رحلة في الإنسان

نساعد الآخرين ولكن! ماذا عن أنفسنا
إعداد: غريس فرح

في كل عائلة تقريبًا قريب يستحق المساعدة، بسبب المرض أو الإعاقة أو التقدم في السّن. مساعدة هؤلاء ضرورية، لكنها مرهقة وقد تلحق الضرر الجسدي والمعنوي بمن يقدمونها. وهذا يحتم مراعاة ظروفهم، وإرشادهم إلى كيفيّة الاستمرار بتأدية الرسالة من دون إيذاء ذواتهم.
كيف يتم ذلك، وبماذا ينصح العارفون؟

 

صعوبة الاستمرار بالعطاء
من الملاحظ أن كثيرين ممّن تضطّرهم الظروف إلى بذل التضحية، يتوقفون في مرحلة ما، بسبب عدم قدرتهم على تحمّل الضغوط، وفي المقابل يوجد من يستمرّون بالعطاء، تحت تأثير الضغوط نفسها، رغم الشعور بالضيق والتعب. فكيف يتمكّنون من الاستمرار؟
يعود ذلك إلى كون العطاء ميزة فردية، وهذه الميزة لا يحملها جميع الناس بالقدر نفسه. فالأمر يرتبط بظروف كل شخص وبمدى مقدرته على تحمّل الأعباء، وكذلك بالتنشئة التي تلقّاها.
وهذا يوضح سبب ميل البعض إلى التضحية من دون حدود، وسبب عزوف البعض الآخر عنها، باعتبارها جهدًا لا مردود له. أما الاختصاصيون فينصحون بضرورة التدرب على الاعتدال. والسبب أنّ التفاني في التضحية يسيء إلى أصحابه ويصيبهم بالإرهاق، وهو ما يضعهم في مواقف لا يحسدون عليها. من ناحية ثانية، ثبت أن العاجزين عن التضحية يشعرون عمومًا بالذنب وبالفراغ، الأمر الذي يضعهم أيضًا في مواقف حرجة. وهنا يطرح السؤال: كيف نتذوّق سعادة التضحية مع الاحتفاظ بالتوازن والاكتفاء الذاتي؟
 

أحجية وحلول
يعتبر ستيفين زاريت أستاذ علم الشيخوخة في جامعة بنسلفانيا الأميركية، في مقدمة الذين يكرّسون الجهود من أجل حلّ هذه الأحجية. وبحسب رأيه فإنّ الأثر الجسدي والمعنوي والاجتماعي للتضحية، يرتبط بعوامل أهمها: الثقافة والبيئة العائلية، والمعتقدات الدينية... ودراسة هذه الاختلافات تعطي صورة واضحة عن المعنيين بتحمّل التضحية، وبالتالي، معرفة مدى مقدرتهم على الاستمرار. وعلى هذا الأساس يمكن تصنيفهم، ومن ثمّ تقديم العناية والدعم لهم، من خلال اختيار برامج مناسبة تشمل المتفانين بالتضحية والمتذمرين منها.

 

كيف يتم ذلك؟
يميّز الباحثون في هذا الحقل عمومًا ما بين الأمراض، والإعاقات التي تحتاج إلى عناية طويلة الأمد. لذا فهم يضعون برامج يتابعها المعنيون وتسهّل استمرارهم بالتضحية من دون الإساءة إلى أنفسهم. وتركّز هذه البرامج على:
- التعرف إلى أهمية الدعم الاجتماعي، والاستعانة بالاستراتيجيات الموضوعة من قبل المعنيين به.
- تعلّم تقنيات السيطرة على النفس في المواقف الصعبة، والتدرّب على كيفيّة خفض الضغوط أو التقليل من آثارها السلبية.
- شحن القدرات من أجل استعادة الطاقة، والاستمتاع بعمل هو قمّة أخلاقيات المجتمع.
 
التخلص من المشاعر السلبيّة
من المعروف أنّ مقدّمي المساعدة وأصحاب الحاجة، يعرف كل منهم الآخر أكثر مما يعرف الطبيب مريضه. مع ذلك تنتاب المساعدين أحيانًا، مشاعر سلبيّة كالقلق والخوف من المسؤولية، والغضب. أما السبب فيعود إلى نقص المعرفة بتفاصيل العناية الصحيحة، إضافة إلى الوقوع تحت كابوس الروتين اليومي.
في هذا السياق، يُنصح بالتعاطي مع المرضى باعتبارهم أصحّاء. فهذا يشعرهم بالاسترخاء والراحة، وينعكس إيجابًا على الأجواء بشكل عام. والأهم هنا، تشجيع المرضى على القيام بنشاطات طالما أحبوها، وبحسب مقدرة كل منهم. وبذلك، يتمكن المساعد من تخفيف وطأة الضغوط، والوصول إلى مرحلة التأقلم مع الواقع.

 

التخلّص من الضغوط
بما أنّ الضغوط تحدّ من قدرتنا على الاستمرار بالعطاء، فلا بد من تعلّم أساليب مواجهتها، وهذا يتمّ -إضافة إلى الاستعانة باختصاصيين- عن طريق التدرّب على أساليب الاسترخاء، كممارسة التأمل مثلاً أو اليوغا. إلى ذلك، يوصى بالمحافظة على العلاقات مع الأصدقاء والأقارب، فهؤلاء يمنحون الدعم الضروري عند الحاجة، كما أنهم يخفّفون من سلبيّة آثار الوحدة الناجمة عن وجود المساعد مع المريض، بمعزل عن المجتمع.

 

مخطط متكامل
كما سبق وأشرنا، فإنّ مقدّمي التضحية أو العناية بأحد من أفراد العائلة، يشعرون في آن واحد بالسعادة والإرهاق. على هذا الأساس، تمّ البحث في كيفيّة جعل التضحية عملاً مُرضيًا، وجاءت النتيجة لمصلحة التخطيط المتكامل. وهذا يعني وضع برامج تؤمن العناية بالمريض، مع ترك فسحات من الراحة لمقدّم المساعدة، خلال فترات محدّدة في اليوم. وبحسب الباحثين فإنّ هذا النمط المتوازن يمنح أصحاب العلاقة مُتنفسًا يمكّنهم من المتابعة بهدوء ورويّة. ويشجّع في الوقت ذاته الهاربين من التضحية على تأديتها، فلا يشعرون بالذنب نتيجة هروبهم من تقديم المساعدة إلى شخص يحبونه.
?هذه وسواها من الحقائق تضعنا في مواجهة مع أنفسنا من جهة، ومع من نحبه وبات يحتاج إلى مساعدتنا من جهة ثانية. فهل صحيح أننا نريد التضحية، أم أننا مجبرون على أدائها بحكم الظروف؟
في حال التأكد من وجود الإرادة، لن تعود التضحية عبئًا ثقيلاً، شرط عدم نكراننا لذواتنا، فالأنا في داخلنا لن تسكت عن هذا النكران. وفي حال التنكّر لها، تنتفض لتذكّرنا بوجودها وبأنّها تستحق العناية.