- En
- Fr
- عربي
معًا نواجه
لطالما عاش اللبناني حالةً من عدم الاستقرار، إلّا أنّ السنوات الأخيرة تميّزت بقسوة مآسيها، إذ شهدت ظواهر وأحداثًا استثنائية وصّفتها الجهات الدولية المراقبة بأنّها غير مسبوقة في التاريخ. من أبرز هذه الأحداث الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي وتبخُّر أموال المودعين في العام 2019 ، انفجار مرفأ بيروت في العام 2020 وجائحة كورونا، إضافةً إلى العدوان لإسرائيلي وما رافقه من دمار هائل وخسائر بشرية ومادية كبيرة ونزوح مئات الآلاف، عدا عن الأزمات السياسية المتلاحقة... ورغم ذلك يتحدى اللبناني الصعاب، يصمد في وجه الأزمات وينشر الفرح والأمل من حوله. فمن أين يستمدّ القدرة على مواجهة الظروف القاسية والأزمات الحادة بعزمٍ وثبات قلَّ نظيرهما؟
بدايةً، عودة إلى أبرز ما واجهه اللبنانيون بشجاعةٍ وإرادة وصمود، منذ العام 2019:
- الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية: صنّف تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني الصادر عن البنك الدولي بتاريخ 1 حزيران 2021، الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان كإحدى أشدّ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكأسوأ أزمة اقتصادية ومالية وأكبرها في زمن السلم، لا سيّما أنّها اتّسمت بضياع أموال المودعين.
- جائحة كورونا: في شباط ٢٠٢٠، أكّد لبنان أول حالة إصابة بـ «كوفيد-١٩»، انطلقت بعدها مرحلة مواجهة هذه الجائحة من خلال سلسلة تدابير وإجراءات (التعبئة العامة، إعلان خطة طوارئ صحيّـة...)، ترافَق ذلك مع فرض حظر تجوّل وإقفال تام لعدد من المرافق الإدارية والتربوية والتجارية... ما شكّل عبئًا إضافيًا على كاهل اللبنانيين.
- انفجار مرفأ بيروت: وصفت الجهات الدولية المراقِبة انفجار مرفأ بيروت الذي حدث في 4 آب من العام 2020 بأنّه من أكبر الانفجارات غير النووية في تاريخ العالم، إذ تسبّب في ارتدادات هزّت العاصمة، وأسفر عن سقوط ما لا يقل عن 220 ضحية، وإصابة أكثر من 7000 آخرين، كما ألحق أضرارًا جسيمة بالممتلكات ودمّر أجزاء واسعة من مدينة بيروت.
- العدوان الإسرائيلي على لبنان، وما تتضمّنه من محطات مأساوية. هذا العدوان الوحشي الذي يستمر في تدمير مدننا وقرانا موقعًا آلاف الشهداء والجرحى.
لكن، ورغم كل هذه المعاناة الكبيرة يبقى اللبناني صامدًا يواجه التحدّيات بكل قوةٍ وإرادةٍ صلبة، فهو اعتاد مواجهة الأزمات والتغلب عليها والنهوض من جديد.
حنان الأم وقوة الصمود
عن ظاهرة صمود اللبنانيين، تحدثت الدكتورة مي جبران المتخصصة في علم النفس الاجتماعي العيادي والأستاذة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، مؤكدةً أنّ الدراسات والأبحاث المتعددة، إضافةً إلى خبرتها الشخصية كمعالجةٍ نفسية، تكشف عن قوة الطاقة والتفاؤل اللذَين تتمتع بهما المرأة اللبنانية، ولا سيّما الأم التي تمنح الحب والحنان لأولادها، ما يعزز لديهم غريزة حب الحياة. فأسلوب التربية الدافئ الذي تتميّـز به الأم اللبنانية والعاطفة وبث روح الإيمان والأمان في نفوس أبنائها تجعلهم يمتلكون استعدادًا عميقًا في اللاوعي لمواجهة التحديات والتصدي للصعاب.
