من الأرض

من النار والدمار إلى فجر جديد
إعداد: د. إلهام نصر تابت

وسط النار وجحيم الدمار كان عسكريو الجيش المنتشرون على امتداد الوطن ينفّذون عدة مهمات يوميًا. مهمات لم  يُشر إليها في الأخبار إلّا لمامًا، لكنّ الأرض الموجوعة تَعرف بناسها وترابها وشجرها... أنّ هؤلاء العسكريين كانوا وما زالوا وسيبقون لها وفيها، أوفياء، شجعانًا. لا تحجب جبال الأنقاض في مدننا وقرانا تضحياتهم، لا تأكل نيران الحرائق مقدار ذرّة من اندفاعهم لإغاثة أهلهم، ولا يمنعهم استهداف العدو المباشر لدورياتهم ومراكزهم من القيام بواجبهم الوطني. على كلٍّ هذا ما أثبتوه بالدم وبالثبات في مراكزهم محافظين على جهوزيتهم العالية لتنفيذ ما يُطلب إليهم من مهمات.
وهذا ما لن يتأخروا في إثباته من جديد مع تعزيز الجيش انتشاره في قطاع جنوب الليطاني وبسط سلطة الدولة بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – اليونيفيل، وذلك استنادًا إلى «التزام الحكومة اللبنانية تنفيذ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن بمندرجاته كافة والالتزامات ذات الصلة، ولا سيما ما يتعلق بتعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني». فإثر دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، توجّهت وحدات من الجيش إلى هذا القطاع حيث ينتظرها عمل كثير.

نبدأ من مرحلة العدوان الذي حوّل مدن الجنوب وبلداته وقراه، فضلًا عن المناطق الأخرى التي استهدفها، إلى ساحات قتل ونار ودمار… فبينما كان العسكريون يقومون بواجبهم بصمتٍ، تداول بعض وسائل الإعلام معلومات غير دقيقة مفادها أنّ الجيش انسحب من مراكزه الحدودية الجنوبية لعدة كيلومترات، ما دفع بقيادة الجيش  إلى إصدار بيان (1 تشرين الأول 2024) أوضحت فيه أنّ الوحدات المنتشرة جنوبًا تنفّذ إعادة تموضع لبعض نقاط المراقبة الأمامية ضمن قطاعات المسؤولية. لكن استمرار حملات التجنّي بحقّ المؤسسة العسكرية اضطر قيادة الجيش إلى إصدار بيان ثانٍ (8 تشرين الأول 2024)، جاء فيه: «في ظل الاعتداءات الهمجية والمتزايدة من جانب العدو الإسرائيلي على مختلف المناطق اللبنانية، وما ينتج عنها من سقوط شهداء وجرحى ودمار كبير، يهمّ قيادة الجيش أن توضح أنّ الجيش اللبناني، إذ ينتشر على كامل مساحة الوطن بما فيها الحدود الجنوبية، يتولى مسؤولياته الوطنية ويقدّم الشهداء والجرحى ويحافظ على جهوزيته للدفاع عن الأرض ضمن الإمكانات المتاحة، وذلك استنادًا إلى قرارات السلطة السياسية وتوجيهاتها للقيام بما يراه مناسبًا من أجل حماية لبنان والمؤسسة العسكرية، والتزام القرار 1701 ومندرجاته بالتنسيق الوثيق مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – اليونيفيل».

 

لن ندخل في سجالات
وأضاف البيان: «يعمد بعض وسائل الإعلام إلى إطلاق حملات تجنٍّ وافتراءات وتخوين تطال المؤسسة العسكرية وقيادتها خدمةً لمصالح ضيقة وغايات سياسية. تؤكد قيادة الجيش أنّها لن تدخل في سجالات أو مزايدات، وهي ليست معنية بأي ملفات أو استحقاقات. الأولوية اليوم بالنسبة إلى القيادة هي حماية المؤسسة والمحافظة على تماسكها، ووقف العدوان والصمود ودعم المواطنين ومواكبة أزمة النزوح، ومواصلة عمليات الإنقاذ بالتنسيق مع الأجهزة المختصة، تزامنًا مع حفظ السلم الأهلي والاستقرار الداخلي.
أثبتت التجارب أنّ الجيش هو المؤسسة التي تشكل العمود الفقري للبنان والضمانة لكل اللبنانيين، ما يؤكد أهمية التِفافِهم حولها، مع تَطلُّعنا إلى نجاح الجهود الدولية لوقف العدوان الإسرائيلي في أقرب وقت ممكن».
وختمت قيادة الجيش بالقول: «يبقى الجيش متماسكًا بعزيمة عسكرييه وإيمانهم وإرادتهم، واتّحاد اللبنانيين حول دوره الجامع، والمطلوب اليوم هو الحفاظ على الوحدة الوطنية للحفاظ على لبنان الذي سوف يتجاوز هذه المحنة كما تجاوز الأزمات والتحديات الماضية وتغلَّب عليها».

