- En
- Fr
- عربي
من الإمبرياليّة التقليديّة إلى العولمة: فرّق تسدْ / وحّد تسدْ
أوّل سؤال لكلّ شرح وتفسير هو, هل هناك طريق ما, أو باب ما يؤدّي لفهم العولمة؟ كما هي طرق وأبواب كلّ ظاهرة, كلّ نموذج, كلّ نمط وكلّ علم مخصوص. أم أنّ العولمة, كونها عولمة, أي كونها عالم الكرة الأرضيّة الجديد, لا طرق لها ولا أبواب ولا منافذ؟ وبالتالي إذا كان لا طرق لها ولا أبواب ولا منافذ, كيف يمكن النفاذ إليها وهي تحيط بكلّ الجوانب؟
ومثال على هذا المأزق, ألقت هذه العقبة (المعرفية؟) المختصّة بموضوع العولمة, بثقلها, على لجان التوصيف للبرامج الجديدة في معهد العلوم الإجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة (كما أفتَرض أنّها تلقي بثقلها في كلّ كليّة وجامعة). فهذه اللجان بأنصبتها المعرفيّة المتعدّدة, لم تستطع الإنفاق وهذا طبيعي كما سوف نرى على وضع موضوع العولمة في نصاب معرفي مخصوص. وكان الخلاف... هل نضعها مثلاً داخل الظاهرات الإجتماعيّة, أم داخل الأنماط الإنتاجيّة, أم داخل علم الإجتماع المعاصر, أم داخل موضوعات التنمية, أم داخل الأنتروبولوجيا الثقافيّة؟ وكان كلّ واحد من أعضاء لجان التوصيف تلك, يقدّم الأدلّة العلميّة والمنطقيّة لإدخالها في نصاب تخصّصه, وكان كلٌّ منهم على حقّ نسبي. فكونها عولمة يعني أنّها تطول إلى كلّ ميدان, إلى كلّ اختصاص, إلى كلّ ظاهرة, إلى كلّ نمط وإلى كلّ نموذج معرفي. ولكن بالمقابل, وكونها عولمة أيضاً, هي خارج ذلك كلّه.
بالرّغم من كلّ ما كتب عن العولمة وحولها من قبل فلاسفة وعلماء إقتصاد وعلماء إجتماع وعلماء نفس وتكنولوجيّون, تناولها كلّ منهم من خلال عدّته المعرفيّة. بالرّغم من ذلك, قد يكون مبكراً جدّاً التقاط نصابها الحقيقي المخصوص, داخل كلّ علم أو إختصاص, وذلك لسببين:
1- أنّها لم تزل في بداياتها التكوينيّة, بالرّغم من أنّ بداياتها النظريّة بدأت مع بزوغ الرأسماليّة.
2- أنّها كما يبدو لم تزل تخبىء بقدرة كبيرة أصل إنتمائها, رغم كلّ ما كتب حول هذا الأصل.
هذان السببان هما في عمق تلك العقبة (المعرفيّة؟) التي لم تتبيّن حتّى الآن طريقاً أو باباً أو منفذاً, نحو موضعة العولمة في سياق مخصوص.
ما هي العولمة؟
لنقدّم بداية تعريفاً أوريستسكياً ([1]) Heuristique للعولمة, يقول أنّ العولمة هي نمط إستهلاك ثقافي, يتأسّس على شكل جديد للإمبرياليّة لم يصل إلى نهاياته بعد. وهو يحاول أن يتأسّس على أنقاض الشكل التقليدي للإمبرياليّة. ذلك الشكل الذي يقول, على حدّ تعبير لينين أنّ <<الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة>> ([2]).
إنّ الذي أوصل العولمة لبداية مجال تحقّقها العملي, هو انهيار المنظومة الإشتراكيّة في العالم. هذا الإنهيار, ليس سببه أساساً غياب الحريّات والديموقراطيّة في تلك المنظومة, كما يفسّر البعض, ولا أساساً غياب الملكيّة الفرديّة, كحافز رئيسي لكلّ إنتاج, ولا أساساً ضعف الإقتصاد الإشتراكي قياساً على الإقتصاد الرأسمالي. بل سببه أساساً أن الإمبرياليّة التقليديّة تلك ليست أعلى مراحل الرأسماليّة, بل هي وبكلّ بساطة مرحلة من مراحلها. والمنظومة الإشتراكيّة بعد لينين ظلّت للأسف أو لحسن الحظ! وفيّة لتلك المقولة, وهي بوفائها لها, إستكانت إلى فكر مريح يقول بأنّ الرأسماليّة وصلت إلى أوجها بالإمبرياليّة <<التقليديّة>>, ولا قبل لها على الخروج من أزمتها المستعصية إلاّ بالتهافت.
