دراسات أدبية

نجيب مخول
إعداد: وفيق غريزي

علم من أعلام لبنان، ولغوي مميَّز، كرّس حياته لإغناء اللغة العربية وتطويرها، وجهد بأن يضيّق المسافة بين اللغة والكتابة ولغة التخاطب، وترك للمكتبة العربية العديد من الدراسات والمباحث الفلسفية العميقة. إنه اللغوي والباحث نجيب مخول.

 

ما هي نظريته في تفكيك وتحريك الحرف العربي؟

 

حياته

ولد الباحث نجيب مخول في بلدة الهلالية القريبة من مدينة صيدا في جنوب لبنان عام 1912؛ درس في المدرسة الأسقفية المرحلة الإبتدائية. وتابع دروسه الثانوية والدروس العالية في الفلسفة واللغات القديمة في الإكليركية المخلصية، والعلوم السياسية والإدارية في كلية الحقوق في بيروت. حاز على البكالوريا اللبنانية بقسمي الفلسفة والآداب، وإجازة مدرسية في الفلسفة واللغات القديمة، ودبلوم العلوم السياسية والإدارية.
شغل إدارة مدارس رسمية عدَّة وشغل مركز مفتش في وزارة التربية الوطنية، وأدار المدرسة البطريركية في بيروت كما ترأس قسم المجلة والمنشورات في وزارة التربية.
عام 1940 تزوج من أولغا سركيس، ولهما ستة أولاد.


من أبرز مؤلفاته المنشورة:
"تاريخ لبنان" ثمانية أجزاء، "المدرسة الحديثة في فن التربية والتعليم"، "تفكيك وتحريك ­ محاولة في حل مشكلة اللغة العربية"، "الغزالي وإبن رشد"، "إبن طفيل"، و"مباحث في الفلسفة العربية".

 

نظريات في اللغة

لا ينكر أحد الحرص الشديد الذي أحاط به العرب لغتهم، ولا يستهين عادل بدأبهم الشديد على حمايتها من كل تغيير قد يلحق بها الأذى على مرّ العصور والأيام. هذه العناية الفائقة لم تمنع من قيام بعض المخلصين من أبنائها، مبالغة في التعلّق بها، وضمان حياتها الناشطة، بمحاولات لدعم تطورها، والإسهام بدفعها إلى الأمام. ومن هذه المحاولات، محاولة قام بها نجيب مخول، الذي كرّس حياته في خدمة اللغة العربية عن طريق حلول عدّة: أولها التفكيك الذي هو من الركائز المهمة لتطوير اللغة.
وقد إنطلق هذا الباحث واللغوي في حلوله من مبدأ يدل على مدى إخلاصه للغة الأم، ويؤكد تفهمه لأهمية هذه الإشكالية التي يخوض غمارها، وهذا المبدأ هو أن حل العقد لا يكون بقطعها أو بإهمالها. ويهدف من وراء ذلك إلى أن تفكيك أحرف الكلمات وتحريكها هو محاولة لحل مشكلة الحرف العربي وتسهيل الطباعة، ويرى أن في أبجديتنا ستة أحرف تدعى منفصلة، لأنها لا ترتبط بما بعدها في الكتابة وهي: (أ ­ د ­ ذ ­ ر ­ ز ­ و)؛ أما الحروف الباقية، فمتصلة يرتبط بعضها ببعض. والكلمات المؤلفة من أحرف منفصلة فحسب، أو من أحرف منفصلة يليها حرف واحد متصل، تكتب بحروف مستقلة كالحرف اللاتيني (مثلاً: داوود زرع أرض رؤوف، وزار داره). ويعتقد مخول بأن بالتفكيك، يطلب تعميم هذه الطريقة، وجعل لكل حروفنا منفصلة في الطباعة وهكذا يصبح لكل حرف عندنا شكل واحد لا أشكال عدّة، كما هو الآن فيسهل عمل المطابع، أما تحريك كل الحروف المتحركة، فقد طلبه لأن الحركات أحرف مصوتة لا يمكن الإستغناء عنها في القراءة. الناس تقرأ لتفهم، أما نحن فيجب أن نفهم لنقرأ. ويقول: التحريك يضبط لغتنا، فلا تبقى سائبة، ولا نمسخها كل ساعة. ويقدم لنا عبر نظريته حلولاً تتبع الحل الأول الذي هو التفكيك والتحريك.
ومن أهم الحلول التي يطرحها، ما يتعلّق بالتقريب بين لغة الكتابة، ولغة التخاطب. فالفرق بين الفصحى والعامية لا يذكر إذا عرفنا أن نقوم عاميتنا ونهذبها. والفرق الحقيقي الذي يظهره هو بين النحوي وغير النحوي. لذلك يرى أن نستغل قاعدة الوقف على السكون، كما نفعل في حديث كحديثنا هذا. ويعني أن نلغي حركات الإعراب لأن تركيب الجملة العربية، ولا سيما الحديثة، يغني عن الإعراب من غير أن يمس جوهر اللغة بأذى. من الخليج إلى المحيط، كما يقال، ترك العرب حركات الإعراب في لغتهم اليومية: "هذا واقع لا بد من الخضوع له، عصرنا اليوم ليس عصر "رجل، رجلاً، رجل، رجلٌ، رجلَ، رجلٍ" بل عصر "رجلْ" فحسب في كل الحالات كما يقول نجيب مخول.
نقضي زهرة حياتنا في تعلُّم قواعد اللغة بالحركات، ولا نعرب لا في كلامنا العادي، ولا في تخاطبنا الراقي، ولا في كتابتنا، ولا في طباعتنا، ولا في قراءتنا نفسها، إلا في ما ندر. فلِمَ الإعراب بالحركات إذاً في مخاطبتنا الشعب؟.

