- En
- Fr
- عربي
واقع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ الاحتلال وحتى الانتفاضة
مقدمة
ما أن وضعت حرب عام 1948 أوزارها وتم التوقيع على اتفاقيات الهدنة لعام 1949، حتى أصبح أكثر من نصف مساحة فلسطين تحت سيطرة الوكالة اليهودية وذراعها العسكري "الهاجناه"، وذلك بعد أن جرى الإعلان عن قيام إسرائيل في الرابع عشر من أيار عام1948، الأمر الذي أنتج، ما اصطلح عليه في الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي بتعبير "نكبة فلسطين"، وبالتالي هدم نسيج المجتمع الفلسطيني وبناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واقتلاع وتشتيت أكثر من سبعماية ألف نسمة من سكان البلاد الأصليين، إذ لم يبق من هؤلاء سوى ماية وثلاثين ألفا ممن استطاعوا بشق الأنفس التشبث بأرضهم. وقد التجأ بعض الذين طردوا إلى أجزاء من فلسطين لم تكن واقعة بعد تحت سلطة الكيان الجديد، عرفت في ما بعد بالضفة الغربية وقطاع غزة، والتجأ البعض الآخر إلى الدول العربية المجاورة، وأصبحت "قضية اللاجئين" القضية الأكثر سخونة في واقع الصراع العربي الإسرائيلي الذي تواصل صعوداً وهبوطاً حتى يومنا هذا. وفي حين ضُمّت الضفة الغربية إلى الأردن عام 1952، عاش قطاع غزة تحت الحكم العسكري الإداري المصري
وقد اندمج ما تبقى من المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في النظامين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين لكل من مصر والأردن، وأصبح ما تبقى من البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تلك الأجزاء من فلسطين جزءاً لا يتجزّأ من البنى المشابهة القائمة في كل من مصر والأردن، الأمر الذي أحدث كثيرا من التشوّهات البنيوية فيها . وبينما عانى الفلسطينيون في الضفة والقطاع من الفراغ السياسي الذي نجم عن احتلال ذلك الجزء الكبير من فلسطين وهجرة سكانه إلى دول الشتات وتمزيق المجتمع الفلسطيني ككل وتشتيت قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، اندمجت غالبية "الكادرات" السياسية الفلسطينية في الضفة والقطاع في الأحزاب السياسية السائدة في مصر والأردن. وينطبق الأمر كذلك على اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المحيطة بفلسطين وخصوصاً سوريا ولبنان، حيث جرى تداخل كبير بين البنى السياسية الاجتماعية الاقتصادية في الضفة والقطاع وتلك التي في كلٍ من مصر والأردن، وهي لا تزال تفعل فعلها حتى الآن. ويبيّن الجدول التالي التوزيع السكاني القسري في جزء كبير منه والذي نتج عن حرب عام 1948وإقامة الكيان الصهيوني .
المنطقة |
سكان اصليون |
لاجئون |
العام |
---|---|---|---|
الضفة الغربية |
440.000 |
280.000 |
1949 |
قطاع غزة |
88.520 |
195.000 |
1949 |
اسرائيل |
133.000 |
------- |
1949 |
الاردن |
------- |
70.000 |
1949 |
لبنان |
-------- |
100.000 |
1949 |
سوريا |
-------- |
75.000 |
1949 |
مصر |
-------- |
7000 |
1949 |
العراق |
-------- |
4000 |
1949 |
الفلسطينيون في العالم العربي، لوري براند، مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت، 1992 *
وسنعالج في هذه الدراسة، واقع الشعب الفلسطيني منذ احتلال عام 1967، وحتى الانتفاضة الأولى، آخذين بعين الاعتبار التركيز على تأثيرات وتداعيات الاحتلال الإسرائيلي على مجمل الأوضاع السياسية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الضفة والقطاع، معتمدين في أدوات البحث على مصادر ذات صدقية بحثية وأكاديمية
1- تأثيرات الاحتلال وتداعياته المباشرة
احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب عام 1967 أو "حرب الأيام الستة" كما درج الإسرائيليون على تسميتها،والتي كانت بالنسبة لهم،" قفزة هائلة على المستوى الإستراتيجي، اختلط فيها السياسي بالأيديولوجي بالجيوسياسي" ([1]) فهي استكمال للمشروع الصهيوني في احتلال ما تبقى من فلسطين وبالتالي استيطانها وتهويدها من وجهة النظر اليمينية الدينية، كما أنها حسّنت الوضع الاستراتيجي والسياسي الإقليمي لإسرائيل في نظر المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وحزب العمل على السواء. أما بالنسبة للفلسطينيين على طرفي ما أصطلح بتسميته من قبل الإسرائيليين بـ "الخط الأخضر" فقد طمست الحرب هذا الخط وحوّلته إلى مجرد خط وهمي، ما ترك تأثيراته المتناقضة على الفلسطينيين على جانبيه. والأهم من ذلك إن تلك الحرب وتداعياتها الإقليمية والدولية أحدثت جدلاً عميقاً في واقع الحياة السياسية والحزبية الإسرائيلية حول "وضع الضفة الغربية وقطاع غزة وبقية الأراضي العربية المحتلة" ([2])، إذ رأى "بن غوريون" الذي كان يعيش على هامش الحياة السياسية الإسرائيلية، ان "الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة كورقة سياسية ذات مغزى استراتيجي مقابل حصول إسرائيل على اعتراف عربي بوجودها، وقبولها بالتالي في المنطقة، هو أهم من ضمّ تلك الأراضي إلى السيادة الإسرائيلية ([3])"، فيما طالب اليمين الصهيوني والقوى الدينية الأخرى بضم جميع الأراضي العربية التي احتُلت إلى السيادة الإسرائيلية، باعتبارها جزءاً من "أرض إسرائيل الكبرى" وفق المنظور الصهيوني اليميني والديني. غير أن سياسة خلق الوقائع المادية على الأرض، من استيطان، ودمج اقتصادي وتفتيت اجتماعي ونفي سياسي التي اعتمدها حزب العمل وبالتحديد "موشيه دايان" وزير الدفاع الإسرائيلي إلى جانب "سياسة الجسور المفتوحة"، شكلت بمجملها سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ذلك الحين وحتى اتفاق أوسلو، حيال ما أصطلح عليه في القاموس السياسي الإسرائيلي باسم "المناطق" أي الضفة والقطاع ([4])
كانت أول خطوة قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع وبقية الأراضي العربية المحتلة، أن فرضت نظام الحكم العسكري عليها، وحلّت جميع الدوائر والمؤسسات والبلديات والهيئات والمنظمات الرسمية والشعبية، وحظرت مختلف الأحزاب السياسية التي كانت قائمة، العلنية منها وشبه العلنية، وأصدرت سلسلة من القوانين والقرارات والإجراءات، علاوة على أكثر من 40 أمراً عسكريا منذ عام 1967وحتى أوسلو، بالإضافة إلى أوامر التعيينات المتعلقة بالدوائر والبلديات، وكانت سلسلة من الأوامر أضيفت إليها تحمل رقم (74) تضم أكثر من 600 بنداً تتعلق بالمطبوعات التي تناهض الاحتلال، مثل الكتابات السياسية والشعر والقصة والمؤلفات ذات الطابع الوطني والقومي ([5])
ويمكن تلخيص مجمل السياسات الإسرائيلية التي عمل "دايان" على تحقيقها لخلق ما اصطلح عليه بـ "سياسات الأمر الواقع" ([6]) على النحو التالي.
1- السيطرة المادية على الأرض والموارد المائية من خلال نظام متشدد للحد من التوسع العمراني لسكان الضفة والقطاع، وتحديد إمكانية استغلال الموارد المائية بالنسبة للفلسطينيين.
2- دمج شبكات المياه والكهرباء والطرق وجميع الدوائر المدنية والخدماتية بالشبكات والدوائر والمؤسسات والوزارات الإسرائيلية، الأمر الذي جعل البنية التحتية الفلسطينية تعتمد بشكل مطلق على الخدمات الإسرائيلية.
3 -امتصاص الاقتصاد الإسرائيلي (وخصوصا قطاعات البناء والخدمات) للعمالة الفلسطينية غير الماهرة
4- إلحاق اقتصاد الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع، بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي، وتحويل السوق فيهما، إلى سوق حرة للسلع الإسرائيلية ومن دون وجود أي نظام جمركي، ومن دون أن تمتد منافع ذلك لتشمل منتوجات الضفة والقطاع داخل السوق الإسرائيلية ([7]).
وكان التأثير المباشر لمجمل هذه السياسات على واقع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، يهدف إلى خلق وقائع وحقائق مادية على الأرض يصعب معها تطبيق أية ترتيبات سياسية مستقبلية باتجاه خلق أية كيانية فلسطينية مستقلة، أو حتى فصل الكيانين عن بعضهما، على خلفية نظام الدمج البنيوي المدعوم بالسيطرة السياسية والدمج الاقتصادي وسياسات الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والطرد.
وعلى الجانب الآخر أدى الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع، على الصعيد السياسي، إلى قطع الصلة السياسية بين سكان الضفة والقطاع من جهة ومحيطها العربي من جهة أخرى، وتقويض جميع الآليات السياسية التي كانت قائمة مع النظامين السياسيين المركزيين في مصر والأردن، على قاعدة حظر جميع الأنشطة السياسية التي كانت قائمة قبل الاحتلال والتي كان يتم التعبير عنها رسميا عبر ممثلي هذين النظامين في الضفة والقطاع، أو تلك التي يتم التعبير عنها شعبياً عبر الأحزاب السياسية السائدة والنقابات والمؤسسات الشعبية، وساد نظام الحكم العسكري بقوانينه وتشريعاته وإجراءاته إلى جانب "سياسة الأمر الواقع" من مصادرة الأراضي واستيطانها والسيطرة الكاملة على الموارد المائية الفلسطينية وما إلى ذلك. وباتت هذه هي السمة السائدة التي تحكم السياسة الإسرائيلية منذ ذلك الحين، يعززها جيش محتل وأجهزة أمنية تستخدم جميع الأساليب والإجراءات القمعية من اعتقال وهدم بيوت وطرد من أجل الحيلولة دون تشكل أية اتجاهات سياسية وطنية فلسطينية.
وقد تقدمت سلطات الحكم العسكري خطوة جديدة باتجاه إحكام السيطرة على المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع من خلال استغلال البنى الاجتماعية العشائرية عندما بدأت تتصل بمخاتير القرى وتعّين رؤساء بلديات على خلفية عشائرية، إلى جانب ربط جميع المؤسسات الخدمية والتعليمية والزراعية والتجارية والصناعية والصحية والإدارية المتصلة بشكل مباشر بحياة الفلسطينيين اليومية، بضباط ارتباط تابعين للحكم العسكري ويعملون في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشباك" ويجيدون اللغة العربية ويعرفون مكامن الضعف والقوة في النفسية العربية.
وعلى المستوى الاقتصادي ضربت القوانين والإجراءات الإحتلالية المتصلة باقتصاديات الضفة والقطاع، جميع البنى الاقتصادية السائدة وتلك التي تشكلت في الفترة الممتدة بين حربي 1948 و1967، وقطعت الصلات والوشائج الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة مع البنى الاقتصادية الأم في مصر والأردن، وبالتالي وضعت أسساً جديدة لإعادة هيكلة اقتصاديات الضفة والقطاع، بما يتناسب مع الأنماط الإنتاجية للاقتصاد الإسرائيلي، وحاجة بعض القطاعات الاقتصادية للعمالة العربية الرخيصة، كقطاعي البناء والخدمات بالتحديد ،وتحويل السوق الفلسطينية إلى سوق أساسية لتسويق كل ما يمكن من منتجات وبضائع إسرائيلية. فقد أغلقت سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي جميع البنوك العربية في مختلف أرجاء الضفة والقطاع، واستبدلتها بفتح فروع للبنوك الإسرائيلية، وفرضت على المواطنين الفلسطينيين التعامل بالليرة الإسرائيلية والشيكل بعد ذلك إلى جانب التعامل بالدينار الأردني. وعطلت أيضا عمل غرف التجارة والصناعة والجمعيات الزراعية الريفية في قرى الضفة، في حين أغرقت الأسواق الفلسطينية بالبضائع الإسرائيلية وفرضت النظام الجمركي والضريبي المعمول به في إسرائيل، إلى جانب العمل على خلق نمط من "الوكلاء التجاريين المحليين" والتركيز على خلق أنماط إنتاجية استهلاكية، والابتعاد قدر الإمكان عن أية منشآت إنتاجية ذات طابع وطني. وأتبعت سلطات الحكم العسكري ذلك بافتتاح مكاتب عمل في مدن الضفة والقطاع يترأسها ضباط ارتباط على علاقة مباشرة بالشباك ولهم مطلق الصلاحية باستصدار تصاريح عمل ودخول إلى مناطق "الخط الأخضر" ضمن مقاييس أمنية محددة.
هذه الإجراءات والقوانين وجدت لها تعبيراً مباشراً على الصعيد الاجتماعي، من خلال تراجع الشرائح الاجتماعية الفلسطينية الأكثر تطوراً (ذات الملامح البورجوازية) ونقل رؤوس أموالها إلى الضفة الشرقية وأماكن أخرى خارج المنطقة بعد أن وجدت نفسها عاجزة عن التعامل مع النظام الجمركي والضريبي الإسرائيلي بعد تفكّك عرى التواصل بينها وبين مصالحها خارج الضفة والقطاع. وبينما حرصت دوائر الحكم العسكري الإسرائيلي ذات الصلة المباشرة بحياة السكان الفلسطينيين على تكريس جميع الأشكال الاجتماعية البدائية (العشائرية والقبلية) بعد أن حظرت أي نشاطات سياسية ذات سمات أو أبعاد وطنية فلسطينية أو قومية عربية، وأصبح التعامل مع "المختار" في القرية والمخيم ، ورئيس البلدية المعين على أساس عشائري في المدينة، السمة البارزة في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السنوات الأولى الثلاث من عمر الاحتلال، لا سيما وأن العائلة الممتدة تمثل إحدى لبنات البنية الاجتماعية الفلسطينية في الضفة والقطاع على اعتبار أن المجتمع الفلسطيني عامة مجتمع فلاحي يعتمد على الزراعة أساساً، وان الإجراءات والقوانين الجديدة التي استصدرها الحكم العسكري الإسرائيلي أغلقت الأبواب أمام نمو وتطور شرائح جديدة إلى جانب تلك الشرائح الأكثر تطوراً في المجتمع الفلسطيني، علاوة على "حظر نشاط معظم أحزابها السياسية من بعث وقوميين عرب وشيوعيين وإخوان مسلمين"([8]).
2- تطورات سياسية اجتماعية اقتصادية في الضفة وغزة
كان لانطلاق العمل الفلسطيني المسلح واندلاع حرب الاستنزاف على الجبهتين المصرية والسورية، تأثيراتهما العميقة في المنطقة، خصوصاً وأن الظهور العلني للكفاح الفلسطيني المسلح، ولا سيما في الأردن، وما رافقه من تردد واسع لأصداء العمليات الفدائية الأولى، ساهمت بشكل عملي في مباشرة مرحلة جديدة مختلفة في المنطقة، وآذنت ببروز إشكالات اجتماعية وسياسية مستجدة لم تكن قائمة من قبل، ولا سيما مع سعي المنظمات الفلسطينية إلى بناء قواعد لها وشبكات اتصال، وإدخال كوادر وقيادات للعمل في الضفة الغربية، "وتصاعد حدّة العمليات العسكرية (الفدائية) داخل الضفة والقطاع وحتى داخل إسرائيل ذاتها، ما جاء يؤكد على رغبة وتصميم منظمات الكفاح المسلح على زيادة تأثيرها السياسي وبالتالي بسط نفوذها المطلق على سكان الضفة والقطاع" . ([9])
وزاد من قوة وتأثير هذه المنظمات الدعم السياسي والشعبي والمعنوي الهائل الذي حظيت به من قبل الشعوب العربية وحتى من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة أيضاً، والتفاف الشارع العربي برمته من حولها، واندفاع الشباب العربي إلى التطوع في صفوفها... ما ضاعف تأثيرها في مجتمعات الدول العربية التي كانت على تماس مباشر معها، ولا سيما في الأردن وسوريا ولبنان.
