أنه وجب برأينا التمييز في الحديث عن واقعة التمديد لرئيس الجمهورية بين مخالفة النص الدستوري، وهي بالمناسبة لم تقع إذ أن المواد 76 و77 تسمح بتعديل الدستور، وقد احترمت الأصول المنصوص عليها في هذا الأخير في تعديل نص المادة 49 إفساحاً بتمديد الولاية ثلاث سنوات، وبين مخالفة المبادئ الدستورية العامة، وهي محقّقة بانتهاك مبدأ عمومية التشريع لا سيما التشريع الدستوري، وذلك بربط التمديد والتعديل الدستوري لصالح شخص الرئيس لحود، دون ذكر عدم جدية مبرز «حالة الاستثناء ولمرّة واحدة» الواردة في القانون.

[15] من رسالة الحكومة اللبنانية الذي يشير إليها تقرير الأمين العام الوارد في الملحوظة السابقة.

[16] رغم التعديلات التي أدخلت على مشروع القرار 1559، وغيّبت ذكر عبارة القوات السورية صراحة مستبدلة بعبارة القوات الأجنبية الباقية، «إلا أن القصد يستهدف بوضوح القوات السورية وحيث أن تقرير الأمين العام للمنظمة الدولية تاريخ 16/6/2000. أكّد أن إسرائيل إستوفت حتى ذلك التاريخ شروط قراري مجلس الأمن الدولي الرقم 425 و426»، بسحب قواتها من جميع الأراضي اللبنانية». وهذا ما تبنّاه مجلس الأمن الدولي في البيان الصادر عن رئيسه بتاريخ 18/6/2000. واستطراداً، لم يكن قد بقي في لبنان سوى القوات السورية.

[17] عملاً بنصّ الترتيب رقم (1) من العنوان «ثانياً: بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية» من اتفاق الطائف للوفاق الوطني اللبناني، إتخذت حكومة الرئيس عمر كرامي العام 1991 قراراً بحل الميليشيات اللبنانية وتسليم أسلحتها واستيعاب جزء منها في القوى الأمنية مع غض النظر وتساهل عملي تجاه العناصر المسلّحة التابعة لحزب الله التي شكّلت فصائل للمقاومة الإسلامية، انتزعت الاعتراف بها ليس فقط من الحكومة اللبنانية وإنما أيضاً وبشكل آخر من حكومات الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً، ولا سيما عبر تفاهمي تموز 1993 ونيسان 1996 بطرفيهما الأساسيين «المقاومة الإسلامية» وإسرائيل وبوساطة ومشاركة كل من سوريا ولبنان والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.

[18] بتذكيره بالقرار 425 تاريخ 19/3/1978 (وجوب انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان) والقرار 1553 تاريخ 29/7/2004 (التجديد لقوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان) عن القرار 1559 «بسط سلطة الحكومة اللبنانية على كافة، التراب اللبناني» بشكل أساسي، إرسال الحكومة للجيش اللبناني إلى منطقة الجنوب ونشره على طول الحدود «كضمان لإعادة بسط سلطتها الفعلية على أرجاء الجنوب كافةً» كما جاء بما معناه، في القرار 425، وحرفياً في القرار 1553، وترد الحكومة اللبنانية أن الجيش والقوى الأمنية اللبنانية موجودان في الجنوب، بتدبير إرسالها لقوّة أمنية مشتركة بين الجيش وقوى الأمن الداخلي، تزيد بتعدادها عن ألف وخمسماية عنصر، وهو للتذكير، العدد الذي تسمح به إتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل للعام 1949 وعلى طرفي الحدود ولكل منهما. وإن القوة المشتركة متمركزة في ثكنة مرجعيون وتقوم بدورياتها في أرجاء المنطقة، وإن الأمن مستتب في هذه الأخيرة، وهو غير مرتبط، بالمفهوم العسكري والاستراتيجي، بنشر القوى المسلّحة على امتداد الحدود أو «الخط الأزرق» في مطلب يرمي إلى ضمان أمن إسرائيل» أو الصدام مع المقاومة كما يُسْتَدَل من تصريح سلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل، والذي يؤكّد وقوف إسرائيل وراء اتخاذ القرار 1559، ومساهمتها في الدفع إليه (صحف 26/3/2005).