 

اللغة ومعضلاتها

من المعروف أن اللغة العربية لغة قديمة، لكنها تحمل في نفسها عزم الشباب والتجدد. وحل مشاكل اللغة العربية حسب رأيه، لا يأتي في داخلها، من ذاتها. هكذا تحل مشكلة الحرف بالتفكيك والتحريك، وهما من صميم اللغة العربية. وهكذا تحل مشكلة الفصحى والعامية بتعميم الوقف على السكون. والوقف "قاعدة عربية صرف تطبق في النثر وفي الشعر أحياناً، وتدل على رحابة صدر لغتنا، وهكذا، من غير أن تحتاج اللغة العربية إلى إستجداء الحلول من الخارج". ووفق نظريته، فمن الخطأ الإعتماد على اللغويين في تفهّم اللغة وتطويرها، لأن الأصح الإعتماد على الكتّاب، والشعراء، ورجال الفكر. ليس على اللغويين إلا أن يسجّلوا أصول اللغة والتطور الذي يطرأ عليها. أما إذا تفهم اللغويون تطور الألسنة، فهم يسبقون حملة القلم إلى إقرار كل تجديد لا يمس جوهر اللغة.
ولنجيب مخول موقف إزاء الكتابة بالحرف اللاّتيني، أي كتابة اللغة العربية بهذا الحرف. وتحدّد هذا الموقف بقوله: "لو كنا بلا حرف، لأمكننا أن نتبنى الحرف اللاتيني، ولا حرج. لكن عندنا حرف من أجمل حروف العالم. لو كنا بلا مطبوعات، ومخطوطات سابقة، لأمكننا أن نتبنى الحرف اللاتيني. لكن عندنا ثروة مكتبية، ونقلها إلى الحرف اللاتيني يقتضي كل أموال البلدان العربية. بالإضافة إلى أن هناك كثيراً من حروفنا لا مقابل له في الحرف اللاتيني (أ ­ ث ­ ح ­ خ ­ ذ ­ ش ­ ص ­ ض ­ ط ­ ظ ­ ع ­ غ ­ ق) فباعتمادنا على الحرف اللاتيني نخسر حرفنا، ولا نربح الحرف اللاتيني".
وفي هذا السياق، لو كان من عادتنا أن نكون تابعين لا متبوعين في الحرف، لأمكننا أن نكتب بالحرف اللاتيني، لكننا لسنا كذلك، إذ نحن تدور في فلكنا الحرفي لغات لا تحصى في ايران، وتركستان، وباكستان، والفيلبين، وماليزيا، وأندونيسيا، والسنغال، ونيجيريا، وغينيا، وغيرها.
ويقول مخول: "لو كان حرفنا ناقصاً في حالته الحاضرة، ولا يمكن أن يصلح نفسه بنفسه، لجاز لنا أن نكتب بالحرف اللاتيني، لكن التفكيك والتحريك يجعلان حرفنا أحسن من الحرف اللاتيني". ثمة جدل كبير بين دعاة اللغة الفصحى ودعاة اللغة العامية، وموقف نجيب مخول إزاء هذا الجدل يتميز بالحكمة والدراسة، وحسب رأيه، فإنه مع العامية بتراكيبها البسيطة الواضحة، وقضائها على حركات الإعراب، وإسقاطها الألفاظ القديمة البالية، ولكن يجب أن تقوّم هذه العامية وتهذّب، وعندئذ يصبح لدينا لغة عربية واحدة، لا عامية، ولا فصحى.
ونجد اليوم في اللغة العربية أخطاء شائعة، أصبحت متداولة وكأنها من صلب اللغة، ويشير مخول الى أنه علينا أن نصحّح هذه الأخطاء إذا أردنا أن نحترم نفسنا، ويحترم الناس لغتنا. إلا أن التزمّت والتعنت، هنا، ليس من مصلحة اللغة، فيجب أن نقبل كل ما له وجه صواب، وكل ما جاء على القياس، وكل ما كان مألوفاً، لا يمس جوهر اللغة.
اللغة لدى مخول أداة، ولا يجوز الإهتمام بها إلا كما نهتم بالأداة. فالذي يطلبه كان من وحي الأغراض والمواضيع التي ينصرف إليها في الدرس والتدريس، والتأليف والطبع. ويقول: "غير أن القول يجب ألا يخبئ وراءه إهمالاً للغة. يمكن أن تكون الأمور اللغوية على هامش أعمالنا، هذا لا يمنع من أن يكون لنا إختصاصيون، للمواضيع والأغراض، كما لأداة هذه المواضيع والأغراض، المهم ألا تشغل اللغة جميع الناس، ولكن قسماً ضئيلاً منهم".
إن الجيل الحاضر، بدأ يهمل التعمق في قواعد اللغة، الأمر الذي أدّى إلى ضعف لغوي خطير، وحسب رأي الباحث نجيب مخول فإن ليس لهذا الجيل متسع من الوقت للتعمق في قواعد اللغة. هذا من عمل المدرّسين. أما الباقون فيكفيهم أن يتعلموا كيف يقرأون ويكتبون، ويتكلمون لغة صحيحة مضبوطة. وأنجع دواء لذلك أن يكون لتدريس اللغة معلمون إختصاصيون، وأن نخفف عن الناس عبء القواعد بتعميم الوقف على السكون.
أما عن كيفية أن يتم ترويج نظريته بالتفكيك والتحريك، يقول: "علينا أن نبدأ بكتب صغيرة.. قد تلاقي كل الرواج. يكفي أن يقوم شاعر أو مؤلف روائي ويطلق بعض الكراريس على الطريقة الجديدة حتى تظهر للناس فائدتها".
وأكثر الظن انه لن تكتسح علوم العصر والروح العلمية بلاد العرب، حتى يبادر القيّمون إلى الأخذ بالتفكيك، والتحريك، وتعميم الوقف. هذا من حتمية التطور والتقدم.