"وكان من شأن ذلك أن فتح الآفاق لانضواء العديد من أعضاء و"كادرات" الأحزاب الراديكالية العربية في صفوف المنظمات الفلسطينية المسلحة"([10])
وإذ أصبحت تجليات الاحتلال واقعية على الأرض الفلسطينية في الضفة والقطاع، على شكل استيطان ومصادرة أراضي ودمج اقتصادي وإجراءات عقابية وردعية، فإن المقاومة كانت الرد الطبيعي والاستجابة التلقائية من قبل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات على تلك التجليات الاحتلالية. وبينما استقطبت منظمات الكفاح المسلح أبناء المخيمات وأبناء الفلاحين من القرى الفلسطينية في الضفة والقطاع، لعبت الشرائح الاجتماعية المدينية الأكثر تطوراً في مجتمع الضفة والقطاع، دوراً بارزاً في تفعيل الشارع الفلسطيني سياسيا من جهة، ونسج علاقات سياسية وتنظيمية جديدة مع منظمات الكفاح المسلح، من خلال انخراط الكثيرين من قادة وكوادر الأحزاب السياسية المحظورة آنفة الذكر في صفوف تلك المنظمات. "فقد وجدت هذه التطورات السياسيةالاجتماعية في الداخل وفي الشتات تعبيراتها مجتمعة في ائتلاف جميع القوى والشخصيات والأحزاب والمنظمات الفلسطينية في منظمة التحرير التي اتخذت شكلاً جديداً بعد انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني في القاهرة في
نهاية عام 1968 " .([11])
ثم إن حضور منظمة التحرير الفلسطينية كإطار سياسي عريض يلتقي فيه الفلسطينيون على مختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، للتعبير عن قضيتهم في الساحتين الإقليمية والدولية، إلى جانب تداعيات حرب تشرين عام 1973 على المجتمع الإسرائيلي وعلى المنطقة برمتها، وتأثيراتها المباشرة على واقع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى حركته السياسية وانفعاله بالمحيط في الفترة التي أعقبت حرب تشرين، كل ذلك أثمر ولادة "الجبهة الوطنية" التي تشكلت من بعض القوى والفصائل الوطنية الفلسطينية على اثر قرار أصدره المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في القاهرة عام1974، وكانت" لجنة التوجيه الوطني" الذارع المباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي وبفضلها، راح الشارع الفلسطيني في الضفة والقطاع يشارك في النشاطات المناهضة للاحتلال ويعبر عن نفسه على شكل مظاهرات ذات طابع جماهيري في شوارع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية: وتحوّل هذا الشكل من النضال السياسي السلمي ليصبح السمة الأبرز في حركة الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في المراحل اللاحقة.
وقد عزز اعتراف قمة الرباط بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ومن بعده اعتراف الأمم المتحدة، الاتجاه الوطني الذي تبلور في إطار "لجنة التوجيه الوطني" التي أصبحت تشكل الذراع المباشر لمنظمة التحرير في الداخل؛ وجاء فوز قائمة لجنة التوجيه الوطني في الانتخابات البلدية التي أجريت في جميع مدن الضفة والقطاع عام ، ليعزز العلاقة الوطيدة للتطورات السياسية بين الخارج والداخل"([12]). 1976
وقد ردت سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي بعنف على انتخاب الرموز والشخصيات الوطنية، بسلسلة من إجراءات القمع والطرد والعزل ومنع التجول، وذهبت أجهزة الأمن الإسرائيلية أبعد من ذلك عندما قررت تصفية معظم رموز وشخصيات "لجنة التوجيه الوطني" فقتلت رئيس بلدية البيرة، وجرحت رئيسي بلديتي رام اللّه ونابلس، وطردت رئيس بلدية الخليل، الأمر الذي أحدث أول شكل من أشكال الاحتجاج الجماهيري الواسع ، أو تلك الأشكال البدائية للعمل الانتفاضي (التي سوف تتطور في ما بعد لتعم المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية كافة" مقابل ذلك، فإن التحول التاريخي في الحلبة السياسية والحزبية الإسرائيلية، بعد تسلّم الليكود السلطة في إسرائيل عام 1977لأول مرة، أحدث تغييرات كبيرة في شكل التعاطي وأداء أجهزة الاحتلال في المناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة من قبل حكومة "بيغن"، :حين سارعت إلى إقامة الإدارة المدنية بدلاً من نظام الحكم العسكري، وحلّت المجالس البلدية في مختلف مدن الضفة الغربية، وعينت لكل بلدية مسؤولاً من قبل الإدارة المدنية، وراحت أجهزة الأمن الإسرائيلية تبحث عن أشكال جديدة يمكن أن تحل محل الأشكال الوطنية الفلسطينية التي تبلورت في الضفة الغربية وقطاع غزة على خلفية التطورات السياسية الاجتماعية في الفترة الممتدة ما بين عامي 1967 و1980
([13])".
ويمكن اعتبار "روابط القرى" أحد هذه الأشكال التي حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إنشاءها. وتقوم فكرة هذه الروابط "على أساس دراسة أعدها دافيد كيمحي، منسق الحكومة الإسرائيلية في المناطق، للبنية الاجتماعية الاقتصادية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وعلى بعض الأفكار التي وضعت بهذا الخصوص في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين"([14]).
من جهة أخرى، شهدت مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية في تلك الفترة، بروز العديد من الأشكال السياسية ذات الأبعاد الاجتماعية التي بدأت تفرض نفسها على الشارع السياسي في الضفة والقطاع، وكانت اللجان النقابية والطلابية والتعليمية والعمالية الأشكال الأشد تأثيراً في واقع الحياة السياسية الفلسطينية على صعيد مواجهة الاحتلال وممارسات المستوطنين الذين باتوا الأداة التي تستخدمها أجهزة أمن الاحتلال والجيش في مضايقة أهالي القرى الفلسطينية([15]).
إن زيارة الرئيس المصري السابق :أنور السادات: للقدس الغربية وإلقاؤه خطاباً من على منبر الكنيست الإسرائيلي، والتوقيع على اتفاق كامب ديفيد، تركت كلها تداعيات ومفاعيل كبيرة الأهمية على واقع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع. ففي حين "سارعت معظم قطاعات الشعب الفلسطيني للتضامن مع منظمة التحرير الفلسطينية حيال اتفاق كامب ديفيد، شرعت سلطات الاحتلال، ولا سيما الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة والقطاع إلى دفع "روابط القرى" وتعزيزها من أجل توسيع ما أسمته معسكر السلام الفلسطيني في المناطق ([16]) ".
ومع اشتداد حمأة الجدل الإسرائيلي الداخلي في الحلبة السياسية حول مكانة المناطق القانونية والسياسية في تلك الفترة، ازدادت حدّة الاستيطان بشكل لم يسبق له مثيل طوال السنوات العشر التي مرت على وجود الاحتلال، فيما طالبت جهات نافذة في اليمين الإسرائيلي ضم الضفة والقطاع إلى السيادة الإسرائيلية وتطبيق القانون الإسرائيلي، وبرزت جماعات استيطانية يهودية قومية متطرفة في مختلف مناطق الضفة والقطاع، لتلعب دوراً كبيراً في بث الرعب في قلوب المواطنين الفلسطينيين وخصوصاً أبناء القرى، كجماعة" رابي كهانا" وجماعة "غوش إيمونيم" وغيرها من الجماعات الاستيطانية اليهودية المتطرفة.
وقد أضافت حكومة الليكود سلسلة من التشريعات القانونية الجديدة للتعاطي السياسي الإداري القانوني مع الضفة والقطاع تحت بند التعديلات لعام 1977-1978، 74 تشريعاً تطال الجوانب السياسية و الاجتماعية و الإدارية في الضفة و القطاع، تضمنت600 بنداً أضيفت إلى الأوامر العسكرية الصادرة عام 1967 ([17]),وُسّعت بموجبها صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية وحدودها البلدية،وقلصت مقابل ذلك صلاحيات البلديات الفلسطينية وحجّمت حدودها ونصت كذلك على تشكيل أربعة مجالس محلية يهودية استيطانية في الضفة الغربية هي(جيفعات زئيف، عمانوئيل، ألفي منشي، وكوخاب يائير) ثم وسّعتها بعد ذلك إلى عشرة مجالس محلية بعد أن تم توسيع التقسيم المنفصل المتعلق بالضفة والقطاع و كذلك المتعلق بالمستوطنات اليهودية، وهو تقسيم كرس الخطط الاستيطانية الثلاث التي نفذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ احتلال الضفة والقطاع.
و صدر بعد ذلك أمران عسكريان (آذار 1979، وآذار 1981)ينصان على أن قائد القوات العسكرية في المنطقة هو المخوّل بأن يقرر الخطوط الرئيسة لإدارة المجالس المحلية الإقليمية للمستوطنين الإسرائيليين، فيما طبّقت القوانين البلدية الإسرائيلية في الضفة الغربية، إنما على المجالس البلدية للمستوطنات فقط، متخفية تحت شعار تشريعات ثانوية للحكم العسكري، وموقعه من قبل "موظف مسؤول". والسياسات الإسرائيلية التي فرضت على الضفة والقطاع، إلى جانب الممارسات الإسرائيلية منذ عام 1967-1982، أظهرت بما لا يقبل مجالا للشك أن عملية الدمج الاقتصادي والنفي السياسي تجاوزت نقطة اللاعودة([18])".
وتميزت الفترة الممتدة ما بين عامي 1978 و1982 (عام اجتياح لبنان، وخروج منظمة التحرير منه واندلاع الانتفاضة الأولى) بتطورات كان لها كبير الأثر على واقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الضفة الغربية، أبرزها المواجهات الحادة والمتواصلة بين معظم قطاعات الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع و سلطات الاحتلال ومؤسساتها، ودخول عنصر جديد على هذه المواجهات وهو "المنظمات" المسلحة "الاستيطانية" المدعومة من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية
([19]).
والحقائق القابلة للقياس قدمت صورة واضحة عن شدة الصراع بين المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع و مؤسسات الاحتلال . فبين نيسان 1978 ونيسان 1987(و هو العام الذي اندلعت فيه الانتفاضة الأولى) حدثت (3150) مظاهرة في مختلف مدن الضفة والقطاع، منها (1870) حالة إلقاء حجارة، و (600) حالة إقامة حواجز على الطرق، و (665) حالة رفع علم فلسطيني وتوزيع منشورات، و (65) حالة إطلاق نار من أسلحة نارية ومتفجرات وطعن بالمدى، و (150) حالة إلقاء قنابل محرقة، و (6) ، حالات إعدام عملاء.
وأبرز استقصاء لمواقف الفلسطينيين في الضفة والقطاع دليلا آخر على أن الصراع ملازم لطبيعة الواقع، إذ أن وجود الاحتلال بجميع أجهزته،أنتج مقاومة شعبية وسمت واقع الشعب الفلسطيني في تلك الفترة، وقد أجرى هذا الاستقصاء فريق من جامعة النجاح بتمويل من صحيفة "الفجر" الصادرة في القدس الشرقية، ومؤسسة "لونغ إيلاند" في الولايات المتحدة، وشركة الإذاعة الأوسترالية . ومن بين أكثر النتائج إثارة للدهشة كانت "أن نسبة 93.5% من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويعتقد نحو 87% من المشاركين إن جميع أعمال العنف لها ما يسوّغها من أجل متابعة القضية الفلسطينية ([20])".
ان خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح عام 1982وما نتج عنه من آثار مباشرة، أدى إلى ضعفها سياسيا وانحسار نفوذها على المستوى الإقليمي. مقابل ذلك، فإنّ النكوص السريع لقوات الاحتلال من مناطق لبنانية احتلتها خلال اجتياح عام 1982، تحت وطأة المقاومة الوطنية اللبنانية والصمود السوري، ثم تمركز هذه القوات في شريط أمني صغير في الجنوب، أدّى إلى جدل سياسي حامي الوطيس داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية، حول كون الحرب المذكورة هي حرب "خيار أو لا خيار".
والخلافات العميقة التي تأتت عن ذلك لتطال، المجتمع الإسرائيلي برمته، وكذلك الركود الاقتصادي العميق، وجدا تعبيراتهما المباشرة على الانتخابات الإسرائيلية التي تمخضت عنها حكومة "الرأسين" أو ما أصطلح عليه "شراكة الحزبين الكبيرين" . فقد طرح ممثلو الليكود داخل الحكومة الجديدة "مسألة التقاسم الوظيفي" أو مسألة الترتيبات المؤقتة، بين الإسرائيليين والأردنيين في الضفة الغربية، في حين رأى حزب العمل وشمعون بيرس (وزير خارجية الحكومة ذات الرأسين) "إنه يجب أن ينظر إلى الدور الأردني الإسرائيلي المشترك في عملية السلام باعتباره أرضية تستند إليها عملية السلام، لكن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو ما أطلق عليه بيرس "الفرصة الأخيرة" للسلام، و الذي تزامن مع ازدياد حدة الصراع في الضفة والقطاع، حتّى باتت حقائقه غير منسجمة مع مفاهيم السياسيين الإسرائيليين ([21]) ".
و ظل الهاجس الأول "لإسرائيل" وحكومة بيغن الائتلافية هو مصادرة اكبر مساحات ممكنة من أراضي الضفة والقطاع، و توطين اكبر عدد من المستوطنين عليها، بحيث يصبح خيار الانسحاب منها مستحيلا و ذلك "على اعتبار أن الاتفاق على الحكم الذاتي مع مصر قد حوّل طبيعة النقاش حول مستقبل الضفة والقطاع، من شأن ملزم للانسحاب الإسرائيلي، إلى صيغة مقصودة الإبهام، تنص على فرض الحكم الذاتي للفلسطينيين في ظل الإدارة العسكرية الإسرائيلية ([22])" . وفي حين بادر بيغن إلى إطلاق الاسم "التوراتي" على الضفة الغربية و هو "يهودا و الشومرون"، اكتفى شريكه في السلطة باستخدام تعبير "المناطق المدارة" . و مع الأيام أصبح مصطلح "يهودا والشومرون" دارجاً في الفكر السياسي الإسرائيلي و لا يزال. و قد سارعت حكومة الليكود إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية من خلال استصدار المزيد من القوانين والتشريعات التي تنص على استملاك الأراضي والشقق السكنية من قبل المستوطنين في الضفة الغربية، ورصد الميزانيات الكبيرة لهذا الغرض." إذ استمر بناء المستوطنات في تلك الفترة بمعدل اثنتي عشرة إلى خمس عشرة مستوطنة جديدة في السنة، إلى جانب أن جوهر ميزانيات الاستيطان السنوية البالغ 300 مليون دولار، صار يخصص لتوسيع المستوطنات اليهودية القائمة، ومع حلول
عام 1985 وحتى 1989 صارت إسرائيل تسيطر مباشرة على نسبة
30-40 %من أراضي الضفة الغربية، وما يقارب من ثلث أراضي قطاع غزة، إذ بلغت أعداد المستوطنين نحو 150.000مستوطن في الضفة والقطاع، ما عدا المستوطنين الذين يتواجدون في محيط القدس الشرقية وفي داخلها. هذه الموجة الاستيطانية شابهت تلك التي نفذت في مناطق الضفة بعد حرب حزيران، وبعد الإعلان عن ضم القدس رسميا ([23])".
عندما تابعت حكومة الليكود سياسة التضييق على جميع المؤسسات والنقابات والجامعات والجمعيات الخيرية والمهنية، وكان رموز لجنة التوجيه الوطني، ورؤساء البلديات أول المستهدفين من جملة القرارات والأوامر العسكرية التي أصدرتها حكومة بيغن منذ توليها السلطة لأول مرة في إسرائيل، إذ أطلقت يد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسمحت لهم بحمل السلاح ولا سيما منهم جماعة "غوش إيمونيم" . وتزامن ذلك مع شن المسؤولين الإسرائيليين حملة تحريضية ضد الجامعات الفلسطينية وخصوصاً جامعة "بير زيت" لدورها في تنامي الروح الوطنية والنضالية في صفوف الطلبة الجامعيين.
ثم خطت حكومة بغين خطوة أخرى في تنفيذ سياساتها القمعية الجديدة بأن أصدرت أمراً، بعد قرار حل البلديات والمجالس البلدية الفلسطينية، يقضي بإغلاق الجامعات والصحف الفلسطينية وجميع المؤسسات والجمعيات والنقابات. و عبّر شارون وزير البنى التحتية في "حكومة الرأسين" عن هذه السياسة بقوله:" لا حل سياسياً يقبل التنفيذ الواقعي، ما دامت المنظمات الإرهابية تسيطر على الأراضي المحتلة، ولا فرصة أمام الخيار الأردني ولا للحل الوسط الإقليمي الذي دعا إليه حزب العمل شريك الليكود في الحكومة... نحن الآن مشغولون باستئصال سيطرة قيادة "م.ت.ف" الإرهابية على الشارع العربي من أجل إتاحة الفرصة أمام انتخابات حرة لاحقا، إذ لم تجر انتخابات ديموقراطية في يهودا والشومرون بعد ([24])".
