- En
- Fr
- عربي
ثقافة وفنون
ظهرت موهبة “الشاعر” كما سماه رفاقه في ثانوية فاندوم منذ كان في الصف الثالث متوسط. وقد ثابر في شغفه. ولم تكن محاولات المبتدئ تتعدى ميدان الشعر عام 1818. فكانت “رومانسية” وفق اسلوب لامارتين, ثم كلاسيكية وفق اسلوب فولتير. وقد حاول كتابة الملحمة مقلّداً لاهانرياد ثم انكب على كتابة مأساة روائية (كرومول), إلا أن فشلها الذريع دفعه الى التحوّل نحو آفاق أخرى في طموحاته الأولية. وكانت الفلسفة قد اجتذبته, فقد تابع في السوربون في الفترة الممتدة بين عام 1817 1819 محاضرات فيكتور كوزان. هذا الذي سمّي “الشاعر” هو الروائي الفرنسي الكبير هونوريه بلزاك.
حياته
ارتبطت حياة بلزاك بنتاجه. وقد وُلد في مدينة تور الفرنسية في عشرين أيار 1799, وترعرع هو وأخته لور لدى مربية في إحدى الضواحي في سان سير. وقبل أن يبلغ الخامسة من العمر بدأ بارتياد مدرسة لوجاي في تور. وفي الفترة الممتدة بين 22 حزيران 1807 و25 نيسان 1813 تلقى علومه في ثانوية فاندوم الداخلية. وخلال هذه السنوات الست لم يزر بلزاك المنزل العائلي, كذلك لم يرَ والدته إلاّ مرة.
في الفترة الممتدة بين 1816 1819 درس القانون ثم تدرّب لدى المحامي جيونيه دو مورفيل. بعد ذلك انتقل للعمل لدى كاتب العدل باسيه, وتابع في الوقت نفسه دراسة الآداب والفلسفة في السوربون.
وفي العام 1819 اعتزل في سقيفة في شارع لوديفيا. وتدرج في الأعمال الأدبية لكن من دون تحقيق أي نجاح, الأمر الذي دفعه للعودة الى المنزل العائلي عام 1820, ثم انتقل الى مدينة فيل برسيس, وأقام فيها بصورة متقطعة لأن عائلته اتخذت منزلاً لها في باريس.
ساهم بلزاك مع مجموعة من رفاقه بكتابة روايات تحت أسماء مستعارة ونُشرت باسم مؤلفات اوراس دوسان أولان الكاملة.
ما بين 1825 و1827 عرف مرحلة الحصول على الثروة من خلال الأعمال: ناشر ثم طابع فمؤسس مطبعة, ولكنه أفلس بسبب قضية قضائية, فعاد إثر ذلك الى الأدب.
قصته “الثوار الملكيون” حققت له بعض الشهرة. ثم كان النجاح الأكبر إثر نشر “فيزيولوجية الزواج”.
بدأ بلزاك الكتابة في الصحافة في العام 1830, وباشر بالظهور في مجالس عدّة منها مجالس الأميرة باجراسيون والكونتيسة ميرلين والبارون جيرار. أصدر في العام 1831 رواية “غشاء الكآبة” التي لاقت نجاحاً كبيراً. وغالباً ما كان بلزاك يعمل خلال الليل ويكثر من شرب القهوة, متدثراً بثوب راهب ذي برنس من الكشمير الأبيض.
في العام 1832 بدأت المطامح السياسية بالظهور؛ فشل في خوض الانتخابات النيابية, فانضم الى حزب الشرعية الجديد الذي يقوده كل من الدوق فيتز جامس ولورانتي. كان بلزاك يكثر من المطالعة ويوفّر لنفسه هذه الثقافة العميقة الرصينة التي لا نكتسبها إلا بأنفسنا, هذه المعرفة التي ينهل منها كافة الموهوبين في المرحلة ما بين العشرين والثلاثين من عمرهم. وأهم الذين طالع بلزاك مؤلفاتهم: بيرون, فنيمو كوبر, ماتيران, وولتر سكوت, رابليه, موليير, ديدرو, مونتسكيو, لوك, جان جاك روسو, شاتوبريان الخ. كذلك تناولت قراءاته عدداً كبيراً من مؤلفات المنسيين.
انطلاقته
أطـلق أحـد سمـاسرة الأدب أوراس ريسون عام 1824 موضـة المصطـلحات الأدبية, وقد استـخدم في ذلك بلزاك الذي كان في بداية شهرته الأدبية, فنشر عام 1825 “مصطلحات المستقيمين” وقد حثّ هذا النوع الهجائي قريحته ففندها في قوانين مختصرة, كما في المصطلحات القضائية, العادات والمحظورات الإجتماعية. ولما أصبحت قوة ملاحظته أكثر حدة, وصف بعناية عالم النفس الفيزيولوجي وفسّر التفاصيل الخارجية للشخص والمواقف والملبس والأثاث واعتبرها إشارات وبيانات إيجابية عن الطبع الأخلاقي. وباشر بلزاك قراءة ملف لافاتيه حول “فن معرفة الناس من خلال سحنتهم” وقد طبّق مبادئه بقناعة الى درجة لم يتردد معها في إيجاد تفسير واقعي متشائم بعض الشيء للحياة الإجتماعية التي تعتمد على المال في كل حركة, فـي كل إدعاء, فـي كل تعبير وجـه. هـذا في ما خصً معنى الفكـرة, أما فـي ما خـصّ الشكل فإن هـذه الخطـوط السريعة وهذه الأطـياف البشرية تعـلن عن مراحل عـدة وشخصـيات عـدة من الكومـيديا الإنسانية.
