- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
تكثر القصص المثيرة المتعلّقة بفاقدي البصر ويصعب تصديقها. فمنهم من صوّب رصاصة إلى هدف موضوع أمامه، أو شعر بوجود عراقيل في طريقه بدون أدوات مساعدة، أو فرّق بين النور والعتمة. فهل يمكن أن يحصل ذلك فعلاً؟
إدراك باطني
لعقود خلت، إحتار العقل البشري في تفسير هذه الظواهر، خصوصًا وأنها لا تستند إلى منطق علمي. لكنّ الدراسات الأخيرة كشفت النقاب عن أسرارها، ومدّت القيّمين على الأعصاب بمعلومات جديدة وقيّمة.
فكيف يفسّر وجود إدراك باطني للأشياء الحسّية خارج إطار الرؤية الفعلية؟
العيون الخفّية
منذ زمن بعيد، عُرف أن المعلومات الحسّية تسري عبر أعصاب عدسة العين إلى منطقة تلتقطها في الدماغ، وتعكس الرؤية بالألوان والأشكال والأحجام. واليوم، أدرك العلماء وجود آليات طبيعية تتعدّى الحواس الخمس، وتشكّل نوعًا من البواصل الداخلية، أو العيون الخفية التي تمنح هذه الحواس أبعادًا لا حصر لها.
لقد توقّفوا عن رؤية الدماغ جملة آليات تخصصيّة يعمل كل منها على حدّة. فحاسّة البصر على سبيل المثال، لم تعد تنحصر بالرؤية. وهذا ينطبق على حواس الشّم واللّمس والذّوق.
إذن الدماغ يدمج عبر آلياته المشار إليها، الحواس مجتمعة ويمكن بعضها التعويض عن بعضها الآخر بأشكال تختلف بحسب الأشخاص.
أسرار العين الغامضة
من المعروف أن خلايا عصبية في العين تكشف وجود الضوء وتبعث رسائل إلى الدماغ لتمّكنه من ضبط ساعة الجسم الداخلية التي تنظّم أوقات النوم واليقظة. لكنّ الباحثين اكتشفوا منذ أعوام، أن فئرانًا فاقدة البصر تتمكن من ضبط ساعات الليل والنهار، وتتعرف إلى وجود الضوء والعتمة على الرغم من موت خلايا عيونها العصبية. وهذا يدل على وجود آليات لاقطة سواها تعوّض عن فقدان البصر.
ما هي هذه الآليات؟
في دراسة نشرتها الصحفية الأميركية للعلوم American journal of sciences ونقلتها منشورات أخرى، توجد أدلة ثابتة تشير إلى أنّ شبكة العين غير المصابة تتمكن من التقاط الذبذبات الضوئية عبر مادة في خلاياها العصبية تعرف بـ«الميلابوسين» (Melaposin)، وهي مادة موجودة في جلد الضفادع تتحسس الضوء وترسل ومضاته إلى شبكة أعصاب في الدماغ. وهذه الشبكة تحتفظ بالشكل الخارجي للجسم غير المرئي من قبل فاقدي البصر، وتعكس وجوده عبر رسائل تبثها إلى العقل اللاّواعي. وعلى هذا الأساس يتمكن فاقد البصر من التكهّن بما هو موجود أمامه، إضافة إلى تمكنه من الشعور بوجود النور والعتمة.
إلى ذلك، تبيّن من خلال دراسة أجرتها جامعة هارفرد الأميركية، أن فاقد البصر المصاب بآلام الشقيقة (ألم الرأس النصفي) يتفاعل مع الضوء بشكل يزيد من آلامه كما يحصل مع الأشخاص العاديين، وتبيّن أيضًا أنه يستعين بأعصاب الحواس الأخرى من أجل تحديد المشهد الذي لا يراه بل يشعر بوجوده.
فعلى سبيل المثال، عرف أن بعضًا من فاقدي البصر كانوا قادرين على تحديد حركات الوجه والجسد، وعلى التعرف إلى مشاعر أصحابها. والأهم أنهم تمكنوا من لمس أدوات وضعت أمامهم من دون علمهم. وهذا يدل على أنهم يرون من خلال عقولهم اللاّواعية، أو عبر بصيرتهم المتّقدة كما يشاع بين عامة الناس.
الرؤية السمعية
كما ثبت بالدراسات العلمية، فإنّ الدماغ يتمكّن من استبدال حاسة البصر بحواس أخرى وفي مقدّمها السمع. فباستطاعة فاقد البصر على سبيل المثال الإستعانة بأذنيه من أجل تكوين صورة عن الضوء والشكل وتحديد المكان والزمان. وهو ما أكّدته اختبارات أجريت على فاقد للبصر منذ الطفولة. فهذا الشخص تمكّن من الإستعانة بسمعه من أجل تحليل أصداء الأصوات ورؤية طريقه. وبهذا نجح في ركوب الدراجة بأمان خلال زحمة السير. والأمر يعود كما تؤكّد الأبحاث، إلى مقدرة الدماغ على ترجمة الأشكال إلى ذبذبات صوتيّة عبر شحنات كهربائية بالغة الصغر، ترسل عبر خلايا الجلد.
كيف يحصل ذلك؟
الذي يحصل هو أن الحواس تتبادل المعلومات بسرعة فائقة من دون أن تتقاطع. فهي تتعاون من أجل تحديد المكان والزمان والشكل وسواها من الأشياء المراد تحديدها. فمثلاً، إن تحريك الشفاه يساعد على تفهّم الكلمات من قبل الضم، هذا إلى جانب اللّمس والإشارات المرئية. وعُرف أيضًا أن حاسة الشّم ترتبط بشكل وثيق بجميع الحواس الأخرى، وأن لها دورًا في تفعيل عمل الذاكرة، وحفظ الأشكال في العقل اللاّواعي. واللاّفت أن هذا الترابط الوثيق بين خلايا الدماغ ووظائفه، يقوى مع التقدم بالعمر، ما يعني أنّه أكثر فعالية لدى البالغين منه لدى الأطفال. مع ذلك، عرف أنه يتعلق بتسلسل الخلايا الوراثية ويختلف من شخص إلى آخر.
«كنا نظن أننا نستخدم كل حاسة على حدّة»، كما أكد الباحــث النفســـاني لورنـس ريفـير سايو من جامعـة كاليــفورنيا. لكن في الواقع، على حدّ قوله، «إنّ أدمـغـتنا تــدمج المعلــومات الحسية من المـصادر شتى بأشـكال لا يفهـمـهــا العقل الـواعـي. وهــذا يمنحنا مقدرة فائقــة لم نكن ندري أننــا نملكها من أجل رؤيـة العالـم من حولنا».