من أسباب نجاح المقاومة اللبنانية للإحتلال الإسرائيلي

من أسباب نجاح المقاومة اللبنانية للإحتلال الإسرائيلي
إعداد: د. غسان العزّي
أستاذ جامعي وباحث سياسي.

بعدما حققت المقاومة اللبنانية هدفها بدحر الاحتلال الإسرائيلي, وبعدما اضطر هذا الأخير إلى إزالة خروقاته على الحدود اللبنانية وتطبيق القرار 425, بات من العقلاني والضروري مباشرة نقاش هادىء وموضوعي حول أسباب نجاح هذه المقاومة ­ لسبب علمي وفكري أقلّه, أو لسبب عملي يرتبط بقابليّة تصدير هذه التجربة إلى الأراضي العربية التي لا تزال قابعة تحت الاحتلال. فهل يمكن ضم “حرب العصابات” هذه إلى نماذج شهيرة ناجحة مثل حروب التحرير الفيتنامية والجزائرية والأفغانية مثلاً؟
في الحقيقة يعود مفهوم “حرب العصابات” Guerrillas إلى الانتفاضة الاسبانيــــــة ضد الاحتــــــلال النابليوني (1812-1807), ولكن كتقنية خاصة فإنّ “حرب العصابات” تضرب جذوراً في التاريخ الغابر([1]). وحرب العصابات ظاهرة معقّدة يصعب تعميمها لكنها تعرف قوانين وشروطاً تحدّد, في حيّز كبير, فشلها أو نجاحها([2]). وقد نستطيع استخراج الدروس والعِبَر لكننا لا يمكننا أن نطبّق في شكل كامل تجربة حرب عصابات معنيّة وشروطها على أخرى, فلكل منها ظروفها الخاصة ووسائلها وشروطها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
في لبنان تميّزت المقاومة العسكرية عموماً بالسرية التي أمّنت لها الفاعلية, وبالصدقيّة والجدية في بياناتها, وبالرضى الشعبي والتكامل والتناغم بين المقاومين والسكان المحليين, وبمعرفة نقطة ضعف العدو: الخسائر البشرية.
لقد ولدت هذه المقاومة في أعقاب مرحلة من الفوضى المسلّحة إبان الحرب الأهلية والوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. ومعظم رجالها من الشباب الذين نذروا أنفسهم للجهاد والشهادة. فلا يتقاضون رواتب ولا يفرضون “خوّات” ولا يعتدون على أملاك الغير ولا يشهرون سلاحاً في وجه مواطن ولا يطلقون رصاصاً في حي سكني, حزناً أو ابتهاجاً, ولا يمشون فرحاً بأزيائهم المرقطة وأسلحتهم الظاهرة. همّهم الوحيدوشغلهم الشاغل التفكير في كيفية إعداد الخطط لمباغتة قوات الاحتلال وإنزال الخسائر بها, ثم التواري لتنظيم هجمات جديدة أشد وأقسى.
وقد نجحت هذه المقاومة في التحوّل ظاهرة راسخة وفعلاً يومياً ثابتاً ومتعدداً, واعترف بها العدو (”تفاهم نيسان” على الأقل) قبل الصديق, فكان لا بدّ لها من أن تحقق هدفها التحريري الأوّل. وإذا كان من الصعوبة بمكان استخراج كل الأسباب الكامنة وراء نجاح ظاهرة المقاومة في لبنان, فقد يمكن التعرّف على بعضها على الأقل أو أكثرها, وخصوصاً أنها تشترك عبرها مع أكثر حركات المقاومة أو “حروب العصابات” المعروضة في التاريخ المعاصر, ويعتبر توافرها ضرورياً لنجاح العمل المقاوم.
إنّ الشرعية والملاذ والدعم الشعبي وكذلك العقيدة هي عوامل ملائمة ضرورية لنجاح كل حرب تحرير وطنية. ومنذ انطلاقتها عام 1982 إلى انتصارها سنة 2000 وُجِدَت المقاومة اللبنانية في ظروف تتوافر فيها جميع هذه العناصر.

