وداع

نجاح سلام: سيرة إبداعية بدأت بنجاح وانتهت بسلام
إعداد: أكرم الريّس
كاتب وباحث

لنجاح سلام التي توفيت أواخر أيلول الماضي عن عمر يناهز الـ92 عامًا (1931-2023) مكانة عالية في وجدان اللبنانيين والعرب. أجيال ردّدت معها وما زالت تردّد "حوّل يا غنّام"، و"يا ريم وادي ثقيف"، و"ميّل يا غزيّل"، وسواها من الأغنيات التي تسكن في البال، بالإضافة إلى القصائد التي كانت تعبيرًا صادقًا عن التزامها القومية العربية. تلك القامة المميزة بأدائها الألوان الغنائية المختلفة باقتدار نادر، التزمت في أعمالها وحياتها معايير دقيقة جعلت مسيرتها مجلّلة بالوقار والاحترام.


نشأت نجاح سلام في بيت محافظ تميز بالعلم والتقوى والانفتاح على الثقافات المتعددة. جدها العلّامة الجليل الشيخ عبد الرحمن سلام (1871-1931) أمين دار الفتوى وأحد مؤسسي وأساتذة الكلية الشرعية والكاتب الغزير صاحب المؤلفات والدراسات الأدبية والدينية. والدها الفنان والأديب محي الدين سلام (1910-1990)، الملحن وعازف العود المتمرس الذي تتلمذ على يد صليبا القطريب، وهو مؤسس أول دائرة موسيقية للإذاعة بعد أن سلمتها سلطات الانتداب الفرنسية إلى الحكومة اللبنانية تحت إدارة ألبير أديب، مؤسس مجلة الأديب. وهو أيضًا أحد أعضاء الفريق الفني الذي ساهم في إطلاق الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك الدولية خلال العامين 1957 و1959.

 

المرتكزات والأسس
في هذه البيئة العائلية تعلّمت نجاح سلام فن تجويد القرآن الكريم. مدرستها الأولى هي من "مرتكزات أسلوبها الأدائي الذي طبع مسيرتها الغنائية بطابعه الجليل الوقور القائم على معايير فنية دقيقة في الأداء في جميع الألوان الغنائية التي أدّتها باقتدار"، وفق ما تقول الكاتبة سمر محمد سلمان. في هذه الدار الكريمة، مقصد أهل الأدب والفن، تعرّفت أيضًا عن كثب إلى أعلام الفن في لبنان وسوريا ومصر وحفظت أعمالهم. إضافة إلى ذلك، منحتها المدارس التي التحقت بها، وهي مدرسة البنات المقاصدية ومن ثم المدرسة الداخلية لراهبات زهرة الإحسان في بيروت، المساحة الحرة لتنمو فيها موهبتها بعيدًا عن ممانعة والدها، عبر الاشتراك في الحفلات السنوية ولاحقًا البرامج الإذاعية للصغار. وبعد إصرارها، سمح لها والدها بالغناء في الحفلات العائلية وفي الأوساط المدرسية، حيث كانت إطلالتها الأولى العامة في حفل "الجونيور كولدج" وفي الجامعة الأميركية في بيروت في منتصف الأربعينيات.

 

الشخصية المقاومة
في هذه الحاضرة البيروتية تشكَّل وعي نجاح سلام الفني والاجتماعي، وذلك "بكثير من الجهد الذي حوّلها باكرًا إلى شخصية مقاومة استطاعت أن تكسر قيود أسرتها حين حاولت الوقوف في طريق عشقها للفن"، والكلام هنا أيضًا لسمر محمد سلمان، ليصبح والدها أستاذها والمشرف الفني على أعمالها خصوصًا قبل زواجها من الفنان محمد سلمان (1922-1997). واستطاعت لاحقًا أن ترسّخ هذا المنحى المقاوم الصلب لمؤازرة قضايا الأمة العربية، الذي تحقق في غنائها ومسلكها الفني الملتزم القومية العربية بعيدًا عن التغيّرات الظرفية والانكسارات التي شهدتها بلادنا. في كل ذلك، هي "أولًا وأخيرًا، بيروتية إلى الصميم: لا قُبَل في الأفلام ولا بَوح بالحب، على ما روت هي ذاكرة خجلها وتربيتها المحافظة. لكن المحافظة هذه كانت أيضًا خيارًا فنيًا وسياسيًا لا أثر لندم في حديث نجاح سلام عنه" كما يقول الكاتب والناقد الموسيقي فادي العبدالله.