آلان مرعب...
الهوارة

من الصخور الصّلبة التي تتحدى أشعة الشمس وانهمار المطر في أعالي جبال لبنان، من أعماق الأودية حيث تتخطى الاصواتَ أصداؤها، ومن الحقول والكروم التي يحرثها الفلاح بنفسه وبمفرده ويتناول ثمارها مع أبنائه وجيرانه وأقاربه والجميع، ومن عيون الماء الصافية التي لا يحلو انسكابها إلاّ في جرار الفخار... انبثقت الحان فولكلورية باركتها الطبيعة وقدمتها للانسان. آلان مرعب التقط لحن الهوارة من بين تلك الالحان ومزجها بالدبكة اللبنانية التي رافقت أجيالنا منذ البداية وأقامت صروحها الثقافية والتراثية هادرة نابضة ضاربة في الأرض عندنا، وشامخة  في الفضاء فوق رؤوسنا.
روّج آلان للهوارة حتى التصق اسمه بها، وكانت فيها متعة موسيقية  للناس من مختلف  الاتجاهات الفكرية. أدخل إليها الزجل والشعر والرقص والأصوات الشادية، فأضحت نغماً شعبياً محبباً، ولكثرة الترديد والإنشاد التقط هذا اللحن الصافي ملحنو "الوجبات السريعة" ومولّدو "تفقيس الماكينات"، واخذوا يغنون الهوارة في المطاعم  والملاهي ويضيفون إليها من "توابل الليل الاستهلاكية" ومن أصوات الاورغ الرقمية الخالية من عذرية الأوتار الرنانة، فإذا بالهوارة المشهورة سلعة سوق تنزوي عندما يواجهها إنتاج جديد سرعان ما يختفي هو الآخر ليحل مكانه إنتاج مختلف، وهكذا دواليك في سوق الاستهلاك الفني والثقافي.  وقد حاولت تلك النغمة ان تبقى صامدة صمود أشجار الحور التي انطلقت منها فلم تستطع،  وراحت تفتش عن أصيل يغنيها لكنها لم تجد إلا بدائل عن ضائعين هنا وهناك، وأصاب آلان الأسى وشكا من الغربة حتى أنه نظم هوارة يصف بها ما حل به وبهوارته وكيف أضر بهما السماد الكيماوي، فشوّه بريقهما.
بغياب آلان مرعب تغيب أصالة نادرة في زمن تركيبي ملعون، نرجو أن يكون نادراً وليس طويلاً. وبغيابه يخسر الفن رجلاً حجبته الاغنية السريعة تماماً كما حجبت الوجبة السريعة لقمة التراث الطيبة.
لعل من حظ هذا الفنان الأصيل انه ابن بلدة جبلية عالية قريبة من النقاء والصفاء، غنية بالطهارة، فبين حبات ترابها سيكون لروحه طعم آخر في الرقاد، وسيكون لصلوات محبيه ودعاءاتهم أجر مختلف لدى رب الأعالي.

م.ت.