هي السبب الأساس في إنهيار تلك المنظومة؛ ذلك أنّ الرأسماليّة إستطاعت على الدوام الخروج من كلّ أزمة, عمليّة أو نظريّة مرّت بها. والعولمة هي محاولة خروجها الأخير غير المستتب بعد.
هذه المحاولة للخروج هي ما ندعوه باستبدال الإمبرياليّة التقليديّة بإمبرياليّة حديثة, تحاول أن تفرض نمط إستهلاك ثقافي وحيد وحديث, بعدما حاولت الإمبرياليّة التقليديّة سابقاً, فرض نمط إنتاج إقتصادي وحيد وحديث, ولم تنجح كفاية.
وحِّد تسُدْ:
وإذا كان شعار الإمبرياليّة التقليديّة, على طريق فرض نمط إنتاجها الإقتصادي الوحيد هو <<فرّق تسُدْ>> ([3]), كما يقول بيار بورديو, باعتبار أنّ الإقتصاد, خارج الثقافة, بحاجة للفرقة كي يسود, فإنّ الإمبرياليّة الحديثة كنمط إستهلاك ثقافي أساساً, بحاجة لشعار <<وحّد تسُدْ>> على حدّ تعبير بورديو في المكان نفسه. ذلك أنّ نمط الإستهلاك الثقافي الواحد (كونه نمط إستهلاك ثقافي) بحاجة لإلغاء التمايز كي يُبنى, بعكس نمط الإنتاج الإقتصادي الواحد (حين يعمل وحيداً) المحتاج بنيويّاً لدعم التمايز الثقافي وإعادة إنتاجه على الدوام.
عند هذا المفصل, هل لا يزال هذا التعريف <<الأوريستيكي>> أوريستيكياً؟ أم أنّه في سياق أن يُبنى تعريفاً دقيقاً أعني واقعياً Réelle بغضّ النظر إن كان حقيقياً Vraie أو لم يكن؟ لم يزل مبكراً الحسم في أيّ اتجاه.
وعلى عكس ما يشير إليه بورديو بشكل مضمر, فليس دقيقاً <<أنّ الإمبرياليّة (الأوروبيّة) تطوّرت ضمن النطاق القومي>> وأنّ الرأسماليّة الأميركيّة وربيبتها العولمة <<تطوّرت في سياق غياب الدولة القوميّة وضعفها الدائم>> ([4]), وعدم الدقّة, بالرّغم من كلّ الإشتهادات التي يسوقها, هو أنّه لم ينتبه إلى الفرق البنيوي بين كون الإمبرياليّة التقليديّة (الأوروبيّة), لم تكن سوى إمبرياليّة إقتصاديّة تحاول فرض نمط إنتاج إقتصادي وحيد, بينما الإمبرياليّة الحديثة تحمل وجهين, وجه قومي إقتصادي, ووجه عولمي ثقافي.
هذان الوجهان للإمبرياليّة الحديثة (الأميركيّة؟), هما مأزقها, وهما اللذان سوف يحدّدان اشتغالها مستقبلاً. فالإقتصاد بوسائل تعبيراته عن نفسه (المال والتكنولوجيا والتجارة, كذلك الصناعة والزراعة وغيرها), وبمؤسّساته التي تعبّر عنه (صندوق النقد الدولي, البنك الدولي, منظّمة التجارة العالميّة وغيرها) هو مصلحة قوميّة (أميركيّة؟) بامتياز, تحاول من خلاله, وبطرق ملتبسة من جهة, وملتوية من جهة ثانية, السيطرة الكاملة على الإقتصاد العالمي لمصلحتها القوميّة. وقد وصلت هذه الإمبرياليّة الحديثة, إلى أن تعي بالممارسة, وبالتجربة والخطأ, أنّ هذه السيطرة محكوم عليها بالفشل أو أقلّه بالارتداد, إن لم ترافقها محاولة فرض نمط إستهلاك ثقافي وحيد وحديث, وفي هذا تحديداً يكمن مبدأ العولمة.
