- En
- Fr
- عربي
متاحف في بلادي
"بيت الفن" في بنتاعل هيكل للحضارات
حوّل قصره الجميل في بنتاعل الى متحف يحكي للأجيال تاريخ وطن عمره ستة آلاف سنة أمجاد وحضارة. ميشال صقر فنان منذ طفولته، عشق الفن وسار على دروبه رساماً ونحاتاً، يرصد الجمال في الطبيعة والبشر، ليصوغ ما شاهدته العين وما أحست به الروح، تحفاً فنية... "الجيش" زارت الصرح الفني الذي بناه ميشال صقر لبنة لبنة على امتداد سنوات طويلة، وعادت بهذا التحقيق، حول "بيت الفن" أو "هيكل الحضارات".
متحف بيت الفن
على مسافة 8 كلم الى الشرق من جبيل، وعلى رابية ترتفع 500 متر في بنتاعل، يقوم "متحف بيت الفن" الذي أنشأه الفنان ميشال صقر. يضم المتحف مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المنحوتة بشكل نافر على صفائح النحاس، وتعالج مواضيع تتناول المحطات البارزة في الحضارة العالمية خلال خمسة آلاف سنة، والعقائد الدينية الكبرى والمواقف والأحداث التاريخية والوطنية، كما تسلط الأضواء على الحضارة الفينيقية التي أورثت العالم الحروف الأبجدية. الى صفائح النحاس، هناك عدد وافر من الرسوم واللوحات الزيتية المستوحاة من الواقع اللبناني. المتحف المعروف أيضاً بـ"هيكل الحضارات" هو محاولة للإضاءة على الحضارات البشرية بما فيها من أدب وحكمة ورموز وأساطير... ودعوة للمحافظة على الروحانيات التي كانت أرضنا مهداً لها. المتحف فريد من نوعه وهو يحوي أكثر من 30 منحوتة تختصر جوهر الحضارات الإنسانية وفلسفتها، وسبعين لوحة ملونة تربط الفن بالتاريخ والحياة. ويشهد المتحف ندوات ولقاءات فنية متعددة، فقد حرص ميشال صقر على جعله مركزاً يستقطب الناس حفاظاً على التراث وتعميماً للفائدة الثقافية والتاريخية. ينبوعه فينيقي وروافده آشورية بابلية وحضارات عصر النهضة وصولاً الى القرن العشرين، حتى أن البعض يشبّه هذا المتحف بقلعة جبيل التاريخية ويعتبره القلعة الثانية فيها. ففي جنباته حكايات حضارات عريقة تتولى روايتها صفائح النحاس.
"متحف الشعب"
المتحف يملكه الشعب اللبناني، ومنحوتاته برسم المشاهدين يحظر بيعها، فالفنان ميشال صقر تخلى عن الملكية الفردية للمتحف وما يضمه من أعمال قيّمة، وهذا يعني أن اللبنانيين يملكون أجزاء متساوية من محتوياته، بل ان حصة كل لبناني توازي حصة الفنان صقر ذاته، إنها خطوة جريئة وحضارية على مستوى الوطن. يعمل الفنان صقر حالياً على تجهيز محترف دائم الى جانب منزله، يمتد على مساحة 1000 متر مربع، ويخصص للمعارض الفردية والجماعية. وهو مفتوح لكل فنان من دون شروط مسبقة باستثناء شرط واحد أساسي: أن تكون الأعمال كلاسيكية وذات مستوى فني. فميشال صقر يرى أن "الفن لغة محكية بين الناس. لم يكن الفن يوماً فوقياً، الفن تواضع في الآراء، ولغة متواصلة بين الناس، وتعبير عن حقائق معيوشة". لذلك فهو ينحاز الى الفن الكلاسيكي الذي يستطيع الناس التواصل معه.
