أوراق من التاريخ

هل قاتل الألمان والأميركيون جنبًا إلى جنب في الحرب العالمية الثانية؟
إعداد: المقدم باسم شعبان
دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر

تُعد معركة قصر إيتي (أو سجن إيتي) من أكثر معارك الحرب العالمية الثانية إثارة للجدل وأكثرها غرابة. خِيضت هذه المعركة بعد خمسة أيام من انتحار الفوهرر أدولف هتلر، وقبل يومين من توقيع الألمان وثيقة الاستسلام غير المشروط للحلفاء ونهاية الرايخ الثالث. لم تكن معركة ضخمة، ولم تتسبَّب بخسائر بشرية عالية، إنما اكتسبت شهرتها من كونها المعركة الوحيدة خلال الحرب العالمية الثانية التي خاضهـا جنود ألمان وجنـود أميركيين جنبًا إلى جنب لإنقاذ وتحرير سجناء فرنسيين.


هي الساعات الأخيرة الفاصلة عن إعلان الحلفاء النصر في أوروبا Victory in Europe، ورغم تدفّق جنود الجيش الأحمر داخل العاصمة الألمانية برلين، إلا أنّ وحدات الجيش النازي كانت لم تزل تقاتل على امتداد الجبهات داخل الحدود الألمانية وخارجها.
في قلب الشمال النمساوي، الذي كان لحينه خاضعًا للاحتلال الألماني، تقع بلدة Itter (تُلفظ إيتي) وعلى تلة محاذية لها قصر صغير. في الواقع كانت النمسا بأكملها جزءًا من ألمانيـا بعـد إعـلان ألمانيا النازية رسميًا ضمها في عمليـة اصطُلِـح علـى تسميتهـا بالـ Anschluss بتاريـخ ١٢ آذار ١٩٣٨.

 

قصة السجن
بعد قرابة عام من اندلاع الحرب العالمية الثانية، أواخر العام ١٩٤٠، استأجرت الحكومة الألمانية القصر من مالكه فرانز غرونر. مع اشتداد وطأة الحرب على ألمانيا وارتفاع التكاليف المادية، وبأوامر مباشرة من هينريك هملر القائد العام للبوليس ورئيس وحدات الحماية Schutzstaffel المشهورة بالـ SS، صادرت قوات SS بإمرة اللواء أوزوالد بوهل القصر في ٧ شباط ١٩٤٣، وقامت بتحويله إلى سجن بتاريخ ٢٥ نيسان ١٩٤٣، ووُضِع تحت إشراف إدارة سجن داكاو Dachau.
تم تجهيز السجن ليستقبل أهم الشخصيات الفرنسية والسجناء ذوي المكانة المهمة والمرموقة، وقد نُقِلَ إليه كل من: رئيسا الوزراء السابقان إدوارد دالادييه وبول رينو، الجنرالان ماكسيم ويغان وموريس غاملان، ماري آن الشقيقة الكبرى للجنرال شارل ديغول، الزعيم اليميني المقرّب من المقاومة الفرنسية فرنسوا دي لا روك، رئيس الاتحاد التجاري ليون جوهو ونجم كرة المضرب الشهير جان بوروترا. إضافة إلى هؤلاء السجناء، نقل الألمان عددًا من السجناء الأوروبيين الشرقيين من سجن داكاو للاستفادة منهم في أعمال الصيانة والتنظيفات وغيرها.
في أثناء تقدّم الحلفاء لم يكن هذا السجن على رأس قائمة أهدافهم، بدليل عدم وجود خطط مسبقة لتحريره وعدم تحرّك أي قوة للقيام بهذه المهمة، إنما التحرك الأميركي نتج عن فرار أحد السجناء وتوجّهه إلى أقرب قوة أميركية لطلب النجدة. في ٣ أيار ١٩٤٥ تذرَّع السجين الكرواتي زفونيمير تشوشكوفيتش بأنّه مكلَّف من آمر السجن بتنفيذ مهمة، وقد كان معتادًا على ذلك، ففرَّ من السجن حاملًا رسالة من السجناء، باللغة الإنكليزية، تطلب المساعدة، لتسليمها لأول قوة لتقيها من الحلفاء.
انطلق تشوشكوفيتش عابرًا وادي نهر إن Inn وصولًا إلى مدينة إنسبروك Innsbruck، قاطعًا مسافة تُقارب الـ٦٥ كيلومترًا، متجنّبًا بلدة فورغل Worgl التي لا تبعد أكثر من ٨ كيلومتر، لكنّها كانت مُحتلة من قبل الألمان. مع حلول المساء وصل إلى مشارف المدينة حيث التقى قوة أميركية متقدّمة وأبلغهم بوضع السجن وطلب السجناء. لم يكن لآمر القوة الأميركية صلاحية إعطاء الأوامر للتوجّه نحو السجن وتحرير السجناء، إلا أنّه أفاد قيادته عن الوضع ووعد تشوشكوفيتش بإبلاغه الجواب في الصباح.
في هذه الأثناء، كان آمر سجن إيتي سيباستيان فيمر قد فرَّ خوفًا على نفسه بعدما وصله خبر مقتل آمر سجن داكاو إدوارد فايتر بظروفٍ غامضة. بعد فرار آمر السجن، غادر الحراس أيضًا وسيطر السجناء على السجن بعدما استولوا على ما تبقى من سلاح. مع حلول فجر ٤ أيار توجَّهت قوة إنقاذ أميركية مدرَّعة إلى السجن لتحريره، لكن، وبعد أن قطعت قرابة نصف المسافة، أجبرها القصف الألماني الكثيـف علـى التوقـف، ومن ثـم عـادت أدراجهـا بنـاء على أوامـر قيادتها.