فالعولمة لا يمكن أن تُبنى وتصل إلى نهاياتها مع وجود التنوّع الثقافي على الأرض, فهذا التنوّع يشكّل حدّ ممانعة أمام العولمة. ولم تستطع الإمبرياليّة الحديثة أن تتعامل بكفاءة مع حدّ الممانعة هذا, قبل شيوع وسهولة وسائل الاتصال المدمجة, الناتجة عن التقدّم التقني الهائل. إنّه بالضبط مع حدوث هذا التطوّر التقني الهائل, بدأت تُبني شيئاً فشيئاً مقولة نمط الإستهلاك الثقافي الواحد كطريق آمن ووحيد لنمط إنتاج إقتصادي قومي المعالم.
فالقوّة الرمزيّة لوسائل الإتصال الإمبرياليّة الحديثة (الأميركيّة بشكلها الغالب), تحاول أن تتحكّم الآن بمخيّلة البشريّة جمعاء وتملي عليها أحلامها, <<فهي أدخلت نموذج ونمط حياتها إلى أكواخ الفقراء في آسيا وإفريقيا وحتى إلى مضارب البدائيين في أوستراليا والبرازيل>> ([5]). فثورة وسائل الإتصال المدمجة هذه, هي التي سمحت للإمبرياليّة الحديثة (الأميركيّة أساساً) أن تحكم وتتحكّم ومن ثمّ تسعى لفرض نمط إستهلاك ثقافي حديث ووحيد (معولم) خدمة فقط لنمط إنتاج إقتصادي ذي أهداف قوميّة.
وبالتالي, يُصبح هدف العولمة كإمبرياليّة حديثة, أي كنمط إستهلاك ثقافي تقوم على مقولة <<وحّد تسُدْ>>, يصبح هدفها إلغاء أي تنوّع ثقافي, أي بمعنى آخر توحيد المواد الثقافيّة, حتى يمكن السيطرة قوميّاً على نمط الإنتاج الإقتصادي العالمي.
والمعنى المقصود, هو أنّ العولمة لم تتطوّر <<ضمن مشروع اختراق النطاق القومي للرأسماليّات الأخرى>> كما يرى بيار بورديو, إلا من زاوية نمط الإستهلاك الثقافي, بينما حاول هذا التطوّر نفسه, أن يكون نقطة جذب قوميّة من زاوية نمط الإنتاج الإقتصادي للعولمة, أي أنّ العولمة تطوّرت من ضمن مشروع إلغاء التنوّع الثقافي خدمة لفرض نمط إنتاج إقتصادي قومي ووحيد. بمعنى آخر, أنّ العولمة ليست سوى ذلك المسار الذي يحاول فرض ثقافة واحدة على العالم. بهدف فرض سلعة نوعيّة واحدة عليه.
السيطرة والهيمنة
إذن, بين الثقافة والإقتصاد يتأرجح مأزق العولمة الحالي. أي بين ثقافة تحاول أن تلغي الخصوصيّات, أي تحـاول أن تجعـل من العقـائد والأديان والإتنيّات والأعراق, إضافة إلى السلوكات وأساليب العيش اليومي والتقاليد والعادات, تحاول أن تجعل منها أجساماً أو أفكاراً أو مؤسّسات متجانسة, وبين إقتصاد مخصوص (أميركي؟) يحاول الهيمنة Hégémonie وليس فقط السيطرة Dominance.
فالإقتصاد المهيمن, وليس فقط المسيطر, هو الإقتصاد الذي يتّصف بالكمال والنجوز أي الإنتهاء, فسيطرته فقط, كما هو حادث الآن ومنذ زمن, يحمل معنى إمكانيّة فقذ السيطرة ويتحمّله, وهيمنته الكاملة والناجزة تنجيه من ذلك الإمكان. وطريق الهيمنة الوحيد, هو الثقافة التي تهدف إلى إلغاء الخصوصيّات. في هذا السياق وحده يتحدّد الطريق والباب والمنفذ الذي سلكته العولمة نحو الهيمنة الإقتصاديّة القوميّة, إنّه طريق وباب ومنفذ الثقافة.