3 الانتفاضة الأولى: أشكال سياسية جديدة
كان في مقدمة الأهداف الإسرائيلية من وراء غزو لبنان عام 1982، القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، كونها تشكل من وجهة نظر جميع السياسيين الإسرائيليين ، تهديداً لسيطرة اليهود الدائمة على الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي ذروة الثقة بالنفس، بعيد الشروع في الغزو الإسرائيلي للبنان، أكد الجنرال رفائيل إيتان رئيس الأركان الإسرائيلي العلاقة بين الأمرين إذ قال:" بات وجودنا في بيروت جزءاً من التنازع في شأن أرض إسرائيل ([25])". لكن هذه الثقة الإسرائيلية سرعان ما تبددت بعد عام واحد عندما أتضح أن خريطة الشرق الأوسط لا تزال في طور التشكّل، بعد أن عجزت إسرائيل عن تحقيق كامل أهدافها بإخضاع الشعب اللبناني، وأخفقت في أن تملي سياساتها على سوريا، مثلما فشلت في إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني لوجود إسرائيل الدائم بين النهر والبحر، وأتضح عجز شارون عن السيطرة على الروزنامة الديبلوماسية بالأمر الواقع العسكري بعدما أفرغت بيروت من مقاتلي م.ت.ف. ففي الأول من أيلول 1982، أكدت حكومة بيغن أن أي حل لن يتجاوز إتفاق كامب ديفيد الذي ينص شقه الفلسطيني على إقامة "كيان فلسطيني ذي حكم ذاتي كامل" بعد أن تبنت القمة العربية في الرباط مشروع "فاس" والذي نص على مبادرة عربية للسلام "تؤكد على حق الفلسطينيين في ممارسة حقوقهم الوطنية الثابتة بزعامة م.ت.ف. وفي إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس العربية ([26])".
وتفنيداً لتوقعات شارون، رأى الفلسطينيون في تزايد خسائر الجيش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وانسحابه مرغما إلى جيب صغير هناك، بعض الأمل بأنهم قد ينجحون في رفع كلفة احتلال إسرائيل للضفة والقطاع إلى حد يجعل الاحتلال غير قابل للاستمرار . "وكان ما عزز استنتاج فلسطينيي الداخل إنه لا بد لهم من القبض على مستقبلهم بأيديهم بعدما شهدت الساحة الفلسطينية المزيد من الخلافات الحادة والعميقة في المرحلة التي أعقبت الخروج من لبنان، فيما شكلت المظاهرات الضخمة التي خرج الإسرائيليون بها إلى ساحة تل أبيب الكبرى احتجاجا على مجازر صبرا وشاتيلا، هزيمة أخرى غير متوقعة لشارون مهندس المغامرة اللبنانية، ولمناحيم بيغن قائدها وضحيتها السياسية ([27])".
في الثامن من كانون الأول عام1987صدمت شاحنة إسرائيلية أربعة مواطنين فلسطينيين من مخيم جباليا، الأمر الذي أدى إلى مقتلهم، و اعتبرت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت الانتفاضة . فقد أعقبت الحادث مظاهرات صاخبة واضطرابات شملت جميع مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة.
واستدعى رئيس الإدارة المحلية على اثر ذلك رؤساء البلديات والمخاتير الذين تم تعيينهم بعد أن حلت المجالس البلدية المنتخبة، وطلب منهم وضع حد لأعمال العنف، غير أن مثل هذه الوسائل التقليدية المعهودة في كبح الاضطرابات، باتت بلا جدوى "أي أن هذه الشرائح الاجتماعية من الأعيان والمخاتير التي حاولت الإدارة المدنية الإسرائيلية الاعتماد عليها لضمان خضوع الفلسطينيين في المدن والقرى والمخيمات، فقدت قدرتها على فرض هيمنتها أو احترامها على جيل جديد ولد في ظل الاحتلال، ونشأ جيل جديد من قادة شبان مثقفين مناضلين ومصممين على فرض تغيير في الواقع الراهن ([28]) ".
وقد خف رابين وزير الدفاع إلى إعلان سياسة "القبضة الحديدية" لإخماد المظاهرات التي عمت مدن الضفة والقطاع، وكانت أول خطوة قام بها اعتقال أكثر من 150 فلسطينياً في ليلة واحدة خلال عملية مداهمة واسعة لمخيم البريج، فيما نقلت "يديعوت أحرنوت" على لسان رابين بأن الهدوء سوف يعود إلى المناطق إذا اعتُقل الآلاف وأُبعد المئات إلى الخارج.
وفي غضون أسبوعين من اندلاع الانتفاضة اختار إسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي وشريك رابين في "حكومة الرأسين"، اعتماد الحل العسكري للانتفاضة، و أعرب عن دعمه لكل ما يتخذه رابين من تدابير سياسية حتى " تكسير العظام" وإجراءات الإبعاد والاعتقال وتكريس سياسة "القبضة الحديدية". هذا التحالف بين زعيم الليكود و الشخصية الأقوى في حزب العمل كان يستند إلى فهم مشترك، كما كان يعبر عن الإجماع الإسرائيلي على تأييد الإجراءات القاسية ضد الانتفاضة الفلسطينية. والحق إن الرد العنيف على الانتفاضة الفلسطينية كان يصدر عن معظم المسؤولين الإسرائيليين على خلفية أيديولوجية إذ كانوا يعتقدون أن التهديد الذي طرحته الانتفاضة يطال ما هو أكبر من مجرد مستقبل الأراضي المحتلة، ويشكل خطراً داهماً على السيادة اليهودية في فلسطين، والمشكلة، كما بيّنها رئيس الحكومة شامير، "ليست نزاعا في شأن الأراضي يمكن حله بالتنازلات عن بعض الأراضي، أو بحل سياسي ينزل من السماء.. المشكلة أن ثمة تهديد عربي دائم يتجدد بين الفينة والأخرى للوجود اليهودي في أرض إسرائيل كلها، و يجب أن نواجه هذا التهديد ونتغلب عليه.. وما من حل غير ذلك ([29])".
وقد عبرت الانتفاضة عن غضب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وشعورهم بالإحباط من أوضاعهم الاقتصادية وعن فقدانهم الإيمان بقدرة الديبلوماسية على انتزاع حريتهم أو حتى لفت الأنظار إلى مطالبهم، حتى أن قضيتهم تم تجاهلها لأول مرة في مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في عمان والتي ناقشت الحرب العراقية الإيرانية. غير أن الانتفاضة كانت أولا وقبل كل شيء تعبيراً عن أمل فلسطينيي (الداخل) بأن تكون قدرتهم الخاصة جديرة بتحقيق تغيير في الواقع القائم . ومع أن قيادة الانتفاضة أعلنت منذ اندلاعها ولاءها التام لمنظمة التحرير، فقد شكلت تحدياً للمنظمة، إذ لم يسبق لفلسطينيي الأراضي المحتلة أن أمسكوا بمستقبلهم في أيديهم بقوة كما فعلوا منذ كانون الأول 1987 . لقد مثلت الانتفاضة بلوغ الجيل الذي ولد في ظل الاحتلال سن الرشد السياسي، ومعارضته للوضع الراهن على الأرض وفي الساحة الديبلوماسية. وكانت "ضربات جنرالات الحجارة على حد وصف عرفات، أهم إنجازات يقدمها فلسطينيو الداخل، وهم ينتظرون بفارغ الصبر إقدام المنظمة على استغلال المبادرة التي وفرتها الانتفاضة لتحقيق إنجاز سياسي ملموس ([30])".
وفي الرابع من كانون الثاني 1987ظهرت في طول الضفة وعرضها منشورات تعلن إنشاء القيادة الموحدة للانتفاضة "التي تشمل ممثلين عن جميع فصائل العمل". وخلافا للجنة التوجيه الوطني التي حصرت نشاطها في مقاومة مشروع الحكم الذاتي، فإن القيادة الوطنية الموحدة، اتخذت أولا، مبدأ العمل السري، وشغل أعضاؤها أنفسهم بتنظيم الانتفاضة وتوسيع نطاقها وتحويل جميع المظاهر العفوية فيها إلى أشكال منظمة، ومع تطوير أشكال جديدة على مستوى اللجان والقيادات الميدانية والاحتجاجات ([31])".
كيف حققوا مثل هذا الإنجاز الذي لم يتحقق مثله خلال عقدين من الاحتلال؟ تساءل رئيس جهاز الشَباك... معلناً عدم قدرة جهازه على تقدير حجم الانتفاضة بسب اعتماد القيادة الفلسطينية الموحدة على قمة تراتبية تنظيمية غير مكشوفة وشبكات سرية تنبض بالحياة وتلقى دعماً منقطع النظير من شرائح الشعب كافة، ومع الزمن صارت قادرة على تطوير استراتيجية للعصيان المدني واسع النطاق. وكان الانضباط الداخلي الصارم للانتفاضة بادياً للعيان من خلال قدرة القيادة على فرض قراراتها بكل بساطة، ومن دون استخدام الأسلحة النارية ضد قوات الجيش الاسرائيلي، وذلك بتوجيه طاقات الجماهير الفلسطينية إلى التظاهرات الواسعة والمقاومة المدنية غير العنفية.
وتمكنت قيادة الانتفاضة بفضل التنظيم والانضباط من استغلال البنى والمؤسسات الفلسطينية القائمة، ومن ذلك، أن حركة الشبيبة (وهي تنتمي إلى حركة فتح ولها قاعدة عريضة في مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع) مدّت الانتفاضة بموجات من الشبيبة المنظمة، فيما لعبت المنظمات والهيئات والنقابات الأهلية الأخرى دورا لا يقل عنها في هذا المجال .
وكانت قيادة الانتفاضة، تنشر التوجيهات عبر رسائل أسبوعية أو مرة كل أسبوعين وتوزعها بشكل سري، مشتملة على تعليمات للشارع الفلسطيني، فتحدد أيام الإضراب وأيام التظاهرات مع توجيهات خاصة لمختلف شرائح المجتمع الفلسطيني، من أصحاب المتاجر والمهن والطلاب والعمال وما إلى ذلك. ثم خطت قيادة الانتفاضة خطوة كبيرة عندما "شكلت قوات ضاربة من مناضلين شبان، مثلت البنية التنظيمية العملانية للانتفاضة، و كانت أهدافها مهاجمة مؤسستي الاحتلال وهما الجيش والإدارة المدنية. وفي قاعدة التنظيم الهرمي للقوات الضاربة كانت تنشر الخلايا المسماة بأسماء شهداء الانتفاضة، كما كان لكل خلية قيادة خاصة بها بحيث استعصى على جهاز الشباك أو الأمن الداخلي الإسرائيلي اختراقها، وعلى العملاء معرفتها (23)".وفي الوقت نفسه شكلت القوى الضاربة نواة اللجان الشعبية التي برزت على السطح في آذار 1988 .
وكان تشكيل اللجان الشعبية الذي حمله (النداء رقم 25) للانتفاضة يدل على توسيع بيكار المجابهة وتقديم إطار مناسب للمجتمع الفلسطيني بأكمله، من أجل دعم الاكتفاء الذاتي والانتفاضة. ولم يحل ربيع عام 1988 حتى كانت هذه اللجان تنتشر كالفطر في جميع مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع، وتشمل مختلف القطاعات الاجتماعية والزراعية والصناعية والتجارية والأمنية والتعليمية. ولم تكن التظاهرات والإضرابات التي تعلنها القيادة الوطنية الموحدة وتنفذها اللجان الشعبية وتطبقها القوات الضاربة، في نظر الفلسطينيين سوى إحدى الوسائل لإنهاء الاحتلال. فقد أشار النداء رقم (2) للانتفاضة الصادر في 10 كانون الثاني 1988 بأن الانتفاضة باعتبارها أداة لتحقيق الاستقلال الوطني التام، لها أهداف أخرى مثل إلغاء سياسة "القبضة الحديدية" وإلغاء قانون الطوارئ البريطاني ووقف عمليات الإبعاد وسحب الجيش من المدن وحل المجالس البلدية المعينة من قبل إسرائيل وإجراء انتخابات ديموقراطية وإطلاق سراح المعتقلين ووقف مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات ([32])".
لم تؤتِ سياسة رابين في "تكسير العظام" الثمار المرجوة منها، على الرغم من ضراوتها التي حملت لجنة أميركية لتقصي الحقائق على أن تشير في تقريرها إلى أن "الجنود ورجال الأمن الإسرائيليين في الضفة الغربية وقطاع غزة مصابون بحمى العنف على نطاق واسع، ما يطرح أكثر المشاكل الأخلاقية والقانونية حدّة ([33])."
وكان من أهم إنجازات الانتفاضة تدمير الفلسطينيين للعديد من شبكات المتعاونين مع أجهزة الأمن الإسرائيلية. وجاء مقتل أحد أكبر المتعاونين مع الشَباك في قرية قباطية قرب جنين ليلقي الضوء على عجز إسرائيل عن حماية من لم يخضعوا للضغط الشعبي ويعودوا عن أفعالهم الماضية. وبحلول آب من عام 1988 ازدادت مخاوف رابين من تحول الانتفاضة من مرحلة التكون إلى مرحلة النشاط، فأمر جيشه وأجهزة أمنه بتركيز النشاط على كبح جماح اللجان الشعبية المحلية، وذلك عندما نجح الفلسطينيون (إلى حد كبير) في رفض المؤسسات الإسرائيلية، واظهروا فعالية في تحدي سلطاتها ، لكنهم مع ذلك كله لم يتمكنوا من الانتقال إلى المرحلة التالية من مراحل العصيان، وهي مقاطعة جميع مؤسسات الاحتلال مقاطعة تامة.
و في أوج توهج الانتفاضة جاء الإعلان الأردني عن فك الارتباط مع الضفة الغربية في 31 تموز 1988مفاجئاً لأوساط فلسطينية كثيرة، إذ فاقم الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية سوءاً، لكنه فتح الطريق من وجهة نظر قيادة الانتفاضة أمام تكريس دور منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة والقطاع.
و أظهرت "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة قدرة على فرض التنازلات على الإسرائيليين. لكن جدول المنشورات الذي يصدر عنها أظهر أيضا التطلع إلى الخارج أي نحو منظمة التحرير والعالم العربي والأمم المتحدة والدول العظمى للحصول على الدعم الديبلوماسي الملموس ([34])". و برزت الدلائل على أهمية دور الديبلوماسية بصورة أوضح في بداية عام 1989، عندما خاطبت القيادة الوطنية الموحدة الأمم المتحدة بعدد من المنشورات، ولا سيما منها النداء رقم (25) الصادر في 27 شباط 1989، والذي طالب الأمم المتحدة بسرعة التدخل لوقف اختراقات إسرائيل للقوانين الدولية، إلى النداء رقم (26) الذي طالبها بتولي الإشراف الدولي على الأراضي المحتلة إلى أن تنسحب إسرائيل منها وينعقد المؤتمر الدولي ، و اهتمام القيادة المتزايد بالعمل الديبلوماسي في السنة الأخيرة من تلك الانتفاضة أوحى بأن فلسطينيي الداخل قد بلغوا غاية قدرتهم الذاتية على تحدي الاحتلال الإسرائيلي "وهي غاية قصرت عن تحقيق إعادة النظر الجذرية التي أدرك الفلسطينيون أنفسهم أن عليهم إحداثها في إسرائيل قبل تحقيق أي تحسين في أحوالهم. ومع حلول عام 1989 بات الفلسطينيون في الضفة والقطاع يعتمدون على منظمة التحرير الفلسطينية لتحويل تضحياتهم المتواصلة إلى إنجازات سياسية لا سيما وان المأزق الإسرائيلي الكبير الذي سببته الانتفاضة دفع رابين الى القول بأن معجزة فقط يمكن أن تنفذ إسرائيل من الانتفاضة ([35])".
