كلمات ليست كالكلمات

نصف مليون دولار

العميد الركن الياس فرحات - مدير التوجيه

نصف مليون دولار مبلغ مالي كبير، يصنّف حامله ميسوراً في البلاد المتقدمة وغنياً في البلاد المتوسطة وثرياً في البلاد الفقيرة. مبلغ يتطلب جهداً كبيراً بالتأكيد لتحصيله، إن في تجارة أو صناعة أو عمل حر أو وظيفة أو خدمات. ليس سهلاً في هذه الأيام، حيث تتضاءل فرص العمل في جميع بلدان العالم، الحصول على ذلك. قد يرث شخص هذا المبلغ من ذويه، وقد يحصل عليه آخر في جوائز يانصيب أو لوتو، ويكون احتمال ذلك واحداً على مائة ألف أو على مليون أحياناً.

لكن ما حصل أخيراً غريب وفريد من نوعه: حكومة إسرائيل خصصت لكل مستوطن في قطاع غزة مثل هذا المبلغ. نصف مليون دولار بالتمام والكمال، تعويضاً له عن إخلاء المستوطنة التي يشترك في السيطرة عليها.

وأقل ما يقال في المستوطنات إنها غير شرعية وغير قانونية، وإنها مراكز عدوان متقدم لعدو عنصري استيطاني. إنها ثكنات ومراكز عسكرية مجمّلة بمنازل سكنية وحدائق. إنها عنوان العدوان والاستيطان وتشريد الشعوب. وجودها بحد ذاته خرق لقواعد الأخلاق والقانون، ويجب أن يكون من الطبيعي إخلاؤها بالقوة وطرد مستوطنيها وإحالتهم الى المحاكمة بجرم الاعتداء على أراضي الغير والاستيلاء على الأملاك الخاصة والعامة. ومن الطبيعي أيضاً أن تسلّم هذه الأملاك الى أصحابها الشرعيين الذين دافعوا عنها وقاتلوا وقدّموا الشهداء ورووا التراب بالدم بعدما كانوا جبلوه بعرق العمل في الزراعة والعمل والإنتاج.

كم من شجرة زيتون اقتلعت ليحلّ مكانها مرآب لسيارة مجهولة، وكم من منزل قديم يحمل تراث الأهل والأجداد هُدم ليحل مكانه مسكن لمستوطن غريب، وكم من مستوطن قتل مواطنين فلسطينيين من دون ملاحقة أو ملاحظة، أو فجّر مؤسسات وهدم أحياء وطرد عائلات من دون رادع أو وازع؟... كل هؤلاء يتقاضون نصف مليون دولار لكل منهم أجراً ومكافأةً على العدوان. إنها مهزلة التاريخ وسخرية العصر في زمن كثر فيه الحديث عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.

ويحضرنا هنا سؤال لا بد منه: من أين أتى هذا المال الوفير الموزّع على أكثر من ثمانية آلاف مستوطن؟

والجواب بسيط: إنه تبرعات جُمعت من دول وهيئات وأشخاص. ربما أن البعض مقتنع بحاجة الاحتلال الى دعم كي يستمر بواسطة الاستيطان، فقرر أن يتبرع للدفاع عنه وحمايته، وتسلمت اسرائيل المال الآتي للتعويض عن المستوطنين المعتدين مقابل إخلائهم لمستوطناتهم.

وهذا الكرم هو خوّات وأتاوات يفرضها لوبي عنصري منظم يكذب على الناس، ويخفي الحقيقة العنصرية الإسرائيلية. لوبي يسيطر على وسائل الرأي من صحافة مكتوبة وإذاعات وتلفزيونات ودور نشر ومراكز دراسات وصناعة سينما ومسلسلات وغيرها، يجمع المال ويقدمه لاسرائيل فتدمّر بواسطته وتضطهد وتقتل. يا له من مال تقدمه هيئات تدعي أنها حرة تنشر قيم الحرية، فيما هي تعمم الإرهاب والرعب والعدوان في العالم. ويا له من مال يسحب من خزائن دول جمعته بدورها من دافعي ضرائب بهدف تحسين ظروف حياتهم، وإذا به يقدّم الى دولة عنصرية ترسل مستوطنين لقتل الناس وسلب أراضيهم، ثم تكافئهم على عدوانهم بالهدايا الثمينة.

نصف مليون دولار لمستوطن صهيوني تعويضاً لإخلائه مستوطنة غير شرعية. إنه عار سوف يذكره التاريخ!