أسماء لامعة

نزار ضاهر ريشة ترصد تحوّلات اللون وتجلّيات الضوء
إعداد: تريز منصور

جعبته المشهدية تختزن شمس السهل وترابه

 

يعالج اللون ويرسم بريشة مبدع، مواضيعه الطبيعة والمرأة والإنسان. إبن بعلبك الذي منحته لحظة غروب الشمس بألوانها الزهرية، متعة الغوص في متاهات فراديس التحوّلات الكيميائية للون، كشف عن النوتات الموسيقية الكامنة في ترنّح هذه التحوّلات وتصدّعها، في حرارتها وبرودتها، رقّتها وكثافتها، صفائها وارباكاتها المتوترة. إنه الرسام القدير الدكتور نزار ضاهر، الذي أبدع في تناول المنظر الطبيعي والبورتريه واللوحات الجدارية ذات المغزى العميق، متميزاً بنقاء الرؤية ووضوح العلاقات اللونية وحب الوطن.
أعماله المميّزة موجودة في صلب المقتنيات الخاصة والرسمية في لبنان، وكذلك في مجموعة «متحف الأرميتاج» الروسي الرسمي و«متحف أكاديمية الفنون» في سانت بطرسبورغ - روسيا، و«مكتبة الكرملين» في موسكو، و«متحف الفن الحديث» في الكويت.

 

ولادة الألوان
ولد الرسام نزار ضاهر في 6 تشرين الثاني 1951 في قرية كفردان في البقاع الأوسط، في كنف عائلة مؤلفة من ثمانية أولاد، ومن أبوين فاضلين السيد محسن ضاهر (موظف في المشتل الزراعي - كفردان) والسيدة شفيقة رباح (ربة منزل). زرع الوالد في نفوس أبنائه الكبرياء والصدق والوفاء واحترام كل الناس. وكم حثّهم على التحصيل والدراسة والثقافة والإطلاع الدائم وصدق الإنتماء... أما الوالدة فزوّدتهم الحنان وأحاطتهم بعطفها.
تفتّحت عينا الفتى على الفن وهو في الرابعة من عمره، عندما كان يشاهد صديق والده وهو يستخدم صفائح الكرتون، التي كانت توزّعها شركة الأسمدة الزراعية، ليرسم على صفحاتها السمراء، أزهار السوسن والزنبق والقرنفل وصحن الفاكهة...
المزروعات في «المشتل الزراعي» أثارت في نفسه تساؤلات لم يزل يبحث عنها حتى اليوم، ولا سيما دراسة اللون الأخضر ومشتقاته وتحوّلاته تحت الضوء، كذلك لون السماء الزرقاء ولون التراب الشديد الإحمرار، ولون الطيور، وحتى الأفاعي وبيوت الطين المطليّة بالأبيض، والليل الداكن، والسماء المرصّعة بالنجوم، وراعي الغنم وجرابه وحذائه وقامته القصيرة وعصاه العوجاء... حمل كل ذلك في ذاكرته وفي جعبته البصرية، التي استقرت فيها ايضاً مشهدية حبات البرد تضرب الجدران حتى تجرحها «فتنزف» تراباً أرجوانياً وتتشكّل طبقة ناعمة فوق الأرض تلمع بعد سطوع الشمس... تشكيل طبيعي أثار دهشته وجعله يزيل الطبقة الناعمة برقاقة معدنية بسيطة، ويروح يقلّبها بين يديه، مطوّعاً إياها مستعيناً بزيت الزيتون، من دون معرفة مسبقة بالألوان الزيتية والمائية. هكذا علّمه التصاقه بالطبيعة كيف يتعامل مع الألوان وكيف يفهمها وكيف يطوّعها في عمله الفني في ما بعد...
لم يحب المدرسة في طفولته، ما كان يدفعه الى تجنّب حضور الحصص التي لم يكن يرغب بها، وإخفاء حذائه خلف خزّان المياه، الذي كان كثيراً ما اتخذه مخبأ له، ولمواد الرسم ايضاً...
في المقابل كان مندفعاً لخدمة جده لأمه، يعدّ له فحم النرجيلة، يجمعه ويطحنه بواسطة الحجارة ويضيف اليه بعض الزيت، علّه يكون مادة جميلة للرسم.
أنجز بعض الرسوم منقولة عن مجلات ونفّذها على الكرتون والموزانيت والقماش «الخام»، منها: «وجه للرئيس عبد الناصر»، «فلاحة مصرية»، «طائر الجنة»، «مريم والطفل يسوع»...
مع بلوغه سن العاشرة، كان الزاروب المؤدي الى البيت يشكّل وحده ملعب الطفولة، حيث كان الولد الشقي ماجد يخصّه باهتمام خاص، إذ يتلف بحذائه المطاطي ما كان يرسمه على حائط الزاروب بأحجار الكلس، التي كانت تستعملها الوالدة في تحضير المربيات واليقطين بشكل خاص، وببقايا الطباشير التي كان يواظب على جمعها من المدرسة.
مرت الأيام، وتعرّف على أول لوحة زيتية في محترف الفنان محمد الخطيب في بعلبك، لوحة كان لها أثر بالغ في اكتشافه الألوان الزيتية والقماش والفرشاة...
الخدمات التي كان يؤديها لوالدته وظّفها في إطار المشاهدات الحياتية لبائعي الخضار في السوق الشعبي الضيّق، فكان بنتيجتها أن قام ببعض محاولات التصوير، التي تبـدو فيها الحياة متداخلة في حركاتها، الى أن قادته قدماه يوماً من الأيام في مطلع الستينيات، الى مشارف القلعة، حيث شاهد فنـاناً ألمانيـاً. راقبه يرسم جدـار قلعة بعلبك بألوان «السنغين» مستعينـاً بقلم يحتـوي على سائل، فعاد الى البيت مستعيـناً بأقرب قطعة قماش ليرسم مثل ذاك الحائط بلونه الزهري. ومن التجارب التي ساهمت في تشكيل «وعيه اللوني» وتحديد مجرى حياته الفنية، حياكة الصوف وتنسيق الألوان لصنع الكنزة والشال والقفازات، وما الى ذلك. كان حسه الفني يراكم الإنطباعات والخبرات مستنتجاً أن هناك ألواناً تتناسق وأخرى خلاف ذلك...