شرعية المقاومة
حرب المقاومة هي حرب دفاعية, والهجمات التي يشنّها المقاومون دفاعية بطبيعتها. ويقاتل المقاوم دفاعاً عن استقلاله, وهو يريد الحفاظ على ما يملكه وليس أخذ ما يملكه الآخرون([3]). وبحسب المعادلة الشائعة التي يستخدمها هنري كيسنجر كثيراً, يكفي للأنصار (المقاومين) أن لا يخسروا حتى يربحوا([4]). والدفاع عن النفس ضد اعتداء أو احتلال خارجي هو حق من الحقوق البديهية الأولية. ومن النافل التذكير بميثاق الأمم المتحدة, وخصوصاً المادة 251 أو بالاتفاقات الدولية العديدة والمواثيق والقانون الدولي وغيرها لتأكيد الحق بالمقاومة والتحرير([5]). ولما لم تكن الدولة اللبنانية تملك الوسائل من جيش نظامي قوي وأسلحة متطورة لمقاتلة اسرائيل, فقد تولّى رجال المقاومة هذه المهمة.
الإسرائيليون أنفسهم لم يتمكنوا طويلاً من إنكار هذا الحق بالمقاومة. وقد عبّر الكولونيل “إيلي غيفا” عن هذه الشرعية بالقول لمراسل صحيفة “هآرتس” في جنوب لبنان: “عندما نعطي الأوامر لجنودنا بإطلاق النار ضد هؤلاء الذين يدافعون عن أرضهم فكأننا نعطيهم الأمر بأن لا يدافعوا عن أرضهم”([6]). وهذه أيضاً وجهة نظر المراسل العسكري والصحافي الاسرائيلي المعروف “زئيف شيف” الذي يتساءل في سلسلة مقالات([7]) ما إذا كان الجيش الاسرائيلي يواجه إرهاباً أم دفاعاً مشروعاً عن النفس؟ ملاحظاً في الوقت نفسه ان خطاب معظم المراقبين الاسرائيليين قد تغيّر, فهم لم يعودوا يتكلّمون عن “اعتداءات” أو “إرهاب” ولكن عن عمليات مقاومة و”حرب عصابات”.
إنّ اعتراف عدد من الاسرائيليين بشرعية المقاومة, ولو كانوا أقلية, ولو جرى اعترافهم هذا بطريقة مداورة غير مباشرة, فهو حدث يحمل دلالات مهمّة ويبيّن, على الأقل, نجاح المقاومة في اختراق النسيج المجتمعي والسياسي الاسرائيلي. وهذا الأمر ليس جديداً في حروب العصابات. فحرب فيتنام خسرها الأميركيون في الولايات المتحدة نفسها. لم تتوقف الحركة المؤيدة للسلام, غداة الصدمة النفسيّة التي أحدثها هجوم “تيت” Tet عام 1968, عن التظاهر والمعارضة, العمل الذي كانت له آثار واضحة. لقد بدت الحرب غير عادلة أخلاقياً ومعنوياً ولم تعد الأهداف التي تعلنها الحكومة مقنعة للرأي العام([8]). وفي لبنان لم تعد الحكومة الاسرائيلية قادرة على تبرير وجود جنودها في “الحزام الأمني” حيث يتعرضون للموت في كل لحظة من دون أن يقدروا على حماية الجليل الذي سقط فية أربعة آلاف صاروخ كاتيوشا بين سنتي 1982 و2000.
ويجدر التذكير بأن المقاومة لم تعمل إلاّ في الأراضي اللبنانية المحتلة حصراً, ولم تصوّب إلاّ على الأهداف العسكرية (إلاّ عندما كانت تضطر لضرب المستعمرات الاسرائيلية ردّاً على المذابح الاسرائيلية بحق المدنيين في جنوب لبنان) فاكتسبت بذلك أكثر فأكثر صفة المقاومة الشرعية, ولم يعد ممكناً وصفها بالإرهابية في أي حال من الأحوال.
كذلك تسجّل للمقاومة ممارستها العمل في صمت وسرية, بعيداً عن الشعارات الرنانة الفارغة, مما جعلها تفرض احترامها على الجميع. لذلك لم تعد هدفاً لأي إدانة, حتى من الحكومة الأميركية حليفة اسرائيل الأولى. وفي هذا الصدد يجدر التذكير بأنّ السفير الأميركي في لبنان “ساترفيلد” امتنع عن وصفها بالإرهابية خلال جولته في الجنوب اللبناني أواخر العام 1998.