4 انقلاب الصورة : تحولات كبيرة ونتائج عكسية
حملت التحولات الكبرى التي شهدها العالم والمنطقة، سواء على صعيد حرب الخليج الأولى ونتائجها (الكارثية) أو انهيار الاتحاد السوفياتي، تأثيرات ملموسة على واقع المنطقة و على واقع القضية الفلسطينية وعلى الانتفاضة ذاتها . وكان الخلل الكبير الحاصل في موازين القوى لصالح الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، قد وجد تعبيراً مباشراً له خلال انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991 الذي حمل "حلاً أميركياً للقضية الفلسطينية ينسجم مع الرؤية الأميركية لإعادة صوغ المنطقة مجدداً، وإحداث شرق أوسط جديد في إطار الاستراتيجية الكونية الأميركية ([36])".
ولم يكن الحل المذكور يبتعد كثيراً عن الرؤية الإسرائيلية (ولا سيما اليمينية) عندما اعتبر بوش الأب أن الضفة الغربية وقطاع غزة مناطق متنازع عليها وليست محتلة، في حين أبلغ شامير رئيس وزراء إسرائيل المؤتمر بأن "إسرائيل بلد صغير ولا تستطيع أن تتنازل عن المناطق التي بحوزتها، و إن هناك الكثير من المناطق لدى العرب يستطيعون استيعاب الفلسطينيين فيها"، هذا فيما تنازل العرب والفلسطينيون و وافقوا على الطلب الأميركي الإسرائيلي بعدم إنشاء و فد فلسطيني مستقل، على أن يكون هناك وفد من الضفة والقطاع من ضمن الوفد الأردني للمفاوضات.
و سارعت حكومة الليكود قبل أن تغادر الحلبة السياسية إلى فرض المزيد من الحقائق الجديدة على الأرض الفلسطينية في الضفة والقطاع، على شكل "تسمين" المستوطنات القائمة، وبناء أخرى جديدة، وشق المزيد من الطرق الالتفافية، والإمعان في تمزيق الكتل السكانية الفلسطينية وتقطيع أوصالها وعزلها عن بعضها البعض، بحيث يستحيل تنفيذ أي تسوية إقليمية في المناطق من جهة، بينما تعطى إسرائيل من جهة أخرى الوقت الكافي (أكثر من ثلاثين عاماً حسب إسحاق شامير) للمفاوضات مع العرب.
وبين مماطلة الليكود في المسارات التفاوضية التي حددها مؤتمر مدريد، ومجيء حزب العمل بزعامة الثنائي رابين بيرس، جاء اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو مفاجئاً للعالم وللفلسطينيين قبل غيرهم، في حين اعتبره رابين "تلك المعجزة التي طال انتظارها كثمرة للتحولات الدولية المذكورة ولوجود قابلية فلسطينية للاستجابة لها، وهو محرك أيضا لتحولات جديدة ليس فقط على صعيد البنى التي قامت على أساسه، بل كنتائج لها ([37])".
و قد أنهى اتفاق أوسلو مرحلة من النضال الوطني بكاملها، وبشكل خاص (الانتفاضة الأولى)، ودشّن مرحلة جديدة برموزها وخطابها السياسي، ولكنه لم يكن تتويجاً للمرحلة السابقة، وإنما كان نقطة فارقة بين مرحلتين. ولعل الأزمة العويصة التي لازمت الوضع الفلسطيني ما يشكل كلمة السر لذلك. ذلك أن "البرنامج الذي أنتجته الحركة الوطنية الفلسطينية في تشكلها الثاني بعد انطلاقة العمل المسلح الفلسطيني وقيام م.ت.ف، لم يتحقق، مما شكل منعطفاً حاداً أمام العمل الوطني الفلسطيني ومأزقاً يلازم السلطة الفلسطينية وبقية فصائل العمل الوطني الفلسطيني ([38])".
كما أن قيام السلطة الفلسطينية وما رافقه من تداعيات على الواقع الفلسطيني في الداخل والخارج قد عمق الأزمة التي باتت تسم الواقع الفلسطيني برمته. وفي حين رأت تيارات داخل منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقية أوسلو فرصة لتحقيق ما بات يطلق عليه "مشروع الدولة"، رأى رابين وبيرس اتفاق أوسلو على أنه "اتفاق أمني محض، يقوم فيه الفلسطينيون بحكم ذاتي إداري على المدن الفلسطينية التي سلمت لهم مقابل محاربة الإرهاب والتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ([39])".
والسنوات التي مرت منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو وحتى اندلاع "انتفاضة الأقصى"، أي الانتفاضة الثانية التي ما تزال مستمرّة، أكدت على أن معظم الحلول الإسرائيلية لقضية الشعب الفلسطيني قد انحصرت حول مسألة إعطاء الفلسطينيين حكماً ذاتياً إدارياً على مساحة لا تتجاوز 52% من مساحة الضفة الغربية، وإسقاط أهم مواضيع الصراع أي القدس واللاجئين والحدود والمياه والسيادة، فيما اتخذت هذه الحلول "أسماء حركية" إسرائيلية بدءاً من خطوط باراك الحمر، مرورا بخريطة نتنياهو للمصالح الأمنية الإسرائيلية وانتهاء "بدولة شارون الصغيرة و المحشورة بين عدة جدران عازلة والمكونة من "معزلين" كبيرين لا يربطهما رابط ([40])، والتي حملتها خطته التي طرحها في مؤتمر هرتسيليا مؤخراً.
ونقلت السلطة الفلسطينية معها بعضاً من مؤسساتها الأساسية التي كانت في الخارج، ونقلت معها أيضاً جميع الأمراض التي حلّت بها طوال المرحلة الماضية، فيما عملت على إقامة المزيد من الأجهزة الأمنية (تجاوزت الثمانية عشر جهازاً) إلى جانب المؤسسات والوزارات الحكومية التي تساعدها في بسط سيطرتها السياسية، في وقت اقتربت فيه من الدخول في مواجهة عنيفة مع المنظمات المعارضة لاتفاق أوسلو على ضوء دخول التيار الإسلامي الجهادي على واقع الشعب الفلسطيني بقوة والتعبير عن نفسه بسلسلة من العمليات العسكرية التي أدت إلى سقوط "حزب العمل" ووصول الليكود إلى السلطة (بحسب تعبير كثير من المحللين الإسرائيليين). وقد أدى حل واستيعاب الأشكال والأطر شبه السياسية والتنظيمية والمؤسسات النقابية والشعبية التي كانت قائمة، والتي تبلورت خلال الانتفاضة الأولى، إلى نشوء فراغ شعبي راح يعبر عن نفسه بقوة خلال انتفاضة الأقصى .
فإذا كانت اتفاقية أوسلو جاءت نتيجة لانتفاضة عام 1987 من وجهة نظر شمعون بيرس، فإن الاتفاقية نفسها كانت سبباً لانتفاضة الأقصى التي سوف تعيد الصراع إلى جوهره.
5 الواقع الاقتصادي منذ الاحتلال وحتى أوسلو
ارتكزت استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته على تعطيل الدورة الاقتصادية في الضفة والقطاع وإحداث خلل هيكلي وقطاعي في بناها الاقتصادية، لجعل انسلاخ الاقتصاد الفلسطيني عن الاقتصاد الإسرائيلي غير ممكن . وأول ما أحدثته تلك السياسات هو الخلل الدائم بين الدخل والإنتاج، وكذلك الخلل في سوق العمل، من خلال إضعاف قدرة التوظيف المحلي للاقتصاد الفلسطيني، والحرص على جعل هذا الاقتصاد مكشوفاً وعرضه للهزّات الخارجية."فالتبعية الاقتصادية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني، تختلف عن التبعية النمطية التي تبلور مفهومها بالاستعمار التقليدي وانسحبت نسبيا على غالبية الدول النامية. فقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي، عدة أساليب أولها مصادرة الأراضي التي تمثل محور التفكير الصهيوني، ليس كعامل إنتاج فحسب، بل لتنفيذ الاحتلال المبرمج للوجود الفلسطيني المنتج ([41])".
وبلغ مجموع ما سيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي من أراضٍ منذ عام 1976 وحتى أوسلو حوالي 55-60% من أراضي الضفة الغربية، ونحو 40% من أراضي قطاع غزة، حيث استخدم الاستيطان لفرض الأمر الواقع، وأحدث تغييراً في الموازين الديموغرافية . وقد أنفقت سلطات الاحتلال الصهيوني على الاستيطان طوال الفترة المذكورة حوالي 14 مليار دولار، وبلغ عدد المستوطنات التي أقامتها في الضفة 176 مستوطنة يسكنها نحو 317ألف مستوطن، منهم 17 ألفاً في القدس الشرقية (بعد أن تم فصلها عن الضفة والقطاع وضمها للسيادة الإسرائيلية في مطلع عام 1968 ).
وأتبع الاحتلال سياسة الفصل الاقتصادي بين كل من الضفة والقطاع بتفكيك الوحدات الاقتصادية لكل منهما، واستغل الطرق والنقاط الاستيطانية للسيطرة على المحاور الرئيسية في جميع الأرجاء . كذلك استخدم المياه أداة للسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني وإضعاف قطاعاته الإنتاجية. وبحسب خبير مياه إسرائيلي "بلغت كميات المياه التي يضخها الاحتلال من مياه الضفة نحو500 مليون متر مكعب سنوياً، مع حرصه على منع الفلاحين الفلسطينيين من استغلال المياه الجوفية أو السطحية عن طريق حفر الآبار الارتوازية" ([42]).
وكانت القرارات العسكرية لمصادرة جميع مصادر المياه الفلسطينية قد صدرت منذ الأيام الأولى للاحتلال تحت قرار رقم (92) الذي أحال جميع المسائل المتعلقة بالمياه إلى "ضابط مياه" مرتبط بالحكم العسكري، إلى جانب القرار رقم (158) لعام 1968الذي يحظر على الفلسطينيين معرفة أي معلومات حول المصادر المائية و حول ملكية المياه.
و استخدم الاحتلال الإسرائيلي العمالة الفلسطينية لصالح اقتصاده، و للإضرار بالاقتصاد الفلسطيني وفرض التبعية عليه وإحداث خلل في هيكل سوق العمل الفلسطينية التي فقدت قدرتها الاستيعابية، الأمر الذي نتج عنه خلل هيكلي قطاعي، فزيادة في أجور العمال، زادت من كلفة الإنتاج، ما أدى إلى تراجع دور القطاعات الإنتاجية وتراجع ثقلها في النشاط الاقتصادي، خصوصاً، مع ارتفاع أسعار السلع غير المستوردة .هذا إضافة إلى خسارة الاقتصاد الفلسطيني إسهامات العمالة الفلسطينية في ترتيب الناتج المحلي خصوصاً، لا سيّما أن سوق العمل الإسرائيلية قد استخدمت ثلث العمالة الفلسطينية . ويوضح الجدول التالي الآثار التراكمية ([43]) لكل ذلك:
السنة |
1972 |
1975 |
1980 |
1987 |
1990 |
1991 |
1993 |
---|---|---|---|---|---|---|---|
دخل العمال إلى إجمالي الناتج المحلي |
54.4 |
36.32 |
35.8 |
28.9 |
24.9 |
24.9 |
13.13 |
ملامح الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال
يمكن رصد هذه الملامح كما يلي:
1 استند الاقتصاد الفلسطيني إلى قاعدة إنتاجية ضعيفة جعلته عرضة للصدمات الخارجية و ملزماً بالاعتماد على الاقتصاد الخارجي، وظهر ذلك جليا من خلال نسبة الناتج المحلي إلى الناتج القومي التي وصل متوسطها إلى 74% بين 19721992 وكذلك الأمر، في الميزان التجاري، حيث لم تزد نسبة تغطيه الصادرات إلى الواردات أكثر من 18% سنة 1993 ([44])، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جزءاً كبيراً من الصادرات الفلسطينية كان نتاج علاقة اقتصادية مغلقة بالاقتصاد الإسرائيلي، لأن عائد القيمة المضافة يكون لصالح الاقتصاد الإسرائيلي وليس لصالح الاقتصاد الفلسطيني:
2 الانفصام بين العمل ورأس المال في النشاط الاقتصادي، حيث ينتج ما يقارب ثلث قوة العمل الفلسطيني فائضاً لصالح الاقتصاد الإسرائيلي، إضافة إلى ما يقارب النسبة ذاتها ممن يعملون في الخارج، ما أفقد الاقتصاد الفلسطيني قوى إنتاجية كبيرة، وأضعف الطلب الكلي وألحق الضرر بالدورة الاقتصادية بسبب التسرب الكبير من دورة الإنفاق ([45])
3 تشوه هيكلي شبه كلي ناتج عن عدم ربط الدخل بالإنتاج، عبّر عن وجوده بالمداخيل الاقتصادية المضطربة:
4 التذبذب الحاد في نمو الاقتصاد الفلسطيني الذي "وصل إلى ما يقارب نسبة 19.8% بين عامي 1972 و 1985 وتراجع إلى ما دون 11% ما بين سنوات 188 1990 ([46])"
5 تجزئة السوق الفلسطينية جغرافيا وفرض مجمل السياسات الاقتصادية الإسرائيلية عليها، وشل التبادل التجاري الداخلي، الأمر الذي أوغل في تشويه جميع البنى الاقتصادية أساسا، لضمان استمرارية تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي.
هذه الملامح الأساسية العامة، كانت تقوم على سياسات استراتيجية منهجية تنفذها الأذرع الاقتصادية ومراكز الدراسات والبحث الاقتصادي المرتبطة بأجهزة الحكم العسكري التي تهدف إلى تدمير أي بنى اقتصادية إنتاجية حقيقية، من خلال تجاوزها و احتوائها وحتى إلغائها، والهدف هو اقتلاع الوجود الفلسطيني وتبديد أية إمكانيات لنشوء علاقات إنتاجية أو قوى منتجة قد تتطور مستقبلاً لتشكل أساساً لاقتصاد فلسطيني شبه مستقل أو ذي بعد وطني.
إلى جانب ذلك كله، فقد اعتبرت :سياسة الجسور المفتوحة: التي فرضها وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي دايان بعد الحرب مباشرة، مكملة للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية حيال الاقتصاد الفلسطيني، و تهدف من وراء ذلك إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي :
1 الحصول على عائدات وموارد للخزينة على شكل ضريبة شراء ورسوم جمركية يدفعها التجار العرب.
2 فتح أسواق جديدة أمام الصادرات الإسرائيلية ضمن المجال الحيوي الإسرائيلي.