[19] أحد تلك الأسباب، حرمان الشركات الفرنسية من سوق النفط والاتصالات في سوريا.

[20] نص إتفاق الطائف للوفاق الوطني اللبناني تحت عنوان ثانياً: بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، وفي الفقرة الأخيرة، من شروحات هذا العنوان على أن «تقوم القوات السورية بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية، لبسط سلطة الدولة في فترة زمنية أقصاها سنتان، تبدأ بعد التصديق وعلى وثيقة الوفاق الوطني وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية (جرى في 21/9/1990)، وفي نهاية هذه الفترة تقرّر الحكومتان: إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع، وإذا دعت الضرورة في نقاط أخرى يتمّ تحديدها بواسطة لجنة لبنانية سورية مشتركة».

[21] إن قيام لجنة التحقيق الدولية، بالتنسيق والتعاون مع السلطات اللبنانية المختصّة في 30/8/2005، باستدعاء قادة الأجهزة الأمنية السابقين كل من: اللواء جميل السيد مدير عام الأمن العام السابق، اللواء علي الحاج مدير عام قوى الأمن الداخلي السابق، العميد ريمون عازار مدير مخابرات الجيش السابق، والعميد مصطفى حمدان قائد لواء الحرس الجمهوري، وبعض الأشخاص السابقين، للتحقيق معهم، ومن ثم التوصية بتوقيفهم ومن ثم الادعاء عليهم بوصفهم مشتبه بهم، وبعدها إصدار قاضي التحقيق العدلي في 3/9/2005 مذكّرات توقيف وجاهية بحقّهم لحيازتهم أسلحة ومتفجّرات والاشتراك في التخطيط لارتكاب الجريمة الإرهابية بقتل الرئيس الحريري، يعطي تلك الاتهامات المزيد من الجدية.

[22] من المعلومات والتحاليل التي تضمّنتها بعض الصحف في حينه.

[23] يرى البعض أن تذكير الرئيس الأميركي أكثر من مرة برياح الديموقراطية التي بدأت تهب على منطقة الشرق الأوسط عبر الانتخابات العراقية (النيابية في كانون الثاني 2005)، والفلسطينية (الرئاسية العام 2005)، واللبنانية (النيابية في آذار - حزيران 2005)، ليس سوى خداع لتغطية تعثّر المشروع الأميركي، إن لم يكن فشله. فاللبنانيون معتادون على الانتخابات، والانتخابات الفلسطينية لم تكن الأولى في عهد بوش (سبقتها الانتخابات البلدية). أما الانتخابات العراقية فنقلت المجتمع العراقي من حكم الاستبداد إلى مجتمع «الفوضى البنّاءة» بالتكبّر الأميركي، مجتمع مفّكك مكوّن من شراكة طوائف وإتنيات وعشائر متنافرة من شبه المستحيل أن تصل إلى توافقات الحد الأدنى أو الاستمرار فيها، ما عدا المساهمة في وضع اليد على ثروة العراق وتبديدها. إن مجتمع الفوضى، كما يعلم الدرس التاريخي، قد لا يقدّم لاستواء الديموقراطية، إنما قد يتسبّب بإعادة الحيوّية لنداء الديكتاتورية ومناجاة الاستبداد. وهكذا تمسي الفوضى المثبوتة «خنَّاقة» وليست خلاقة. (نقلت صحف 23/8/2005، خبر قيام مظاهرات في العراق تطالب بإعادة حكم الرئيس السابق صدام حسين).