 

بدايات متعددة
رافقت نجاح سلام والدها في أول زيارة لها لمصر وكان ذلك في العام 1947. وتفيد مجلة الإذاعة أنّها "نزلت إلى مصر لتتعرف إلى الجو الفني، وقد عادت وهي تحلم بأن تكون كوكب سينما، لأنّها مع صوتها تملك الشكل السينمائي". في العام نفسه التقت محمد عبد الوهاب في مصيفه في مدينة عاليه وقد أثنى على صوتها وأبلغ والدها أنّ ما في صوت ابنته أقوى وأثمن من أي أسباب قد تمنعها من الغناء. كذلك كان موقف عمر الزعنّي الذي أشار له بأنّ ابنة الرئيس الأميركي ترومان أيضًا تغني، وقدّم لها أولى أغنياتها الخاصة "إجاني أربعة خطاب ولساهم واقفين عالباب". توالت حفلاتها في لبنان وسوريا وفلسطين، وقد دُعيت في العام 1949 إلى الغناء في إذاعة رام الله لمدة أكثر من شهرين ولإحياء حفلات في بيت لحم ونابلس وعمان، كان ريع بعضها لفلسطين التي أنشدت لها قصيدة "يا زائرًا مهد عيسى" من نظم بولس سلامة ولحن والدها محي الدين سلام. وما لبثت أن زارت بغداد لتقدّم أعمالها في ملهى روكسي وعبر أثير الإذاعة العراقية، وزارت مرارًا وتكرارًا دمشق وحلب حيث تابعت دراستها الموسيقية مع عمر البطش والشيخ علي درويش بالإضافة إلى الغناء في الحفلات والمهرجانات والإذاعة السورية (1952).

 

حوّل يا غنام وأعمال أخرى
في تلك المرحلة سجّلت نجاح سلام أولى أعمالها على أسطوانات "بيضافون" بعدما قدمت العديد من الأغنيات والأناشيد الدينية والوطنية عبر حفلاتها والإذاعات، وكانت حوارية "حوّل يا غنام" (1949) مع حسن عبد النبي من ألحان إيليا المتني، وتلتها "يا جارحة قلبي" من نظم وتلحين سامي الصيداوي، وكلاهما بلهجتهما البدوية، وهي غنت للصيداوي أيضًا "ميّل يا غزيّل" واحدة من أكثر أغنياتها شعبية. كما كانت لها تسجيلات من ألحان نقولا المني (على مسرحك يا دنيا) وألحان أمير البزق محمد الكريم (رقة حسنك وسمارك)، وحواريات أخرى مع إيليا بيضا (عا مورد الغزلان) ووديع الصافي (طل القمر، متنا وعشنا)، وأعمال ستتكرر مع فيلمون وهبي، ومنها "عانار قلبي" من نظم أسعد السبعلي التي كانت أولى أعمال فيلمون بالزجل اللبناني، "وبرهوم حاكيني" التي راجت جدًا.

 

بين مطربات الصدارة
تمرّ سنوات قليلة لتحتل فيها نجاح سلام موقع "الصدارة بين مطربات الجيل الجديد في لبنان وسوريا... وليُجمع كبار الملحنين على القول أنّ مجرد إنشادها لأغنية ما كافٍ لتصبح الأغنية مشهورة ومحبوبة" (مجلة الفن 8/9/1952). وتضيف مجلة الإذاعة بأنّه قد أصبح لها في "كل بيت أسطوانة، وفي كل بلد غنت فيه أثر مستحب" (1951). ونضجت الظروف كي تحقق حلمها القديم في السينما ولتشهد الساحة الفنية في القاهرة والدول العربية مولد نجمة سينمائية جديدة. كان أول أفلامها "على كيفك" من إخراج حلمي رفلة وتأليف أبو السعود الأبياري وبطولة اسماعيل ياسين وليلى فوزي وتحية كاريوكا.
شكّلت مصر محطة مفصلية في مسيرة نجاح سلام. في القاهرة شاركت في حفلات أضواء المدينة والتقت مجددًا أساطين فنون الغناء والسينما، وبالأخص رياض السنباطي الذي درّب صوتها على المقامات الشرقية واعتبره كما الملحن أحمد أصدقي، أحد مراجعه للأعمال الصعبة التي يتعذر على الكثيرين غناؤها، "فصوتها صوت عظيم يستطيع غناء جميع الألوان بشخصية مميّزة وأداء مُتقن" كما صرّح في غير مناسبة، في المقابل جاهرت نجاح سلام بأنّها سنباطية الهوى والهوية.
على الصعيد العائلي، شكّلت أرض الكنانة سبيلًا إلى الارتباط العائلي والفني مع شريك حياتها الفنان الشامل محمد سلمان. كان "السعد وعد" أول فيلم مشترك بين نجاح وسلمان في العام 1955، عندما رشّح محي الدين سلام محمد سلمان ليلعب دور البطولة بدلًا من شكري سرحان الذي اختلف مع المخرج. وقد أعقبته عدة أفلام كان فيها لسلمان دور في الإخراج أو الكتابة والإعداد مثل "أنغام حبيبي" (1959) بالاشتراك مع وديع الصافي و"مرحبًا أيها الحب" (1961)،  كما ألّف ولحّن لها عدة أغانٍ. تسرد نجاح قصتها مع محمد سلمان: "أحلى الأغاني كتبها لي محمد سلمان ولم نختلف نحن الاثنين على شيء جوهري. نحن اختلفنا بأسلوب الحياة فقط. كنت أنا بيتوتية. سلمان كان على عكسي: هو فنان يعشق حريته، وهو مثل الطير إن وضعته في قفص يختنق. نحن تزوجنا لمدة ثلاثة عشر عامًا، وخمسًا وثلاثين سنة كنا أصحابًا أكثر مما كنا في فترة زواجنا. كنا نسافر معًا ويأتي لزيارتنا، وعندما مرض كان هنا وانتقل إلى رحمته تعالى هنا بيننا. وعندما ذهب إلى المستشفى أنا كنت معه"... (القدس العربي، 10/11/2010).

