وجهة نظر

من الساحة الحمراء إلى ساحات الدم القاني...
إعداد: جورج علم


يبقى لبنان الإستثناء صموده من صمود جيشه

لتحولات الكبرى
«أحمر!.. كله أحمر؟!.. من الساحة الحمراء في الكرملين.. إلى ربطة ميخائيل بوغدانوف.. إلى ساحات الأحمر القاني الذي ينساب شلالات في زمن الإنتقاضات!»...
جاء إلى بيروت بمناسبة مرور 70 سنة على إقامة العلاقات الدبلوماسيّة ما بين لبنان وروسيا. وحرص نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف على «كرافاته الحمراء» وهو يحتفل مع جمعية الصداقة اللبنانية - الروسيّة في إحياء الذكرى.
قليلون هم أولئك الذين يدركون عمق هذه الرمزيّة، ومدى ارتباطها بجوهر التحولات الكبرى التي شهدتها روسيا، ولا تزال، منذ الثورة «البولشيفيّة»، إلى «البريسترويكا»، وصولًا إلى الأزمة الأوكرانية، وما تشهده بلاد القرم هذه الأيام.
وقف الرئيس فلاديمير بوتن بكامل رصانته، أمام أعضاء مجلسي البرلمان (الإتحاد والدوما)، وحكّام الأقاليم، والمقاطعات، موجّهًا خطابه السنوي إلى الأمة، مؤكدًا تمسّك روسيا بشبه جزيرة القرم. وحرص خلال استعراضه محاولات ضمّها، على تلمّس ربطة عنقه الحمراء، أكثر من مرّة، وهو يذكّر بأهم المعارك الصعبة التي «خاضها شعبنا لتوحيد الأمة»، مؤكّدًا مشروعية ما يقوم به، «لأن للقرم أهمية ثقافية هائلة، وهي مقدّسة بالنسبة إلى روسيا، كما المسجد الأقصى بالنسبة الى المسلمين!».

من الشيشان.. إلى القرم.. التناقض واضح ما بين العصبيّة المذهبيّة.. والعصبيّة القوميّة. وما بين نموذجي الإنسلاخ والضم.. الإنفصال والإتصال. تجارب معمّدة بالدماء، وتاريخ حافل بالدروس والعبر، يقف الرئيس الروسي على مشارفه اليوم ليعيد الولايات المتحدة بعظمة قوتها ومكانتها إلى ساحة الحرب الباردة، ولينتزع منها لقب «القطب الأوحد، ويعيدها إلى مربّع الثنائيّة المستقطبة!». كان على قمة جهاز المخابرات قبل أن يصبح على قمّة هرميّة السلطة، يعرف تمامًا بأن تدنّي سعر النفط والغاز فجّر الإتحاد السوفياتي سابقًا، وأن الهدف من تكرار المحاولة اليوم، هو تحويل روسيا إلى دولة فاشلة.
إنهار جدار برلين، لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قلقة من التحولات الحاصلة في أوكرانيا، وعبّرت عن هذا القلق خلال انعقاد قمّة العشرين في بريزبن - أستراليا (15 تشرين الثاني الماضي)، قالت إنّ الرئيس الروسي «يهدف إلى إعادة بناء الجدار، وضرب الوحدة الأوروبيّة من جديد، وإعادتها إلى ملحقاتها السابقة إبان الحرب الباردة حيث كانت موزّعة ما بين الولايات المتحدة، والإتحاد السوفياتي!»، فيردّ عليها قائلًا: «إن روسيا صمدت في وجه الغزو الهتلري، ولن يستطيع أي كائن كان أن يفرض إرادته عليها». وإذ أكدّ «أن ما تقوم به بلاده من جهد وسياسات، هو من أجل الدفاع عن الحق، والعدالة»، قال: «هناك بعض الدول ترغب في تفكيك روسيا مثلما حدث في يوغوسلافيا، لكن هذا لن يحصل؟!».