[24] خرجت نظرّية «الفوضى البنّاءة» لمقننها المفكّر الأميركي مايكل ليدن من معهد «أميريكان انترابرايز»، أكبر مراكز البحث الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأميركية. ومفادها أن العالم العربي والإسلامي، تخصيصاً، عايش أجزاء الاستقرار أكثر من نصف قرن، لتهدر الحرية فيه كقيمة أصيلة. وبما أنه لا بد من استعادة تلك الحرّية، فلا بأس أن يكون ذلك بطريق تخلّي شعوب المنطقة عن الاستقرار وبإشاعة ملامح الفوضى والاضطراب. وقد وردت النظرّية المذكورة في سياق مسارات العقل الأميركي الذي أنتج نظريّات من مثل «صدام الحضارات لصموئيل هانتيغتون»، و«نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما، والمشروع العولمي المعاصر، ومشروع «الشرق الأوسط الجديد أو الكبير». وجميع تلك النظريّات والمشاريع ترتبط بهدف واحد وهو إمساك الولايات المتحدة الأميركية بالعالم من أطرافه إلى أطرافه.

[25] إعتبر ميليس معادياً لسوريا لتصريح منسوب له في إطار قيامه بالتحقيق في انفجار وقع في ملهى La Belle) في برلين العام 1987، أنه «سيركّع سوريا» معتقداً أنها وراء الانفجار الذي تبيّن بعد سبعة عشر سنة من التحقيقات أن لا علاقة لها به (أنظر صحف الفترة التي أعقبت تسمية ميليس رئيساً للجنة التحقيق).

[26] كان تيري رود لارسن من هؤلاء الذين حاولوا التوفيق بين اتفاق الطائف والقرار 1559، وباعتبار هذا الأخير بمثابة صيغة دولية جديدة، لاستكمال تنفيذ أحكام الطائف حول حلّ الميليشيات، وتسليم أسلحتها لا سيما وأن اتفاق الطائف إرتدى صبغة دولية بتبنّي مجلس الأمن له في أكثر من مناسبة العام 1989 (أنظر ملحوظتين سابقتين رقم 12 و17) والواضح أنه إذا صحّ تلاقي النصّين في بعض  النقاط، والاشتراك بشيء من الطبيعة القانونية على أساس ان اتفاق الطائف إرتدى طابعاً دولياً ما، إلا أن ظروف انعقاده وهدفه الأساسي في إرساء السلم الأهلي في لبنان، يختلف عما يظهر من تداعيّات للقرار 1559 في تهديد استمرار مثل هذا السلم الأهلي.

[27] معلومات منشورة في جريدة السفير اللبنانية عدد 18/8/2005.

[28] تصريح للشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله بتاريخ 11/8/2005 (صحف 12/8/2005).

[29] من مقابلة مع حسين الخليل المستشار السياسي للأمين العام لحزب الله (صحيفة صدى البلد في 20/8/2005).

[30] من خطبة الجمعة للسيّد محمّد حسين فضل الله (صحف 20/8/2005).

[31] أنظر الصحف اللبنانية إبتداءً من 22/8/2005، حول ما رشح من تقرير ميليس الإجرائي المقدّم إلى مجلس الأمن الدولي، وكون القاضي الدولي قد طلب التحقيق مع خمسة مسؤولين سوريين في سياق عمله لكشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري.

[32] مجدّداً الرئيس الفرنسي جاك شيراك (في خطابه أمام السفراء المعتمدين في فرنسا)، يدعو لبنان لتنفيذ القرارات الدولية 1559 و1595 و1614 «بشكل كامل»، وبعض الترجمات الأخرى تقول «حرفيّاً»، وسوريا إلى إعادة تأسيس علاقاتها مع لبنان على أسس جديدة، والإقبال على التغيّرات التي يترقّبها منها العالم والمنطقة المتحوّلة (صحف 30/8/2005).

[33] ملفت رفض الرئيس اللبناني إميل لحود لطرح الفيدرالية (نموذج العراق مطروحاً في حينه)، معتبراً أنها تقوّي العصبيّات والغرائز، وتؤدّي إلى خراب المنطقة، ومن بينها لبنان (من كلمته في القصر الجمهوري خلال استقباله المشاركين في المخيّم الحواري «لشباب لبنان الواحد» (صحف 26/8/2005) وفي نفس الإتجاه، جاء كلام البطريرك صفير بالقول: «إن الخطر على لبنان شديد، وهو أصغر من أن يقسم فيدرالياً» (صحف 30/8/2005).