وقائع الميدان
قدّم الجيش خلال هذا العدوان ٤٧ عسكريًا شهيدًا (١٩ منهم أثناء تأدية واجبهم في مراكز خدمتهم وخلال تنفيذ المهمات، و٢٨ استشهدوا جرّاء استهداف العدو الإسرائيلي مختلف المناطق اللبنانية) وموظفة مدنية، بالإضافة إلى ١٨٧ جريحًا، سالت دماؤهم على أرض الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. منهم من كان يؤدي واجبه في مركزه أو خارجه، ومنهم من كانوا في منازلهم مع عائلاتهم واستهدفهم العدو كما استهدف آلاف المدنيين هادمًا بيوتهم فوق رؤوسهم.
نلقي نظرة على وثائق الاتصال التي تدوّن يوميات العسكريين وسط جحيم العدوان الإسرائيلي على لبنان، لنكوّن فكرة عن المهمات التي نفّذوها في مواجهة جنون العدو الذي أطاح بكل المفاهيم المتصلة بالقوانين الدولية وأخلاقيات الحروب وضوابطها.

 

يوميات موقّعة بالدماء
من خلال هذه الوثائق يُـتاح لنا أن نعرف كيف قاوم عسكريو الجيش يوميًا أطنان الأنقاض لإنقاذ جرحى وانتشال شهداء وإخلائهم، إضافةً إلى نقل المصابين إلى المستشفيات ومواكبة فرق الصليب الأحمر والدفاع المدني وقوافل المساعدات الإنسانية. وكثيرًا ما كانوا يتعرضون للاستهداف وهم يقومون بهذا الواجب، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عسكريين في أماكن ومهمات مختلفة.
من رفع أنقاض الأبنية إلى فتح طرقات أغلقها الركام وقطع سبل التواصل بين البلدات والمناطق. تلك مهمة محفوفة بالمخاطر، فمسيّرات العدو وطائراته كانت جاهزة في كل لحظة لاستهداف من يجازف بإعادة فتح طريق. هذا ما حصل في برج الملوك (13/10/2024) إذ أُصيب ثلاثة عسكريين خلال نقل جرافة بهدف فتح طريق، وكذلك في قلاويه حيث أصيب سائق جرافة عسكرية، وعلى الطريق بين مرجعيون وحاصبيا...
في مراكزهم وعلى الطرقات خلال تنقلّهم لأداء واجبهم، تعرّض العسكريون لاستهدافات متكررة من العدو الإسرائيلي، ما أدّى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى جرّاء استهداف العدو مراكز وآليات عسكرية.

 

خدمات حيوية
تأمين المحروقات إلى مراكز الاتصالات (السنترالات) وأحيانًا الكشف على هذه السنترالات وإصلاح الأعطال، هي أيضًا من المهمات الحيوية التي نفّذها الجيش تحت النار، ومثلها نقل المحروقات والمياه إلى المستشفيات والمساعدات إلى البلديات... وتأمين انتقال مواطنين وأصحاب مؤسسات لإحضار مستندات رسمية من منازلهم أو مؤسساتهم، وأحيانًا لنقل ممتلكات ومواد أولية من منطقة مستهدفة إلى أخرى أكثر أمانًا.
نصل إلى الكشف على الأجسام المشبوهة والذخائر غير المنفجرة ومعالجتها، هذه المهمة كانت فرق الهندسة تتولّاها يوميًا، فيما تعمل قوى مختلفة على إخماد الحرائق، سواء تلك التي يسببها القصف المعادي في المناطق المستهدفة، أو تلك التي نشبت في مناطق أخرى. يُذكر في هذا السياق أنّ طوافات الجيش شاركت في إخماد حرائق في الجنوب والشوف والشمال وعكار وسواها.