السريع والبطيء
ولكنّ المأزق لم يزل ينوء بكلكله. فمن المعروف, كما قال كارل ماركس محقّاً <<أنّ أدوات الإنتاج تتطوّر بسرعة أكبر من تطوّر علاقات الإنتاج>>. أي بمعنى من المعاني, أنّ الإقتصاد يتطوّر بسرعة أكبر ممّا تتطوّر الثقافة. أي أنّ المواد الإستهلاكيّة تتطوّر بسرعة أكبر من المواد الثقافيّة, وهذا ما حصل بالفعل والممارسة. وبهذه الحال, كيف يمكن للعولمة كما حدّدناها أن تُبنى؟ أي كيف يمكن لعلاقات الإنتاج أن تتطوّر بشكل أسرع من قوى الإنتاج؟ أي كيف يمكن أن نلغي الخصوصيّات بسرعة أكبر, أو على الأقل بنفس سرعة فرض نمط إنتاج إقتصادي وحيد؟
هذا هو مأزق العولمة, كما حدّدناها كنمط إستهلاك ثقافي. إنّه مأزق ذلك الطريق السريع لثورة التكنولوجيا, وثورة المعلومات وثورة وسائل الإتصال, في مقابل ذلك الطريق البطيء الهادف لإلغاء الخصوصيّات.
ربّ قائل أنّه من المبكر وسم العولمة بهذه السمة حول نيّتها في جعل كلّ خصوصيّة شكلاً متجانساً مع كلّ خصوصيّة أخرى, أو قد يقول قائل أنّ هذا الرأي هو محاولة ليّ لواقع العولمة عن <<حقيقتها>> الكونيّة والمحايدة.
هذه <<الحقيقة>> الكونيّة والمحايدة, التي جعلت منها كما كلّ أسطورة <<شكلاً قبل أن تكون مضموناً>> ([6]), شكلاً, فيها الجيّد والرديء, وأن ننتقي الجيّد منها ونرمي الرديء, كما يهجس بذلك كثير من مثقّفينا.
هذه النظرة للعولمة, هي في أساس كلّ كلام مرتاح عن عدم الركون, إلى فكرة أنّها تحاول بالضرورة إلغاء الخصوصيّات. أمّا نظرتنا لها على أنّها ليست شكلاً, بل نمط إستهلاك ثقافي له شروطه وآليات تحقّقه, هو الذي يدعونا, بل يُجبرنا, على القول أن لا طريق لها سوى جعل كلّ ثقافة, مشابهة ومتجانسة مع كلّ ثقافة أخرى, شكلاً ومضموناً, وفي ذلك مأزقها البنيوي, ومأزقها الكرونولوجي أيضاًَ.
ما بعد الحداثة
إذا كانت فكرة <<الإيديولوجيّة>>بامتياز للعولمة كنمط إستهلاك ثقافي, كانت قد بدأت تُبنى مع كتاب فوكوياما <<نهاية التاريخ>>, فإنّ الفكرة الإيديولوجيّة أكملت سياقها بعد ذلك من خلال مفهوم ما بعد الحداثة, وهو المفهوم الإيديولوجي>> المبشر يا للمفارقة بتهافت الإيديولوجيات على إختلاف أنواعها (عقائد, أديان, نظريّات,...) وتهافت التاريخ وتهافت الإنسان وتهافت المثقّف أيضاً بتحويله تقنياً لا يتجاوز ولا يجوز أن يتجاوز حدود اختصاصه.
ذلك أنّ الحداثة بمفهومها التقليدي, لا تعلن الموت, بل الحياة, أي تعلن مبدأ التناقض واستمراره. والتناقض يعني, بمبدئه الفلسفي, اللاتجانس, بينما غاية كلّ عولمة كنمط إستهلاك ثقافي وحيد, هو التجانس, أي إلغاء الخصوصيّات.
لذلك كان مشروع العولمة هو مشروع في وجه الحداثة إن لم يكن نقيضها الناجز, وهو مشروع ما بعدها, كمشروع تهافت لكلّ فكرة ثقافيّة أي لكلّ مؤسّسة ولكلّ فرد. إنّه مشروع ثقافي للتجانس أي للموت. من هنا معنى كلّ خطاب ما بعد الحداثة عن موت العقائد وموت الإنسان وموت التاريخ وموت المثقّف, الخ...
ولكن هذا الموت وهنا شكل آخر للمأزق نفسه للثقافة ببعدها العقائدي على الأقل, لا يبدو أنّه يسير دون تعرّج داخل كون العولمة المفترض. فثورة وسائل الإتصال المدمجة وهي في طريقها لمحاولة إلغاء الخصوصيّات الثقافيّة, عبر اقتحامها كلّ يوم, كلّ البيوت وكلّ الأفكار, في محاولة إعادة صياغة شعور, وأيضاً لا شعور البشريّة, عبر اللغة الواحدة (الإنكليزيّة؟) وبنية التعبير الواحدة, والعادات الواحدة وأنماط العيش اليومي الواحدة. هذه الثورة نفسها سمحت وتسمح, عبر سهولة إستعمال الشبكة وشيوعها, سمحت بمدّ نطاق العقائد والأديان, وكلّ ما له علاقة بالثقافة إلى خارج نطاقاتها الإقليميّة والإتنيّة المخصوصة. حيث أصبحت كلّ العقائد والأديان والإتنيات والنظريّات قادرة مبدئياً على الترويج لنفسها عبر الشبكة, دون اللجوء إلى شكل الإرساليّات المسيحيّة والبعثات الإسلاميّة مثلاً, التي كان لا بدّ منها قبل سيادة الشبكة.
