بلى فلسفة

نحترق من الزجاج
إعداد: العقيد اسعد مخول

تكاثرت الحرائق عندنا في الجبل, فرأينا أن نلجأ الى المخزون المدرسي الذي علق بالذاكرة, لعلّه يفيد في استحضار الحل. وقد قال العلم المدرسي إن إنعكاس أنوار الشمس على الزجاج هو الذي يتسبب في الحرائق, فإما أن نمنع تلك الأنوار من الوصول الى ترابنا, وإما أن نخفي الزجاج من الديار. والحل الثاني هو الأيسر والأفضل والأعقل, إذ أنه لو تمكّن مفكرونا, وخرّيجو معاهدنا, وتلامذتنا في عواصم العلم, من إطفاء الشمس, لألحق ذلك الضرر والأذى بدول العالم, وهذا ما يناقض العرف العالمي القاضي باحترام سيادة كل دولة على أرضها, أو ما يعرف بضرورة الاحترام المتبادل بين الشعوب.

المهم أنّ مسبّب الحرائق معروف: إنه الزجاج. بدأتُ الحلّ بنفسي فعدتُ الى أواني الفخار التي ورثتها عن والدي: الجرّة والإبريق والمقلاة وخابية الزّيت... وضممت إليها صحناً أحضرتُه من مطعم صغير أتناول فيه “الفول المدمّس” من وقت لآخر, وهي حالة من حالات الإستملاك.
وجمعت الزجاج في منزلي داخل غرفة جانبية بحيث لو حصل حريق في داخلها لما تعدّى جدران الإسمنت المكوّنة لها, إذ لا شجر أخضر يحيط بها والشجرة الخضراء الوحيدة التي كانت تجاورها يبست بفعل الإهمال و”الظمأ”. لقد كنت أروي “عطشها” من وقت لآخر, لكنّ جارتي أقامت المبنى وأقعدته حيث هو, وهدّدت بأنها ستقعده في مكان آخر, إن أنا استمرّيت في إضاعة الثروة المائية على هذا الشكل, فأوقفتُ “الهدر” مخافة أن تسحب تلك السيدة غصناً وتنهال به على ظهري في مئة جلدة قد لا أخرج منها بخير, فيبستِ الشجرة, وكسبتُ سلامتي.
لكنّ أمراً أساسياً بقي يشغلني: لعلّ قطـعة من الزجاج مرميّة أمام منزلي المهجور في القرية تتسبّب في حريق لا أول له ولا آخر بين أشجـارنا الباقيـة هناك, أو لعلّ عزولاً مغرضاً مخرباً “لاعباً في النار” رمى قنينة فارغة هناك بعد أن رطّب نفسـه بما حـوت, وأدى ذلك الى حريـق تقـع تهمـته عليّ, ويكـون ما أكتبه الآن غشـاً وتضليلاً, ويتفـرّق عني المحبّون, وتشير إليّ الأيدي, وتصوّب الى وجهي عدسات المصوّرين: عدو اللّون الأخضر, وحارق الغصون!!

وها أنا أوجه النداء الى جميع سكان الجبل الحرجي عندنا بالاقتداء بي لجهة تجميع ما لديهم من زجاج, صحناً أو قدحاً أو قارورة... وطمـره تحت التـراب, أو خزنه في مستوعبات تمهيداً لترحيله الى بلاد بعيدة. إن أرضنا لم تعد تحتمل الحرائق التي يسببها زجاج اخترعته فينيقيا في زمانها, وتباهت به, وفاخـرت وزايدت و”تطاوست”, ولم يكن في علم بنيها أن هذا الإختراع سيـؤذي ثروتنا الخضراء, وسيرش رمال البيد في عيوننا, فنخسر كل ظل, ونضيع عن كل واحة, ولا جَملاً يحملنا, أو شاعراً يُنشدنا, أو مغنّياً يُطربنا.
لقد كانت الحرائق من الأحداث الخطيرة في الماضي, وكانت بقعة الأرض التي يصيبها ذاك الخطر تدعى “الحريقة” للتحذير والتذكير وأخذ العبرة, إذ أن “طلوع” الشجرة ليس كبناء الجدار, فالجدار ينشأ في يوم, أما هي فلا تشمخ إلا في دهر, وما بين اليوم والدّهر... دهر بأكمله.
إنّني أحذّر من نار خطيرة لا تنطفئ, عُرفت في الماضي باسم النار اليونانية الحارقة, خصوصاً وأنّ حكماء اليونان غائبون, من سقراط الى أفلاطون الى أرسطو... بلى, إنّ في غياب الحكمة بلاء الحرائق, حرائق الشتول وحرائق القلوب!