- En
- Fr
- عربي
شعراء وقصائد
الشعر العامي في لبنان، على اختلاف طرائقه، يقوم على إيقاع سماعي، لا على تفاعيل مقيّدة. فهو في الوزن ومخارج الحروف ومواضع الحركات وتراكيب الألفاظ والنطق بها وكتابتها، يخضع للنغم الذي يحاكي أحيانًا أوزان الشعر.
وُلدت النقلة الكبرى في مسيرة الشعر العامي في لبنان مع الشاعر ميشال طراد (1912-1998): "شعر لبنان بعد 1930 قفزي، قليل ما انهزّت بمثلها نهضا"، على ما هتف سعيد عقل في مقدمة "جلنار" الديوان الأول لطراد.
عاش ميشال طراد طفولته بين زحلة وبعلبك قبل أن ينتقل إلى بسكنتا حيث كان "يهرب من المدرسة ويُصلي للحساسين، ويرافق المكاريّة من زحلة إلى بسكنتا ومن بسكنتا إلى زحلة، فيستمع إلى حكاياتهم وأغاني الزلف والعتابا والميجانا". وفي بسكنتا ولدت قصيدته الأولى تحت شجرة جوز.
تنقّل بين مدارس الفرير والحكمة والشرقية، وتتلمذ على يد الشاعر عبدالله غانم. التحق سنة 1931 بالجامعة الوطنية في عاليه، ثم الكلية الأرثوذوكسية في حمص – سوريا، وبعدها في " مدرسة الحياة" كما قال في حديث لمجلة "شعر" سنة 1967.
الشاعر الملوّن
يذكر الأديب مارون عبود أنّ ميشال طراد الذي كان من تلامذته، أجاد الرثاء خلال تأبين أقامه التلامذة لجبران خليل جبران. وأنّه، في السنة نفسها: قرأ لرفاقه قصيدة "ليلة العرزال"، فلم يصدقوا أنّها من نظمه، "أما أنا فلم أستغرب، ودفعته إلى الأمام، فألقى غيرها...".
عندما ترك المدرسة، أرسل قصيدة من شعره إلى مجلة "العاصفة" لصاحبها كرم ملحم كرم، الذي نشرها تحت عنوان "ابن عم الشعر"، فأعجبت الأدباء والشعراء ومن بينهم الياس أبو شبكة. وقد كتب عنه في مجلة "المعرض" (أيار – حزيران 1936)، ووصفه بـ "الشاعر الملوّن الذي ينشد بلغة إقليم لبناني (زحلة)، ويحس بقلب شاعر كونيّ، ويخاطبك أو يخاطب أحلامه بلغة القرية الوادعة، وسكونها الصافي، وبطابع السذاجة اللبنانية الحلوة..."
وكتب سامي الشقيفي في مجلة "الرسالة" المصرية (العدد 144/1936) "ثمة شعر لبناني محض يمثل فرعًا لنفسه هو الشعر العامّي. وقد ارتقى جدًا، وزعيمه الأول رشيد نخله، ومحدّثه على غرار الشعر الحديث، هو ميشال طراد، فهو أيضًا ينهج نهج الشعراء الرمزيين".
كتب العديد من المقالات النقدية الساخرة في زاوية كان يحررها في جريدة "البلاد" التي كانت تصدر في زحلة. وعمل مدرّسًا لمدة قصيرة جدًّا، ثم موظفًا في تعاونية تابعة لثكنة رياق العسكرية قبل تعيينه مدرّسًا في مدرسة "الثلاثة أقمار"، إلى أن عيّنه الأمير موريس شهاب موظفًا في قلعة بعلبك الأثرية مع بدايات نشوء مديرية الآثار في مطلع الأربعينيات. هناك أمضى 31 سنة من عمره مديرًا وحارسًا للقلعة، إذ استحقت قامته الشعرية لقب العمود السابع فيها على ما أطلقه عليه الشاعر فؤاد سليمان. في تلك الفترة واظب على نشر قصائده في مجلة "القيثارة" السورية، التي كانت تصدر في اللاذقية، إلى جانب النشر في بعض الصحف اللبنانية.
تناقل الناس قصائده قبل أن تُنشر
كانت قصائده معروفة للكثيرين، قبل أن ينشرها، "كل واحد يقطف منن عنقود، يسرق خصلة يحطها بسلّته. وكانوا يردّدوها ويتناقلوها من ضيعة لضيعة، ويفرقوها مثل ما بفرّقوا الجوز واللوز والزبيب. وكانوا يصيّفوا ويشتّوا على حساب هالقصايد اللّي كانت تنزل عليهم من تحت التلج"، وفق ما قال فؤاد سليمان.