 

التحصيل العلمي وخطوط الألوان
الموهبة لا تكفي ولا تقنع الأهل، لذلك كان عليه الذهاب الى المدرسة. تلقى علومه الإبتدائية في «المدرسة الحديثة» في بعلبك حيث انتقلت العائلة. ومن ثم انتقل الى العاصمة بيروت (العام 1965)، وتنقّل في عدة مدارس منها المدرسة الرسمية في فرن الشباك، الى ثانوية رأس النبع الحديثة الرسمية. لم تكن المدارس التي تنقّل بينها في بيروت وضواحيها، توفّر له ما يطمح اليه. وترامى الى مسمعه أن هناك أكاديمية للفنون يديرها الفنان أسعد رنّو، سرّ بالخبر والتحق بصفوف العمال، لتأمين قسط الأكاديمية، لكن إصرار الأهل على متابعة دراسته الثانوية بدّد أحلامه.
الرسوم في الصحف والمجلات (المصوّر وروز اليوسف، الأخبار والأهرام)، كانت تحرّضه على تقليدها من دون أن يتجاسر على فعل ذلك إلا نادراً.
أما الجو السياسي آنذاك الذي كان مشحوناً بالولاء للرئيس جمال عبد الناصر، وبالعداء لإسرائيل، والضاج بأسماء الصواريخ المصرية «القاهر» و«الظافر» و«الناصر»، فقد شكّل موضوعاً عبّر عنه بكل ما لديه من مواد.
في ما بعد تركت الأشجار الصفراء والسماء الرمادية الحزينة بصماتها بوضوح في أعمال نزار ضاهر.

مجلة «الرسالة الحديثة» كانت المنبر الأول لنشر بعض من رسومه في عددها الصادر بتاريخ 1 حزيران 1965، ومنها رسم للأمير بشير الشهابي...

 