3 الحصول على بضائع رخيصة نسبياً يدفع ثمنها بالليرة أو بالشيكل، بدل أن يضطر الفلسطيني لاستيرادها من الخارج بالعملة الصعبة([47])"
و تبلورت في ظل أحكام السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية على الاقتصاد الفلسطيني ثلاثة مجالات اقتصادية رئيسية أهمها قطاع الزراعة، وقطاع التجارة وقطاع العمالة، و كانت هذه القطاعات مرتبطة أشد الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي كما يبّين الجدول التالي:
السنة |
الضفة الغربية |
قطاع غزة |
الضفة والقطاع |
معدل نمو الناتج في الضفة والقطاع |
---|---|---|---|---|
1968 |
95.8 |
35.3 |
131.1 |
- |
1970 |
104.3 |
47.5 |
16.8 |
- |
1980 |
773.4 |
293.4 |
1057.8 |
- |
1981 |
682.8 |
297.6 |
980.4 |
40.6 |
1982 |
744.5 |
294.2 |
1083.7 |
8.9 |
1983 |
806.6 |
204.7 |
1111.3 |
5.9 |
1984 |
716.9 |
304.7 |
1067.7 |
7.0 |
1985 |
745.7 |
270.8 |
999.4 |
3.9 |
1986 |
1181.8 |
253.7 |
1502 |
6.4 |
1987 |
1295.1 |
320.3 |
1749.1 |
50.3 |
1988 |
1418 |
454 |
1891.5 |
5.16 |
1989 |
1298.3 |
473.5 |
1777.8 |
8.1 |
1990 |
1353.1 |
497.5 |
1789.6 |
6.1 |
1992 |
1224.4 |
483.6 |
1823.5 |
7.2 |
انتفاضة عام 1987 وبروز أشكال اقتصادية بدائية
أثّرت انتفاضة عام 1987وعدّلت في "حركة المتغيرات الأساسية للواقع الاقتصادي الفلسطيني، كتطور إجمالي الدخل المحلي و متوسط الدخل الفردي وتطور الاستهلاك وحجم الصادرات إلى الأسواق الإسرائيلية، وحجم الواردات الإسرائيلية إلى الضفة والقطاع، وتطور الأسعار التسويقية. و ثبتت الانتفاضة اقتصاديات عددٍ من المتغيرات وأعطتها خصوصية التصاعد والتكيف، وعززت صفتها الإجمالية وتماسكها البنيوي، و بالتالي وسّعت من مجالها المجتمعي وأعطتها قوة المنطق والمثال في مجتمع الضفة والقطاع ([48])". ورغم الإجراءات الاقتصادية التي تعرض لها الفلسطينيون في الضفة والقطاع خلال الانتفاضة الأولى، وخصوصاً الحصار ومنع العمال من الوصول إلى أعمالهم والاعتقالات الواسعة في صفوفهم، فإن المحللين الاقتصاديين أشاروا إلى أن الفلسطينيين تمكنوا بصورة خلاقة من ابتكار آليات وبنى اقتصادية جديدة تتلاءم وطبيعة الظروف، من شأنها أن تكون بديلاً للبنى والأنماط الاقتصادية التي سبّبتها سنوات الاحتلال.وكانت "الاقتصاد المنزلي" و "المزرعة الأسرية" و "نمط اقتصاد الكفاف" تمثل أشكالاً اقتصادية تؤسس لاحتمالات تطور الفعل الانتفاضي إلى مراحل تصل إلى العصيان المدني والتمرد على جميع أشكال العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال، "فقد نمّت هذه الأشكال الشعور بالمسؤولية لدى العامل الفلسطيني ما حفّزه لإيجاد المشاريع التعاونية ذات القاعدة الاجتماعية الصغيرة (العائلة أو الحمولة) والأفق الأسهل (الحي) والمدينة و(الحارة)في القرية والمخيم، بمعنى إن الأسباب الاقتصادية التي استحضرتها الانتفاضة الأولى على جدول أعمالها من حيث حيويتها وضرورتها، شكّلت مدخلاً للحماية الشعبية الاقتصادية التي تقوم على الانسحاب إلى الداخل الفلسطيني، كمقدمة لفك الارتباط القهري والتخلص من مظاهر الدمج الاقتصادي القسري الذي فرضته أعوام الاحتلال الماضية وسياساته الاقتصادية، من خلال ما تولّده من قوة الفعل الانتفاضي بين اقتصاد الانتفاضة واقتصاد الاحتلال، وهو ما يوازي الشعارات السياسية التي طرحتها الانتفاضة: ويقوم مفهوم الحماية الشعبية على إخضاع العلاقات الاقتصادية القائمة والمرتبطة باقتصاد الاحتلال، لمنطق التنمية الداخلية، تحفزه أدوات الاستقلال الداخلي، مقابل شروط الدمج والإلحاق. ويؤسس مفهوم الحماية الشعبية بداية لاقتصاد منزلي عبر التحكم باقتصاد الأسرة، وتحقيق الحد الأدنى من الكفاية الذاتية. ويشتمل هذا المفهوم على انسحاب أكبر عدد ممكن من العمالة الفلسطينية إلى داخل الاقتصاد الفلسطيني البدائي، لخلق مشاريع إنتاجية بديلة (اقتصاد تحويلي) بالحد الأدنى، وبالتالي إيجاد أماكن عمل بديلة، ويبطل ما يروّج له من تهجير لهذه العمالة إلى دول الخليج على سبيل المثال. كذلك يتطلب مفهوم اقتصاد الحماية الشعبية توجيه مسلك الفرد إلى حالة متقدمة تتجاوز فرديته، ما يقود بالضرورة إلى إيجاد حالة عامة من الادخار التطوعي يمكن استثماره ([49])".
إن ما أحدثته انتفاضة عام 1987 من أشكال اقتصادية بدائية بديلة أدى إلى ظهور نوع من التعايش العملي "المتناقض في جوهره" بين سلطة إحتلالية يرفدها جيش وأجهزة أمنية قمعية وأعداد كبيرة من المستوطنين المسلحين، وبين شعب مقهور محاصر، يمتلك إمكانيات وقدرات هائلة على الإبداع في مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وطاقة مذهلة على "التكيّف ضمن شرط حياة الحد الأدنى، ما جعله في حالات كثيرة
يحوّل حالات الكفاف إلى حالات اقتصادية تستجيب لشروط المرحلة التاريخية ([50])".
اتفاق بـــــــاريس:
الاقتصاد الفلسطيني وحدود السيطرة الإسرائيلية
مثلما سعت إسرائيل لصياغة الواقع السياسي الناشئ عن اتفاقية أوسلو من خلال سياسة الفصل المادي الأمني والسياسي مع مناطق السلطة الفلسطينية، فقد راحت تحاول رسم الحدود الاقتصادية بحيث يتسنى لها فرض السيطرة المباشرة وغير المباشرة على الوضع الاقتصادي المتشكل في مناطق السلطة ([51]).
وتشمل مبادئ بروتوكول الاتفاق الاقتصادي الوارد في اتفاق أوسلو الأول حدوداً مادية واضحة، تمكّن إسرائيل من الموافقة أو من رفض أية خطوة اقتصادية تقوم بها السلطة في مختلف الجوانب الاقتصادية : وينظم البروتوكول الاقتصادي العلاقات الاقتصادية والتجارية، على أساس المعايير الإسرائيلية، و أولها عدم وجود حدود جمركية حرة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل إلا ضمن قيود المقاييس الإسرائيلية، والاستثناء الوحيد يكمن في التحكم بخمس مواد زراعية، فيتم تحويلها جزئياً إلى الفلسطينيين، وبالتالي يجري التعامل مع القيمة المضافة على أساس رأس المال النهائي، بمعنى إن ضريبة القيمة المضافة يتم تحويلها من الخزينة الإسرائيلية إلى السلطة الفلسطينية، ثم إن العلاقات التجارية مع الدول الأجنبية (تعرفة، مقاييس، نظام قيود كمية) يتم تحديدها على أساس السياسات الاقتصادية الإسرائيلية.
وتتبلور في الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية نظرية يتم بموجبها تحديد خطوط واضحة بين الاقتصاد والبنية الاقتصادية في مناطق الحكم الذاتي، كما ورد في الملحق الاقتصادي لصحيفة "هآرتس" حيث نشرت الوثيقة التي أعدها طاقم اقتصادي إسرائيلي برئاسة "دافيد برودت" مدير عام وزارة المالية السابق، وأحد الذين وضعوا أسس الاتفاق الاقتصادي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في باريس، و تقوم إسرائيل والسلطة حسب هذه الوثيقة بإيجاد نموذج اقتصادي مفتوح يشمل توحيد الضرائب الجمركية، وإقامة مناطق تجارية حرة، و يكون لإسرائيل القول الفصل في تحديد هذا النموذج.
وتتضمن مبادئ التسوية الاقتصادية التي بلورها اتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية على سبيل المثال، أسس الفصل بين التجارة الخارجية بين الطرفين على أساس حدود واضحة، تأخذ باعتبارها وجود إدارات تجارية خارجية مشتركة ومستقلة للطرفين عبر ما يسمى بتعزيز العلاقات التجارية بينهما وإنشاء جهاز رقابة وإدارة سياسية مالية مشتركة، وأخرى وفلسطينية مستقلة مرتبطة بها.
ويسود اعتقاد لدى معدّي وثيقة اتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية حسبما جاء في تقرير اقتصادي لهآرتس إن الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية ستكون قليلة جداً على أساس هذه الحدود بفعل تقليص العلاقات الحالية مع الاقتصاد الفلسطيني، و الفوارق الكبيرة القائمة بين الاقتصادين، ووجود منظومات من الإجراءات الأمنية المعقدة والطويلة على المعابر، وحجز البضائع المستوردة، مما يؤدي إلى زيادة تكلفتها وبالتالي ارتفاع أسعارها.
وحسب المعطيات التي نشرها مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإن التصدير من المناطق الفلسطينية حافظ على مستوياته المنخفضة في السنوات الأخيرة، حيث بلغ حجمه 1.6 مليار دولار، أي نحو 58% من الصادرات الإسرائيلية، في حين بلغ حجم الاستيراد إلى المناطق الفلسطينية 280 مليون دولار، أي ما نسبته 53% من مجموع الواردات الإسرائيلية.
إن الفصل الاقتصادي من وجهة نظر كثيرين من الاقتصاديين الإسرائيليين، لن يكبح الميل إلى الاستعانة بخدمات التصدير الإسرائيلي لمناطق السلطة، حيث إن تسويق منتجات صناعية إسرائيلية في السوق الفلسطينية سيتواصل مع تخفيض مستوى الرسوم الجمركية المتوقعة، وبالتالي من المتوقع إقامة مشاريع مشتركة تستند إلى تكلفة إنتاج متدنية في المناطق الفلسطينية . ويشير تقرير "هآرتس" إلى أن الخطر الحقيقي من ناحية الصناعات الإسرائيلية، هو أن تقدم السلطة الفلسطينية على إقامة حواجز جمركية لمنع دخول المنتجات الإسرائيلية بهدف تطوير الصناعات المحلية الفلسطينية. وينبغي على السلطات الاقتصادية الإسرائيلية أن تبادر إلى معالجة إمكانية نشوء مثل هذا الوضع بما يستدعي المحافظة على المنظومات والإجراءات الأمنية المعقدة والطويلة على المعابر، وحجز البضائع المستوردة.
وأضاف التقرير إلى أنه "ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار إمكانية تسريب منتجات دول ثالثة إلى السوق الفلسطينية، من خلال الفجوات الجمركية بين الاقتصادين . ولضمان عدم إغلاق الحدود أمام البضائع الفلسطينية، يجب التركيز على الاستثمارات في أجهزة الرقابة و تجربة دمجها بالأجهزة الأمنية المختصة. فالمهم ألا نمكن الفلسطينيين من التوصل إلى وضع يستطيعون خلاله مقاطعة الإنتاج الإسرائيلي ومنع تسويقه الواسع حتى الظروف العادية".
ويقترح خبراء الغرف التجارية الإسرائيلية في المجال المالي الامتناع عن التداول بالوحدات المالية القائمة وإلغاء قانونية الشيكل، وتحديد سعر التبادل بين الطرفين مقابل ذلك. وما يجدر ذكره أن العملات المتداولة في مناطق السلطة هي الدينار الأردني والشيكل.وينظر كثيرون من الخبراء في سوق المال الإسرائيلية بخطورة بالغة إلى إمكانية إصدار الفلسطينيين عملة خاصة بهم، لأن ذلك سيحقق لهم الكثير من المزايا الاقتصادية، بينما يتطلع الاقتصاد الإسرائيلي إلى استقرار سوقه المالية في حدود مستويات التضخم الحالي المرتفعة التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي.
وفي سبيل التخفيف والحدّ من العمالة الفلسطينية الكثيفة في السوق الإسرائيلية، يقترح معدّو وثيقة الغرف التجارية الإسرائيلية تشغيل الأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة داخل السوق الفلسطينية، من خلال مشاريع استثمارية إسرائيلية ضخمة ومشاريع أخرى مشتركة، بدلاً من استخدام هذه الأيدي في سوق العمل الإسرائيلية وحدها، والحد من مخاطر وجودها، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب. وتخلص تلك الوثيقة إلى "أن ثمة إمكانية للتوصل إلى تسوية اقتصادية تستطيع إسرائيل من خلالها أن تعرض موقفها الذي يشمل فصلا جمركيا وماليا واتفاقيات تجارة حرة بين الطرفين، وتحسين القاعدة البنيوية القائمة للتعاون بينهما على الرغم من الفوارق الهائلة في بنية الاقتصادين ووتائر نموهما. فبوسع إسرائيل أن تساهم برأس المال والتكنولوجيا على أسس استثمارية مقابل توفير العمالة والسوق من قبل الفلسطينيين".
ويبدو أن نشر هذه الوثيقة ترافق مع خطوات حكومة باراك على صعيد تطبيق خطة الفصل السياسي والأمني مع مناطق السلطة الفلسطينية. ويقول "دان شفتان" مؤلف كتاب "الفصل بين إسرائيل ومناطق الحكم الذاتي": "إن الفصل المادي السياسي والأمني مع الفلسطينيين يستدعي فصلا اقتصادياً، وبغية إنجاح خطة الفصل بشكل عام، ينبغي على الاقتصاد الإسرائيلي أن يحدد معايير اتصاله وانفصاله مع البنية الاقتصادية الفلسطينية، كما و علينا رصد الأموال من أجل استثمارها في الضفة، للمحافظة على المصالح الاقتصادية الإسرائيلية، ومساعدة الفلسطينيين في التغلب على مصاعب الضائقة الاقتصادية، شريطة أن يقوم الفلسطينيون بجميع الأعمال الاقتصادية الصحيحة المطلوبة في هذا الاتجاه". ويقترح الكاتب نفسه في هذا الإطار أن تعمل إسرائيل على مساعدة الأردن في تطوير اقتصاده ويقول: " ونحن نستعد لتنفيذ قرار الفصل، وخصوصاً الاقتصادي، ينبغي علينا ألا نمكن الفلسطينيين من توجيه أنظارهم غرباً باتجاه "نتانيا"، و علينا أن نحفزهم للتطلع شرقاً صوب "عمّان"، ليس على صعيد إيجاد فرص العمل، وإنما على صعيد مختلف مجالات الحياة، من طبابة ومواصلات ومعاملات تجارية وقانونية وتمضية أوقات الفراغ، فإسرائيل لم تنشأ لحل المشاكل التاريخية للفلسطينيين.
بين أوسلو و انتفاضة الأقصى:
الإتفاق إلى المجهول والصراع إلى جوهره
قد نجد متسعاً بعد ذلك كله لنجري ولو مجرد جردة حساب سريعة بأحداث السنوات السبع التي أعقبت أوسلو (بين تاريخ التوقيع على اتفاق المبادئ في أيلول 1993 و اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول 2000) حيث أن مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الضفة والقطاع قد تفاقمت إلى الأسوأ، بالرغم من وجود سلطة فلسطينية جاءت على أثر تطبيق أول مراحل اتفاق أوسلو وخصوصاً ما يسمى "غزة أريحا أولاً"، إلى جانب استمرار حكومة باراك التي اندلعت الانتفاضة في عهدها، و ممارسة سياسات الأمر الواقع في مختلف أرجاء الضفة والقطاع بما أصطلح عليه بعض المحللين السياسيين باسم "الاستراتيجية الاستباقية" للحل، و قد عبرت تلك السياسات عن نفسها على النحو التالي:
المستوطنات لم تفكك ولم يتوقف بناء المزيد منها، بل تواصل بناؤها في عهد حكومة باراك بوتيرة تفوق وتيرة بنائها في عهود أسلافه رابين وبيرس ونيتنياهو: ففي القدس وحدها زاد عدد المستوطنين اليهود مائتي ألف نسمة، ومثل هذا العدد أضيف إلى مستوطنات الضفة والقطاع: :والحقيقة المروعة في هذا الصدد أن مساحة الأراضي التي "كسبتها" السلطة الفلسطينية نتيجة اتفاق أوسلو، كانت أقل بكثير من مساحة الأراضي التي استولى عليها الإسرائيليون خلال السنوات الأخيرة على شكل مستوطنات وطرق التفافية ([52])".
المعابر، بما فيها مطار غزة، أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية بفعل الاتفاق المذكور، تغلقها وتفتحها وتتحكم بها كيفما شاءت.
مياه الضفة والقطاع التي يفترض أن تروي أربعة ملايين فلسطيني، تسرق أمام أعينهم من أراضيهم وتحول لري المستوطنين.
الأحوال المعيشية ومستوياتها في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني انخفضت بنسبة 30% منذ اتفاق أوسلو، مبددة أحلام المراقبين الاقتصاديين في تحويل تلك المناطق إلى "سنغافورة الشرق" .
مصير القدس و اللاجئين والحدود النهائية والمياه والسيادة ما زالت بانتظار "غودو الحل النهائي" ([53]).
