في المواجهة

من تدقيق الأسماء إلى دفع المستحقات: دقة وشفافية

لطالما كان الجيش إلى جانب المواطنين في الكوارث والأزمات وسواها من أوقات عصيبة، وها هو اليوم يضطلع بمهمة توزيع مساعدات مالية أقرتها الحكومة وتشمل أكثر من ١٨٧ ألف عائلة.
تكليف الجيش من دون سواه بهذه المهمة كان نتيجة عاملَين أساسيَين: أولًا وقبل كل شيء الثقة المطلقة بأنّه سيوصل إلى كل ذي حق حقه، فلا تضيع حقوق محتاجين خدمة لمصالح البعض، وثانيًا لامتلاك الجيش القدرات التنظيمية والإدارية والبشرية اللازمة.
على رأس هذه العملية عضو المجلس العسكري اللواء الركن الياس الشامية الذي يؤكد أنّ التواصل المباشر قائم بينه وبين رئيس مجلس الوزراء ووزيرة الدفاع الوطني وقائد الجيش الذين يتابعون يوميًا التفاصيل كافة.
في ما يلي نص الحديث الذي أجرته «الجيش» مع اللواء الركن شامية.


• ما هي حيثيات قرار منح المساعدات الاجتماعية، ولماذا كُلِّف الجيش بتوزيعها؟

- بسبب تفشّي وباء كورونا في لبنان، أصدر مجلس الوزراء القرار رقم ٣ تاريخ ١/٤/٢٠٢٠، والذي قضى بمنح مساعدات اجتماعية (مبلغ مالي بقيمة ٤٠٠ ألف ل. ل.) للشريحة المحتاجة من العائلات اللبنانية لمساعدتها على مواجهة الظروف الصعبة. وبعد التداول بشأن توزيع المساعدات اتخذ القرار بإسناد المهمة إلى الجيش اللبناني لأنّه المؤسسة الوحيدة التي تستطيع القيام بهذه العملية بتجردٍ وموضوعية وبأقل ما يمكن من أخطاء. وهكذا صدر القرار بتكليف الجيش مهمة التدقيق في لوائح المستفيدين وتنظيمها، وتوزيع المساعدات المالية للمواطنين على كامل الأراضي اللبنانية بصرف النظر عن الانتماء الطائفي أو الحزبي أو المناطقي. فالجيش اللبناني هو المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تنفّذ هذه العملية ملتزمة كل الشروط التي سبق ذكرها، وهو موضع ثقة اللبنانيين. وعلى الأثر تم تكليفي بمهمة ترؤس لجنة عسكرية مختصة بتوزيع المساعدات.


• من هي الجهة التي وضعت اللوائح الاسمية للمستفيدين، وكيف تم التعاون مع الجهات الأخرى التي شاركت في إعدادها؟ وكم استلزم الأمر من الوقت؟
- اللوائح الاسمية قسمان: القسم الأول يختص بمصابي الألغام وضحاياها الذين سقطوا أو أُصيبوا اعتبارًا من بداية الحرب اللبنانية في العام ١٩٧٥ ولغاية تاريخه، وهؤلاء أسماؤهم محفوظة لدى المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام. بدأ المركز المذكور اعتبارًا من تاريخ ١٦/٤/٢٠٢٠ جولاته على منازل المصابين على الأراضي اللبنانية كافة للاطمئنان إلى أوضاعهم ودفع المبلغ المالي المستحق لكل من يثبت حقّه من بينهم انتهت هذه العملية أوائل شهر أيار.
أما القسم الثاني فيضم اللوائح المستلمة من رئاسة مجلس الوزراء بواسطة وزارة الدفاع الوطني، وهي نتيجة الداتا التي تملكها غالبية مؤسسات الدولة ووزاراتها كل ضمن اختصاصها. تضمنت هذه اللوائح ثلاث فئات حدّدها رئيس مجلس الوزراء وفق الآتي: الفئة الأولى تتألف من أولياء الطلبة في المدارس الرسمية، وتضم الثانية السائقين العموميين، أما الثالثة فللعائلات الأشد فقرًا.
عقب تسلّم اللوائح قامت مديرية المخابرات بمهمة التدقيق بالأسماء بالأفضلية، فأنهت لوائح المدارس أولًا (خلال أسبوع) لتنطلق مباشرة عملية الدفع داخل المدارس لأصحاب الحقوق اعتبارًا من ٢١/٤/٢٠٢٠، انتهت هذه العملية في غضون عشرة أيام. بعدها بدأ توزيع المساعدات للسائقين العموميين (شملت سائقي السيارات والباصات والميني باص والبيك أب) وقد تسلموا المساعدات داخل منازلهم، واستمرت العملية خمسة أيام. في المرحلة الأخيرة تم العمل على لوائح العائلات الأشد فقرًا، وقد تطلّب التدقيق فيها وإعداد اللوائح النهائية وقتًا طويلًا.