 

القرار
كان الجيش الألماني Wermacht قد خرج من فورغل، ودخلت ميليشيات الحزب النازي Waffen - SS مكانه. رفض الرائد الألماني جوزف غانغل أوامر الانسحاب وآثر البقاء مع عناصره لحماية السكان المحليين من بطش ميليشيات الحزب النازي وانتقامها، فجعلوه على رأس المقاومة المحلية. مع انقطاع أخبار تشوشكوفيتش، اتّفق السجناء على أن يتوجَّه طاهي السجن التشيكي أندرياس كروبوت على دراجة إلى فورغل حاملًا الرسالة نفسها التي حملها تشوشكوفيتش. ومنتصف يوم ٤ أيار نجح كروبوت في التواصل مع المقاومة النمساوية في البلدة.
بعد استلامه رسالة السجناء، قرَّر غانغل ألا ينتظر الأميركيين في البلدة ليستسلم لهم، بل أن يبادر نحوهم حاملًا الراية البيضاء لطلب المساعدة في تحرير سجن إيتي. في هذه الأثناء، كانت فصيلة استطلاع كتيبة الدبابات ٢٣ من الفرقة المدرَّعة ١٢ من الفيلق الأميركي ١١ تبعد ١٣ كلم إلى الشمال، وكانت بإمرة النقيب جون لي ومؤلَّفة من ٤ دبابات شيرمان. هذه الفصيلة كانت في وضع استراحة في ساحة بلدة كوفشتاين بانتظار تعزيز فرقتها بأخرى المشاة ٣٦. لم يتردَّد لي بالموافقة على طلب غانغل، وعلى الفور طلب من قيادته إذنًا للتحرّك.
تقدَّم غانغل بآليةٍ العسكرية وبرفقته لي لتنفيذ الاستطلاع، ترك هذا الأخير دبابتَين في الخلف، وكان رجاله قد استولوا على خمس دبابات، كما أنّ تعزيزات المشاة وصلت من الفوج ١٤٢ من الفرقة ٣٦، لكن هزالة حالة جسر إلزامي للعبور دفعت لي إلى عدم المخاطرة، فردّ التعزيزات إلى الخلف وترك دبابة ثالثة لحمايتهم، مكتفيًا بـ ١٤ من رجاله مع دبابة واحدة و١٠ من رجال غانغل وسائق. في طريقهم قضوا على مجموعة من Waffen - SS كانت تعمل على قطع الطريق.
داخل سجن إيتي كان السجناء الفرنسيون قد أولوا النقيب كيرت سيغفريد شرادر، ضابط Waffen - SS (كانوا قد صادقوه في أثناء فترة نقاهة من إصابة أمضاها في القصر) مسؤولية الدفاع عنهم. مع وصول لي وغانغل إلى القصر (السجن) استقبلهم السجناء بحرارةٍ، غير أنّ صغر حجم القوة التي وصلت كان مُحبطًا. نشر النقيب لي رجاله بمواقع دفاعية ووضع دبابته الوحيدة على المدخل الرئيسي. اتصل غانغل بزعيم المقاومة النمساوية في فورغل ألوس ماير طالبًا تعزيزات، لكن لم يكن يتوافر سوى ألمانيان ونمساوي فأرسلهم إلى القصر على عجل.