لكن الخسائر السياسية الفلسطينية الناجمة عن أوسلو كان يمكن أن تكون أفدح، وقد رأينا كيف أخرجت القضية الفلسطينية من إطار الشرعية الدولية (على ظلمها) إلى إطار مرجعية أوسلو ذات الرعاية الأميركية الوحيدة: ورأينا تحديداً كيف أخرجت أوسلو القضية من إطار مجلس الأمن رقم "242" رغم (التأويل الإسرائيلي) الذي ينص على الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي التي احتلت عام 1967، إلى إطار التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي :على الأراضي التي تختار إسرائيل أن تنسحب منها (53)". وظهر أخيراً كيف جرى اختزال القضية الفلسطينية من كونها قضية عادلة يناصرها العرب والعالم الثالث والعالم الإسلامي وجميع قوى السلام في العالم، إلى قضية "كيانية هلامية خارجة عن مفهوم العلوم السياسية المتعارف عليها" ([54])، ثم جاءت الانتفاضة "التي أعادت الصراع إلى جوهره، وأعادتنا إلى ظروف حرب عام 1948،([55])" لتذكرنا بجوهر القضية الفلسطينية التي حاول اتفاق أوسلو خلال سبع سنوات طمسها،
وهي قضية شعب يواجه مشروعاً استيطانياً إجلائياً مدججاً بمختلف الأسلحة التقليدية وغير التقليدية ومدعوماً من أقوى دولة في هذا القرن،
و يرفض حتى الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية.
و فشل قمة كامب ديفيد الثانية لم يكن سوى تعبيرٍ مباشرٍ عن استمرار السياسات الإسرائيلية في فرض الحقائق المادية على الأرض، على الرغم من تكرار الرواية الإسرائيلية الممجوجة بأن الفشل مرده إلى :تعنّت الفلسطينيين، ولأنهم يريدون أخذ اليد كاملة بدلاً من الكف وبعض الأصابع المقدمة من الإسرائيليين، ([56])"، مثلما لم تكن زيارة شارون إلى الحرم القدسي الشريف سوى الشرارة التي أشعلت الانتفاضة.
انتفاضة الأقصى:
الواقع السياسي رأساً على عقب
الانتفاضة كمصطلح أدخله الشعب الفلسطيني في القاموس السياسي العالمي، هي تعبير عن تحوّل نوعي مكلف وهائل يشمل مستويات المجتمع الفلسطيني كافة في الضفة والقطاع، بكل بناه التحتية المادية والمعنوية ، ويأتي في سياق الفعل الوطني الفلسطيني المتواصل منذ أن أقيمت أول مستوطنة يهودية على الأرض الفلسطينية، "بمعنى أن الانتفاضات الفلسطينية ليست ظاهرة مؤقتة مقطوعة الجذور عن تواصل النضال الوطني الفلسطيني بشكل عام" ([57]).
غير أن انتفاضة الأقصى تختلف كلياً عن غيرها و لا سيما الانتفاضة الأولى من حيث اختلاف الظروف السياسية محلياً وإقليمياً ودولياً، ومن حيث حجم المشاركة والعلاقات والأشكال التنظيمية التي تنامت في سياق فعلها في ظل وجود سلطة فلسطينية على بعض أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن حيث المتغيرات الكبيرة التي أتينا على ذكرها وأهمها تشكل ما يسمى بعالم أحادي القطبية، ومن حيث احتدام الانقسامات والتناقضات الداخلية الإسرائيلية التي شكلت بمجملها ذلك "المأزق التاريخي" الذي تزايد الحديث عنه في ظل انكشافه الواضح على وقع استمرار الفعل الانتفاضي الفلسطيني، ومن حيث تراجع بل تآكل النظام العربي الرسمي وعدم فعاليته في ظل اشتداد الهجوم الأميركي على المنطقة تحت عنوان "الأزمة العراقية"، والأهم من ذلك كله "الانسحاب الإسرائيلي المذل من جنوب لبنان على وقع ضربات المقاومة اللبنانية وعلى رأسها (حزب الله) الذي أكد للفلسطينيين أنه بالإمكان تكرار هذه التجربة بالرغم من كلفتها الباهظة، أو على الأقل، التأكيد للإسرائيليين مجدداً بأن كلفة الاحتلال يمكن أن تكون باهظة أكثر"([58]).
وعلى أي حال فقد حملت التطورات السياسية الفلسطينية في الفترة التي سبقت الانتفاضة جملة من السمات عبّرت عن نفسها على شكل "مفارقات أو تناقضات". فقد بقي الفعل الجماهيري الفلسطيني في طور التشكل لكونه متفاوتا في موقفه من التسوية التي أفضت إلى أوسلو ودخول م:ت:ف: إلى الضفة الغربية وإقامة سلطة فلسطينية، وحمل في أحشائه في الوقت نفسه، بروز التطور والتجدد بما ينسجم وخصوصية الوضع العام القائم في الضفة والقطاع، وهو يشكل نهجا متصاعدا يحمل آفاق التبلور من خلال الفعل الانتفاضي والمواجهات المتواصلة، ويحمل على مستوى الوعي شمولية في التفكير وفقا لحجم حدَة الفعل الاحتلالي الذي يقع على مختلف شرائح الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع.
كل ذلك وجد تعبيراته السياسية والتنظيمية والاجتماعية والاقتصادية، على شكل "مفارقات أو تناقضات"، على النحو التالي:
1- الزخم الكبير والواسع الذي اتسمت به الأشهر الأولى من الانتفاضة وأخذت فيه حركة الشارع الفلسطيني المنتفض سمة سلمية و لعب الجيل الشاب دوراً مركزيا في المواجهات، ما أعطى الانتفاضة حيوية من نمط جديد جذب إليه مزيدا من الشرائح الاجتماعية الفلسطينية وأعاد إلى الأذهان جميع الأطر والأشكال التنظيمية التي تشكلت في الانتفاضة الأولى، حيث جرى استيعابها والالتفاف عليها في حينه من قبل السلطة الفلسطينية من خلال إحجام الأجهزة الأمنية وأجهزة الشرطة عن الانخراط فيها، بل أن هذه القوى الفلسطينية المسلحة كانت تجد نفسها أحياناً في منطقة فاصلة على الحواجز بين قوات الاحتلال والمنتفضين.
2 انخراط معظم فصائل العمل الوطني الفلسطيني في الانتفاضة، ولا سيما التيار الإسلامي الجهادي ممثلاً بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتشكيل أجنحة عسكرية جديدة لمعظم هذه الفصائل التي ستعلب دورا كبيرا في سياق تطور الفعل الانتفاضي، ونشوء جدل فلسطيني داخلي حول ما سمي "بعسكرة الانتفاضة أو الحفاظ على طابعها السلمي".
3 نشوء مفارقتين متناقضتين لأهداف الانتفاضة والشعارات السياسية التي طرحتها منذ اليوم الأول وخصوصاً "شعار كنس الاحتلال من الضفة والقطاع وتحقيق حق العودة كهدف راهن". ففيما ارتأت السلطة الفلسطينية في الانتفاضة وسيلة لتحسين شروطها التفاوضية، رأى الشارع الفلسطيني فيها خياراً استراتيجياً"([59]). وقد فاقمت هاتين المقاربتين حدة المأزق الفلسطيني الداخلي في ظل عدم نجاح القوى الفلسطينية المنخرطة في الانتفاضة في التوصل إلى إجماع حول هدف محدد أو برنامج سياسي يحكم حركة الشارع الفلسطيني المنتفض، ما تنتج عنه خطة عسكرية أو خطة اقتصادية تتلاءم وطبيعة الظروف، كما حصل في الانتفاضة الأولى وإلى جانب ما أحدثته هاتين المقاربتين من جدل واستقطابات داخل أكبر المنظمات الفلسطينية (فتح أو بما أصطلح عليه باسم حزب السلطة) ما أسفر عن نشوء إطار عسكري جديد لفتح (كتائب شهداء الأقصى) وإطار تنظيمي عرف "باللجنة الحركية العليا". بالرغم من ذلك نجحت هذه الأطراف مجتمعة في تشكيل إطار تنسيقي بينها عرف باسم "لجنة التنسيق الوطني للانتفاضة".
-4 ارتقاء مستوى التعاون الاستراتيجي بين السياسات الأميركية الإسرائيلية إلى مستوى التماثل في ما يتعلق برؤية الصراع حرباً أو تسوية، وهو ما عبّر عن واقعه، من خلال الطروحات الأميركية التسووية بدأت بخطة « تنيت » ومشروع « ميتشل » مرورا بجولات المسؤولين الأميركيين المتكررة للمنطقة، وانتهاء بخطة خريطة الطريق التي اتخذت عنوان "التهدئة" وأسماء حركية مثل الأمن الإسرائيلي والقضاء على الانتفاضة أو الالتفاف عليها، وهو أمر استغلته الاستراتيجية الأميركية على صعيد التحضيرات للحرب على العراق، عاملاً مهماً على صعيد التعاطي الأميركي مع الصراع على الأرض الفلسطينية، لجهة وجهة النظر الإسرائيلية التي أصبحت أكثر تطرفا وحدّة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول .
5- ازدياد حدّة الفعل الانتفاضي وتصاعده كشف مرة أخرى عجز النظام العربي وضعفه حيال الانتفاضة، وألهب الشارع العربي الذي من خلال المظاهرات العارمة التي شهدتها معظم عواصمه من جهة أخرى، علاوة على إن الانتفاضة كشفت عن تبعية السياسات الأوروبية نسبياً للسياسات الاستراتيجية الأميركية، وعدم قدرتها على بلورة موقف موحد حيال ما يجري على الأرض الفلسطينية." والأنكى" من ذلك كله أن المواقف الرسمية لبعض أطراف النظام العربي الرسمي، وكذلك مواقف معظم دول الاتحاد الأوروبي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، تحولت إلى عنصر ضاغط على السلطة الفلسطينية التي لم تتخلّ عن تعاطيها مع الحلول "على ضوء اعتبار الموقف الأميركي والسياسات المتعلقة بما سمي بالحرب على الإرهاب، والتي اعتبرت الانتفاضة (إرهابا) على خلفية مقاربة شارون:"لديهم بن لادن ولدينا بن لادننا" ([60])، يعني عرفات.
6أن تصاعد الفعل الانتفاضي من جهة، وتصاعد الفعل العسكري كالاحتلال من جهة أخرى، رسما معادلة صراعية على درجة كبيرة من الحدة والعنف اتسمت بها ردود أفعال الحكومات الإسرائيلية العسكرية المتعاقبة منذ اندلاع الانتفاضة، وردود فعل الأجنحة العسكرية الفلسطينية التي أدخلت "ظاهرة العمليات الاستشهادية إلى الفعل الانتفاضي، الأمر الذي أحدث ما اعتبره محللون عسكريون إسرائيليون نوعا من توازن العنف"([61]) مقابل ذلك، فان سياسات القتل (التصفيات ) والتدمير المنهجي للبنى التحتية الفلسطينية وتقطيع أوصال الكتل السكانية في الضفة والقطاع، وتطبيق خطة الجدار العازل"كجدار أمني يحمل بعداً سياسياً"([62]). تركت المجتمع الفلسطيني مكشوفا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأمني تحديداً، ولا يزال يشكل "عقب أخيل" للفعل الانتفاضي الفلسطيني.
وكعادتها ألقت المؤسسة السياسية الإسرائيلية بكل ثقلها مع "الحل العسكري للانتفاضة" تحت شعار"باراك" الذي أصبح نهجا سياسيا للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهو "عدم تمكين الفلسطينيين من تحقيق أهداف سياسية بالعنف"([63]). واتخذت استراتيجية العمل العسكري الإسرائيلي أساليب مختلفة من العمليات العسكرية الصغيرة والكبيرة، بدءاً من عملية "أورنيم" ومروراً بعملية "الحلاقة" وانتهاء بالعملية العسكرية الكبيرة التي جرت في عهد شارون وحملت أسم "عملية السور الواقي"إضافة إلى عمليات التدمير المنهجية التي طالت جميع البنى الاقتصادية التي تشكلت قبل وبعد أوسلو، وتعطيل الدورة الاقتصادية الفلسطينية بالكامل، وعمليات جرف الأراضي الزراعية والإمعان في تقطيع أوصال المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية عبر عمليات الحصار والإغلاق المتتالية، وعمليات الاعتقال الفردية والجماعية المنهجية، والأهم من ذلك كله "أسلوب عمليات التصفية" الفردي والجماعي حيث اختلطت الشعارات التي رفعها رؤساء الأركان الإسرائيليين المتعاقبين مثل شعار باراك، "دع الجيش ينتصر" إلى شعار شاؤول موفاز"الصراع على الوعي"، إلى شعار يعلون "العمل الجراحي الموضعي ضد الإرهاب".
في مقابل ذلك فان هذه الاستراتيجية دفعت الفعل الانتفاضي للتحوّل إلى طور"عمليات مواجهة عسكرية" على ضوء نشوء أجنحة عسكرية تابعة لمعظم الفصائل المنخرطة بالفعل الانتفاضي، تمثلت بعمليات على نمط حرب العصابات (أضرب واهرب) من نصب الكمائن وإطلاق نيران الأسلحة النارية على المستوطنين وجنود الاحتلال على الطرق الالتفافية في الضفة الغربية ونقاط التماس مع قطاع غزة، بعد أن تم بناء "الجدار الأمني" على طوال الحدود مع قطاع غزة، ووضع العبوات المتفجرة على هذه الطرق: وتطور عمل هذه الأجنحة إلى تكريس"ظاهرة الاستشهاديين"، في العمق الإسرائيلي، لدرجة دفعت المحليين الإسرائيليين إلى وصف هذه الظاهرة بأنها أصبحت جزءاً من الثقافة الفلسطينية"(64). وبالرغم من الجدل العميق حول جدوى وتأثير هذا النوع من العمليات، فلسطينياً وعربياً وحتى دولياً، إلا أنها امتلكت كبير الأثر على واقع الحياة والسياسة والمجتمع في إسرائيل، وأصبح الأمن الإسرائيلي أكثر الأسئلة المطروحة على الإسرائيليين بإلحاح. وبالرغم من ذلك، فإن عدم وجود خطة عسكرية موحّدة تتفق حولها الأجنحة العسكرية الفلسطينية العاملة في الضفة والقطاع، أدى في كثير من الأحيان إلى خلق بلبلة وارتباك كانت أجهزة الأمن الإسرائيلية المستفيدة الوحيدة منه، كما سرّع في عملية الفرز التي شهدتها الأجهزة الأمنية للسلطة وتنظيم "فتح" في الضفة الغربية، باتجاه انخراط المزيد من أعضائه في الانتفاضة: إلا إن كثرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتداخل صلاحياتها، ووجود أطر "التنسيق الأمني" مع قوات الاحتلال، وعدم وجود استراتيجية أمنية فلسطينية لحماية الأمن على المستوى الفردي والجماعي، وزيادة منسوب الوعي الأمني لدى جماهير الانتفاضة، وموافقة السلطة الفلسطينية على عدم محاسبة "المتعاونين" وعدم التعرض لهم، وحتى استيعاب البعض منهم في مؤسسات، كل ذلك جعل من "ظاهرة العملاء" أكثر الظواهر خطورة على الفعل الانتفاضي خصوصاً والمجتمع الفلسطيني عموماً"(65)، لا سيما على ضوء المقاربتين السياسيتين المتناقضتين للسلطة الفلسطينية ولبقية الفصائل، الأمر الذي شكل "مأزق" الانتفاضة والعمل الوطني الفلسطيني برمته في الداخل والخارج.
وعلى العموم أظهرت حصيلة السنة الأولى للانتفاضة ملامح مرحلة صراعية محتدمة ومديدة، كما أظهرت شكوك الإسرائيليين الكبيرة في جدوى الحلول العسكرية وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم هذا الصراع رغم "الإفراط بالقوة" من جهة، وعجز الاقتصاد الإسرائيلي عن تحمل تبعات استمرار مثل هذا النوع من الصراع، بعد أن ضربت قطاعات اقتصادية إسرائيلية أساسية، مثل السياحة، والبناء والتقنية العالية من جهة أخرى، فضلاً عن هروب رؤوس الأموال الأجنبية، حتى صارت "مناعة المجتمع الإسرائيلي" موضع تساؤل على ضوء التأثيرات الاجتماعية والمفاعيل النفسية الذي تركها الفعل الانتفاضي والعمليات الاستشهادية بالتحديد على الواقع الإسرائيلي، وتزايد عزلة إسرائيل الدولية، بالرغم من الغطاء الأميركي الذي عبّر عن نفسه في جميع المواقف المنحازة لإسرائيل ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول.
