ملف الحرب على العراق

متحف برطلّة
إعداد: جان دارك ابي ياغي

عادات وتقاليد أهل الموصل

هل تتسع الحرب لفسحة من الحضارة والتراث؟

 

هل في الحرب من فسحة للحضارة والتراث؟ قد يبدو الحديث الآن عن متحف في منطقة ما من العراق مفارقة. فصور الأبرياء المضرّجين بدمائهم, وصور الدمار والرعب, أقوى وأوسع من أن تترك مجالاً لحديث آخر أو لصور أخرى.
لكن حتى في جحيم هذه الحرب يظل العراق أرض الحضارات, أرض حمورابي, بلاد الرافدين وأرض الخيرات التي يتمسك بها أهلها تمسكهم بالحياة وبالجذور التي تربطهم بتاريخهم العريق.
زميلتنا جان دارك أبي ياغي التي زارت العراق وهو على عتبة الحرب, أعدت هذا التحقيق عن متحف برطلّة. والمتحف المعروف باسم متحف مار كوركيس (مار جرجس) هو أحد أبرز متاحف الموصل؛ موجوداته تختصر تراث تلك المنطقة وتتيح لنا التعرف الى عادات أهلها وتقاليدهم وأنماط عيشهم.
وقبل دخول المتحف لمحة عن الموصل وبلدة برطلّة.

 

الموصل حديثاً
الموصـل من أشـهر مدن العراق, وهي مركز محافظة نينوى. يربو عدد سكانها على ثلاثة أرباع مليون نسمة.
تقـع شمالي البلاد على خط عرض 19 /36 وخط طول 43, ويتراوح ارتفاع هضبـتها بين 300 و400 م عن سطح البحر.

مناخها لطيف في فصلي الربيع والخريف حتى أنها لُقبت بأمّ الربيعين, كما لُقّبت بالحدباء نظراً لاعوجاج نهر دجلة الذي يخترقها.
وبالرغـم من امتداد العمران فيها واتخاذهـا في السنوات الأخيرة شكل مدينـة عصرية, لا يزال وسط المدينة محتفظاً بمعالمه الأثرية والتاريخية القيمة.

تشتهر منطقة الموصل بالزراعة, وبصناعة قماش الموسلين الذي ذاع صيته في كل الأصقاع, كما تمتاز بصنع الحلى والأواني النحاسية والفخارية, الى النقش والكتابة على المرمر.


برطلّة

بلدة برطلّة هي إحدى نواحي قضاء الحمدانية. تقع في سهل فسيح, قرب كعب جبل مادانيال, (أو جبل الخنافس كما تدعوه بعض المخطوطات) على مسافة عشرين كيلومتراً شرقي الموصل, وعلى يسار الطريق التي تصل بين الموصل وأربيل. سكانها من السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والمسلمين.
قال عنها ياقوت الحموي: ... قرية كالمدينة في شرقي دجلة الموصل من أعمال نينوى, كثيرة الخيرات والأسواق والبيع والشراء...
واسم برطلّة له عدة معان, غالبية الإختصاصيين في أصول الأسماء يفسرونه بـ”مكان الظل”, أي مكان الأشجار, بإبدال الظاء بالطاء على الطريقة النبطية, ويعني هذا بحسب هؤلاء أن الكلمة نبطية. ويقول آخرون مع ياقوت الحموي, بأن الإسم مشتق من الآرامية ­ بيث رطولي ­ أي بيت الأوزان (رطل) إشارة الى مصنع للأوزان فيها. ويدعي آخرون أنه آت من “برطليو” أي ابن الطفل. ويرى فيه آخرون موضع الطل (الندى).
بلدة عريقة والمصادر التاريخية المتوفرة عنها قليلة, ولكن كثرة الآثار من كنائس وأديرة وبنايات, إضافة الى العثور على الخزفيات والنقود الأشورية دليل دامغ على عراقتها وقدمها, وقد ذكرها المؤرخون في عهد الإسكندر ذي القرنين.
اشتهرت برطلة بالمدارس التي أسست فيها لدراسة الألحان والأنغام الجميلة, وأنجبت بطاركة ومطارنة وكهنة ورهباناً وراهبات وعلماء وأدباء وشعراء وخطاطين.

 

إحياء التراث

يهدف المتحف الى إحياء التراث الشعبي, وقد نشط فريق عمل من أبناء برطلّة في لملمة ما كان مبعثراً والكشف عما كان مجهولاً وإبراز ما كاد يطويه النسيان... فكان متحف مار كوركيس الذي تعمل لجنة مختصة على تطويره وإبراز محتوياته وتحديث جدارياته.

 

يُقسم المتحف الى أربعة أجنحة:
الجناح الأول مخصص للتراث الموصلي, بما فيه تراث الجماعة “البرطلية” القديمة, وهو يضـم مجمـوعة نادرة من الأثـاث. وفي هذه المجموعة تطالعنا الأدوات التي كانت تستخدم لخزن المحاصيل والمواد الغذائية, والمياه, الى جانب لوازم الحياة اليومية من جرار أشورية, وجرار لحفظ الأطعمة, والمياه, والصاج, والتنور والمعجن...

كما نجد في هذا الجناح جزءاً من جدار البيت فيه سراج قديم, زوايا لإخفاء المجوهرات الثمينة, نموذج لمهد طفل مصنوع من الخشب ما زال يستعمل حتى اليوم, ملاعق مختلفة الأشكال والأحجام, مكواة فحم قديمة, أحذية صنع محلي منسوجة باليد, راديو قديم, جرن كبّة (هاون), آلة لطحن البُن, جاروش لجرش العدس...

الجناح الثاني مخصص للأدوات المستعملة في الزراعة وفي مقدمتها الآلات القديمة, نرى في هذا الجناح المحراث, الى أنواع من المناجل, آلة لسحق الأعشاب والحنطة والشعير, مخلّفات حيوانية تستعمل للتدفئة, إطارات قديمة لعربات إنكليزية الصنع, إطار عربة اشتهرت في عشرينات القرن الماضي, معلف للحيوان, محمل لنقل المياه يوضع على ظهر الدابة, نموذج لإحدى الآبار القديمة, أجراس تعلّق في رؤوس الخراف...

الجناح الكنسي, يضم كل ما امتلكته جماعة مار جرجس (السريانية الكاثوليكية) منذ نشأتها: كتب قديمة وسجلات وأوان كنسية... باب النساء لكنيسة مار جرجس القديمة الذي يمثل الأسلوب الأشوري في صناعة الأبواب المغلّفة بطبقات من الحديد المطروق بمسامير أشورية, الى نماذج لملابس الكهنة الطقسية, ومنبر إعتراف قديم, ومنصة المطران مع كرسيها... وتتعدد موجودات هذا القسم على نحو يعطي فكرة عن تاريخ المنطقة والكنيسة وعادات السكان في ممارستهم للطقوس الدينية, إضافة الى مخطوطات قيّمة.
الجناح الرابع والأخير هو جناح الأزياء الشعبية, الذي يمتد على شكل زقاق, وفيه يتجاور زيّ الموصل مع الزيّ الأشوري, فيما تتألّق بالروعة أزياء القرى المجاورة لبرطلّة كقره قوش وبعشيقة وغيرها...
نغادر المتحف, لنغادر من ثم العراق على وقع طبول الحرب تنبئ بالرعب والدمار, ونودع تلك الأرض المعطاء الخيرة متمنىن لأهلها العيش بسلام في بلادهم.

 

الصور تقدمة متحف مار كوركيس ­ برطلّة