 

صوت الوطنية
يرى الكاتب عبد الرحمن سلام وهو الأخ الأصغر لنجاح سلام، أنّ قدرها هو الارتباط بمصر مسرح الانتماء القومي ومنطلق الأغاني الوطنية التي ارتبطت بأهم أحداث مصر والوطن العربي وشكلت سجلًا لها خلال نصف قرن. عن تلك المرحلة يقول المدير السابق لإذاعة صوت العرب أحمد سعيد: "يكفي أن أقول إنّ صوت نجاح سلام كان أول صوت انطلق في إذاعة صوت العرب بعد أربع ساعات من بدء العدوان الثلاثي على مصر، وذلك عندما أذيعت أغنيتها الشهيرة "وطننا في خطر" (ألحان عفيف رضوان، 1956). لقد شبّه جمال عبد الناصر هذه الأغنية بالمدفعية الثقيلة، وهذا هو الفن الذي نحتاجه في هذه اللحظات الخطيرة من تاريخ أمّتنا". من أغنياتها لمصر أيضًا "يا أغلى اسم بالوجود يا مصر" (ألحان الموجي) التي ما زالت تتردد في جميع المناسبات الوطنية المصرية ليومنا هذا. كما أنشدت لليمن وفلسطين وعُمان والعراق وسوريا والجزائر... وخصّت بلدها لبنان بعدة أعمال: قصيدة "لبنان" للأخطل الصغير (ألحان محي الدين سلام)، و"الله يا لبنان ما أجملك" (ألحان خالد ابو النصر)، وقصيدة قانا (ألحان أمجد العطافي) بعد المجزرة التي اقترفها العدوان الإسرائيلي في العام 1996، وقصيدة "لبنان درّة الشرق" (أيضًا ألحان العطافي)، بالإضافة إلى نشيد "يا جيش لبنان الكبير" (ألحان رياض البندك) الذي قدمته للجيش اللبناني.

 

إرث فني متشعّب
قدّمت نجاح سلام خلال مسيرتها الفنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، الأنواع والقوالب الموسيقية المختلفة بإجادة وحيوية. فغنّت بتمكّن القصيدة والموشح والغناء الديني والوطني كما الأغاني العاطفية التعبيرية والشعبية. هذه الإجادة في التنوع قوامها أولًا الثقافة العميقة التي اكتسبتها منذ طفولتها واختمرت وتوسّعت مع مراسها وتجربتها، وثانيًا شخصيتها المقاومة، وثالثًا الصوت القادر و"الجامع بين الدلال والغنج والسطوة والقوة والأنوثة والطرب والخفة والشعبية والحضور الآسر والضاحك والمتانة والذوق والفصاحة واللفظ الحسن كما الوجه"،  وفق ما يقول فادي العبدالله. وتميّزت بين أبناء جيلها في تقديم الموّال "كفنٍّ قائم بحد ذاته" ووسيلة للسلطنة والتطريب والارتجال عبر حشد كل الطاقات ومعارف أسرار المقامات في الغناء، ما دفع وديع الصافي لتسميتها بالوديعة الصافية نظرًا لبراعتها. شاركت في خمسة عشر فيلمًا غنائيًا بين العامين 1952 و1969، إلى جانب ظهورها في عدة سهرات وحلقات تلفزيونية، رغم تأكيدها أنّها مطربة بالدرجة الأولى وأنّ التمثيل يتبع الغناء. كما كانت بين الأوائل، إن لم تكن الأولى، من مطربات العرب اللواتي قدّمن فنون الغناء اليمني والخليجي مع طلائع الملحنين بعد تعاونها مع طارق عبد الحكيم (يا ريم وادي ثقيف) منذ الخمسينات من القرن الماضي وأبو بكر سالم (من نظرتك يا زين). وساهمت بنشر الأغنية اللبنانية المعاصرة في مصر والعالم العربي من خلال أفلامها وحفلاتها، إلى جانب اهتمامها الملحوظ بالفلكلور اللبناني. نجاح سلام من المؤسسين في لبنان، ومن الروّاد في العالم العربي عبر تنوّع أعمالها المُجيد والتزامها الوطني الثابت طوال مسيرتها. ابتعدت في السنوات الأخيرة عن الأضواء بعد تحجّبها بأكثر من عقد، ما عدا إطلالات تكريمية في بيروت ودمشق والقاهرة، وكانت مُحاطة دومًا بعائلتها ومكرمة برفعة رصيدها الفني. هي سيرة بدأت بنجاح وانتهت بسلام.