أحدث ميشال طراد مفاجأة في الأربعينيات، بالنسبة إلى الحضور الرصين في "وست هول" الجامعة الأميركية في بيروت حين ألقى قصائد بالمحكية، ومن بينها "ع طريق العين محلا التكتكي".
اتُهِم بالخروج عن التقليد اللغوي العربي وأساليبه الثابتة مفردات وصياغات وأوزانًا، ما جعله يتردّد في جمع شعره. غير أنّ إلحاح أصدقائه والمعجبين دفعه إلى نشر ديوان "جلنار" سنة 1951. وهو يقول في ذلك: "باقة بنات وشباب اسمهم الرابطة الثقافية هنّي يلّي حمّسوني يومتها لحتى طبعت جلنار، طبعته بمطبعة حريصا، وكنت أطلع بالشتي صلّحه أنا وعلي بزّي وجورج جرداق ووليد التويني".
أحدث الديوان هزّة في الوسط الشعري اللبناني، كان ثمّة براعة في ضفر القصائد تراعي المنطوق الزجلي، وتتعداه باتجاه شكلانية جديدة، تختلف بمضمونها وطبيعة تصاويرها، غير أنّها تحافظ على نمط القوافي المتزاوجة. قصائد ذات أسلوب أكثر إيحائية، محمّلة بجماليات ذات خصوصية واضحة وفرادة مميّزة، وتدفقات عاطفية وانفعالية، أدهشت الشاعر سعيد عقل، فكتب مقدمة للديوان باللغة العامية واصفًا طراد بالنجمة الجديدة. واستغرق سعيد عقل في بحث فلسفي في جمالية الشعر، فقال إنّ اللغة العامية التي استطاعت أن تستوعب هذا المستوى الشعري، تستطيع أيضًا أن تستوعب التعبير الفلسفي، مؤكّدًا: "أنا على ثقة أنه سيخلد". أما المفكر ميشال شيحا فقد وصفه في مقدمة الديوان نفسه بـ"شاعر القلب، تعبق قصائده بأريج العظمة، وبموسيقى الحياة التي تجعل من العامية التي حمّلها أبعاد قلبه، لغة الآلهة. لذلك صاغها جوهرة نقيّة، صافية، تحاكي شموخ الجبال وتواضع الأزهار".
وإثر صدور الديوان كتب مارون عبود: "هو جلنار حقًا، نور يرسله كلامًا يخلب الألباب، ويبهر العيون، شعر فيه بهرج ريش الطواويس، وكرّات الكناري، وزقزقة الحساسين..."
وكتب الشاعر فؤاد سليمان: "ميشال طراد، شاعر رائد، مؤسس، وضع نقطة على سطر الماضي، وكتب أول حرف من سطر المستقبل. رفع مستوى الكلام الصافي المحكي، إلى مستوى الشعر الرمزي".
لم يتوقف تأثير ميشال طراد عند سعيد عقل، ومارون عبود، وميشال شيحا وعمر أبوريشة وفؤاد سليمان، بل وصل بقوة إلى شعراء آخرين، بينهم خليل حاوي ويوسف الخال. وفيما توقّف الأول عن المحاولة، إلا أنّ يوسف الخال ظل مصرًّا على "أن الإبداع في لغة الحياة، وليس في اللغة المكتوبة، هو الذي سيطوّر الشعر العربي". ولفرط إعجاب الخال بشعر طراد، تبنّاه في مجلة "شعر" ونشر له فيها العديد من القصائد بدءًا من العدد الأول شتاء 1957. كذلك رحّب به الشاعر أدونيس في مجلة "مواقف" في سبعينيات القرن العشرين: "قصائده حديثة بالمعنى العام للحداثة، بعدما استطاع عبرها أن يخلق وحدة القصيدة، وأن يزيل عنها الزوائد والحواشي".
الالتحام بالطبيعة
يتألق النتاج الشعري لميشال طراد متجاوزًا البنى الأسلوبية والإيقاعية، متوسلًا مبادئ تختزل جمالية شعره: الإلهام، التماسك، الإيقاع، الشكل، والجودة. ويتلوّن بذلك النسغ الذي يجعل من "جلنار" شرارة إبداعية. يحمل الطبيعة في قصائده كما تحمل غابة صوتها، زنابقها وعصافيرها. البنفسج، الحبق، الكروم، السماء، النهر، الحساسين والندى... عناوين لإقامته في حضن عالم هو فردوسه، إذ اتخذ الالتحام المشتعل بينه وبين الطبيعة شكل الوحدة الكيانية. وحدة أشار إليها سعيد عقل في مقدمته المستفيضة، كأنه يكشف عن وجهين في شعر طراد: وجه عاطفي وآخر فكري" يتداخلان بكثافة نتلمس من خلالها تداعيات الشوق وعطاءات العشق للحبيبة جلنار التي خصّها بعنوان الديوان.