الملاذ والعامل الجغرافي
من أجل إنجاح هذا النضال, نضال الضعيف ضد القوي, لا يكفي العنصر العددي. بل يجب توافر القدرة على استغلال الأرض والجغرافيا. حرب العصابات تتطلّب قدرة على الإخفاء والاختباء وعلى الاتصال والتوزّع. وبفضل الأرض تستطيع المقاومة تلقّي الأسلحة وإلهاء جيش الاحتلال في مهمات عسيرة وخلق “ملاذات” وحتى “أرض محررة” وعلى الأقل القدرة على نشر عناصرها المقاتلة وتخبئتها([9]). ومن النادر جداً ان نجحت حرب عصابات لم تتلقّ دعماً خارجياً, وفي معظم الأوقات “ملاذات”([10]). الملاذ هو, بدون أدنى شك, العامل الأساسي في المساعدة الخارجية. فبدون الملاذ الجزائري هل كانت “البوليساريو” قارة على الحياة؟ وبدون الملاذ الباكستاني كم من الوقت كان يستطيع المقاتلون الأفغان الصمود؟ الملاذ هو رئة حرب العصابات([11]). الجنرال جياب ومعظم ستراتيجيي “حرب العصابات” يتفقون على اعتبار الملاذ المجاور ضرورياً بل لا بدّ منه لنجاح الأخيرة. وفي الحقيقة برهنت التجربة, وبشكل دائم تقريباً, أنّ رجال حرب العصابات قد فشلوا عندما حُرموا من الدعم الخارجي (الفيليبين وماليزيا على سبيل المثال) أو عندما توقّف هذا الدعم (اليونان مثلاً)([12]).
الطبيعة الجغرافية للبنان (أحراج جبال ووديان وعرة تصعب على جيش نظامي أجنبي), ساعدت, في حيّز واسع, رجال المقاومة. لكن العامل الجغرافي يبقى نسبياً, إذ إنّ الشعب الصحراوي تمكّن من تنظيم كفاح مسلّح ضد المستعمرين الاسبان منذ عام 1973, وتابع ذلك ضد الجيش المغربي الذي حلّ محلهم. وإذا كان مما لا شك فيه أنّ توافر عامل جغرافي ملائم في معركة “ديان بين فو” قد ساعد الفيتناميين ومكّنهم من دفع الفرنسيين للاستسلام, فإن الصحراويين (جبهة البوليساريو) تمكّنوا, في صحراء مكشوفة, من الانتصار في معركة “الكتلة زمور” رغم حقول الألغام وأجهزة الرادار والحواجز الرملية والالكترونية التي تحوط الموقع الذي اضطر للاستسلام في نهاية المعركة.
في لبنان أدى هذا العامل دوراً إيجابياً في تنفيذ العمليات المسلحة. ولكن ضيق المساحة اللبنانية الممكنة جعل إمكان تطوير المقاومة المسلحة إلى حرب تحرير شعبية أمراً متعذراً, إذ ان اتساع رقعة الأرض يكون عاملاً سلبياً ضد العدو لأنه يجبره على نشر قواته بكثافة أقل مما يجب, الأمر الذي يحدث خللاً لمصلحة المقاومة إذ تستفرد بمواقع العدو المتبعثرة (وهذا ما حدث بين عام 1982 عقب دخول الجيش الاسرائيلي إلى لبنان وسنة 1985 تاريخ انسحابه منه واحتفاظه بما سمي “الحزام الأمني”, في حين ان الاسرائيليين استطاعوا, استناداً إلى ضيق المساحة (مساحة هذا الحزام) أن يكثّفوا مواقعهم لدرجة مكّنتهم من تغطيتها بنيران كثيفة لا قدرة للمقاومين على مواجهتها بحرب متحركة.