وعليه, ليس دقيقاً جدّاً, أو أنّه لم يصبح بديهة بعد, ذلك الخطاب الذي يقول أنّ العولمة لم تعد قابلة للإنعكاس Irréverisible, فآلياتها نفسها تحمل إمكانيّة إعادة إنتاج الخصوصيّات, وتتحمّله.
إذن, العولمة لا تعني الحداثة على كلّ صعيد بالمُطلق, فهي حداثة على صعيدي الإقتصاد والتكنولوجيا, وهي ما بعد الحداثة على صعيد الثقافة, وهنا شكل آخر من أشكال مأزقها البنيوي. فالعقائد والأديان وكلّ النظريّات, كذلك السلوكات وأساليب العيش والعادات والتقاليد وغيرها من التعبيرات الثقافيّة, تتعامل وتستفيد جميعها, وبكفاءة عالية نسبيّاً, من حداثة التكنولوجيا والإقتصاد, وفي الوقت نفسه تمانع إن لم تكن ترفض وتتصدّى لمفهوم ما بعد الحداثة على الصعيد الثقافي.
فالعالم الثقافي يُدرك أنّ مفهوم ما بعد الحداثة القائم على تهافت العقائد والأديان والنظريّات, أي تهافت المثقّف والإنسان نفسه, أي موتهم جميعاً. هذا العالم يُدرك أنّ هذا المفهوم يُحاول أن يُلغيه لصالح بديل يقدّم نفسه على أنّه محايد وهو ليس محايداً. وعدم حياديّته يندرج بالضبط داخل مشروع نمط إنتاج قومي مهيمن يتوسّل نمط إستهلاك ثقافي معولم يدّعي الحياد. أي أنّ العالم الثقافي الموجود على الكرة الأرضيّة لا يرى العولمة سوى شكل آخر من أشكال التغريب يحاول أن يُلغي الخصوصيّات كلّها ولكن لصالح خصوصيّة مخصوصة. وهو على حقّ نسبي في ذلك, إذا كانت العولمة فعلاً كما ندّعي, أي أنّها نمط إستهلاك ثقافي واحد ومعولم, هدفه البعيد والوحيد هيمنة نمط إنتاج إقتصادي قومي بعيد عن أن يكون عالميّاً ومحايداً, أو أنّه لم تتضح بعد على الأقل, عالميّته وحياده.
قد يكون كلّ ما افترضناه حتى الآن هو إفتراض أوريستيكي إلى حدود بعيدة, وكونه فقط كذلك, ندّعي أنّه إفتراض منتج للفهم والتفسير أي منتج للمعرفة, طالما أنّ محاولة تأسيس نمط إستهلاك ثقافي وحيد (عولمة) لم تزل في بداياتها التكوينيّة, بالرّغم من أنّ بداياتها النظريّة تأسّست مع بداية الثورة الصناعيّة أواخر القرن التاسع عشر. فبين السيطرة على الإقتصاد العالمي (مشروع الإمبرياليّة التقليديّة) والهيمنة عليه (مشروع العولمة) يكمن كامل المأزق. وبين الطريق السريع لقوى الإنتاج (إقتصاد تكنولوجيا...) والطريق البطيء لعلاقات الإنتاج (الثقافة) يتبلور هذا المأزق. فهل هذا الإفتراض الأوريستيكي الذي حاولنا تبيانه حقيقة أم خيال؟ لننتظر؟ ولكن خلال فترة الإنتظار هذه, ألا يتوجّب علينا القيام بمتابعة حثيثة لمسار العولمة لبيان مدى <<أمركتها>> على الصعيدين الإقتصادي والتكنولوجي, وبالتالي مدى أنكلوفونيّتها على الصعيد الثقافي؟ كذلك أليس ما تفعله الفرنكوفونيّة في العالم بدفاعها عن الخصوصيّات, ينسجم نظريّاً وليس عمليّاً مع أطروحتنا الأريستيكيّة, وبالتالي حدّ ممانعة لها؟ لنرَ...