الى الإتحاد السوفياتي
توجّه الى الإتحاد السوفياتي في 6 تشرين الأول 1976، حيث كانت الحرب اللبنانية في أوج بداياتها. وقبل سفره كانت توصية الأخ الأكبر عدنان: «نزار إذا لم توفّق في الإنتساب الى أكاديمية الفنون، فلا تعد خائباً، إنتسب الى كلية الهندسة، أسوة بأخويك هاني وغسان أو كلية الطب مع أخيك نبيل وخالك رامز أو...».
فأجابه: «أصبح رساماً أو أعود، لن أمتهن مهنة أخرى...».
حينها شعر بثقل المسؤولية، وأدرك أهمية أنه ما من موهبة خلاّقة من دون ثقافة، مستذكراً قول مديره في المدرسة الحديثة «كل أحاسيسك، كل مشاعرك لا تكفي لنصرة النسور... كل جوارحك، كل أحقادك لا تكفي لهزيمة الظلام...».
في لينينغراد التحق بأكاديمية الفنون - معهد ريبين العام 1977، بعد أن تابع دراسة اللغة الروسية وبعض المواد في تاريخ الفن في معهد «البوليتكنيك». ونتيجة الدراسة حاز شهادة الماجستير في الرسم والتصوير، وكانت «مأساة لبنان موضوع لوحته. بعد ذلك حاز شهادة الدكتوراه في فلسفة البحث الفني، متناولاً المنظر الطبيعي في الدول العربية، مما ساهم مساهمة كبيرة في إدراك وفهم المسارات المعاصرة في الفن التشكيلي لتلك المنطقة.
إيماناً منه بضرورة صقل الموهبة بالثقافة والمعرفة إغناء لمخيّلته، لم يوفّر الدكتور نزار ضاهر فرصة إلا وزار فيها المتاحف الروسية العريقة في لينينغراد، وخصوصاً متحف «الأرميتاج» و«المتحف الروسي» نظراً الى الغنى الكبير والمكانة الهامة اللذين يتمتعان بهما بين متاحف العالم، وكذلك المكتبات والمسارح، والحدائق الكبرى المزدانة بالتماثيل، ومنازل كبار الأدباء والفنانين والشعراء، الى متابعة الأمسيات الثقافية والتعرّف على النظريات الفلسفية وتذوّق الأدب. ولم يغفل التعرّف على الموسيقى الكلاسيكية، وهو الذي رغب دائماً بتعلّم العزف على آلة الكمان... أما زياراته الى باريس وإيطاليا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا واليابان وهونغ كونغ، فكان لها أثرها البالغ في نفسه، حيث اطلع على فنون هذه الدول وحرص على اقتناء الكتب المختصة بمتاحفها، التي يعتبرها ثروة لا تضاهى.

 
العودة واكتشاف الطبيعة من جديد
الحنين الى الوطن الأحب الى قلبه، انتصر على العرض الذي تقدّم به اليه أستاذه أ. بغدانوف، يحثّه فيه على البقاء في الإتحاد السوفياتي، ليستعين به كمساعد في تدريس مادة فنون الشرق العربي.
عاد الى الوطن في صيف 1987، وأنشأ أول محترف له في قرية تمنين. وانضم الى الجسم التعليمي في معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية (ولم يزل لغاية اليوم)، كما منح بعضاً من وقته الى قسم الآثار والفنون في كلية الآداب - البقاع العام 1990، وهو مستشار في الأكاديمية اللبنانية للفنون (Alba) - جامعة البلمند. والعام 1993 كانت له تجربة «طيبة المذاق» على الرغم من مرارتها، كما يقول، التجربة كانت في إدارة معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية لكنها لم تستمر طويلاً؛ إذ تقدم باستقالته العام 1995، ومن ثم أنشأ محترفاً آخر له في بيروت عاصمة الثقافة والندوات والغاليريات والمسارح.
منذ عودته من روسيا، انصرف نزار الى الطبيعة، وهي الأم والحياة بالنسبة اليه، اكتشفها من جديد واكتشف عظمة الخالق وقدرته. الخريف الحزين، أوحى له بمجموعة كبيرة من الرسوم، مكّنته العام 1990 من إقامة ثلاثة معارض في كلية الآداب - البقاع، أوتيل بالميرا - بعلبك والمركز الثقافي السوفياتي - بيروت. وفي مطلع التسعينيات تزوج بالسيدة دانيا هنداوي ورزقا فرح (15 عاماً).

 

الشفافية والشاعرية
تتميّز لوحات نزار ضاهر، الذي كانت له محاولات شعرية وأدبية، بالدقة في مزج الألوان، وكذلك بالشفافية وبالنزعة الشعرية. إنه يركّز على الغنائية في المشهد، وعلى الأبعاد اللونية والنورانية والضوئية.
نزار ضاهر فنان من طراز إنساني فريد، مهموم بإنسان عالم المهمّشين، والمستضعفين أينما وُجدوا.
لديه إهتمام واضح بالأرض، يحاول تشكيلها من خلال إحداثيات وأبعاد روحية وإنسانية لا جغرافية مادية، لذا كانت الألوان تعبّر عن الأمل والمستقبل.يرفض أن يحصر الفنان نفسه داخل مدرسة أو تيار فني معيّن، كي لا يتحول الإنتماء الى سجن للإبداع.
الوقت هو الأحب الى قلبه، ويتمنى لو يتوقف الزمن، لأنه يحتاج الى الوقت لكي ينتج ويرسم ويعبّر بريشته عما تعجز الحياة عن التعبير عنه.
نزار ضاهر، فنان خرج من رحم الأرض، فجعل السهل ملعباً لطفولته.
مبدع توغّل في عمق الطبيعة، سبر أغوارها، رسم معالمها، غاص في ألوانها، ليصل الى هدفه الإنساني النبيل. وهو ما زال يردّد «اللوحـة الأجمـل لن ترسـم أبداً»، وأجمل إبحار يبقى تلك المسافة بين لوحة وأخرى».