على صعيد آخر تجد المقاومة في الوسط المديني أرضاً ملائمة لنشاطها, كما حدث في الجزائر وفي بلدان عديدة من أميركا اللاتينية([13]). والمقاومة السرية في الأوساط الحضرية يكون اكتشافها أكثر صعوبة منه في الأوساط الريفية أو الصحراوية. وهكذا مثلاِ في صيدا وصور والنبطية, وقبلاً في بيروت سنة 1982, استطاع رجال “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” أن ينفذوا أكثر عملياتهم فاعلية, من دون سقوط خسائر تذكر في صفوفهم. إنها عمليات فاعلة, أقله على الصعيد النفسي والمعنوي, إذا استثنينا فاعليتها العسكرية([14]). وما حدث في العاصمة بيروت, في أيلول/ سبتمبر 1982, هو دليل ساطع على ذلك, إذ لم تستطع قوات الاحتلال المكوث في المدينة أكثر من أسبوعين, خرجت بعدها تنادي عبر مكبرات الصوت: “لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون”. وربما يفسّر هذا الأمر بقاء قوات الاحتلال طوال هذه المدة (1978­ - 2000) في ما يسمى “الحزام الأمني” المؤلّف من قرى صغيرة ومناطق نائية يتعاون بعض سكانها مع المحتل أو يضطرون إلى اللجوء إلى خدماته على الأقل.
وعلى غير صعيد فإن “الحرب الحديثة تدّعي إعطاء التقنيات العسكرية الجديدة السيطرة الكاملة, لكنها تقف عند حائط المقاومين الذين تعجز عن التخلّص منهم. الحرب الالكترونية استطاعت تقصير الأوقات العملياتية بفضل أدواتها القاتلة, لكنها تبقى عاجزة عن السيطرة على تطوّر الحالات السياسية التي تخلقها بنفسها”([15]). إن امتلاك أكثر الأسلحة تطوراً, من نووية وغيرها, لا يكفي لقمع انتفاضات السكان المتذمرين أو “حروب العصابات”. “حرب كوريا (1951 ـ 1953) لم تتأثر بامتلاك الولايات المتحدة للسلاح الذري. لقد كان تدخل الصين حائلاً دون الانتصار الأميركي في نهاية 1952 رغم أن الصين لم تكن تملك السلاح النووي وقتها, ولا أي وسيلة للرد على الأميركيين لو استخدموه. والقذائف الأميركية التي انهالت على فيتنام الشمالية لم تحقق أهدافها, رغم أنها حملت تهديداً باطنياً باللجوء إلى السلاح النووي في حال وصول التوتر إلى حده الأقصى, أو أن الفييتناميين الشماليين لم يصدقوا التهديد (وقد أعطتهم الحوادث اللاحقة حقاً في ذلك), أو أنهم قبلوا سلفاً بدفع أغلى الأثمان كبديل من الاستسلام”([16]).
إن امتلاك اسرائيل أحدث الأسلحة المتطورة, من نووية وغيرها, لا يكفي لردع المقاومة أو لمنع أحد الأطراف من أن يقدم لها كل الدعم الممكن, وهو أساسي لاستمرارها ونجاحها.