[34] نقلاً عن مراسل صحيفة «المحرّر العربي» في بروكسل عدد 511 تاريخ 13-19/8/2005. وتفيد المعلومات أن الأميركيين مستعدّون لإرسال مئات المقاتلات والقاذفات الجوية وصواريخ توماهوك العابرة، والقذائف الانشطاريّة الموجّهة بأشعّة ليزر القادرة على تدمير المنشآت النووية والصاروخية والكيميائية والبيولوجية، إضافة إلى كسر ظهر القوة العسكرية التقليدية للدول المستهدفة بحيث تصبح عاجزة نهائياً. عدا عن كون إسرائيل تتجهّز بنوع من طائرات (F-15). يزيد مداها عن 5200كلم وقنابل ذكية موجّهة لتدمير التحصينات (الإيرانية) ما تحت الأرض، وذلك من ضمن تخطيط لقادة إسرائيليين لعمليّة ما على المنشآت النووية الإيرانية.

[35] جاء حديث الرئيس الأسد ووعده في مجلّة دير شبيغل الألمانية، على أثر إلقاء اللوم على سوريا بمناسبة اجتماع مجلس الأمن الدولي في جلسة سرّية بتاريخ 25/8/2005، للبحث والاطّلاع على التقرير الإجرائي لرئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري (أنظر صحف 28/8/2005).

وسبق لكلٍّ من وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ومندوب سوريا فيصل المقداد في المنظّمة الدولية، أن عبّرا عن الرغبة في التعاون مع اللجنة «لإنجاح تحقيق موضوعي ومستقل في الجريمة». في هذا الوقت، كان ديتليف ميليس رئيس اللجنة يجتمع في جنيف مع إثنين من الدبلوماسيين السوريين للبحث في كيفّية ترجمة التجاوب السوري مع التحقيق.

[36] من تلك الصيغ، تحويل المقاومة إلى لواء إقليمي ضمن مؤسّسة الجيش اللبناني، أو إلى شكل من أشكال «الحرس الوطني»، أو «الأنصار» وغيرها، أو ما شابه.

[37] رجّح البعض الموقف السوري تجاه «حزب الله» بكون الحزب أبدى إستقلالية ملحوظة وعدم السير بالاستراتيجية السورية بعد الانسحاب من لبنان كما يجب، ويعتبرون بأن «الحزب» أضرّ بتحالفاته التي أجراها مع بعض القيّمين على «انتفاضة 14 آذار» بالكثير من حلفاء سوريا وأفقدهم الأكثريّة النيابية. أما ابتعاده نسبيّاً عن إيران، فيرد إلى كونها سعت إلى وراثة السوريين بعد انسحابهم من لبنان، والامساك بالوضع الشيعي فيه وربط ما أمكن من قوى وجماعات سياسية لبنانية وفلسطينية «بالحزب» مع تأمين ما أمكن من دعم مادي ومعنوي لها (أنظر: صحيفة صدى البلد اللبنانية عدد 26/8/2005).

[38] تشير بعض الأوساط بأن «حزب الله» تلقّى بمناسبة زيارة أمينه العام إلى طهران في خلال شهر آب 2005، وقبل أيّام معدودة على زيارة الرئيس الأسد إلى هذه الأخيرة، تهنئة القيادة الإيرانية على طريقة تعامله مع القرار 1559 ودفع استهدافه لـه، وأيضاً انفتاحه على معظم الأطراف (صحف 13/8/2005).

[39] بمناسبة زيارة عبّاس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح المكلّف الملف الفلسطيني في لبنان، شاع خبر عزم السلطة الفلسطينية نقل ما بين ألف وثلاثة آلاف مقاتل فلسطيني من لبنان إلى القطاع بعد إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي منه، وذلك لتأكيد حضورها فيه في وجه بقية الفصائل - ومساهمةً في تهدئة بعض الهواجس تجاه توطين الفلسطينيين في لبنان، ناهيك عن طرح صيغ ضبط السلاح الفلسطيني من مثل إنشاء فصيل فلسطيني مسلّح مرتبط بقيادة الجيش اللبناني على غرار «جيش التحرير الفلسطيني» في سوريا وغيرها (صحف 11-12/8/2005).