"ولد غير طبيعي"
قبل أن ينطلق الفنان ميشال صقر في النحت، عمل بنصيحة المهندس الإيطالي لمبرتو باكسي الذي طلب منه ألا يمارس هذا الفن إلا بعد الدراسة والإختبار. في هذا الوقت راح يرسم، فمواهبه الخلاّقة والمبدعة ظهرت في وقت مبكر؛ قام بمحاولات عديدة بالرصاص والفحم والزيت والأكواريل منذ نعومة أظافره. وكانت تجربته الأولى في السادسة من عمره، حين رسم في مدرسة ميفوق أحد الأساتذة وهو "أخ" على صورة الشيطان، ناقلاً بأمانة وصدق مشاعره تجاه هذا المعلم الأخ الذي لم يتوان عن تخويفه وزرع الرعب في نفوس رفاقه. كان العقاب شديداً وكاد يقتل موهبة النقل والتصوير في مهدها عند الطفل ميشال، غير أن هذه الحادثة شكلت حافزاً له ليتابع طريق الفن. في أحضان الطبيعة قام بمحاولاته الأولى في النحت، كان ينحت الحجر والشجر أيام عطلة الصيف عندما كان والده الفلاح يكلفه رعاية الأبقار. صعوبات كثيرة اعترضت مسيرة ابن بنتاعل الذي عانى الأمرّين في ذلك الحين من بيئته التي كانت تنظر الى موهبته الفنية على أنها شعوذة... والبعض وصفه بأنه"ولد غير طبيعي"، وهو الخارج عن المألوف في ضيعة كانت محرومة من الطرقات ومن الاتصال بالمدينة وجديدها. في العاشرة من عمره خطرت له فكرة تخطي حدود ضيعته وتأمين مورد رزق ليستطيع التحرر من سجن الضغوطات العائلية، فلم يكن أمامه سوى تطوير أعماله الفنية وبيعها الى السياح الذين يزورون قلعة جبيل؛ ربح الرهان، لكن سرعان ما اصطدم بعقبات لم تخطر بالبال، فالتجار الذين يهيمنون على أسواق المدينة منعوه من بيع لوحاته الفنية وأوهموه بأن القلعة ملك لهم... انطلت الكذبة على الفنان الطفل الذي تمكن بفضل موهبته الخلاّقة من "قطع" أرزاق المحلات المحيطة بالقلعة والتي ترتكز مواردها على بيع اللوحات التذكارية.
عينطورة والقسط المدفوع قمحاً
المعاناة التي كانت تكبر مع الأيام بددها الأب جوبان رئيس مدرسة عينطورة حيث تعلم ميشال أربعة أعوام بقسط دفعه قمحاً. هناك برزت مواهبه بشكل لافت من خلال أعمال فنية وقف أمامها القيّمون على المدرسة باندهاش وتقدير. ويروي الفنان صقر بأن الأب جوبان كان يحرم التلاميذ من العطلة الأسبوعية، إذا ما أخلّوا بالنظام العام أو تقاعسوا عن القيام بواجباتهم المدرسية، وهذا الأمر دفعه الى استصدار مأذونيات بالعطلة لرفاقه المحتجزين عن طريق تقليد إمضاء المسؤول عن المدرسة، الى أن افتضح سرّه فاستدعاه الأب جوبان الى مكتبه الذي لا يبعد سوى 30متراً عن غرفة التدريس، خاف التلميذ ميشال من نتائج فعلته، وشعر وقتئذ بأنه يجتاز أطول مسافة من المعاناة والارتباك في حياته. لكن الحقيقة جاءت على عكس ما تصوّره، إذ أن رئيس المدرسة طلب منه أن يقلّد إمضاءه أكثر من مرة، فجاء التوقيع مطابقاً للأصل... اندهش الأب جوبان أمام هذه الموهبة المتأصلة في تلميذه، فخاطبه قائلاً: "أنت فنان، لكن لا تستعمل موهبتك من أجل السلبيات، ليكن الفن من أجل السلام، من أجل الحقيقة، لا من أجل التزوير". ثم شاءت الأيام، أن ينتقل التلميذ الى مدرسة الحكمة في الأشرفية حيث تعلّم أصول الرسم على يد الفنان الكبير قيصر الجميّل الذي كان يعطي دروساً خصوصية في قاعة الحكمة، وطالما حلم الولد الموهوب أن يكون أحد تلاميذ الأستاذ الكبير. في هذه المرحلة، لم يكن راتب الأستاذ من مونة الضيعة، فهو لم يتقاض منه أجراً بعد أن اكتشف موهبته. في هذه الفترة، بدأ ميشال صقر ينفذ أعماله الفنية. وفي العام 1958 بدأ يعمل على تحقيق مشروعه الخاص، "هيكل الحضارات"، الذي أراده تأكيداً لأهمية الحضارة اللبنانية، الى جانب تجسيد الحضارات الإنسانية خلال خمسة آلاف سنة، وعبر لوحات منحوتة على النحاس.
