متاحف في بلادي

من طفل يلهو بشظايا الحديد القاتلة إلى فنان لا حدود لابتكاراته
إعداد: جان دارك أبي ياغي

شارل نصّّار

المبدع ينتقم من الحرب بالفن والجمال
بعزم وتعلّق شديدين بالحياة وتفاصيلها نجح الفنان شارل نصّار في التغلّب على الحرب وويلاتها بتحويل شظاياها وحديدها الى مجسّمات فنية فريدة ورائعة تضجّ بالحياة والسلم والفرح. أما كيف للشظايا المدمّرة والقاتلة أن تتحوّل الى تحف فنية رائعة وفريدة؟ وكيف للجماد أن يتحوّل الى أشخاص تدبّ فيهم الحياة؟ كل الحكاية مع المبدع اللبناني شارل نصّار الذي برهن أن ما يقوم به يخدم السلام فاستحقّ جائزة اليوبيل العالمي للسلام العام 2006.

حرب ولعب
لم تكن فكرة تحويل الشظية الفتّاكة الى تحفة فنية وليدة لحظتها وساعتها. فهواية جمع شظايا الحرب لازمت منذ الصغر شارل نصّار الذي أبصر النور وسط نيران الحرب. وبدل اللعب مع أبناء جيله، انصرف آنذاك الى اللهو بالحديد والخرضوات القابعة في مشغل الوالد - الحداد - لينصرف بعدها الى جمع الشظايا.
تعود الحكاية الى فترة الدراسة الابتدائية في مدرسة راهبات القلب الأقدس في قريته رمحالا (قضاء عاليه) حيث كان والده يمارس مهنة الحدادة الافرنجية في مشغل موجود في الطابق السفلي للمنزل الذي كانوا يقطنونه، وكان من البدهي أن يتأثر بالأجواء المحيطة، ومن هنا انطلقت هوايته الفنية المدعومة بمشغل الوالد الذي تتوافر فيه العدّة اللازمة لتحقيق تلك الهوايات، فكان أول الغيث مجموعة فنية من «علاّقات» المفاتيح ضمن حوالى 500 علاّقة.
مع مرور السنوات تعزّزت هواياته الى أن كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 وعانى ما عاناه من حرب الجبل وويلاتها، شعر برهبة الحروب وتأثيرها المضاعف على الأجيال والوطن، فكانت فكرة محاربة القتل والدمار بالتسامح والسلام، وبتحويل الوسائل المدمّرة ذاتها الى رسالة محبة تهدف الى نبذ الحروب ومفاعيلها...

 

نحو الاحتراف
في بيروت بدأ الاحتراف الفني من خلال مشغل خاص خصص فيه حيّزاً من وقته لصناعة لوحات ومجسّمات من حديد، عرضت في معارض فنية في مختلف المناطق اللبنانية.
يعلم شارل نصّار تماماً أن الموهبة وحدها لا تكفي لصياغة الأعمال وصقلها في قوالب الكمال والروعة بل يجب تنميتها بالدراسة والمطالعة المتخصصة، لذلك التحق بـ«أكاديمية ميكال انجلو» ونال شهادة الديبلوم بالرسم الفني العام 1992، ما ساعده على بلوغ المستوى الحالي في جميع أعماله الفنية. وسط ضجيج المدينة الصناعية في منطقة سد البوشرية تقع ورشة شارل نصّار للحدادة الافرنجية. الداخل الى المكان يفاجأ بالقسم الشمالي منه، فهو يختلف عن بقية الأماكن ويضعنا بين عالمين مختلفين ومتناقضين. الأول يمثل ضجيج العمل وقطع الحديد المرمية في كل مكان. أما الثاني فيأخذنا الى عالم الحرب ومآسيها عبر الفن فرحاً مرتدياً ثياباً من شظايا وحديد.
يقول شارل: عندما كان عمري 8 سنوات سقطت شظية إحدى القذائف في منزل أحد الجيران. في اليوم التالي جاء جارنا وأعطى أبي الشظية وطلب اليه أن يحوّلها سكيناً. استغربت بادئ الأمر وسألت والدي عن هذا الطلب الغريب، وجاءني الجواب في عيد ميلادي حين طلب والدي من جارنا أن يذبح لي خروفاً بتلك السكين. عندها علمت أهمية الشظايا، فهذه المادة أكثر حدّة من أي نوع آخر من المواد التي تستعمل عادة لمثل هذه الأمور. وعندها بدأت أجمع الشظايا من جميع الأماكن التي توجد فيها
مع مرور الزمن، وجد شارل نفسه أمام الكثير من قطع الشظايا ولم يكن يعرف ما يفعل بها الى أن استفاقت عنده حاسة الانتقام من الحرب التي حملها معه منذ أعوام ولمعت فكرة تحويل هذه الشظايا الى أعمال فنية، فاستخدمها مواداً أولية لتحقيق رؤيته الفنية.
عندما باع قطعته الأولى، تحمّس وقرّر المتابعة، وحوّل الكثير من القطع الى لوحات فنية مختلفة. لم يعد هدفه البيع فقط، فقد احتفظ لنفسه بالكثير من القطع وهو يرفض بيعها ليزيّن بها متحفه الخاص عندما يجد له المكان المناسب.