 

The conditions and consequences of the Security Council Resolution 1559 concerning the situation in Lebanon and in the region, and stresses on the phase following February 14th 2005.

The Resolution 1559 was adopted in the Security Council on September 2, 2004 in the frame of Chapter 6 of the United Nations Charter under divergences between different Lebanese political parties. The Resolution was considered by many, among them the Secretary General of the Lebanese Ministry of Foreign Affairs, ambassador Mohamed Issa, as an interference in the internal affairs of Lebanon, that constitutes an infraction to the paragraph 7 of Article 2 of the United Nations Charter.

 The writer believes that the positions opposed to Resolution 1559 did not take into consideration the changes that occurred on the international scene, such as the falling of the socialist systems, the hegemony of the United States on the international scale, and the outcomes of the events of September 11, 2001 that urged the World Organization to adapt itself to these changes, and to deepen the new behaviors method that eliminates lot of limits among what is external and internal. The researcher presented several examples of this new method followed by the international community, especially concerning Human Rights and Democracy cases.

 He considered that Resolution 1559 came as a result of this new directive, and that it has not been the first neither the last Resolution concerning the Lebanese situation, that was never isolated from regional and international influences, so that more than 76 Resolutions related to Lebanon were adopted by the Security Council since 1978. The researcher displayed the political situation in Lebanon before the issue of this Resolution, and the official and political reactions to it until the evolution of the situation in a radical and tragic way on February 14th, 2005, when the Prime Minister Rafic Hariri was assassinated in Beirut, so that big event generated an unprecedented internal and international situation hostile to Syria, and in favor of the withdrawal of the Syrian forces from Lebanon, in a manner that the Syrian allies did not succeed in containing this evolution.

 Under the concentration of the international interest on Lebanon and the mobilization of world public opinion to reveal the Truth, the Resolution 1559 was issued and stipulated to establish an international investigation committee to assist the Lebanese authorities in investigating about the assassination of Prime Minister Rafic Hariri. Facing the external and internal pressures, clause 2 of Resolution 1559 was executed and the Syrian forces withdrew from Lebanon; nevertheless, the rest of the clauses were not executed, that made the internal Lebanese scene confined to the debates and conversations concerning these clauses, in the light of the international pressures in this respect.

The researcher indicated the executing measures of Resolution 1559 arriving to the issue of the executive report of the Judge Detliv Mehlis on October 25 2005, and what remains of the Resolution 1559 constitutes a conflict element that may pave the way to reconsider and rehabilitate the situation in the region. Lebanon is not able to clearly refuse to work on the remaining clauses concerning the disarmament of the Resistance and the Palestinian military organizations among others, without irritating some internal political parties, provoking some confessional susceptibilities, and getting a quasi international consensus against the country.

 On another hand, Lebanon cannot execute the Resolution, by force, against the Resistance that liberated most of the occupied Lebanese territories in South Lebanon, and that constitutes a strategic arm for the Islamic Republic of Iran, and through it Arab people, in its regional confrontation with Israel, insisting on depriving it from its nuclear capacities, with all what that presumes of regional coalition between Syria and Iran. The researcher saw that this matter is a real trouble, and asked more than one question relating to the possible scenarios in the region, to conclude at the end that the logic and interest require dealing with Resolution 1559 with correct, peaceful and identical means, even if the dealing requires more time and patience, and hope remains linked with the success of the discussion and peace logic.

Les conditions et conséquences de la Résolution 1559 relatives à la situation au Liban et dans la région tout en insistant sur l’étape ultérieure au 14 février 2005

Le Conseil de Sécurité adopta la Résolution 1559 le 2/9/2004 dans le cadre du chapitre 6 de la Chartre des Nations Unies en dépit des divergences d’opinions entre les différentes parties politiques au Liban. Cette Résolution a été considérée par plusieurs dont le Secrétaire Général du Ministère des Affaires Etrangères libanais, l’ambassadeur Mohamed Issa, comme une ingérence dans les affaires internes du Liban, ce qui constitue une infraction au paragraphe 7 de l’article 2 de la Chartre des Nations Unies.