الدعم الشعبي
سواء كانت ريفية أو مدينية أو صحراوية أو غير ذلك, تحتاج المقاومة للسكان. “وانضواء السكان في الكفاح من أجل التحرر الوطني يشكل همّاً أساسياً تحركه المقاومة. وقد يحصل ذلك ليس بفضل قدرة المقاومين على الاقناع ولكن كتتويج لمسار وعي وطني حصل بشكل خارجي أو على الأقل مستقل”([17]). وقد تمكنت حركتا التحرر الفيتنامية والجزائرية مثلاً من كسب ود الناس وحتى الأقليات المعادية لها بسبب عدم اقتناعهم بالوسائل المتبعة من الدول المستعمِرة ولا بالنظم السياسية التي تحملها معها. الفرنسيون لم يستطيعوا إقناع الفيتناميين أو الجزائريين بعدالة “القضية” الفرنسية([18]), والأميركيون لم يقتنعوا ولم يتمكنوا من إقناع الفيتناميين بعدالة “القضية” الأميركية. ظاهرة مماثلة تطوّرت في جنوب لبنان المحتل, فالمقاومون بتياراتهم المختلفة بداية (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بين 1982 و1985) ثم بنزعتهم الاسلامية المُعلنة لاحقاً (حزب الله) اكتسبوا عطف السكان وتأييدهم وحتى انخراط الكثيرين منهم تحت لواء المقاومة, مدنية كانت أم عسكرية, في حين أن الاحتلال الاسرائيلي لا يملك ما يقنع أحداً بمشروعية احتلاله.
ومن المهم القول أن “حرب العصابات” ليست سوى نضال شعبي, الغيريللا Guerillas أو الجماعة الصغيرة المسلحة, كما يسميها “تشي غيفارا” هي الطليعة الثورية المتقدمة, وتكمن قوتها في جماهير الشعب. هذه الجماعة تعتمد على الدعم الكامل للسكان المحليين, وهو شرط لا بد منه. وإذا أخذنا مثل العصابات العاملة في منطقة معينة فهي تتمتع بكل خصائص جيش “حرب العصابات”: التناغم, احترام القائد, الشجاعة, معرفة الأرض والتكتيك المتبع. لكن لا ينقصها إلا تأييد الشعب. لهذا السبب فمن المحتم أن قوى الأمن سوف تستطيع السيطرة عليها في النهاية وتحييدها والقضاء التام عليها([19]).
وفي لبنان فإن نجاح العمل الذي قامت به المقاومة, رغم نشاطها العسكري المتقن ومستوى تنظيمها المرتفع, لم يرجع فقط إلى صمود مقاتليها في وجه إرهاب العدو, ولكن أيضاً وخصوصاً إلى صمود السكان وتأييدهم لها. لأن هؤلاء المقاتلين يعملون في وسط الشعب مثل “السمك في الماء” والذي لا يستطيع العيش بدونه. ويضرب المقاومون العدو ثم يختفون ويذوبون في الشعب الذي أصبح بكامله مقاتلاً متمسكاً بأرضه. إن كافة الضغوط التي مارسها الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب اللبناني في المناطق المحتلة من قمع وسجن وتعذيب واضطهاد, وفي المناطق المحررة من قصف للجسور ومحطات الكهرباء وغارات مستمرة, لم تنفع في توجيه غضبه ضد المقاومة, بل العكس. هناك علاقة مقررة بين مقاومة الشعب ومقاومة المقاتلين.
إن إنضمام الشعب هذا تحت راية المقاومة يكشف نجاحها لأن “الهدف السياسي لحرب العصابات الثورية هم السكان أنفسهم, إضعاف معنويات أولئك المؤيدين, ولو سلباً, للعدو وإقناع المحايدين بتأييد القضية”([20]). المقاومة الشعبية الموازية للمقاومة المسلحة, وإنضمام المزيد من المدنيين إلى صفوف هذه المقاومة هما الدليل الواضح على “نجاحها في البرهنة عن عدالة القضية, وفي الوقت نفسه, عن هشاشة العدو الموصوف غالباً بأنه لا يُقهر”([21]).
إلى ذلك يجب إضافة الحال الاقتصادية الاجتماعية للسكان والتي تؤدي دوراً مهماً جداً في اندراجهم, أو عدمه, تحت لواء القضية التي تدافع عنها المقاومة. وتبيّن الدراسات أن الفئات المحرومة والفقيرة تنزع إلى الكفاح أكثر مما تنزع إليه الفئات الغنية والميسورة. “ويمكن الاعتراف بأن الشعب الفقير المعتاد على الأعمال الشاقة والحرمان يظهر عموماً مزيداً من البأس والشدة والنزعة الحربية”([22]).
وقد “برهن التاريخ أن عدداً من الانتفاضات الشعبية يتم بصورة تلقائية عفوية. البؤس الشديد يفرز زعماء صغاراً يتحركون بشكل متواز ولكن بطريقة مستقلة (...). الجماعة الصغيرة الناشطة جداً والعنيفة تظهر, في كل أنحاء العالم, كنتيجة لأوضاع تدفع البعض للاعتقاد بأنه من الأفضل “الموت في القتال” من “العيش في العار والجوع”([23]). وفي زمن مترنيخ كثر الكلام عن خطر الثورة المتجدد, وذلك لأن حالاً يسيطر فيها الظلم والغبن في العالم تفرز في نقاط عديدة حركات متوازية, ولكن مستقلة, من الكفاح ضد البؤس والظلم. ومثل رؤوس العُدار (حيوان مائي يتجدّد دوماً) تتجدّد هذه الحركات ما دامت العدالة لم تفرض نفسها بعد”([24]).