 

الدروس والعبر
يعود الروس إلى الشرق الأوسط من خلال الانتفاضات المفتوحة في العديد من دول المنطقة، ويعود أسطول «بطرس الأكبر» إلى المياه الدافئة في المتوسط من خلال الأزمة في سوريا. وتترافق تلك العودة مع هواجس خمسة:
- سلاح النفط، الذي يستخدمه الغرب لإحداث انقلاب في روسيا، أو لدفع الروس نحو انتفاضة مسلحة.
- عزم التحالف الدولي على إقامة قواعد عسكريّة ثابتة في دول المنطقة، وتحت شعار مكافحة الإرهاب، للتحكم بمقدّراتها الأمنية، والنفطيّة، والإقتصادية، والسياسيّة.
- تفتيت الدول العربيّة والإسلامية إلى كيانات مذهبية فئوية، على حساب القوميّة العربيّة.
- تعميم الفوضى الخلّاقة، من خلال تعميق الصراع الثقافي بين المجموعات الإتنية، والذي يتخذ اليوم وجه الإعتدال في مواجهة التطرّف!.
- تدمير الإقتصادين الصيني والياباني بعد الإستفراد بالروسي.
وتستند هذه الهواجس إلى حركة التاريخ، ومتغيرات الجغرافيا، ويستخلص منها عبرتان: «القوميات الجديدة»، و«الإقتصاديات المستحدثة»، ذلك أن القومية بمفهومها الجديد مختلفة عن سابقتها. فعناصرها لم تعد مقتصرة على وحدة المصالح في الأمن، والإقتصاد، ووحدة الأرض، والشعب، والمصير الواحد المشترك، بل دخل الموروث الثقافي كعنصر حاسم، وهذا ما بدأ في أوروبا قبل وصول العدوى إلى الشرق الأوسط، إنطلاقًا من النموذج اليوغوسلافي، حيث أدى العنصر الإتني – الثقافي إلى تفتيت بلد كان قويًا متماسكًا بوحدته، وتقسيمه إلى دول ثلاث قائمة على «عنصريّة ثقافية دينيّة مختلفة». وأيضًا هناك نموذج آخر تمثّله تشيكوسلوفاكيا السابقة، حيث أدى الموروث الثقافي – الإقتصادي إلى تقسيمها «حبيًا» إلى جمهوريتي تشيكيا وسلوفاكيا.

انطلقت العدوى مع «الربيع العربي» إلى الشرق الأوسط، وبالمختصر المفيد، هناك انقلاب دموي مبرمج على القوميّة بمفهومها العربي الشامل، لمصلحة قوميّة «الأنا» أو الـ«نحن» كجماعة إتنية، أو عرقية، أو فئوية. تحوّل الشرق الأوسط إلى مثل ومثال، إلى أرض للتجارب، ومختبر للتفاعلات المتصادمة، والتي أخذت مع الأسف وجهًا دمويًا فجّرته الأحقاد والضغائن القديمة والمستحدثة. بعد حربين عالميتين، تركت المنطقة في عهدة الإنتداب البريطاني، والفرنسي، فاستحدثتا دول الأسواق والمصالح وفق حدود سايكس – بيكو. وما يجري بعد عقود معدودة من الاستقرار النسبي، ليس سوى ارتدادات للزلزال الذي ضرب الإتحاد السوفياتي، وأسقط جدار برلين، وخلّف نموذجين في قلب أوروبا، هما النموذج اليوغوسلافي، والنموذج التشيكوسلوفاكي، حيث كانت بصمات التفتيت الأميركية – الغربيّة واضحة، وفق المنطق الروسي.

 

الإرهاب وقواعد التغيير
كان الشرق الأوسط ولا يزال، على موعد دائم مع الصدمة، والمفاجأة، مع التغيير، وعدم الإستقرار، خصوصًا أن القوة المحرّكة لم تعد تأتي على متن البوارج وأسنّة الرماح، بل إنها من صنيع المطابخ المحليّة. وقد انطلقت التجربة الأولى من أفغانستان تحديدًا عندما وُضع «سيف الإسلام المؤمن في مواجهة الشيوعي الملحد»، وإذ بالسلاح الجديد المستخرج من مخازن التطرّف الأصولي الديني الثقافي، يثبت فاعليته!..
امتدت هذه العصبية المتشددة وتمدّدت لتبلغ الشيشان، وإذ بروسيا أمام تحدٍ جديد، لم تعد القوميات حكرًا على المصالح الوطنية الواحدة والمشتركة، بل على العرق والدين أيضًا، وفيما الحراك الإنفصالي مستمر، انطلقت العدوى إلى الشرق الأوسط حيث تكفّلت الأصوليات النامية، بأخذ المنطقة نحو المجهول تحت شعار إسقاط «جدران برلين» الكثيرة المنتشرة بين كياناتها، والعبث بحدود دولها، والإنقلاب على كل الثوابت والمرتكزات، وأيضًا على تراكم الحضارات.