 

لوحة في الأرميتاج

تقديراً لمسيرته الفنية وبمبادرة من البروفسور أ. بغدانوف، دعي الى إقامة معرض خاص في أكاديمية الفنون - قاعة رافائيل سانت بطرسبورغ - روسيا في خريف 2003، وكان لهذا المعرض وقعه الكبير، حيث اقتنى متحف الأرميتاج العالمي لوحة بعنوان «تلال»، ومنح ضاهر للمناسبة دكتوراه شرف من أكاديمية الفنون - سانت بطرسبورغ، ويكون بذلك اللبناني والعربي الأول، الذي تعرض لوحته في هذا المتحف العالمي. وفي هذا الإطار اتخذ مجلس الوزراء اللبناني بتاريخ 6 تشرين الأول 2005، قراراً يقضي بإصدار طابع بريدي تذكاري (بلوك) للوحة «تلال» التي اقتناها متحف الأرميتاج، ونشر القرار في الجريدة الرسمية في العدد 11 تاريخ 23 شباط 2006. ومن جهة أخرى وبناء على اقتراح دولة رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، فقد منحه فخامة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وسام الإستحقاق اللبناني الفضي، بموجب المرسوم الرقم 12179 تاريخ 27 آذار 2004، وذلك خلال حفل أقيم في قصر الأونيسكو. وبتاريخ 21 نيسان 2004 كرّمته السيدة عفاف صادر خلال حفل أقيم في غاليري «صادر للفن والثقافة» بحضور معالي وزير الثقافة غازي العريضي، والسفير الروسي آنذاك وممثلي أكاديمية الفنون - سانت بطرسبورغ. كما حاز تقدير قيادة الجيش اللبناني، لمشاركته في المعارض المشتركة التي كانت تقام في سوريا، لمناسبة ذكرى تأسيس الجيشين اللبناني والسوري.

 

معارض خاصة
أقام الدكتور نزار ضاهر العديد من المعارض داخل لبنان وخارجه:
- قاعة الفنون - مهرجان القرين الثقافي - الكويت - 2007.
- محترف الفنان جورج خيرالله - المتين - جبل لبنان - 2007.
- صالة كوكب الإكتشاف - بيروت - 2006.
- المركز الثقافي الروسي - بيروت - 2004.
- صالة رافاييل - أكاديمية الفنون الروسية - سانت بطرسبورغ - روسيا - 2003.
- غاليري روشان - جدة - المملكة العربية السعودية - 2003.
- غاليري غرافيتي - شتورا - البقاع - 2002.
- المؤسسة العربية للثقافة والفنون - بيروت - 2000.
- كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الجامعة اللبنانية - البقاع - 1990.
- أوتيل بالميرا - بعلبك - 1990.
- أكاديمية الفنون - لينينغراد - الإتحاد السوفياتي - 1986.
إضافة الى العديد من المعارض الجماعية في لبنان وخارجه.

 

أعماله في العالم

تنتشر أعمال نزار ضاهر الفنية في العديد من دول العالم إذ تعرض لوحات له في متحف الأرميتاج، روسيا، وفي متحف الأبحاث في أكاديمية الفنون الروسية ومتحف الفن الحديث - الكويت.
وكذلك ضمن مجموعات خاصة في: لبنان، روسيا، فرنسا، أميركا، كندا، سوريا، السعودية، دبي، هنغاريا، البحرين، الكويت والمغرب.

 

أوسمة وشهادات تقدير
تقديراً لأعماله وفنه الراقي، حاز الفنان نزار ضاهر الأوسمة وشهادات التقدير الآتي ذكرها:
- وسام الشرف المكرّس للإسهام في تعزيز الصداقة اللبنانية - الروسية - 2005.
- وسام الإستحقاق اللبناني الفضي تقديراً للعطاءات الفنية في مجال الرسم - 2004.
- دكتوراه شرف تقديراً للإنجازات الفنية - أكاديمية الفنون - سانت بطرسبورغ - روسيا - 2003.
- شهادة الشرف تقديراً للمساهمة في النشاطات المتعلقة بمرور 300 سنة على تأسيس مدينة بطرسبورغ - روسيا - 2003.
- شهادة تقدير بينالي الشارقة - دبي - 1995.