في لبنان كان الكفاح ضد المحتل, في شكل من أشكاله على الأقل, كفاحاً ضد الظلم والبؤس اللذين تسببت بهما أعوام الحرب بعد عقود طويلة من غياب العدالة الاجتماعية السياسية الاقتصادية توّجت أخيراً بالاحتلال الاسرائيلي. وقبل الحرب, في ضواحي بيروت والقرى المهملَة في الجنوب اللبناني, كان يمكن ملاحظة بروز قادة صغار وجماعات راديكالية يسارية ومتطرّفة تعمل للتغيير. ولذا كانت المقاومة الفلسطينية قد حاولت أداء دور الطليعة الثورية المتقدمة للشعوب العربية المسحوقة, واستطاعت, في الستينات والسبعينات أن تضم تحت لوائها حركات التغيير اللبنانية, فإن الفشل الفلسطيني سيعطي دفعاً لهذه الحركات التي جنحت نحو التشدّد في مواجهة النظام السياسي والمحتل الاسرائيلي في آن واحد. ذلك أنه “بالغريزة يتمسك الانسان الذي يوشك أن يغرق بقشة, ومن الطبيعي والأخلاقي أن يستعمل الشعب كلّ وسائل الخلاص عندما يجد نفسه على وشك الهلاك”([25]). وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون غالبية المقاومين اللبنانيين للاحتلال الاسرائيلي تنتمي إلى أوساط اجتماعية محرومة اقتصادياً وسياسياً, ويتأكد لنا ذلك من نظرة ولو سريعة على سيرة الذين استشهدوا منهم.
إضافة إلى ذلك لا يمكن إغفال ما يؤديه التنظيم العسكري والهيكلية التنظيمية والسرية والجهاز الأمني المحكم من دور في نجاح المقاومة. ويؤكّد “كلاوزفيتز” بأن “حرب العصابات الضعيفة عسكرياً تحتاج لأن تكون قوية على المستوى التنظيمي, فالتنظيم المحكم هو العامل الذي يتيح للمقاومة أن تعوّض التفوّق المادي الكاسح الذي يتمتع به الخصم”. وهذا ما يفسّر عجز المخابرات الاسرائيلية, الأقوى في العالم, عن اختراق صفوف المقاومة رغم وقوع العديد من المقاومين في الأسر وتعرّضهم لأقسى أنواع التعذيب والضغوط الجسدية والنفسية.
هذه العناصر المذكورة هي عناصر أساسية لا بد من وجودها لتنجح أي حرب عصابات ضد محتل أجنبي. فلا يمكن للمقاومة أن تنجح بدون تأييد الشعب لها ودعمه, وبدون وجود الملاذ والعناصر الجغرافية الملائمة لئلا تختنق في مهدها وتصبح عصابة خارجين على القانون. كذلك لا بدّ أن تتمتّع بالشرعيّة وتدافع عن قضية عادلة, ويجب أن تتفق على هدف واحد مشترك: طرد العدو. وإلا فإن الايديولوجيات المتعددة المختلفة التي قد تعتمل في صفوفها يمكن أن تقودها إلى التبعثر والهلاك. ومن دون بلد مجاور يوفر لها التغطية السياسية والدعم العسكري, غير المباشر على الأقل, قد لا تقوى على الاستمرار والصمود. لقد تلقى الثوار الجزائريون كلّ أنواع المساعدة من تونس ومصر وغيرهما, والفيتناميون تمتعوا بدعم الصين والاتحاد السوفياتي, والأفغان بمساعدة باكستان والولايات المتحدة على الأقل, والفرنسيون كان يدعمهم الحلفاء خلال نضالهم ضد الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية. وكذلك كان حال المقاومة في لبنان التي حظيت بدعم سوري وايراني سياسي وعسكري ومعنوي ومادي وغيره.
كذلك فإن الدعم الرسمي اللبناني الواضح والعلني الذي تمتعت بها المقاومة أمّن لها كلّ الشروط المذكورة للنجاح (الملاذ, الشرعية, معادلة, “السمكة في الماء”, مرور المساعدات العسكرية والمالية من الخارج... الخ). وقد تأكّد هذا الدعم منذ الأيام الأولى لتولي الرئيس إميل لحود الحكم من خلال خطاب القسم الذي ترجمته الدول اللبنانية عملياً عبر تبنّي العمل المقاوم والسعي لتأمين المزيد من الدعم الدولي والغطاء الشرعي له. وليس من قبيل المصادفة ان يقرّر الاسرائيليون الانسحاب من لبنان بعة سلسلة من العمليات العسكرية اليائسة التي كانت تواجهها المقاومة بالردود المناسبة مع حرص الدولة الدول اللبنانية بالتأكيد, على لسان الرئيسين لحود والحص, على المزيد من التماسك والاتحاد بين المقاومة والجيش والشعب والسلطة في مواجهة الاحتلال الذي لا خيار أمامه سوى تنفيذ القرار 425.


