- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
يختلف الناس لناحية قدرتهم على تخطّي المصاعب وتفادي التعرض للحوادث والأخطاء والأمراض، وبالتالي تختلف معدلات أعمارهم.
ومعلوم أن للجينات الوراثية والحظ دورًا مهماً في تحديد طول عمر الإنسان، لكن ماذا عن الذكاء؟ هل يدخل في خانة العوامل المؤثرة بشكل ايجابي في هذا المجال؟
دراسات العقود الأخيرة
خلال الأعوام الأخيرة، تعاون المعالجون النفسيون والأطباء وعلماء الأوبئة على تقصّي المعطيات التي أفرزتها الدراسات المتعلقة بهذا الشأن في العقود الأخيرة الماضية، وكانت هذه الدراسات قد شملت ملايين الأشخاص الذين خضعوا للفحوصات والعلاج طوال هذه المدة، واللافت أن غربلة النتائج المشار إليها، أظهرت بوضوح دور الذكاء كعامل فاعل من ضمن العوامل التي تؤدي إلى طول العمر.
ماذا في نتائج هذه الدراسات؟
على الرغم من وضوح هذه النتائج، فإن قلّة من الاختصاصيين كانت على إلمام مسبق بمعظم المعلومات التي تضمنتها عن الذكاء وعلاقته بالصحة. أما خلاصة هذه المعلومات فتنحصر بكون الذكاء صلة وصل بين الإنسان ومسببات بقائه، فكلما انحدر مستواه زاد احتمال تدهور صحّة أصحابه الجسدية والعقلية، والعكس صحيح. قبل توضيع النتائج المذكورة آنفاً، كان الباحثون قد أخذوا في عين الاعتبار جملة عوامل مؤثرة في طول العمر أهمها: الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، المستوى العلمي، المستوى الوظيفي وأمكنة السكن، لكن يبدو أن المعطيات الحديثة أكدّت أن معدّل الذكاء هو نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها العوامل المشار إليها كافة.
طبيعة الذكاء وطريقة عمله
منذ أكثر من حوالى القرن من الزمن، كان الجدال لا يزال قائمًا حول طبيعة الذكاء ومقوماته. فمنهم من اعتبره مجموعة قدرات يحظى كل منها باستقلالية خاصة، ومنهم من أكّد كونه وحدة متكاملة تختلف قدراتها من شخص إلى آخر. لكن يبدو أن الاكتشافات التي أعلن عنها منذ مطلع القرن الماضي، أكدت استحواذ الدماغ البشري على ذكاء فطري يعرف بالذكاء العام، وهذا يؤيد النظرية القائلة بأن الشخص الذي يبدع في حقل ما، بإمكانه الإبداع في الحقول كافة، نتيجة الظروف التي تدفعه إلى تطوير قدراته الكامنة، ومن هنا التباين في الأداء الذهني ضمن إطار الذكاء الفطري الشامل.
علاقة الذكاء بالصحة
بالنسبة إلى الصحة، يأخذ الباحثون في عين الاعتبار العلاقة بين مستوى الذكاء العام وبين ظروف الحياة التي تتفاعل ومقوّماته الإدراكية طوال سنوات العمر. والمعروف أن مستوى الذكاء العام يتحدد منذ السنة العاشرة أو الحادية عشرة، حيث بالإمكان التنبؤ بانعكاساته المستقبلية على الحياة الاجتماعية والصحّة العامة. ويشار هنا إلى أن انخفاض مستوى الذكاء في بداية سن المراهقة، يعتبر مؤشرًا بحسب الدراسات على إمكان إصابة أصحابه بأمراض نفسية قد تدفعهم إلى الانتحار، وبأخرى جسدية في مقدمها أمراض القلب والشرايين نتيجة السمنة الزائدة.
لماذا يحدث ذلك؟
تعطي النتائج المذكورة آنفاً لمحة خاطفة عن علاقة الذكاء بالصّحة وطول العمر، لكن التعمّق بالمعطيات العامة يعطي فكرة واضحة عن كيفية تزود البعض قدرات الذكاء من اجل تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي ومحاربة الأمراض. ويعمل اختصاصيو الأوبئة حاليًا على تشكيل صورة أكثر وضوحًا عن قوة القدرات الفكرية التي يفرزها الذكاء العام وعلاقتها بالصحة.