 

على جبهة النزوح
منذ اليوم الأول لبدء حركة النزوح، بادرت قيادة الجيش إلى تشكيل لجنة موسعة لإحصاء أعداد النازحين بهدف استيعابهم ومساعدتهم، ولغاية منتصف تشرين الثاني الماضي، كان عدد عائلات العسكريين التي اضطرت إلى مغادرة أماكن سكنها قد بلغ نحو 19 ألف عائلة. وقد توزّعت هذه العائلات بين مراكز إيواء، ونوادٍ عسكرية، ومنازل أقارب، ومساكن مستأجرة من قِـبل أكثر من عائلة.
وكما استطاع الجيش إدارة الأزمة خلال السنوات السابقة محتضنًا عسكرييه وعائلاتهم، استطاع مواجهة تحديات نزوح هذا العدد الكبير منهم، وعملت المؤسسة العسكرية على تأمين الإيواء مع كل متطلباته، بما يحفظ الكرامة الإنسانية والحاجات المعيشية لمن يحتضنون الوطن بتضحيات أبنائهم وذويهم.
من الفرش والأغطية والأوسدة إلى المساعدات الغذائية والطبية وتجهيز المطابخ وتزويد المراكز بالمياه الساخنة وسوى ذلك من مستلزمات. وعملت الطبابة العسكرية على تنظيم زيارات دورية لمراكز الإيواء لمتابعة الأوضاع الصحية للعسكريين وعائلاتهم وتأمين الأدوية اللازمة لهم. وقد استطاعت المؤسسة مساعدة أبنائها بفضل الدعم الذي تلقّته من دول شقيقة وصديقة قدّمت هبات للجيش، كما فعل عدد كبير من اللبنانيين المحبّين والداعمين.
يعلم اللبنانيون أنّ جيشهم إلى جانبهم، وأنّه لم يتأخر مرة عن تلبية نداء الواجب بالدم والعرق والشجاعة والكفاءة، هكذا عرفوه وهكذا سيبقى.

 

حفاظًا على سلامتكم...
اندفاع المواطنين في عودتهم الفورية إلى الجنوب شكّل ما يشبه إعصارًا جارفًا، وفي حين أعلن الجيش أنّه باشر تعزيز انتشاره في قطاع جنوب الليطاني عبر انتقال وحدات عسكرية من عدة مناطق إلى القطاع، لتتمركز في المواقع المحددة لها، كانت مواكب الجنوبيين تصل تباعًا إلى البلدات والقرى. وفي هذا السياق، دعت قيادة الجيش المواطنين إلى التريّث في العودة إلى القرى والبلدات الأمامية التي توغّلت فيها قوات العدو الإسرائيلي بانتظار انسحابها وفق اتفاق وقف إطلاق النار، وشدّدت على أهمية التزام توجيهات الوحدات العسكرية المنتشرة في المنطقة حفاظًا على سلامتهم. كما دعت الأهالي العائدين إلى سائر المناطق لتوخّي الحيطة والحذر من الذخائر غير المنفجرة والأجسام المشبوهة من مخلّفات العدو الإسرائيلي، والاتصال بغرفة عمليات قيادة الجيش على الرقم ١١٧ للإفادة عنها، أو إبلاغ أقرب مركز للجيش أو للقوى الأمنية الأخرى.
لذلك، ألحقت قيادة الجيش بياناتها السابقة ببيان دعت فيه «المواطنين العائدين إلى القرى والبلدات الحدودية في الجنوب، وبخاصةٍ في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون، إلى التجاوب مع توجيهات الوحدات العسكرية وعدم الاقتراب من المناطق التي توجد فيها قوات العدو الإسرائيلي، حفاظًا على سلامتهم، لا سيما أنّهم قد يتعرضون لإطلاق نار من القوات المعادية».
في 27 تشرين الثاني 2024، أطلّ في الجنوب فجر مرحلة جديدة، مرحلة سيزداد خلالها تشابك سواعد العسكريين وسواعد المواطنين قوة وعزمًا. فنحن أمام استحقاقات كبيرة، وكما انتصرنا على الدمار والأزمات سابقًا، سنفعلها مجددًا، ثابتون في أرضنا ووحدتنا، وعيوننا إلى المدى البعيد، إلى غدٍ بحجم التضحيات التي بُذلت.


مساعدات شقيقة وصديقة
وصلت إلى مطار رفيق الحريري الدولي، طائرات تحمل مساعدات إنسانية وكميات من الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية، مقدّمة هبة من دول شقيقة وصديقة (المملكة الأردنية الهاشمية، إيطاليا، فرنسا، المملكة المتحدة، روسيا الإتحادية، رومانيا، هنغاريا).