أفكاره السياسية
يضع بلزاك على نفس المستوى من التطوّر التاريخي الكاثوليكية والملكية. لقد كان يؤيد الشرعية أي الحكم المطلق ويعارض الملكية الدستورية. لقد أمضى حياته حتى وفاته عام 1850 في ظل حكم لويس فيليب وحافظ على إزدرائه لملكية تموز, فقال: “إذا لم أتمكن من العيش في ظل الملكية المطلقة فإنني أفضل الجمهورية على هذه الحكومة الحقيرة الهجينة التي تفتقر الى روح المبادئ والأسس والتي تثير كافة الأهواء من دون الإستفادة من أي منها, وتحيل أمة بكاملها الى العجز لعجزها”. لقد كان يعتبر الملك استمراراً للسلطة القوية المحركة للتقدم والحكم بين الطبقات في مصالحها المتناقضة والمتباينة, فهو الوحيد القادر على جمع الابتزاز وكبح الاختلاس وهو حامي العدالة, والسلطة هي القوة. لذا كان بلزاك يرفض الإقتراع العام حيث يقول “من يقترع يناقش ولا وجود للسلطة في ظل النقاش فالجماهير لا تكتسب بالمناقشات الفردية”.
والمساواة هي وهم لا يرتكز قط على طبيعة الأشياء, وهو يخالف نظام التفوّق الاجتماعي من “تفوّق فكري وسياسي وثروات.. كالفن والسلطة والمال أو بكلمة أخرى المبدأ, الوسيلة والغاية” إلا أنه من الضروري أن يكون للشعب وكلاؤه لتقرير الضريبة: الموافقة عليها أو رفضها وأن يتمكن الأذكياء من النخبة الذين يملكون إرداة قوية الإنبثاق من بين الجماهير وأن يمتلكوا الوسائل الكفيلة بالإتاحة لهم اكتساب اعداد جيد وبلوغ الدرجات العليا من المجتمع والسلطة.
ولقد نجحت وتحققت توقعات بلزاك السياسية في نقاط عديدة: سقوط ملكية تموز وارتقاء الديموقراطية والإشتراكية والشيوعية. وكان يعتبر هذه الأحداث نتيجة للامبالاة البورجوازية الأنانية ورغبتها بالإثراء السريع على حساب العدالة الإجتماعية وتغاضي الحكومة وعجزها عن رؤية سخط البروليتاريا.
بلزاك والنساء
عرف بلزاك وأحب العديد من النساء في حياته. في العام 1822 هام حباً بالسيدة دو برني المولودة لويز انطوانت لورهيز إبنة أحد عازفي القيثارة لدى الملكة ماري أنطوانيت. كانت هذه السيدة تكبره باثنين وعشرين عاماً, ولكن هذا لم يمنعها من أن تكون صديقة له لا مثيل لها. فكان لها تأثير عميق على تكوينه الأخلاقي والأدبي. وكان عام 1819 قد ارتبط بصداقة نبيلة مع إحدى رفيقات أخته لور في المدرسة وهي زلماتور نجان المتزوجة من آمر المدفعية كارو, وقد كان لهذه السيدة تأثير كبير على بلزاك.
وفي الفترة ما بين 1825 1827 أقام علاقة بالدوقة دار بانتس وساهم في إعداد مذكراتها. ثم أخذ عام 1832 بالمركيزة الجميلة دو كاستري, ولحق بها إكس لي, ثم رافقها الى جنيف وانتهى هذا الحلم في بداية تشرين الأول من العام نفسه.
فـي 28 شباط عام 1833 وصلته رسالة من الأميرة المجـهولة البولونية, التي استـمرت في كتابة تصريحـات الإعجـاب المرتشـعة, ويرد عليها مـطوّلاً متحمـساً مندفعاً خلف هذا الحب الجديد والجميل. وفي 25 أيلول يتم لقاء بلزاك والمجهولة الكونتيسة ايفلين هانسكا في سويسرا ويقضي خمسة أيام بقربها مع زوجها. وهناك العديد من النساء الأخريات.
لم يصل بلزاك الى إشراق وسطوع شاتوبريان وفيكتور هوغو, لكنه كان موهوباً بملكة نظرية, وعندما كان يصف فإن لوحاته تسحرنا, وإن لم يكن ذلك دائماً, بإحكام قسماتها أكثر من أصالة تعابيرها.
إعداد:وفيق غريزي