في البداية، كان الاختصاصيون يعتقدون أن اختلاف الأفراد لجهة المعاناة من الأمراض ينجم عن اختلاف تركيبتهم الفيزيائية، لكن الاختبارات الأخيرة أكدت شمولية الوحدة بين توقيت عمل الخلايا الدماغية وردات فعلها تجاه التحديّات، وبين توقيت استجابة الجسم لموجات الدماغ وتفاعله مع إيجابيتها وسلبيتها، وهذا يبين بوضوح العلاقة المتينة بين الصحة الجسدية وسلامة عمل الخلايا الدماغية. وإذا ما علمنا أن ارتفاع معدّل الذكاء العام يرتبط بسرعة عمل هذه الخلايا، يصبح بالإمكان تأكيد العلاقة بين نسبة الذكاء وسلامة أجهزة الجسم البشري، وإذا ما لحظنا أيضاً أهمية دور العوامل المرتبطة بمحور الذكاء العام، كالبيئة الاجتماعية والوضع الاقتصادي وسواهما من العوامل المذكورة آنفاً، تتوضّح علاقة الذكاء بهذه العوامل انطلاقاً من المفاهيم الآتي ذكرها:
• من المعلوم أن الأذكياء يتلقون أفضل العلوم ويرتقون إلى أعلى المناصب، ويعيشون في بيئات إجتماعية راقية، كما يتلقون معلومات وافية عن الوقاية من الحوادث، الأمر الذي يجعلهم أكثر حصانة، أما الأقل ذكاء فتحول بلادة عقولهم دون الوصول إلى هذه المستويات، ويعيشون بالتالي رهائن الضغوط المعيشية وضحايا الخيارات الخاطئة.
• في المقابل، يشير الاختصاصيون إلى فرضية تأثير جودة البيئة الاجتماعية على نمو الذكاء الفطري، والذي يعمل بدوره على تخطي المصاعب ومواجهة التحّديات، ويؤدي إلى طول العمر. إلى ذلك، فهم يشيرون إلى إمكان تدريب ذوي الذكاء المتدني على تعلّم أساليب الحياة الذكية بهدف صيانة صحتهم بعيدًا من مطبات الجهل والإهمال.
تعلّم أساليب الحياة الذكية
إن دراسة التوائم وسواها من القرائن ذات الصلة بالجينات الوراثية، يظهر بوضوح أهمية دور الوراثة على صعيد تحديد نسبة الذكاء لدى الفرد، لكن إذا ما تعلّمنا الطرق التي يتبعها الأذكياء للمحافظة على حياتهم، نتمكن من تحسين صحتنا والمحافظة على جودة قوانا العقلية لأطول فترة ممكنة. لنأخذ على سبيل المثال أفرادًا ينتمون إلى عائلات عانت أجيالها أمراض القلب أو السكري وسواها من الأمراض، فإذا كان هؤلاء الأفراد لا يتمتعون بذكاء كافٍ للوقاية من هذه الأمراض، يصبح من الأفضل إطلاعهم على ضرورة الخضوع للرقابة الطبية وإتباع الحميات الغذائية، إضافة إلى ممارسة الرياضة والهروب من الضغوط، وهي بمجملها أساليب من شأنها أن تخفض نسبة تجمع الخلايا المعتلة، وتساعد بالتالي على تحسين الصحة أو تفادي تفاقم المرض. ويشير الباحثون إلى اكتساب ذوي الذكاء العادي أو المتدني، سرعة التفاعل مع المتغيرات وذلك عن طريق التدرب على السلوكيات المعرفية بطرق مدروسة. هذا يعني أنه ليس من الضروري أن يتمتع الإنسان بحدّة الذكاء الفطري ليواجه المتاعب والأمراض، فالمعطيات التي بين أيدينا تشير إلى أن طرق الحياة الذكية متاحة أمام الجميع، يكفي أن نعي وجودها وندخلها في صلب حياتنا اليومية، كما يكفي أن نتذكر أن بقاء الإنسان عبر العصور كان مرتبطًا بذكائه ومقدرته على التعلم واكتساب الخبرات.