فإذا كانت العولمة, كما ندّعي, هي محاولة لفرض نمط إستهلاك ثقافي, يخبّىء في خلفيّته فرض نمط إنتاج إقتصادي قومي (أميركي), فإنّ الإمكانيّات للتصدّي له, تندرج داخل سياق وداخل مشروع.
السياق
هذا السياق هو حدّ الممانعة الثقافيّة المستند إلى التنوّع الثقافي الهائل الموجود في العالم, وهو تنوّع موزاييكي من الصعب نظريّاً أن يتجانس أي أن يموت. وضرورة عدم تجانسه, وإعادة إنتاج هذا اللاتجانس éHétérogenit لا يستند إلى واقع أنّ الرد يطلب هذا اللاتجانس فقط, أو الجماعة تطلبه فقط, أو المجتمع يطلبه فقط, بقدر ما يستند أساساً إلى أنّ الدولة كمؤسّسة هي التي تطلبه.
فإذا كانت الدولة هي أرض وشعب ونظام سياسي (مؤسّسات), فإنّها مع بداية العولمة, كمشروع لنمط إستهلاك ثقافي واحد, لا نستطيع كأرض وشعب, وخصوصاً كنظام سياسي, إلاّ أن تمانع هذا المشروع بمختلف أوجه الممانعة, فخصوصيّتها الثقافيّة تحديداً هي مبرّر وجودها كنظام سياسي, قبل أن تكون, (وبالإضافة) مبرّر وجودها كأرض وشعب.
وليس بعيداً عن التصوّر أن يكون مشروع العولمة الرأسمالي هو البديل من نفس النوع لمشروع الشيوعيّة الإشتراكي. فهدف العولمة هو إلغاء الدولة, كما هو هدف الشيوعيّة البعيد, ولكن من خلال السير في مسار نقيض. فإذا كان إلغاء الدولة في الفكر الشيوعي يقوم على إلغاء الملكيّة الخاصّة, فإنّ إلغاءها في مشروع العولمة يقوم على استشراء الملكيّة الخاصّة حتى حدود مآلها إلى أيد مخصوصة.
ولكن هذا السياق من الممانعة كيف له أن يُبنى لدى الأفراد والجماعات وكذلك المجتمعات والدول, إذا كانت كلّها ترضخ (وهي ترضخ) لكلّ تبعات العولمة الأخرى غير الثقافيّة (إقتصاد, مال, تكنولوجيا, وسائل إتصال,...)؟
هذا هو السؤال الذي لا إجابة عنه حتى الآن. فهل يجب أن لا ترضخ؟ وإذا كان ذلك كذلك, هل يمكن أن لا ترضخ؟
إنّ عدم وجوب رضوخها واجب, لأنّ رضوخها لكلّ تبعات العولمة غير الثقافيّة سوف ينتهي بها, دون أن تدري, للرضوخ الثقافي, أمّا إمكانيّة عدم الرّضوخ فيجب أن ترتبط بمشروع.
المشروع
المشروع الوحيد حتّى الآن للتصدّي للعولمة في بعدها الثقافي هو الفرنكوفونيّة. فالفرنكوفونيّة تعلن الدفاع عن التنوّع الثقافي في العالم, وتعلن بالمنطق نفسه إحترام الخصوصيّات الثقافيّة في العالم, ولكنّها بالمقابل, تنصاع تدريجيّاً لتبعات العولمة الأخرى, كما هي حال جميع الممانعين. ونقطة قوّتها, أنّها تسعى لجعل حدّ الممانعة الثقافيّة الخاص بكلّ أرض وشعب ونظام سياسي, حدّ ممانعة عالمي وعام. و<<العالميّة Universalisation نقيص العولمة Mondialisation, لأنّها تبحث عن التنوّع من خلال بلورة الخصوصيّة التي تقوم على تأكيد فرادة كلّ ثقافة>>, كما يقول الكندي جان مارك ليجيه. وحدّ الممانعة العالمي هذا يستند أساساً, ولكن فقط, إلى معنى الفرنكوفونيّة كمجموعة قيم تقوم على مبادىء الحريّة والإخاء والمساواة.