Selon l’auteur, les opposants à la Résolution 1559 n’ont pas pris en considération les mutations qui ont marqué la scène internationale à savoir la chute des systèmes socialistes, l’hégémonie exercée par les Etats-Unis au niveau international ainsi que les conséquences des événements du 11 septembre 2001 qui ont conduit l’organisation internationale à s’adapter à ces mutations et à approfondir la méthode des nouvelles dispositions qui éliminent bien de limites entre les affaires internes et externes. Le chercheur avance plusieurs exemples pour illustrer cette nouvelle méthode adoptée par la communauté internationale, notamment en ce qui concerne les Droits de l’Homme et la Démocratie.

Il considère que la Résolution 1559 a été le fruit de cette nouvelle directive et qu’elle ne constitue ni la première ni la dernière Résolution relative à la situation au Liban qui n’a d’ailleurs jamais été à l’abri des influences régionales et internationales, de sorte que depuis 1978, 76 Résolutions concernant le Liban ont été adoptée par le Conseil de Sécurité.

 Le chercheur passe en revue la situation politique au Liban qui a précédé la promulgation de cette Résolution ainsi que les réactions politiques et officielles qui s’en ont suivie jusqu’à arriver à l’évolution de la situation d’une façon radicale et tragique le 14 février 2005, jour où le Premier Ministre Rafic El Hariri a été assassiné à Beyrouth, ce qui a engendré une conjoncture interne et internationale hostile à la Syrie, sans précédant, et en faveur de l’application de la Résolution 1559 au sujet du retrait des forces syriennes du Liban, à tel point que les groupements alliés à la Syrie n’ont pas réussi à contenir cette évolution.

Avec la concentration de l’intérêt international sur le Liban, la mobilisation de l’opinion publique mondiale et sa demande de révéler la vérité, la Résolution 1559 a été promulguée et a stipulé la création d’un comité d’investigation international afin d’assister les autorités libanaises dans l’enquête concernant l’assassinat du précité.

 Face aux pressions externes et internes, la deuxième clause de la Résolution 1559 a été appliquée et les forces syriennes se sont retirées du Liban, tandis que le reste des clauses n’a pas été appliqué, ce qui a rendu la scène interne libanaise otage des débats et tractations autour de ces clauses, notamment à la lumière des pressions internationales en ce sens.

 L’auteur présente les mesures de l’application de la Résolution 1559 pour arriver jusqu’à la publication du rapport exécutif du juge Detliv Mehlis le 25/10/2005, au moment où ce qui n’a pas encore été appliqué de la Résolution 1559 demeure une pomme de discorde qui pourrait mener à reconsidérer et réhabiliter la situation dans la région.

 Le Liban est en effet incapable de refuser nettement d’œuvrer pour l’application du reste des clauses de la Résolution au sujet du désarmement de la Résistance et des organisations militaires palestiniennes ainsi que d’autres, sans susciter l’irritation de certaines parties internes, provoquer quelques susceptibilités confessionnelles, et déclencher un quasi-consensus international contre le pays. Par ailleurs, le Liban ne pourrait appliquer directement la Résolution, par contrainte, contre la Résistance qui a libéré la plupart des terres occupées au Liban Sud, et qui constitue un bras stratégique pour la République Islamique d’Iran, et à travers elle les arabes, dans sa confrontation régionale contre Israël pour la déposséder de ses capacités nucléaires, avec tout ce que cela présuppose de coalition régionale irano-syrienne.

Le chercheur estime que cette affaire constitue un vrai problème et pose plusieurs questions sur les scénarios possibles dans la région pour conclure que la logique et l’intérêt exigent l’examen de l’application de la Résolution 1559 avec des moyens corrects, pacifiques et de nature similaire, même si l’examen demande plus de temps et de patience, alors que l’espoir demeure lié au succès de la logique de discussions et de paix.