البعد الإيجابي لتعدُّد الأديان
كذلك، تناولت جبران ميزة لبنان بتنوع الأديان والطوائف، وما تحمله من بعدٍ إيجابي يمنح الأفراد القوة اللازمة لمواجهة الأزمات والصدمات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وبرأيها أنّ من شأن تنوّع الأديان إغناء الخصوصية ضمن كل فئة وتمتين التلاحم الاجتماعي بين أفرادها، ما يجعلها ملاذًا آمنًا لأبنائها. هذا التماسك الداخلي يمهّد الطريق لترابط أكبر بين الطوائف المختلفة، ويعزّز التضامن والعيش المشترك، الأمر الذي يتيح بناء مجتمع متماسك رغم التعددية، وأكثر قدرة على مواجهة الصعوبات ليكون أشبه بعائلة كبيرة تجمعها روح التآزر والتكاتف. التماسك بين الطوائف يعني التماسك بين أفراد المجتمع، والذي من شأنه تعزيز التوازن والتلاحم في ما بينهم، ويقوّي مبدأ قبول الآخر. وفي السياق شدّدت جبران على أهمية التعرّف على الأديان من خلال التعليم في المدارس، والذي يُسهم في تثبيت مبدأ التعاضد، ويزيل حالة الانعزال المجتمعي، ويمنح الأفراد القوة على مواجهة المشكلات الخارجية.
غريزة الحياة والإيمان
وأضاءت الدكتورة جبران على نظرية المحلّل النفسي فرويد حول غريزة الحياة Eros المرتبطة باللذة والحب في مقابل غريزة الموت Thanatos وهي قوة لاواعية تدفع بالفرد إلى الهدم، العدوانية والمازوشية في تعذيب الذات وصولًا إلى الموت. وقد أكدت أنّ غريزة الحياة لدى اللبناني أقوى من غريزة الموت، وهي تُنقل إلى الأولاد منذ الطفولة من خلال حليب الأم، إذ إنّها مرتبطة بالبحث عن اللذة والغذاء من أجل العيش والبقاء، وهي من أسباب صموده رغم المصاعب والأزمات والحروب.
ولفتت من جهةٍ أخرى إلى عنصر الإيمان ودوره في زرع السلام والفرح في قلوب المؤمنين. وأشارت في هذا الإطار إلى قول أحد الفرنسيين الذين زاروا لبنان «إنّه أرض مقدسة وقطعة من السماء على الأرض» مؤكدةً أنّ كل مَن يزور لبنان لا يمكنه إلّا أن يلمس إيمان شعبه. كما تطرقت إلى العبارات الإيمانية المتداولة على ألسنة اللبنانيين كـ «متل ما الله بريد» والتي تعكس قوة الإيمان والارتباط بالحياة.
التقارب والتعاضد
وتناولت الدكتورة جبران قول إدوارد هال Edward Hall في كتابه La dimension cachée: «يغمر الناس في الشرق الأوسط بعضهم بعضًا، ويسيرون الكتف إلى الكتف...»، مشيرةً إلى أنَّ هذا النوع من التقارب الجسدي يعني، بحسب هال، أنَّ العلاقات بين اللبنانيين وطيدة، فالتعاضد أساسي في بلادنا على عكس المجتمعات الغربية، وقد ظهر بأبهى حُلله خلال تفجير مرفأ بيروت، وفي أثناء عملية النزوح الكبيرة من الجنوب والبقاع في 23 أيلول الفائت والمستمرة لغاية اليوم، إذ استقبل أهالي المناطق المختلفة كالشوف والمتن وكسروان وجبيل وطرابلس وعكار… إخوتهم النازحين في بيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم ودور العبادة... وتمّ تنظيم عمليات إغاثة في لبنان والخارج لمساعدة النازحين. وأكّدت أنّ اللبناني الذي يبث الفرح في محيطه، يعرف الحداد أيضًا ويشارك الآخرين أحزانهم.
وشدّدت على ضرورة المعالجة النفسية بعد الصدمات النفسية القاسية التي تعرّض لها الأشخاص، ولا سيّما الأطفال، من جراء الأحداث الأليمة المتتالية.
خطورة التأقلم
على الرغم من إيجابيات التأقلم مع الأوضاع الصعبة والقدرة على التكيّف في مواجهة الظروف التي لا نملك القدرة على تغييرها، للتأقلم أحيانًا مخاطر خصوصًا إذا كانت نتائجه سلبية على المجتمع بأسره. يجدر بالإشارة إلى خطورة التكيّف مع عديد من الأزمات، فالمفترض أن لا تصل القدرة على التكيّف إلى حدّ القبول بالظروف القائمة من دون السعي إلى تغييرها.