يقول طراد: "جلنار مرا من لحم ودم، كانت روحها تلعب بالسحر، بالألوان، وكان عمرها 22 سنة. حلوة، بتوجّع.. كنت حوّشلها كبوش العليق والتوت الأسود.. كنت جمعلها زهور البرية وفرفطها تحت إجريها..."
حضور جلنار في شعره لا يختزل بعلاقة عاطفية عادية بين رجل وامرأة. إنّها تؤدي دور جورج صاند مع فريديريك شوبان، وإلفيرا مع لامارتين وبياتريس مع دانتي وإلسا مع أراغون. إنّها الملهمة التي فتحت أمامه آفاق العاطفة المتوقّدة وآثرت شعره، وهي من يخشى أن يسرقها منه الزنبق:
"ع كتر ما هـ الزنبق شلوحو عِلو،
وتمايلو، صار يغلّط بْعَدّن.
جلنار أوعي توقفي حدّن،
بلكي ع سِكرو يفتكر إنك إلو".
ما ضل غير الحبق...
قصائد"جلنار" سهلة الاستذكار، لنسيجها الشفاف وموسيقاها الشجنة شكّلت خطوة فنيّة نحو الشكل الغنائي الذي تبلور في صوت وديع الصافي حين غنّى قصيدته " رح حلّفك بالغصن يا عصفور". القصيدة التي لحّنها الأخوان رحباني باتت من أكثر الروائع حضورًا في الوجدان الجماعي للبنانيين، وها هو طراد يستحضر فيها أجمل ما في ذاكرتنا، من الغصن والورق و"الفي والنبعات"، إلى كوخ الوزال والحلوة التي بيدها كتاب... ليطلب إلى العصفور أن "يمرمغ جناحه عالسطح عالحيطان... عالبسط عالقمصان"...ويعود "بنقدتين تراب". صور تمطرنا بالدهشة والحنين، وتتوالى رشيقة كفراشة، مؤثرة كدمعة أم.
غنائية طراد تكوكبت سماوات في صوت فيروز حين غنت قصيدته "تخمين راحت حلوة الحلوين"، هنا أيضًا تحضر عوالم الشاعر بانسيابية فذّة، "ما ضل غير الحبق... البستان والممرق"، و"كم بنفسجة خلف الصخور"... صوت فيروز صاغ دهشة الفتنة وأعاد ابتكار المعاني في "يا صبح روّج طوّلت ليلك"، وضاعف توهّج شعر طراد في " بكوخنا يا ابني ... ففي الكوخ الفقير حيث لم يترك الثلج "ولا عودة حطب"، تتولى تجلّيات الأمومة نشر الدفء": "شو الدني يا ابني وشو طعم الدني ان ما هبّجت وجهي بإيديك الحرير".
في هذا الإطار يقول الصحافي فارس يواكيم "أعجب الجمهور بالكلمات الشعرية التي يؤنسن فيها الشاعر الأشياء بطريقة أشبه بالصوفية، لكنه لم ينتبه إلى أنّها من شعر ميشال طراد، لأنّ معظم أغنيات فيروز من كلمات الأخوين رحباني".
"القفزة" على قول الشاعر سعيد عقل سوف تزداد رسوخًا مع الدواوين اللاحقة، وصفًا ورؤى شعرية، فمن ديوان "دولاب" الذي ينزع إلى حزن شفاف، يبحر طراد نحو أسئلة موجعة في "ليش" الذي يُشكّل "مراية صافية منشوف فيا وجه الضيعة اللبنانية" وفق الشاعر، وإلى "كاس ع شفاف الدني" و "عربيّي مخلعا" حيث الإسراف في التراكم الصوري، وحيث المحسوس وسيلة للإبداع من الخيال باتجاه أرض الواقع المفخّخ بالقلق والتوتر.