 

لا حدود للإبداع
لا حدود للإبداع والابتكار لديه، والأمر منوط بتوافر عدّة العمل، أي الشظايا. لذلك تجده يجوب لبنان بحثاً عنها وهدفه واحد: تحويل الموت الى فرح! وما كان لحرب تموز 2006 إلا أن زادت مجموعته غنى وتنوعاً بعد أن عاد من مناطق الجنوب إثر انتهاء العمليات العسكرية وجعبته مليئة بالمواد الأولية. يقول: «أغلب الأعمال الفنية أنجزتها في حرب تموز عندما كان الشعب اللبناني عاطلاً عن العمل بفعل القصف اليومي. لم أكن أوفرّ نشرة أخبار لمعرفة المناطق التي كانت تتعرّض للقصف، لأقصدها في ما بعد للململة شظايا الحرب». ثم كانت حرب نهر البارد، لتشكّل هي ايضاً، حافزاً جديداً. هو لا يحوّل الحديد أو يلينه و«القطعة» التي تخرجها يداه فريدة لا مثيل لها: «أنا لا أبدّل في طبيعتها المعدنية ولا أتدخّل في شكلها أو بنيتها. الحركة الموجودة في الشظية هي التي توحي لي بشكل معين. «جعلكة الحديد هذه لا أستطيع أن أصنع مثلها». يقولها وهو منهمك في تصميم مجسّم «المزارع». ويتوقف قليلاً ثم يضيف: «عندما تكون الشظايا بين يدي أنسى أنها نتاج الحرب والدمار، أقوم بتحويل طبيعتها القاتلة الى حياة، بهذه الطريقة أضع عدوي في منزلي وأحبه».

 

لبنان المنتصر دائماً
كثرة التماثيل الموجودة في المكان تروي حكايات عديدة، فكل لوحة تعكس واقعاً معيناً، أو هي مستوحاة من مظاهر الحياة اليومية ومصنوعة بفنية عالية وخيال واسع. على سبيل المثال هناك قطعة تعكس الواقع الطائفي في لبنان. وهي عبارة عن شظية شاحنة أضاف اليها شارل نصّار رأساً ويدين. البعض رأى فيها شخصية قديس والبعض الآخر اعتبر أنها تعكس صورة رجل دين... كأنها تمنح من يراها ما يطمح اليه.
قطعة أخرى عبارة عن بقرة يحلبها فلاح، واللافت فيها أن ضرعها رصاصة.
في مكان آخر من المشغل الذي يضجّ بأدوات الحرب، يستوقفك مجسّم لصياد سمك يحمل بيده صنّارة وفي أسفلها رصاصة، فهل تصبح الرصاصة «رزقة لحاملها»؟ يسارع الحداد النشيط للإجابة: «رزقة لدى من يطلق الرصاص ففي حال أصاب هدفه وقتل شخصاً ما يكون بذلك قد ارتزق»... ثم يبتسم ممازحاً ليتابع بعدها: «على أمل أن تكون سلة القتل فارغة ويكون لبنان المنتصر أخيراً».
ويطل من داخل أحد الصواريخ تمثال «طائر السلام» الذي يشبهه صاحبه بـ«طائر الفينيق» المنبعث دوماً حياً من رماده وهو يعني به لبنان المنتصر دوماً على الحروب ومآسيها.