• ما هي الآلية التي اعتُمدت لتحضير اللوائح ووضع الأفضليات لها، وما هي الصعوبات التي واجهتكم؟
- اللوائح الواردة لم تكن مُعدّة أصلًا حسب المحافظات والأقضية، لذلك قمنا أولًا بعملية فرز استمرّت ثلاثة أيام توزّعت على أثرها اللوائح حسب قطاعات الوحدات الكبرى. وقد تبيّن بعد التدقيق أن العديد من الذين وردت أسماؤهم لا يستوفون الشروط المحددة للاستفادة، فحددنا المعايير واعتمدنا آلية موحّدة للجميع ما سمح بحفظ حقوق المستحقين واستبعاد من لا يحق لهم بالاستفادة من المساعدات. وتُلخّص الضوابط بمنع استفادة الفئات الآتي ذكرها: موظفو القطاعَين العام والخاص، المتعاقدون والمياومون في القطاع العام، والمطلوبون بمذكرات توقيف، والفارّون إلى الخارج، والموقوفون بداعي العمالة والإرهاب وتجارة المخدّرات، والمقيمون خارج الأراضي اللبنانية، والمهاجرون، ورجال الدين، والميسورون وغيرهم ممن لديهم مدخول ثابت.
بالنسبة لسبب اعتماد هذا التسلسل في التوزيع، يوضح اللواء الركن شامية أنّ لوائح الأشد فقرًا تتضمن قسمًا من الواردين في اللوائح الأخرى، وبما أنّ لوائح المدارس هي الأكثر وضوحًا تم البدء بها. في ما يتعلق بالصعوبات فإنّ الجيش يتخطّاها لكن هناك تبعات لوجستية فرضت نفسها، إذ إنّ العديد من المستفيدين يكون متغيّبًا ما يوجب العودة إليه لاحقًا، وهذا ما يؤخّر إنجاز العملية ضمن الفترة التي حددتها الحكومة.

• كيف تمت عملية توزيع المساعدات المالية ووفق أي خطة؟ ومن هي القوى التي تقوم بالتوزيع؟
- تم اعتماد مديرية التعاون العسكري - المدني مركزًا لإدارة العملية منها نظرًا لاختصاص هذه المديرية وخبرتها في هذا المجال. عُقدت لهذه الغاية اجتماعات مكثّفة برعاية قيادة الجيش وحضور العميد الركن إيلي أبي راشد مسيّر أعمال مديرية التعاون العسكري - المدني وقادة الوحدات الكبرى. ووُضِعت الأسس لعملية التنظيم والتوزيع التي تولّتها ٢٢ وحدة عسكرية كبرى من الألوية والأفواج المنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة. وقد راعى توزيع هذه المهمات على الوحدات عدم التعارض مع مهمتها الأساسية. لضمان نجاح العمل تم وضع العديد من الخطط والسيناريوهات التي تمنع المواطن من الاستفادة من أكثر من برنامج، وتضمن عدم سقوط اسم مستحق بالخطأ، خصوصًا والرقم المرصود من مجلس الوزراء محدّد بخمسة وسبعين مليار ل. ل. بينما عدد العائلات المستفيدة زاد عن المئة وثمانين ألفًا.