أمّا نقطة ضعف الفرنكوفونيّة, فتندرج في سياق تصدّيها للعولمة في بعدها الثقافي فقط, دون التصدّي لها جهاراً في أبعادها الأخرى. فهل تُدرك الفرنكوفونيّة, وبالتالي فرنسا, أنّ العولمة هي مشروع إستهلاك ثقافي واحد وحيد, يخبّىء في خلفيّته نمط إنتاج إقتصادي قومي (أميركي) واحد ووحيد؟ وإذا كانت تُدرك (وهي تُدرك), ألا يشكّل هذا خطراً ستراتيجيّاً (إن لم يكن آنياً) على إمكانيّة وجودها وإستمرار هذا الوجود؟ إنّه إدراك الفرق بين السيطرة التي إستفادت منها فرنسا في مرحلة اللاتجانس, والهيمنة التي لن يكون فيها دور مؤثّر في مرحلة التجانس... إذا ما إكتملت.
نقطتا الضعف والقوّة هاتان, هما أوريستيكيتان أيضاً إلى حدٍّ بعيد. فلا أحد يستطيع أن يقيس, في عالم اليوم وتشابك مصالحه, مدى إلتزام فرنسا, وبالتالي الفرنكوفونيّة, بمجموعة القيم والمبادىء تلك, كنقطة قوّة لها في وجه العولمة. وبالمقابل, لا أحد يعرف هل تضطر الفرنكوفونيّة لاحقاً لخوض غمار الممانعة الإقتصاديّة والتكنولوجيّة للعولمة, إضافة لممانعتها الثقافيّة؟
كلّ الإحتمالات مفتوحة وظائفيّاً ومصلحيّاً, وإلاّ أصبح سورياليّاً إلى حدّ ما, أن نلجأ إلى <<حوار الثقافات>> ترسيخاً للتنوّع الثقافي, ولا نلجأ في الوقت نفسه (وربّما قبل الأوّل) إلى <<حوار السلع>> ترسيخاً للتنوّع الإقتصادي. فالسلعة القوميّة الواحدة, عبر صندوق النقد الدولي (الأميركي!) ومنظّمة التجارة الدوليّة (الأميركيّة!) والبنك الدولي (الأميركي) كلّها دوليّة أي عولميّة بسيطرة أميركيّة (ناجزة) والدولار (الأميركي) ونموذج الحياة (الأميركيّة), هذه السلعة, هي ما تفترضه وترفضه سيطرة الجهاز الواحد (الساعة والآلة الحاسبة والكومبيوتر والإنترنت والتلفزيون والهاتف النقّال, كلّها في جهاز واحد مثلاً) الذي يحوز إسماً موارباً آخر هو نمط الإنتاج المهيمن الواحد.
هذه السلعة (الجهاز الواحد) هي أسرع بكثير من مفاعيل حدّ الممانعة الثقافية, في تنميط العالم ونمذجته وقولبته في قالب واحد ووحيد.
وعليه إذا كان شعار ما بعد الحداثة, هو الذي يعبّر عن العولمة في بعدها الثقافي, فإنّ شعار ما بعد الصناعة هو الذي سوف يعبّر في بعديها الإقتصادي والتكنولوجي. وما بعد الصناعة تعني هيمنة (وليس فقط سيطرة) الجهاز الواحد, أي السلعة الواحدة في كلّ نصاب إنتاجي مخصوص. هيمنة تجعل من كلّ صناعة, صناعة مقنّنة في حدودها الدنيا, ولا تخضع لأسّ منافسة حقيقيّة كشرط لازم لكلّ صناعة. وإلاّ لماذا مثلاً لا تستعمل شركة جنرال موتورز (الأميركيّة), أكثر من واحد بالمئة من مجموع براءات الإختراع التي تمتلكها؟ بل تدفنها في مراكز أبحاثها, بانتظار إستعمالها فقط في إنتاج السلعة الواحدة, حين تتأمّن الشروط التقنيّة لذلك.