 

حديد وموسيقى وانتظار!
الشظايا المتطايرة من السيارات والخزانات وجدت بدورها مصيراً فنياً، فشظية خزان ماء تحوّلت علَماً، وشظية شاحنة مقصوفة تحوّلت شرشف طاولة أو رداء.
لشارل نظرته الخاصة الى قطع الحديد، فهو لا يكتفي باستعمالها في نطاق عمله وحسب بل يتوسّع ليحوّلها الى تحف موسيقية مثل الكمنجة التي يعرضها، والتي للوهلة الأولى لا يمكن تفريقها عن الحقيقية باستثناء صوت النغمات، كذلك بعض اللوحات التي رسمها مستعملاً الحديد عوضاً عن الأقلام والألوان.
نكمل الجولة فنقف أمام تمثال «المنتظر اللبناني» الجالس على مقعد حديدي مجسّداً حالات الانتظار التي يعيشها اللبناني: في مركز للضمان الاجتماعي، أو في السفارات الأجنبية، وثمة من ينتظر مَن يؤنسه في وحدته وقد طال انتظاره فانحنى ظهره وطالت لحيته...ونصل الى تمثال «الغلبة لمن» وهو عبارة عن شخصين «يتكابشان»، وقد جاءت الفكرة انطلاقاً من واقع الحياة الذي يبرهن دائماً أن لا أحد يتمنّى السلام لغيره، فكان السلام المنتظر معركة «كباش». وقد أهدى هذا التمثال الى لجنة «يوم السلام العالمي» التي منحته درعاً العام 2006 - 2007 بمناسبة «يوم السلام العالمي» الذي تحتفل به في 20 أيلول من كل سنة.

 

من الجهات الأربع
أما تمثال «الغجرية» فيفرض نفسه شكلاً وحجماً لأن بعض الشظايا يوحي للفنان نوع العمل الفني.
وإذا سألنا الفنان شارل نصّار عن الفرق بين الرســم والنحـت قـال: «النحـت أصعب من الرسم لأنه يتطلّب رسماً في المرحلة الأولى ونحتاً في المرحلة الثانية. أما الرسم فنراه من جهة واحدة، بينما المنحوتة نراها من الجهات الأربع. بعض الشظايا يفرض واقعه على النحات، من هنا الصراع والقلق اللذان يعيشهما النحات - الفنان في أثناء العمل وهذا يتطلّب تفرغاً ووقتاً...».
المحطة الأخيرة في جولتنا كانت أمام تمثال «الجندي» رافعاً العلم اللبناني وهو مصنوع من شظايا قياس كبير جلبها من مخزن الجيش للذخيرة، بعدما تقدّم بطلب خطي للحصول عليها. والتمثال بقياس 270*110، وزنه 200 كلغ، وهو سيقدّمه الى قيادة الجيش (في احتفال يحدد لاحقاً) عربون تقدير لتضحياتها وبطولاتها، خصوصاً أن التمثال مصنوع من شظايا القذائف والصواريخ التي سطّر بها الجيش انتصاراته في المعارك التي خاضها ضد العدو وضد الإرهاب.

 

أمنية
يقول البعض إن شارل نصّار يصنع من الموت فناً، أما هو فيتمنى أن تنقطع الشظايا وتبرد أفواه البنادق ويسكت القصف المسلّح وتضع الحرب أوزارها، الى الأبد.
ماذا ستفعل حينها؟ وكيف ستنجز تماثيلك؟ لا خوف على «رفيق الحديد» وسوف أتدبّر أمري...
وفي الختام يقول: «أنا أطمح الى شهرة عالمية لأبرهن للعالم جمال الفن الذي يمكن أن ينتجه اللبنانيون حتى من خلال الدمار والموت».
يتمنى البعض أن يتحوّل الرمل بين أيديهم الى ذهب. أما شارل نصّار فقد حقّق أمنيته وحوّل بيديه شظايا الحديد القاتل الى قطع فنية.

الصور من أرشيف الفنان

معارض وتقدير
- مركز فريد متى للفنون، الحمرا (1992).
- درج الفن، الأشرفية (1993 و1995 و2008).
- مهرجانات الحمرا (1996، 1997، 1998).
- معرض الفن التشكيلي في راشيا (1993).
- معرض جمعية النجمة للسريان الأرثوذكس في الأشرفية (1994 و1995).
- السفارة الأميركية في عوكر (1997 و1998).
- مهرجانات جونيه (1998).
- ذكرى قانا الأولى - الصرفند (1997).
- «غاردن شو» في ميدان سباق الخيل (2007).
- معرض انطلياس (2007).
- دير القلعة - بيت مري (2007).
- نال عدة شهادات تقدير ورسائل تهنئة من منظمات وحركات محلية وعالمية.