• شاهدنا مع انطلاق عملية التوزيع افتتاح Call Center، أين تقع هذه الغرفة وبمن ترتبط، وما هو عملها وعلاقتها بالقوى المكلّفة بالتوزيع؟
- تم إنشاء وتجهيز وإطلاق غرفـة عمليــات خاصــة بالتوزيـع في مديرية التعاون العسكـري - المدني سُمّيـت Call Center، يديرها ضباط من المديرية المذكورة ويرأسها العميد الركن أبي راشد الذي يرتبط مباشرة برئيس اللجنة العامة. جُهّزت الغرفة بخرائط رقمية تُمكّن مستخدمها من متابعة كل المجريات على الأرض في المدارس والمدن والقرى. أما مهمتها فتقضي بتلقّي الاتصالات والإفادات والاستفسارات حول سير العملية من ضباط الوحدات، وذلك في ما يتعلق بالأوضاع الطارئة والمستجدة خارج إطار الملاحظات المعطاة. كما تم وضع خطوط لتلقّي شكاوى المواطنين إذا وُجدت، والإجابة عن استفساراتهم.
وبالإضافة إلى ما سبق، تــم وضــع آليــة عمــل لـ Call Center تقضي بتحضير خطة التوزيع لليوم التالي بالتنسيق مع الوحدات. في المقابل، تتلقى الغرفة مساء كل يوم نتيجة توزيع المساعدات النهارية عبر برنامج FTP، تعمد إلى وضعها ضمن جداول لتُختصر بلائحةٍ موحّدة تظهر فيها كل التفاصيل المطلوب معرفتها، ويُفاد عنها فورًا رئيس اللجنة العامة في الجيش، ليقوم بدوره بإفادة كل من دولة رئيس مجلس الوزراء ومعالي وزير الدفاع الوطني.


• يتبيّن من خلال هذه التفاصيل أنّ هناك عملاً جبّاراً يحتاج إلى فريق عمل كبير يستطيع التخطيط والمتابعة والتنفيذ، فهل تخبرنا عن فريق عملك؟
- أوائل شهر نيسان، أبلغني حضرة العماد قائد الجيش بتكليفي رئاسة هذه اللجنة، وباشرنا العمل فورًا. كنا أمام مهمة توزيع مبلغ ٧٥ مليار ل. ل. رُصدت لمساعدة ١٨٧,٥٠٠ عائلة. في البداية، تم تحديد الجهات المعنية التي شاركت في التحضير والتنفيذ والمتابعة ضمن اختصاص كل منها وهي: مديرية المخابرات بفروعها كافة، وأركان الجيش للعمليات بمديرياتها، والألوية والأفواج المنتشرة، ومديرية التعاون العسكري - المدني، والمركز الوطني للأعمال المتعلقة بالألغام. على صعيد الجهات المدنية كان هناك دور مهم لمدراء المدارس والسلطات المحلية من رؤساء بلديات ومخاتير، ناهيك عن أشخاص (عسكريون ومدنيون) عملوا في الظل وكانوا بمثابة «الجندي المجهول».


• لأول مرة نرى الجيش يوزّع مساعدات مالية على المنازل في لبنان بهذا الحجم، فلماذا اخترتم المنازل مكانًا لتوزيعها وليس البلديات أو أمكنة عامة أخرى، وهل لاحظتم شيئًا من خلال دخولكم المنازل؟
- في ظل قرار التعبئة العامة، كان من المنطقي اعتماد آلية تسليم المساعدات في المنازل منعًا لحصول تجمعات في الأماكن العامة، ومن جهة ثانية كان الهدف الوقوف على حقيقة الحالة الاجتماعية والإنسانية لكل عائلة.
إنّ التفاوت الطبقي موجود في الدول كافة بنسبةٍ معينة وهو أمر طبيعي، لكن هذه النسبة في لبنان باتت عالية نتيجة الفقر المدقع لشريحةٍ كبيرة من المواطنين، خصوصًا في ظل ارتفاع نسبة البطالة والغلاء الفاحش، مع ارتفاع سعر صرف الدولار وقرار التعبئة العامة الذي فرضه انتشار وباء كورونا، ألزم المواطنين التوقّف عن العمل. لقد شاهدنا بأم العيـن حالات البؤس واليأس ومظاهر الفقـر داخل المنازل.

• هل من كلمة أخيرة؟
- أود أن أوجّه أولًا كلمة شكر لدولة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الوطني السيدة زينة عكر على الثقة الكبيرة التي أولتنا إياها وللمتابعة الحثيثة واليومية لتفاصيل العملية، ولحضرة العماد قائد الجيش سعيه إلى إنجاح عمل اللجنة من خلال وضعه كل الإمكانات العسكرية المتاحة بتصرفها، كما من خلال متابعته اليومية لأدق التفاصيل. كما أوجّه الشكر إلى أعضاء فريق العمل جميعًا ، بدءًا من الضباط العامين في قيادة الجيش، مرورًا بالرتب كافة، ووصولاً إلى العاملين في المراكز القيادية والمخابراتية والوحدات كافة والذين لم يبخلوا بوقتهم وتعبهم، وتحمّلوا المشقّات والجوع والعطش لينجزوا مهمتهم التي تزامنت مع شهر رمضان المبارك، فألف شكر لكل من ساهم في إنجاح العملية وإيصال الحق إلى أصحابه.