تاريخ النحت على النحاس
النحت على النحاس هو من الفنون العريقة، وهذا النوع تعرّف إليه الآشوريون منذ 1800 سنة قبل المسيح، ونفّذه الفينيقيون على الحجر والفخار، غير أنه لا يمارس اليوم إلا في عدد من جمهوريات الإتحاد السوفياتي خصوصاً في مناطق القوقاز وجورجيا، إضافة الى الصين والبرازيل. وأهم ما في هذا الفن، إنه يتيح حتى للأعمى أن يتحسس جماله ويقدّر قيمته.
ما تقوله المنحوتات
في منحوتته "استقبال الملك سليمان لملكة سبأ" يبرز الفنان صقر رؤيته الخاصة لكل من الملك والملكة. فالاستقبال لم يتم بالرماح، بل بسنابل القمح، باعتبار أن الملك رجل حكيم وليس رجل بطش وقوة. أما ثياب الملكة فعادية جداً وقليلة الزركشة لأن هذه الأخيرة جاءت لتنهل الحكمة والمعرفة. وفي منحوتته "سلامنا حق لنا" أراد الفنان صقر أن يجسّد الفينيقية الأولى كسفيرة سلام الى العالم.
أيقونة الحرديني
يوم تطويب الأب نعمة الله كساب الحرديني في العام 1988، ولحظة إزاحة الستار عن صورة الطوباوي، اهتزت باحة الفاتيكان بالتصفيق وعَلَت الصيحات والزغاريد وتطايرت الأعلام اللبنانية في كل إتجاه. صورة الطوباوي هي واحدة من أعمال الفنان صقر الذي أنجز أيقونة "الصخرة" التي حملتها عائلة الطوباوي الى الفاتيكان، ووضعت في متحف القديسين لتشهد لحضور لبنان في عالمي القداسة والفن.
أعمال صقر في لبنان وخارجه
أيقونة الطوباوي نعمة الله كساب الحرديني التي نحتها بالنحاس الفنان ميشال صقر وصمم إطارها من خشب الأرز قزحيا شلالا، كانت سبقتها الى حاضرة الفاتيكان لوحة "الحرب ضد مشيئتي" التي نفذها واختيرت لتكون هدية لبنان الى قداسة البابا يوم زاره في العام 1997، فحملها معه وركزت في المتحف الدولي في الفاتيكان. ومن أعماله المنتشرة في أصقاع العالم: لوحة "يوم الوفاء" التي حملها ممثل هيئة الأمم المتحدة الى مقرها في نيويورك في العام 1991، وهي لوحة وطنية، و"قيامة الشهيد" الموجودة في المتحف الشعبي في رومانيا. أما لوحـة "قانـا عـرس الشـهادة" التي قدمـها للمجـلس النـيابي فقد أهـداها المجلس بدوره الى "متحف قانا" في الجنوب. وللفنان أعمال أخرى في مقر الـبطريركية المارونـية في بكركي وفي مقـر الرئاسـة العامـة للرهـبنة اللبـنانية غزير.
تصوير: المجند قاسم الطفيلي