وإذا كانت فرنسا عبر الفرنكوفونيّة تحاول أن تتصدّى لأمركة العالم, عبر تصدّيها للعولمة في بعدها الثقافي, فما هي مصلحة العالم المدعو فرنكوفونيّاً إذا كان موجوداً حقيقة في فَرنَسَة العالم؟
<<فالدول لا تدخل في تنظيمات إقليميّة أو دوليّة إلاّ بناءً على مطالب من تاريخ أو مستقبل, من أمن أو مصلحة, من زيادة فاعليّة أو زيادة نفوذ...>> ([7]). وهل الغاية إستبدال الأمركة بالفرنسة؟ أم أنّ في الفرنكوفونيّة ناهيك عن كلّ شعارات الحوار بعداً آخر غير الفرنسة؟ إنّه بالضبط ما يتوجّب على الدول المدعوّة فرنكوفونيّة أن تطلبه من فرنسا, وهو تحديداً, دعم التنوّع الثقافي, وليس إستبدال هيمنة اللغة والثقافة الأميركيّة بلغة وثقافة أخرى, دون أن ندري ودون أن ننتبه. فاللغة العربيّة مثلاً <<أولى بالرعاية, وهي في مأزق لا تجد لنفسها فيه نصير>> ([8]). وإذا كانت فرنسا قد <<اعتمدت على اللغة والثقافة قاطرات تجرّ المصالح وراءها>> ([9]), فإنّ إعتمادها ذلك هو إعتماد محق ومطلوب منها, ولكن بالمقابل هل يجب أن نسير في هذا التوجّه دون سؤال أو تمحيص أو ترشيد؟
وفي كلّ ما حاولنا أن نقوله, لايبدو أنّ هناك مشروعاً أمامنا في وجه العولمة سوى الفرنكوفونيّة, رغم كلّ الهواجس والمخاوف والتساؤلات. ولن نذهب مع هيكل في رفض الفرنكوفونيّة, حتّى لا نقع في مزاجه الأنكلوفوني, ولكن دون أن نتخلّى عن تلك الهواجس والمخاوف والتساؤلات. فكلّ الإحتمالات لم تزل مفتوحة أمام الفرنكوفونيّة وظائفيّاً ومصلحيّاً, لأنّ حدّ الممانعة السوريالي إذا جاز التعبير, الذي تطرحه على الصعيد الثقافي, يمكنه أن يعمل في كلّ اتجاه سلباً وإيجاباً. وإلاّ ما معنى أن يعقد مؤتمر للفرنكوفونيّة تحت شعار حوار الثقافات في بلد لا إمكانيّة بنيويّة للحوار فيه؟ (وهو موضوع آخر).
إنّه مأزق العولمة المتعدّد الجوانب الذي تحدّثنا عنه, وهو لا يواجه بمشروع قد يكون من الطبيعة نفسها, إذا لم يبادر العالم الفرنكوفوني (غير الفرنسي) المفترض لجعل هذا المشروع من طبيعة مغايرة.
يقول جمال عبد الناصر لمحمّد حسنين هيكل: <<أريدك أن تعرف أنّه إذا كانت فرنسا غير مستعدّة, فعلينا أن نخترعها>> ([10]). ولم يكن عبد الناصر يقصد ذلك الدور <<الامبراطوري>> المفترض لفرنسا, بقدر ما كان يقصد ذلك المعنى القيمي للثقافة الفرنسيّة. وأخطر ما يواجه ذلك المعنى هو الموقف الإنتقائي السائد حول العولمة, خصوصاً لدى مثقّفي ما يسمّى جنوب العالم, أي موقف قبول أكثر تبعاتها ورفض بعضها.
ما قلناه لم يزل أوريستيكياً, أي كاشفاً بغضّ النظر عن دقّته, ولننتظر... فالعولمة كمشروع نمط إستهلاك ثقافي عالمي, يخبّىء في خلفيّته نمط إنتاج إقتصادي قومي, وكمشروع يحاول أن يستبدل شعار <<فرّق تسد>>, لم يزل في بداياته, آملين أن لا تكون الفرنكوفونيّة مشروع نمط إستهلاك ثقافي بديل, يخبّىء في خلفيّته نمط الإنتاج نفسه؛ وهذا الأمل بحاجة لفعل فرنكوفوني (يُجبر) فرنسا على ممارسة قيمها المفترضة والتي قد تنساها في محاولتها لاستعادة دور (إمبراطوري؟) مفترض.
[1] التعريف الأوريستيكي هو تعريف يساعد على الكشف بغض النظر عن دقّته أو عدم دقّته.
[2] لينين, فلاديمير إيليتش: الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة, منشورات دار الطليعة لبنان.
[3] Bourdieu, P.: Contre Feux - 2, d. Raisons dصagir - Paris 2001.
[4] المرجع نفسه
[5] المرجع نفسه
[6] Barthes, R.: Mythologie, d. Seuil 1957, Paris
[7] هيكل, محمّد حسنين, جريدة <<السفير>> اللبنانيّة, 30/4/2001
[8] المرجع نفسه
[9] المرجع نفسه
[10] المرجع نفسه