آلية دقيقة وشفافية مطلقة
تم وضع آلية تقضي باستلام ضابط الأموال في الوحدة الكبرى (لواء أو فوج) من مديرية القضايا الإدارية والمالية مبالغ مالية بما يتناسب مع عدد المستفيدين لديه، بعدها تتسلم الوحدة اللوائح الاسمية ضمن قطاعها والتي عليها تقسيمها إلى قطيّعات. تقوم فروع مخابرات المناطق بإبلاغ مدراء المدارس عن تاريخ الدفع، وهؤلاء بدورهم يبلغون الأهالي بموعد حضور كل منهم. أما بالنسبة إلى اللوائح الثلاث الباقية فتقوم فروع المخابرات بإبلاغ رئيس البلدية أو مختار المحلة باللوائح الاسمية للمستفيدين لديها، طالبة منهم البقاء في منازلهم. ورافق دورية الجيش في جولتها لتسليم المستحقات رئيس البلدية أو المختار، ويكون عليه التوقيع على لوائح المستفيدين في بلدته بعد توقيع المستفيدين مقابل أسمائهم بعد استلام المبلغ المالي مباشرة. وهذه العملية تطلّبت مستوى عاليًا من الحرفية والشفافية. وقد نفّذها العسكريون باندفاعٍ حتى في أثناء تعرّض الجيش للرشق بالحجارة خلال التظاهرات استمروا بالتوزيع من دون كلل، مع العلم أنّ الكثيرين منهم لديهم أولاد في مدارس رسمية ولم يستفيدوا كون الموظفين خارج برنامج المساعدات.

مما يتألّف مركز الاتصال ومن هم العاملون فيه؟
يعمل هذا المركز بإشراف العميد الركن أبي راشد ويرأسه ضابط قائد يعاونه ضابط عون ومعهم ٨ رتباء وظيفتهم التواصل مع الوحدات التي تعمل على الأرض، بالإضافة إلى ستة عناصر يعملون على الخط الساخن الذي وُضع بتصرف المدنيين.
بدأ عمل مركز الاتصال مع لحظة بدء الدفع للمواطنين، وقد تم تدريب ١٢ عسكريًا من الإناث حملة الشهادات للعمل على الخط الساخن، وتم تقسيمهن إلى فريقَين يتناوبان من الصباح وحتى المساء الرد على استفسارات المواطنين وشكاواهم وتأليل كل الاتصالات، وضغط الاتصالات أكبر مما يمكن تخيّله.

سقط سهوًا وحالات معقدة
تدقيق اللوائح عملية مضنية تطلّبت جهودًا كبيرة. الخطوة الأولى كانت فرز لوائح المدارس وفق المحافظات والأقضية وتوزيعها على الوحدات المنتشرة، وهذا اقتضى عملًا متواصلًا على مدى ثلاثة أيام بنهاراتها ولياليها. بعد ذلك كان التدقيق على مستوى الأسماء والتحقق منها، فتبين وجود أخطاء من نوع اسم سقط سهوًا بالإضافة إلى وجود حالات معقدة تتطلب معالجة خاصة. في ما يتعلق بالحالة الأولى طُلِب من المديرين توقيع تعهد يفيد بأنّ الاسم سقط سهوًا وبالتالي تم إدراجه في اللائحة. بالنسبة إلى الحالات المعقدة فقد كانت كثيرة (مراجعة بنحو ١٠٠ حالة يوميًا)، ومن بينها مثلًا حالات الطلاق التي نتج عنها وجود الأولاد في عهدة الأم فيما الأب قد تزوّج وباتت لديه عائلة أخرى وأولاد يتعلمون في مدرسة رسمية غير تلك التي يتعلم فيها أولاده من زوجته الأولى. ومن الحالات الأكثر تعقيدًا وجود رجل متزوج من أربع نساء كل منهنّ في منزل ولديها أولاد في مدرسة رسمية... تم التعامل مع هذه الحالات حالة بحالةٍ، بما يحفظ حقوق المستحقين ويمنع استفادة الميسورين ويحقق العدالة بين الطرفَين في العائلة التي أصبحت عائلتَين...