- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
خلال حرب تموز، أطلقت المدفعية الاسرائيلية أكثر من 170 ألف قذيفة باتجاه جنوب لبنان، في حين أن مجموع ما أُطلق من قذائف في حرب العام 1973 لم يتجاوز 53 ألف قذيفة
قامت الطائرات الاسرائيلية خلال عدوان تموز على لبنان بـ 17550 طلعة قتالية أي بمعدل 520 طلعة يومياً، مقابل 605 طلعات قتالية في حرب العام 1973 بأكملها
يصور الكاتبان الإسرائيليان يوآف ليمور وعوفر شيلاه إسرائيل، في كتابهما الأخير تحت عنوان «أسرى في لبنان» بأنها تحوّلت الى: «معزل يهودي عنيف، مريض بجنون العظمة، مدفوع بحماسة إجرامية شاذة تمدها بالطاقة تكنولوجيا أميركية فتّاكة». ثم يسردان في هذا الصدد سلسلة من الأرقام والصور والمعلومات التي تؤكد حقيقة هذه الدولة المجنونة والمصابة بالهذيان، في أعقاب ما تمّ نشره في تقرير فينوغراد الأخير من مثالب وسلبيات على جميع المستويات العسكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. فالمدفعية الإسرائيلية لوحدها، بحسب الكتاب، أطلقت أكثر من 170 ألف قذيفة سقطت ضمن شريط ضيق من الأرض المأهولة جنوب خط نهر الليطاني. في حين أن مجموع ما أطلق من هذه القذائف في حرب العام 1973 لم يتجاوز 53 ألف قذيفة، وكانت تلك حرباً بين جيشين نظاميين كبيرين وعلى جبهتين واسعتين، والأرقام المتعلقة بسلاح الجو كانت أكثر إثارة للذهول، إذ قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بأكثر من 17550 طلعة قتالية، أي بمعدل 520 طلعة يومياً مقابل 605 طلعات قتالية في حرب العام 1973 بأكملها، الأمر الذي شبّهه بعض المراقبين بالقصف الانكلو - أميركي الشامل لألمانيا النازية في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي. وهذا الكم الهائل من الوحشية والإجرام، بالنتائج المخزية والهزيلة التي حققها ضد الأهداف المدنية اللبنانية بشكل خاص، طرح ويطرح السؤال الكبير المحير: لماذا فَقَدَ الإسرائيليون - ساسة وقادة عسكريين - قدرتهم على توظيف الاعتبارات الاستراتيجية والتكتيكية غير المحدودة المتوافرة لديهم بسخاء دولي معيب ومقيت، في دعم صورة كيانهم وتعزيزها كقوة إقليمية عظمى قاهرة ولا تقهر؟! ولماذا فشلوا جميعاً في اختيار وتحديد أهداف استراتيجية قابلة للتحقيق ضمن الفترة الزمنية الطويلة نسبياً في ما سمّي «حرب لبنان الثانية»؟!
الواقع أن الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة، وهي كثيرة، إنما تكمن في المتغيرات السلبية التكوينية للمجتمع الاستيطاني الصهيوني غير المنسجم وغير المتماسك، وبالتالي في الجيش المنبثق عن هذا المجتمع، وإنما ايضاً في أسباب موضوعية كثيرة ترتبط بالمقاومة الوطنية في كل من لبنان وفلسطين، وما تسبّبت به هذه المقاومة من عملية استنزاف مزمنة وخطيرة للقدرات والكفاءات العسكرية العملانية والمعنوية. فالافتراض الاستخباري الذي كان شائعاً، ومعتبراً على أنه من المسلّمات البدهية، لدى المسؤولين الإسرائيليين، هو أنه ما من دولة عربية واحدة أو أكثر تجرأ على مجرد التفكير في شنّ حرب شاملة ضد إسرائيل في المدى المنظور، إزاء ما تملكه من تفوّق صارخ في سلاح الطيران بالدرجة الاولى وسائر الأسلحة البرية والبحرية في الدرجة الثانية، مع ما يستتبع ذلك من امتلاك أسلحة ومعدات وذخائر لا تحصى في المجالين التقليدي وغير التقليدي. وهذا الغرور دفع برئيس الأركان الإسرائيلي السابق الجنرال دان حالوتس، وكان قائداً سابقاً لسلاح الطيران، الى القول عندما سئل عن شعوره حيال إلقاء قنبلة من زنة ألف كلغ على مجمّع سكني لاغتيال مسؤول واحد في المقاومة الفلسطينية، أودت بحياة 14 مدنياً فلسطينياً، الى القول باقتضاب وبساطة: «شعرت بهزة خفيفة في الجناح الأيسر