ثم إن حصيلة الانتفاضة وهي تدخل عامها الرابع، قد أظهر مزيداً من مظاهر التآكل في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تمثلت في ظاهرة "رافضي الخدمة" وظاهرة "الطيارين الذين يرفضون القيام بطلعات جوية فوق الأراضي المحتلة"، وظاهرة "مسؤولي الشَباك الأربعة" الذين دعوا إلى التخلي عن "الحسم العسكري" والبحث عن تسوية مع الفلسطينيين "وحمّلوا شارون وحكومته مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الإسرائيلية"(66). وفي حين وصلت سياسات شارون إلى طريق مسدود، وعلى ضوء قضايا الفساد التي باتت تهدد استقرار حكومته، وسقوط "التوقعات المتوهجة التي عوّل عليها جراء الغزو الأميركي للعراق واحتلاله"(67), لم يعد أمامه سوى الاستمرار في مناوراته السياسية ومواصلة الاعتماد على الحسم العسكري، خلافاً لكثير من الرؤى السياسية التي بدأت تطالب بتغيير الواقع السياسي الإسرائيلي من أساسه، على ضوء المأزق العميق الذي باتت تعيشه إسرائيل في المجالات كافة.
إن نظرة على "خطة شارون للانسحاب أحادي الجانب" التي طرحها في مؤتمر هرتيسليا مؤخراً، وتوصل أطراف نافذة في حزب العمل الإسرائيلي
(يوسي بيلين) إلى اتفاق مع أطراف فلسطينية في السلطة الفلسطينية (ياسر عبد ربه) هو "وثيقة جنيف"، يظهر بما لا يدع مجالا للشك أن رؤية الحلول الإسرائيلية للصراع الدائر على الأراضي الفلسطينية لا تزال في جوهرها واحدة وإن اختلفت الصيغ؛ فالخلاف بين الرؤيتين الإسرائيليتين الأساسيتين للتسوية يتمحور حول أنسب الطرق وأقلها كلفة لتحقيق الهدف الصهيوني وهو الدولة ذات الطابع اليهودي والأغلبية اليهودية على أجزاء كبيرة من فلسطين (أرض إسرائيل) وجعل أفق الحل فلسطينياً لا يتجاوز إقامة كيانية أو دولة غير كاملة السيادة على نسبة لا تتجاوز 45 55% من أراضي الضفة الغربية بالنسبة لحزب العمل، أو نسبة 42 54% منها بالنسبة لحزب الليكود وزعيمه شارون.
فالمقاربة (بالأرقام ) التي يجريها العميد في الاحتياط شاؤول إرئييل (أحد المشاركين في اتفاق جنيف ورسم الخرائط المرفقة به، وأحد الذين شاركوا في جميع الاتصالات السياسية مع السلطة الفلسطينية في العقد الأخير) بين وثيقة جنيف وخطة شارون هي على النحو التالي :
"الكيانية الفلسطينية بحسب وثيقة جنيف ستسير بموازاة خطوط عام 1967(على نحو أقل أو أكثر)، أما خطة شارون فتنصّ على تموضع حدود الكيانية الفلسطينية بموازاة خطوط الجدار الفاصل، وطول الحدود الواردة في خطة شارون يصل إلى 926 كلم.(من دون قطاع غزة)، أما طول الحدود المنصوص عليها في وثيقة جنيف فيصل إلى 445كلم. وستضم إسرائيل إليها بحسب وثيقة جنيف مناطق تبلغ مساحتها 124 كلم. مربعاً من أراضي الضفة، مقابل مساحة مساوية تسلّم للسلطة الفلسطينية. وستضمّ خطة شارون مساحة تبلغ 945 كلم مربعاً (ثلاثة أضعاف مساحة غزة) من دون مقابل، بينما وثيقة جنيف ستترك 21 مستوطنة يهودية داخل مناطق الجدار الفاصل، أما خطة شارون فتبقي على 89 مستوطنة يسكنها 376 ألف مستوطن داخل مناطق الجدار. وإذ تنص وثيقة جنيف على عدم إبقاء أيّ من السكان الفلسطينيين داخل مناطق الجدار، تبقي خطة شارون هناك على 42 قرية فلسطينية يسكنها 246.650 نسمة، وبينما تترك وثيقة جنيف للفلسطينيين ما نسبته 57 60% من مساحة الضفة، فان خطة شارون تترك لهم ما نسبته 42 54% من مساحة الضفة"(68).
خلاصة الأمر إن الخسائر الاقتصادية والمادية الكبيرة الحجم التي أصابت المجتمع الفلسطيني طوال سنوات الانتفاضة، والإصرار العنيد والتضحيات الجمة التي أظهرتها مختلف شرائح هذا المجتمع، توازي من حيث القيمة المعنوية حجم التداعيات الهائلة والكبيرة التي تركتها الانتفاضة على مختلف جوانب المجتمع الإسرائيلي، والاهتزازات الكبيرة التي أحدثتها في مناعته القومية وفي جدران المؤسستين العسكرية والأمنية، "حتى أنها وضعت مستقبل إسرائيل ووجودها موضع تساؤل"(69). كذلك فإنها كرّست معادلة سياسية أصبح من المستحيل تجاوزها وهي استحالة "قيام دولة فلسطينية في ظل ما فرضته سياسات الأمر الواقع الإسرائيلية، واستحالة بقاء الاحتلال على ضوء الكلفة الباهظة التي تثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي، وعدم جدوى الحلول العسكرية الإسرائيلية".
الأمن: خاصرة إسرائيل الرخوة
يشكل تعبير "الأمن" حجر الزاوية في الفكر السياسي الإسرائيلي، ومنه تنبع مختلف المسوغات والمبررات التي تدفع الحكومات الإسرائيلية إلى الإقدام على كل ما تفعله، وعلى خلفيه الأمن تصاغ مختلف السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية. وقد تعزز هذا المصطلح بعد احتلال عام 1967 وتوسع الرقعة الجغرافية المسيطر عليها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي ضاعف من أعبائها الأمنية، حيث رافق الجيش جهاز الأمن الداخلي خلال احتلاله الأراضي العربية. وكان أول ما قام به جهاز "الشَباك" وبقية الأجهزة الأمنية في الأيام الأولى من الاحتلال، أن قسّم الضفة الغربية إلى سبع مناطق إدارية وعيّن لكل واحدة منها ضابطاً عُرف في الشارع الفلسطيني "بضابط مخابرات"، كما باشر عملية مسح اجتماعي وإحصاء شامل لسكان الضفة بعد مرور شهرين من احتلالها: ومما ساعد جهاز "الشَباك" في السيطرة الأمنية بتلك السرعة، هو وضع يد الجهاز على أرشيف المخابرات الأردنية في مبنى محافظة مدينة القدس ومباني المحافظات الأخرى في الضفة الغربية التي كان للمخابرات الأردنية فروع فيها "وتضمن هذا الأرشيف عمليات مسح اجتماعي سياسي قامت به الأجهزة الأردنية بمساعدة جهاز المخابرات الألمانية الغربية في أوج المصادمات بين السلطات الأردنية والأحزاب والحركات السياسية في الضفة الغربية عام 1966، ويشتمل على الأحزاب وتركيبتها ونشطائها وتأثيراتها وأسماء الشخصيات التي وصفت بأنها مناهضة للنظام الأردني، إلى جانب مسح للاتجاهات السياسية العامة لسكان الضفة"(60).
بعد ذلك فصل جهاز الشَباك الريف الفلسطيني عن المدينة من الناحية الإدارية، وعيّن لكل مجموعة من القرى القريبة من بعضها، "ضابط مخابرات" خاص، ثم قسّم المدن إلى ضواحي، وكذلك مخيمات اللاجئين، ففصلها عن محيطها من الناحية الإدارية.
وفي سبيل إحكام الطوق الأمني "وضعت سلطات الحكم العسكري جميع الجوانب الخدمية والإدارية والتعليمية والتجارية والصناعية والزراعية وكل ما يتصل بحياة المواطنين اليومية، بعد أن أصدرت للمواطنين في الضفة والقطاع بطاقات هوية شخصية، تحت سيطرة ضباط ارتباط تابعين للحكم العسكري، يعملون جميعهم في أفرع "الشَباك" في الضفة والقطاع بعد أن أخرجت القدس الشرقية منها"(61). وأشرف الجهاز مباشرة على مكاتب العمل والتشغيل في مختلف مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع، إلى جانب استصدار التراخيص المهنية وتصاريح العبور من وإلى الضفة والقطاع وتصاريح الزيارات العائلية إلى الأردن وبقية الدول العربية.
اعتمد جهاز الأمن الداخلي في الأشهر الثلاثة الأولى من الاحتلال أسلوب المداهمات وجمع السكان في الساحات العامة، وفرزهم حسب الشريحة العمرية، في عملية سبر منهجية لمختلف شرائح المجتمع القروي الفلسطيني، وكان يستخدم مختار القرية للتعريف عن السكان: وكان الاهتمام يتركز على البنية الاجتماعية التقليدية في القرية، أي "العائلة أو الحمولة أو العشيرة" من خلال وضع اسم العشيرة أو الحمولة ضمن الاسم الثلاثي لكل فرد. وكانت سلطات الاحتلال تهدف من وراء ذلك إلى استغلال الوعي البسيط لدى هذه الشرائح والقائم على منظومة من القيم والتقاليد والأعراف العشائرية، مع الحرص على استثناء واستبعاد الشرائح الأكثر وعيا في المجتمع الفلسطيني بشكل عام: وشنّ "الشَباك" حملة بحث عن الأسلحة التي كان جمعها المواطنون الفلسطينيون من مخلفات الجيش الأردني، وتعمد تدمير كل بيت يعثر فيه على أية قطعة سلاح، لتأديب المواطنين وزرع الرعب في قلوبهم وتعزيز هيبته". وتعمد رجال الأمن الاعتداء بالضرب على الذين يعثر لديهم حتى على "خرطوش صيد"، وذلك أمام سكان القرية بأجمعهم"(62). وحاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية استغلال الفارق بين المجتمعيَن الفلسطيني والإسرائيلي، وبين نمطي الحياة ومستوى المعيشة بينهما. "فقد وجد الفلسطيني نفسه، بعد السماح له بدخول مناطق عام 1948،أمام مفارقة مدهشة، إذ اصطدم بمجتمع منفتح لا سلطة فيه على السلوك الفردي، يعج بمختلف المظاهر التي لم يألفها، ويفتح ذراعيه لكل من يبتغي اللهو و التسلية وفعل كل ما يحلو له، خلافا للمجتمع الفلسطيني الذي يزخر بمنظومات من القيم الأخلاقية الناهية عن مختلف الأفعال التي يعتبرها منافية للأخلاق والحشمة. وشكّل هذا التناقض أرضية خصبة لجذب "مادة خام" لأجهزة الأمن الإسرائيلية من ضعاف النفوس وطلاب المتعة والمنفعة، وراحت السلطات الإسرائيلية تشجع الظواهر الاجتماعية السلبية في الوسط الفلسطيني مثل البغاء والقمار وأماكن اللهو التي تعتبر بالنسبة لها أماكن الجذب السهلة لمن تجندهم"(63).
ولم تقتصر معالجة الوضع الأمني على جهاز "الشَباك" فحسب وإنما أطلقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة يد الأجهزة الأمنية الأخرى وخصوصاً على صعيد "تجنيد العملاء" وذلك بعد تزايد أنشطة الكفاح المسلح الفلسطيني في الضفة والقطاع. وكان لجهازي "أمان" (أو الاستخبارات العسكرية)، "والموساد" الباع الطويل في تلك المرحلة على صعيد التصدي لظاهرة الكفاح المسلح ، لا سيما بعد أن تجاوزت الحرب بين المنظمات الفلسطينية وهذه الأجهزة الساحة الفلسطينية لتشمل مختلف الساحات في العالم.
وبينما أصبح تأثير ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني وحرب الاستنزاف التي شنتها كل من مصر وسوريا في الفترة الواقعة ما بين 1967 و 1970، بارزاً في واقع الحياة السياسية والاجتماعية في الضفة والقطاع، تركز جهد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عامة على مقاومة هذا التأثير أو الحد منه على الأقل، من خلال عمليات الاختراق الداخلية لفصائل العمل الفلسطيني وتنفيذ جملة من الإجراءات القمعية والعقابية مثل منع التجول والاعتقالات والطرد والاعتقال الإداري، فيما تعرض قطاع غزة لحملة أمنية أشرف عليها قائد المنطقة الجنوبية يومها (وكان شارون نفسه) تمثلت في تقطيع أوصال القطاع إلى ثلاث مناطق وجرف المزيد من البيارات وهدم المباني والطرد الجماعي، على ضوء تزايد حدّة العمل الفلسطيني المسلح بين 1968 و 1970
وكان للتطورات السياسية التي شهدتها المنطقة بين حرب حزيران 1967 وحرب تشرين1973 تأثيره أيضا على الواقع الأمني للضفة والقطاع. فقد تعززت قوة و مكانة م.ت.ف الإقليمية والدولية، و استفادت من التداعيات التي أحدثتها حرب تشرين في المجتمع الإسرائيلي، مقابل شعور الثقة بالنفس لدى المواطنين الفلسطينيين، وكلها أمور "أقنعت أجهزة الأمن الإسرائيلية بعدم جدوى أساليبها في الإبقاء على سكان المناطق بعيدا عن التطورات، بالرغم من الإنجازات التي كانت أحرزتها على صعيد اختراق المجتمع الفلسطيني و النفاذ إلى نسيجه، لذا بادرت هذه الأجهزة إلى تغيير أساليبها، معتمدة على تضخيم سمعتها والزعم بأنها قادرة على "الوصول إلى أي هدف"، وتضخيم شعور المواطن الفلسطيني بقدرة هذه الأجهزة"(64). هذه بالإضافة الى مواصلة الإعتقالات والعمل على الحصول على أكبر قدر من المعلومات من المعتقلين، وخصوصاً أولئك القادمين من "دول الطوق"، والقيام بعمليات اغتيال محبوكة ذات بعد إعلامي ونفسي، كعملية اغتيال القادة الثلاثة في بيروت والعديد من كادرات المنظمات الفلسطينية في مختلف أرجاء العالم. واعتمدت حكومات حزب العمل ممثلة بوزير دفاعها "موشيه ديان" تطبيق سياسات الأمر الواقع على مسؤولي جهاز الأمن الداخلي قبل الجيش، للحيلولة دون تشكل أطر ومؤسسات ونقابات وطنية، بعد أن ازداد تأثير منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة والقطاع. ونشطت الأجهزة الإسرائيلية في الاتصال بشخصيات تقليدية موازية للشخصيات الوطنية التي بدأت تمثل مكانا بارزا في واقع الحياة السياسية والاجتماعية في الضفة والقطاع، ولم تلبث ظاهرة العمالة و العملاء أن أخذت تطل برأسها داخل المجتمع الفلسطيني لدرجة دفعت صلاح خلف، "رأس المؤسسة الأمنية الفلسطينية"، إلى الإعراب عن خشيته من أن تصبح هذه الظاهرة مجرد وجهة نظر داخل المجتمع في الضفة والقطاع. "وعلى الجانب الآخر اهتمت مراكز البحث والدراسة الإسرائيلية بتقديم الدراسات "الأمنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية" التي تتيح لمتخذي القرار في إسرائيل ترشيد سياساتهم الأمنية. ولعل الدراسة التي أعدها مناحيم منلسون،(وهو أحد ضباط المؤسسة الأمنية، ومنسق سابق لأعمال الحكومة في الضفة الغربية، ومتخصص في الدراسات الشرقية) حول السبل الأنسب التي تجنب سكان المناطق مؤثرات التطورات السياسة و استغلال م.ت.ف لهم، وأهمها التركيز على الجانب الاقتصادي الذي من شأنه رفع مستوى الحياة، ودعم الشخصيات التقليدية المعروفة باستعدادها للتعاطي مع سلطات الإدارة المدنية، والتضييق على اللجان والمؤسسات والنقابات والهيئات الوطنية إلى جانب السماح بحمل السلاح لمن يريد لأغراض الدفاع والحماية الشخصية"(65).
وكان من الطبيعي أن يتأثر الوضع الأمني في الضفة والقطاع بالمتغيرات السياسية والحزبية الداخلية من جهة، والمتغيرات الإقليمية والدولية التي مرت بها القضية الفلسطينية في الفترة الواقعة ما بين عام 1977لدى تسلُم الليكود السلطة في إسرائيل وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982" إذ تغيرت السياسات الأمنية الإسرائيلية في عهد الليكود رأسا على عقب على ضوء الإجراءات القانونية
و الإدارية التي قامت بها حكومة بيغن في الضفة الغربية و التي كان أولها إطلاق التسمية اليهودية "يهودا والسامرة" على هذه المناطق، وفرض القوانين الإسرائيلية، إلى جانب إطلاق مصطلح "الإدارة المدنية" على الجهاز العسكري والأمني والإداري المكلف بالإشراف على هذه المناطق، وهو ما يتوازى مع التعبير السياسي الذي وقّعت عليه حكومة بيغن في اتفاقية كامب ديفيد مع المصريين حول الشق المتعلق بالقضية الفلسطينية، أي مصطلح "الحكم الإداري الذاتي" كسقف سياسي أمني لسكان "يهودا والسامرة"(66).