 

البدائل الصادمة
إنّ ما يجري اليوم صادم ومؤلم، أجيال تنمو على حليب «داعش»، وأجيال تزول بحد سيفه؟!..حضارات تدمّر، دول تتمزق، أقليات تباد أو تسيّب، وتحالف دولي لمكافحة الإرهاب، فيما الفعل يقتصر على إدارة الوضع الجديد من علو!. «داعش»، «جبهة النصرة»، وأخواتهما ومثيلاتهما مجرّد رأس حربة لمشروع جديد عنوانه «القوميات الجديدة، والإقتصاديات المستحدثة»، وهدفه تكريس إسرائيل دولة قوميّة لليهود، وتكريس أكثر من نموذج إسرائيلي كدويلات لقوميات دينيّة - مذهبيّة أخرى في المنطقة لمصلحة الأصل. «داعش» ومن معه مجرّد متعهّد مدرّب ومؤهّل لتنفيذ المشروع، وعندما تنتهي المهمة، ينتهي!..
ثمة فوارق ومتغيرات لا بد من أخذها بعين الإعتبار، الكباش الدولي حول أوكرانيا أخذ طريقه نحو الشرق الأوسط، التحالف لمكافحة الإرهاب يضمر أكثر مما يفصح، «ويقصف» عبر الدعاية والإعلام، أكثر مما تقصف طائراته!.. أهدافه باتت واضحة، وسقطت ورقة التين، يحاول أن يجمّل البشاعات بمساحيق جديدة، وبأدوات تجميل قديمة - حديثة. يقول بإعادة بناء الجيوش النظامية المدرّبة، المسلّحة القادرة على مواجهة الإرهاب، علمًا بأنه كان السبّاق في تسريح الجيش العراقي، وإرسال ضباطه وجنوده إلى المنزل. وكان السبّاق في تدمير الجيش الليبي، والسبّاق في إبطال مفعول الجيوش الأخرى في الدول المنتفضة لتنفيذ المشروع، والوصول إلى الهدف.
ما يجري خطير، إنها حروب مدروسة، ومعدّة بإتقان لدول المنطقة، وعليها. إنها مجرّد بدايات «بربطات عنق حمراء!..» دامية، فظيعة بوحشيتها، ومقززة بعنفها، تمهّد الطريق أمام الاستقطاب الدولي ليعود من الباب الواسع ممثلًا بالثنائي الروسي – الأميركي. لقد دخلت المنطقة عصر التوحّش من بابه العريض، فيما الحل والربط ملك الخارج الذي يتحكم بمفاصل الأمور!..


لبنان الإستثناء
يبقى لبنان الإستثناء على الرغم من أنّ خطّ الإستواء الحار يمرّ في وسطه، ويترك ساحته مفتوحة، مشرّعة الأبواب أمام كلّ المحاور والجبهات، لتصفية الحسابات الكثيرة، القديم منها والحديث... ومع ذلك، وعلى الرغم من كلّ ذلك، يبقى حاجة وضرورة للجميع، ويبقى صامدًا في وجه كل التحديات والضغوطات التي مورست عليه، ولا تزال. والرواية هنا مختلفة، إنها قصة انصهار حتمي مصيري ما بين الجيش والشعب، مصيره من مصيره، وعنفوانه من عنفوانه. مورست البشاعات بمختلف ألوانها وأنواعها، وصمد وانتصر...
ربطة العنق عندنا أيضًا حمراء، لكن مع اختلاف، تزيّنها الأرزة الخضراء، وسط مساحة واعدة بالبياض في هذا الزمن الأسود!