طلب النقيب لي من السجناء الفرنسيين الاختباء والاحتماء، غير أنّهم أصرّوا على مشاركة رجال لي وغانغل القتال. خلال الليل اشتبك المدافعون مع قوة استطلاع SS كانت تحاول تقدير حجم قوتهم وتحديد نقاط القوة والضعف لديهم. صباح ٥ أيار شنَّت قوة من الفرقة ١٧ من Waffen - SS مؤلَّفة من حوالى ١٥٠ مقاتلًا هجومًا على القصر. نجح المهاجمون في تدمير الدبابة الأميركية بواسطة مدفع ألماني عيار ٨٨ ملم، كانت معركة قاسية وكان اليأس قد بدأ يتسلَّل إلى نفوس المدافعين، بخاصةٍ بعد أن انقطع اتصالهـم بالخـارج قبـل أن ينجحـوا في طلـب الدعـم من الفـوج ١٤٢.

 

خيارات محدودة
في ظل هذه المحنة، ومع محدودية الخيارات بعد انسداد كل أفق للنجاة، تطوَّع نجم كرة المضرب بوروترا للقيام بالمهمة الأصعب، ألا وهي الخروج من القصر والتسلّل خلف خطوط المهاجمين للوصول إلى الفوج ١٤٢ وطلب الدعم. كانت مهمة محفوفة بالمخاطر، لكن مع حلول الظهيرة نجح في الوصول إلى الفوج حيث ارتدى البزة العسكرية، وعاد مع قوة الإنقاذ التي اندفعت مسرعة نحو القصر في سعي للوصول قبل نفاد ذخيرة المدافعين.
قرابة الساعة ١٦.٠٠، وصلت قوة الإنقاذ وتمكنت من هزم المهاجمين وأسر ما يُقارب الـ١٠٠ منهم. في تلك الليلة، وبعد تحريرهم، تم إجلاء السجناء الفرنسيين إلى فرنسا فوصلوا إلى باريس بحلول ١٠ أيار. لم تسنح الفرصة لغانغل بالاحتفال بالنصر، إذ إنّه كان قد سقط قتيلًا خلال محاولته حماية رئيس الوزراء الفرنسي رينو. كان الوحيد الذي سقط في هذه المعركة دفاعًا عن السجناء، وقد تم تكريمه بعد الحرب كبطلٍ قومي نمساوي، وذلك بإطلاق اسمه على أحد شوارع بلدة فورغل.

 

مراجع:


- Battle for Castle Itter, Wikipedia, the free encyclopedia.
- https://www.findagrave.com/.
- مواقع متعدّدة ذات صلة على شبكة الإنترنت