[1] Gérard CHALIAND. « Terrorismes et guerillas", éd. Flammotion, Paris 1985, P. 51.

[2] Ibid. P. 89.

[3] Raymond ARON, Penser la guerre - Clusewitz – l’âge planêtaire, éd. Gallimard, Paris 1976, P. 13.

[4] Ibid. P. 187.

[5] أنظر د. شفيق المصري “التمييز بين الارهاب والمقاومة في القانون الدولي”. النهار 03 ـ 6 ـ 5991, ص 11.

[6] الكفاح العربي 14 ـ 20 أيار 1984, ص 27.

[7] فرنتين شيف, “في لبنان رأيت جيشاً محبطاً” هآرتس ابتداءً من 17/2/1985.

[8] Gérard CHALIAND. op. cit. P. 84.

[9] Nadia BENJELLOUN - OLLIVIER. La Palestine, un enjeu des stratégies, un destin éd. P.F.N.S.P. Paris 1984. P. 41.

[10] Gérard CHALIAND. Op., cit., P. 81.

[11] Ibid. P. 82.

[12] Guerillas et socialismes, éd. du Seuil. Paris 1979. P. 155.

[13] Ibid.

[14] حول أهمية المدينة في ستراتيجية المقاومة الحديثة أنظر: Percy KEMP. La cité-Etat, Esprit (revue), mai 1983.

[15] Jean CHESNAUX. Le quinzaine littéraire, n 376, cité par P. KEMP in Hérodote (revue) n 29-30 Avril - Septembre 1983. P. 64.

[16] Raymond ARON. Op., ci. P. 245.

[17] Nadia BENJELLOUN - OLLIVIER. Op., cit. p 83.

[18] R ARON. Op., cit. P. 192.

[19] Che GUEVARA. La guerre de guerilla, cité par G. CHALIAND. Mythes révolutionnaires, Op., cit. p. 78.

[20] G. CHALIAND. Terrorismes et guerillas, Op., cit. p. 69.

[21] Ibid.

[22] Carl von CLAUSEWITH, De la guerre, éd. Minuit. Paris 1950, P. 553.

[23] Jean-Baptiste DUROSELLE. Tout empire périra, éd. de la Sorbonne, Paris 1982. P. 257.

[24] Ibid. P. 258.

[25] C. V. CLAUSEWITZ. Op. cit., P. 556.