الشاعر والحرب
صدمة الحرب كان لها صداها الموجع في وجدان طراد الذي يقول: "الحرب غرّبت عنا كل شي... ما عدت فيّي إجمع عقلي... صاير في بقلب الله نقطة سودا... وصارت باقة الفجل بها الإيام السودا أغلا من ديوان "جلنار" .. صرنا نعتل هم ونفكر بالرغيف قبل ما نفكر بالشعر والموسيقى"... (من حديث لمجلة النهار العربي والدولي). ومن مناداة الرغيف إلى التساؤلات الميتافيزيقية وصولًا إلى هيمنة موضوعات الليل والألوان القاتمة والهذيان العاطفي على مجمل قصائد ديوان "الغراب الأعور"، يصرخ طراد:
"جعنا مات بيّي وغار النبع بالجرد
وبعنا العليّي وحقل القمح والورد
وهالقلب مجروح وين بدنا نروح
إمي وأنا وخيّي"...
وبيبقى طراد...
بقي ميشال طراد حتى آخر أيامه "عايش بذكريات الطفولة"، تحت جناحي والدته الدافئتين، يستقي من جدّته قاموس الألفاظ "اللّي بتضوي وبتشرقط"، يحلم ببيت وامرأة حلوة و"كم ديوان شعر غزل، وكم غنيّة لفيروز وقنينة نبيذ معتقة".
أحب قراءة "حزقيال، وداوود، وشكسبير، وكلوديل ورونار، واعتبر أن الله "خلق الشاعر قمقم عطر ليتطيّب فيه"، وأنّ الشاعر "إله زغير ع الأرض"، ولولا الشعر لكانت الأرض موحشة.
على الرغم من صوت المدفع وكل ما حصل، ظل طراد في عالمه الشعري: "بقيت أعمل أشعار وإقرا أشعار محبّة وسلام، وأطلب من الله يخلّص هالوطن الزغير اللّي بعدو واقف شامخ فوق الريح"...
هو الذي أسس جمالية مبتكرة، سكن ومضة التاريخ، تاركًا إرثًا شعريًا بالمحكيّة يليق بما قاله يومًا:
"بالأخير بيبقى شوية سعيد (عقل) وشوية نزار (قباني) وبيبقى ميشال طراد كله".
أحدث ديوان "جلنار" هزّة في الوسط الشعري اللبناني، كان ثمّة براعة في ضفر القصائد تراعي المنطوق الزجلي، وتتعداه باتجاه شكلانية جديدة، تختلف بمضمونها وطبيعة تصاويرها، غير أنّها تحافظ على نمط القوافي المتزاوجة. قصائد ذات أسلوب أكثر إيحائية، محمّلة بجماليات ذات خصوصية واضحة وفرادة مميّزة، وتدفقات عاطفية وانفعالية، أدهشت الشاعر سعيد عقل، فكتب مقدمة للديوان باللغة العامية واصفًا طراد بالنجمة الجديدة.
يتألق النتاج الشعري لميشال طراد متجاوزًا البنى الأسلوبية والإيقاعية، متوسلًا مبادئ تختزل جمالية شعره: الإلهام، التماسك، الإيقاع، الشكل، والجودة. ويتلوّن بذلك النسغ الذي يجعل من "جلنار" شرارة إبداعية. يحمل الطبيعة في قصائده كما تحمل غابة صوتها، زنابقها وعصافيرها. البنفسج، الحبق، الكروم، السماء، النهر، الحساسين والندى... عناوين لإقامته في حضن عالم هو فردوسه، إذ اتخذ الالتحام المشتعل بينه وبين الطبيعة شكل الوحدة الكيانية.
"ميشال طراد، شاعر رائد، مؤسس، وضع نقطة على سطر الماضي، وكتب أول حرف من سطر المستقبل. رفع مستوى الكلام الصافي المحكي، إلى مستوى الشعر الرمزي".
دواوين:
جلنار 1951، أعيد طبعه سنة 1978 و 1992. دولاب 1957، أعيد طبعه سنة 1993. ليش 1964، أعيد طبعه سنة 2001. كاس ع شفاف الدني 1972، أعيد طبعه سنة 2001. عربيّة مخلّعة 1986، الغراب الأعور 1986، عيد الشحادين 1992، وردة بإيد الريح 1993، والمركب التائه 1997.
قصائد مغناة:
- غنّت السيّدة فيروز العديد من قصائد ميشال طراد، ومنها: يا حنيّنة، قالولي كِنّ، جلنار، تخمين، بكوخنا يا ابني، إنت وأنا عم يسألونا كيف.
وغنّى وديع الصافي من أعماله، رح حلّفك بالغصن يا عصفور، وعالبال يا عصفورة النهرين.
ترجمات ودراسات:
ترجمت دواوينه إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. وكتبت عن أعماله الشعرية العديد من المقالات والأبحاث والدراسات الأكاديمية، منها أطروحة دكتوراه في جامعة كامبريدج – انكلترا.