للطائرة». وهذا الغرور ايضاً، هو الذي أوصل حالوتس من قيادة سلاح الجو الى رئاسة الأركان تحت عنوان: الرجل المناسب للمكان المناسب. وعلى هذا الطريق فَقَدَ المئات من المدنيين في فلسطين ولبنان حياتهم وأرزاقهم، ولكن النصر الإسرائيلي لم يتحقق، بل الذي تحقق فعلاً هو انكشاف العجز والخلل في القدرات الإسرائيلية المنتفخة، وانكشاف سوء الفهم والإدراك لدى كل من رئيس حكومة العدو أولمرت ووزير دفاعه بيرتس اللذين وجدا أنفسهما منجرّين الى صراع واسع النطاق من جانب رئيس أركان أرعن ومتعطّش الى الدماء. وبدلاً من كبح جماح الجيش وفسح المجال أمام الدبلوماسية، ترك الإثنان حالوتس يوغل في وحشيته ضمن تصعيد غير ضروري، لم يؤد إلا الى مزيد من القتل مقابل المزيد والمزيد من الإنتصار والجرأة والتحدي من قبل المقاومة. وفي الأيام الأخيرة من القتال في لبنان وجدت مجموعات كثيرة من الوحدات الخاصة الإسرائيلية نفسها مستنزفة ومعزولة وجائعة وفاقدة معنوياتها، بل وفي بعض المناطق ظلّ الجرحى من مغاوير الجيش الإسرائيلي متروكين على أرض المعركة وقتاً طويلاً في انتظار مَن ينقذهم، في حين كان قادة الألوية يديرون المعارك من ملاجئ حصينة منعزلة داخل إسرائيل عبر التكنولوجيا الإقليمية الحديثة. وهكذا تحطّمت هيبة إسرائيل ومكانتها الإقليمية مع تحطّم إفادتها من تفوّقها الجوي، كما وتحطّمت صورتها الردعية التي كانت تشكّل رصيداً هاماً ومبرراً ذرائعياً لابتزاز الدول الغربية والعربية على حد سواء مادياً ومعنوياً. أما على الأرض فخسرت إسرائيل عنجهيتها وافتخارها بدبابة الميركافا، وبان ايضاً واقع المجتمع الإسرائيلي المتحلل أخلاقياً و«وطنياً» إثر انهيار الجبهة الداخلية وافتضاح عجز المنظومات الأمنية والمدنية على حد سواء. وللتغطية على هذه الفضيحة لم يتبق أمام القيادة الصهيونية سوى التلطي بالقرارات الدولية والاختباء وراء ارتكاب جرائم قتل واغتيال القادة في الساحتين اللبنانية والفلسطينية، رفعاً للمعنويات المنهارة ومحاولة لاستعادة زمام المبادرة من خلال التحضير لارتكاب المزيد من الاعتداءات والحروب في المستقبل.
لقد اعتبر البروفسور يحزقيل درور، عضو لجنة فينوغراد، أن تقرير اللجنة هو بمنزلة «صرخة وفرصة» وقال: «إن جدول الأعمال العام يتغير بسرعة ويجب استغلال مشاعر اليأس في إسرائيل من أجل إدخال إصلاحات عديدة مطلوبة أصلاً. وعلى كل من يريد أن يفهم مشكلة إسرائيل بجدية، أن يقرأ كل التقرير من ألفه الى يائه». وشبّه وضع إسرائيل بوضع المصاب بداء السرطان قائلاً: «هناك سرطان تظهر أعراضه الأولى على الجلد، ويحتاج الى طبيب جيد ومعدات طبية جيدة، لمعرفة أنه سرطان، وليس مجرد حساسية». وكشف درور عن مشاكل وعيوب في القيادة والتفكير الاستراتيجي وقدرة الأجهزة التنفيذية على العمل. وقال إن هناك في إسرائيل «غياباً للتقاليد السياسية وغياباً لتقاليد الأخلاق والأمر يحتاج الى جيل أو جيلين أو ثلاثة». وهذه الأوضاع المتردية إسرائيلياً تعني في السياسة فشلاً ذريعاً لممارسات القوة والبطش لمقولة ما لا يتحقق بقدر معين من العنف يتحقق بقدر أكبر منه، على حد قول رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان شومرون. وبتعبير آخر إن إسرائيل فشلت ايضاً في ترميم هيبة الردع وفي فرض الحلول الجزئية من طرف واحد، ووضعت المنطقة برمتها أمام أحد خيارين: إما الحل الشامل والعادل والدائم على طريقة المبادرة العربية وهذا مرفوض إسرائيلياً، وإما الجمود والفراغ السياسي الذي لن ينفك أن تملأه الحروب الكبيرة أو الحروب غير المتناظرة بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة. وهذا الوضوح الحاسم في الخيارات المفتوحة إنما يشكّل مأزقاً استراتيجياً للمشروع الصهيوني برمته.