هكذا أصبحت "ضرورات الأمن" كلمة السر التي تستخدمها حكومة الليكود في ما يتصل بالإجراءات الأمنية بحق الفلسطينيين، حتى أن دخول موشيه ديان في حكومة الليكود، بات يشكل اعترافاً مباشراً بالسياسات الأمنية التي نجح دايان بتكريسها خلال العقدين الأولين من تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع: وبعد اقل من عام من تولي الليكود السلطة، أنجزت "دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية" المشروع الرئيسي الأول لتنمية الاستيطان في يهودا والسامرة بموازاة تعزيز السيطرة الأمنية على الكتل السكانية العربية التي من المقترح أن تنضوي تحت سلطة حكم ذاتي إداري"(67). وجسّد ظهور هذا المشروع الليكودي رؤية الليكود واليمين الصهيوني في إقامة "إسرائيل الكبرى"، معبراً بصراحة عن نظرة حكومة بيغن إلى التغييرات الأمنية والإقليمية والسكانية التي تنوي حكومته إحداثها في الضفة الغربية.
وخلافا لتعاطي جهاز "الشَباك" مع الأشكال الوطنية التي برزت في الضفة والقطاع طوال عهد حكومات حزب العمل وخصوصاً "قيادة الجبهة الوطنية"، أغرقت حكومة بيغن المؤسسات والنقابات الشعبية بمزيد من الإجراءات القمعية فيما "اتخذت الإجراءات الأولية لاعتقال بعض قيادات "لجنة التوجيه الوطني" وطرد الآخرين، وتم إغلاق جميع المؤسسات ذات الطابع الاجتماعي أو التعليمي، فيما أعطت الضوء الأخضر لجماعات المستوطنين ومنحت غطاء لجميع ممارسات "المركزين الأمنيين" المسؤولين عن أمن المستوطنين في الضفة والقطاع"(68). مقابل ذلك "تحركت الإدارة المدنية في البحث عن أشكال وشخصيات جديدة تملأ الفراغ السياسي الذي حاولت السياسات الليكودية إحداثه في الضفة الغربية على خلفية دراسات مناحيم منلسون، وجاءت فكرة تشكيل "روابط القرى" كإطار بديل لجميع الأطر التي نشأت في خضم المواجهات مع قوات الاحتلال (69)".
وكان الضوء الأخضر للأنشطة الأمنية التي يقوم بها المستوطنون يصدر عن رئيس الأركان الإسرائيلي الذي ينظر للمستوطنات باعتبارها مواقع أمامية للمواجهة، وهو لم يخوّل المستوطنين القيام بدور "الشَباك" في مناطقهم فحسب، بل أيضاً في القرى والبلدات العربية المجاورة. "وبذلك وجد الفلسطينيون أنفسهم محشورين في مأزق: فالمستوطنون ما عادوا خارجين على القانون بل صاروا حماة له، وشكّلوا أجهزة أمنيّة لا همّ لها سوى التضييق على الفلسطينيين لأتفه الأسباب. وهكذا أسست إسرائيل نظاما يضمن شعور الفلسطينيين السائد بفقدان الأمن"(70).
ولاحظ صحافي إسرائيلي أن الفلسطينيين هم "سكان مدنيون عزّل مجردون من أية وسيلة للدفاع عن النفس، وقد أصبحوا رهائن في أيدي المصالح الإسرائيلية، وأهداف سهلة للإرهاب".
وسرعان ما أصبح الحديث عن فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية شغل وسائل الإعلام الشاغل، لدرجة إن بعض الكتّاب ذهب في تشبيه وصف تقصير "الشَباك" الذي ظهر خلال الانتفاضة، بالتقصير الذي أظهره جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" في حرب تشرين عام 1973.
فقد راكم الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال المزيد من الخبرات على صعيد معرفة أساليب الأجهزة الأمنية، إلى جانب خروج أعداد كبيرة من "السجناء الأمنيين" من المعتقل بعد سنوات اكتسبوا خلالها خبرات كبيرة على صعيد معرفة الأساليب الأمنية الإسرائيلية وعلى صعيد مقارعتها، لا سيما وإن هؤلاء قد عانوا من "ظاهرة العصافير" التي ابتكرتها تلك الأجهزة "حيث جمعت مصلحة السجون العامة من يتساقط من السجناء الأمنيين في زنازين خاصة، واستغلتهم في استدراج غيرهم من السجناء الأمنيين الجدد، والحصول منهم على معلومات، بالإضافة إلى استغلال هذه الظاهرة سياسيا، عندما ربطتها مع ظاهرة روابط القرى في الخارج (71)". وقد لعب الأسرى والمعتقلون دوراً مباشراً على صعيد بناء الأطر والبنى واللجان التي اعتمدت عليها انتفاضة عام 1987. وكانت "اللجان الأمنية" أحد أهم هذه البنى، إذ شكّلت في كل حيّ و مدينة وقرية ومخيم لجنة أمنية، إلى جانب "ظاهرة الملثمين" الذين يتصدون لـ "العملاء" الذين صاروا ظاهرة مألوفة في واقع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. "وكان من شأن ارتفاع عدد اللجان الأمنية المنظمة أن، مكّن قدرة "القوات الضاربة" التي كانت تعالج أمر "المتعاونين". وهكذا تحققت إنجازات أمنية أقلقت "الشَباك" وغيره من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بالرغم من تزايد أعداد المعتقلين لدى الجيش وأجهزة الأمن والذين وصل عددهم إلى أكثر من عشرين ألفاً في الأشهر الأولى من الانتفاضة. والحق إن قدرة القيادة الوطنية الموحدة على الصمود أمام المحاولات التي بذلتها أجهزة الأمن الإسرائيلية لاختراقها أو تعطيلها، اعتُبرت إنجازاً فريدا"(72).
ولم تمضِ الأشهر الستة الأولى على الانتفاضة حتى سقطت جميع السياسات التي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعها رابين، بدءاً من سياسة "القبضة الحديدية" مروراً بـ "حملات الاعتقال والطرد وحظر التجول" وانتهاء بسياسة "تكسير العظام"، بدأت الحكومة الإسرائيلية بتغيير سياساتها الأمنية مع الانتفاضة بتطبيق برنامج صمم من أجل التأكيد على استمرار المؤسسات الإسرائيلية في مجال الحياة اليومية، إذ طلب من سكان قطاع غزة، على سبيل المثال، وخصوصاً المقيمين منهم بالمخيمات، تسليم بطاقات هويّاتهم لاستبدالها ببطاقات هوية جديدة. وكان على هؤلاء أن يسددوا ما عليهم من ضرائب مقابل تسلمهم الهوية الجديدة، والقصد من وراء هذا إتاحة الفرصة للشَباك لسبر المتقدمين للحصول على الهويّات الجديدة أملاً في إعادة ترميم شبكات المخبرين والعملاء التي مزقتها الانتفاضة"(73). ولما كانت الإجراءات القمعية التي اتخذها رابين لم تؤت أكلها، لجأ إلى إجراءات اقتصادية صارمة لإقناع الفلسطينيين باستحالة استمرارهم في إتباع وسائل عنيفة."وكانت قرية قباطية في منطقة جنين، المختبر الذي جرّب فيه رابين سياسة الإكراه الاقتصادي: فقد تحدّى أهلها جهاز "الشَباك" وقاموا في وضح النهار بإعدام عميل إسرائيلي معروف. ودمروا أهم شبكة متعاونين في المنطقة: فقررت حكومة رابين أن تجعل من قباطية عبرة في سياسات العقوبات الجماعية، فجرى فرض الحصار عليها (لمدة شهر كامل) وقطعت عنها الكهرباء والماء والغاز، ومُنعت عنها المواد الطبية واعتقل معظم شبّانها. وفرض رابين كذلك إجراءات مشابهة في جميع أنحاء الضفة"(74). لكن هذا كله لم ينجح في إخماد الانتفاضة. ولئن عجزت حكومة رابين عن الإمساك بالمبادرة، فإن الانتفاضة من جهتها لم تستطع حسم المعركة مع الاحتلال، أو على الأقل لم تنجح في حملتها التي هدفت إلى تهميش مؤسساته وفرض مؤسساتها الشعبية، وبدأت المعركة مع قوات الاحتلال تأخذ طابع حرب الاستنزاف.
ظاهرة "العملاء" في المجتمع الفلسطيني
ربما كان أهم إنجاز حققته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عندما تم التوقيع على اتفاق المبادئ "أوسلو" عام 1993، انها حالت دون قيام السلطة الفلسطينية بمعاقبة "المتعاونين مع أجهزة الأمن الإسرائيلية" وأجبرت السلطة على استيعابهم في مؤسساتها، الأمر الذي ضرب إحدى مرتكزات الأمن الفلسطيني، هذا إلى جانب الملاحق الأمنية لجميع الاتفاقات المشتقة عن الاتفاق الأم، ولا سيما الملحق الأمني باتفاق واي ريفر الذي ينص على قيام أجهزة الأمن الفلسطينية الثمانية عشرة بمحاربة ما سمي "الإرهاب" والتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
ولا ننسى أن تعدد الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتداخل صلاحياتها وعدم توفر استراتيجية أمنية ، سهلت على أجهزة الأمن الإسرائيلي "إعادة إنشاء البنى التحتية لعملائها"(75). كما إن استخدام إسرائيل لمنظومة متكاملة من التقنيات العالية ومن الوسائل التجسسية، وربطها بالعامل البشري،هو ما ظهر أثره جلياً وبشكل خطير خلال انتفاضة الأقصى.
لقد شكلت "ظاهرة العملاء" الحالة الأكثر خطورة وكانت تهدد مجمل البنى التحتية لمختلف فصائل العمل الفلسطيني المنخرطة في الفعل الانتفاضي، كما إن حجم وأعداد الكادرات والقيادات التي تمت تصفيتها خلال الانتفاضة، دلّ على خطورة "هذه الظاهرة" على المجتمع الفلسطيني برمته. ومن جانب آخر، فقد أثارت مسألة تصفية العملاء جدلا ساخنا داخل المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية منذ الانتفاضة الأولى، الأمر الذي دفع بالفصائل لإصدار ميثاق شرف تحرم فيه تصفية العملاء إلا من خلال إجراءات قانونية.
من هم العمـــــــلاء ؟
تعرّف "بتسليم" وهي منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، في تقرير لها عام 1994 ظاهرة المتعاونين، على عدة مستويات كما يلي:
عملاء المخابرات : يشير هذا التعبير إلى أولئك المتعاونين الذين تم تجنيدهم من قبل جهاز المخابرات الإسرائيلي الداخلي (أي الشَباك) بغرض تزويده بمعلومات محددة، واستخدم هؤلاء في ثلاثة مجالات رئيسية هي : تجنيد متعاونين آخرين، اختراق صفوف المنظمات الفلسطينية وتقديم المساعدات الميدانية (مثل المشاركة في الاعتقالات وكشف العمليات بشكل مسبق وأحيانا المشاركة المباشرة في تصفية نشطاء).
العصافير: وهذا النمط من العملاء يتم استخدامه من قبل جهاز المخابرات التابع لسلطة السجون الإسرائيلية، وذلك لمساعدة محققي "الشَباك" في الإيقاع بالمعتقلين الجدد واستدراجهم للحصول على معلومات منهم، إضافة إلى استخدامهم داخل السجون من أجل كشف خطط "السجناء الأمنيين" والإضرابات، لا سيما وان السجناء الأمنيين صاروا يشكلون خزان الانتفاضات الفلسطينية المتواصلة.
السماسرة: ويمثل هذا النوع من العملاء بعض الأشخاص الذين يعملون كوسطاء لبيع أراضي فلسطينية للإسرائيليين. وينظر إلى هذا النوع من العملاء على أنهم الأسوأ، وقد صدر قرار من السلطة الفلسطينية ينص على إعدامهم.
الوسطاء: وهم الذين يوافقون على العمل لصالح أجهزة الأمن الإسرائيلية إذا حصلوا مقابل ذلك على ضمانات تكفل لهم تحقيق مصالح شخصية. وينظر إلى هذا النوع من التعاون بأنه جاء نتيجة ربط الأمن الإسرائيلي بمجالات الحياة الفلسطينية.
موظفو الحكومة ومساعدوها: وهؤلاء هم الذين ربطوا مصيرهم بالإدارة المدنية الإسرائيلية وبالحكم العسكري قبل ذلك، ومن ضمنهم العديد من المخاتير وأعضاء روابط القرى، وأفراد شرطة وموظفي الإدارة المدنية الإسرائيلية.
حالات التعاون المتعلقة بشرف العائلة (الإسقاط): وهي حالة أولئك الذين يقومون بعمل شائن مع بعض الفتيان أو الفتيات، أو تلك الفتيات اللواتي تتعرضن لذلك، بحث يتحولون جميعهم إلى موضوع ابتزاز من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية.
والمعروف أن كلاً من "الموساد، وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) وجهاز الأمن الداخلي (الشَباك) كانت دائماً تحاول استغلال هؤلاء المتعاونين، واستطاعت في أوج الانتفاضتين الأولى والثانية أن تسبر بعض أغوار الحركات الفلسطينية، وتقيم مواقع لها فيها، محققة اختراقات هامة أتاحت لها الحصول على معلومات قيّمة حول آليّة عملها ومواقع الضعف والقوة فيها، والعمل بالتالي على ضرب بناها التحتيّة، إضافة إلى كشف مواعيد تنفيذ بعض العمليات داخل الخط الأخضر لإحباطها"(76).
ويلخص جدعون عيزرا نائب رئيس الشَباك سابقا وأحد أكبر رموز المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وأكثرهم تطرفاً، عمل الذين تستخدمهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بقوله:" لدى إسرائيل شبكات من العملاء تنشر في مختلف أرجاء الضفة والقطاع، والهدف منها هو منع العمليات "الإرهابية" الفلسطينية. ويكلف أفراد هذه الشبكات بجمع المعلومات واختراق صفوف المنظمات وجميع مؤسسات المجتمع الفلسطيني، والمشاركة الميدانية في تصفية مطلوبين (مثلما جرى في حالة يحيى عياش). ومثل هذه العمليات لا يمكن أن يتم تنفيذها من دون مساعدة فعلية من أفراد هذه الشبكات، ومن غير الممكن الوصول إلى العناوين الصحيحة من دون مساعدة فعلية منهم".
وعلى أية حال فان "ظاهرة العملاء" ما زالت تشكل أكبر خطر على المجتمع الفلسطيني وأهم عقبة تواجه الانتفاضة والسلطة الفلسطينية على السواء.
خلاصة
أدّت حرب 1967إلى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وعرّضت المجتمع الفلسطيني إلى تشوهات بنيوية نتيجة للسياسات الاستراتيجية الإسرائيلية التي اعتمدت على مصادرة الأرض والمياه وإلى الاستيطان، وتدمير المؤسسات والبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تشكل على المدى البعيد، خلفية لأي كيان فلسطيني مستقل، هذا إضافة إلى إلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، واستغلال العمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلية. وقد أثقلت كاهل المواطنين الفلسطينيين سلسلة من القوانين والأوامر والإجراءات العسكرية التي استهدفت إحكام السيطرة الأمنية والسياسية على واقع المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع.
وتأثر الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع بالتطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية على صعيد بروز وتطوير ظاهرة الكفاح المسلح وحرب الاستنزاف العربية وتداعيات حرب تشرين وتأثيراتها المباشرة على واقع الحياة السياسية الاجتماعية الاقتصادية الإسرائيلية،الأمر الذي ساهم في بناء معادلة تناقضية بين الأشكال السياسية التنظيمية التي برزت في الضفة والقطاع "الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه الوطني" ومؤسسات الاحتلال المتمثلة بالحكم العسكري والإدارة المدنية وأجهزة الأمن المختلفة.
كذلك فقد تأثر النضال الوطني الفلسطيني بتفاعلات الحياة الحزبية الإسرائيلية والمتغيرات التي شهدتها المنطقة في الفترة الواقعة ما بين عامي 1977 و 1982، وهي أعوام التحول الداخلي في إسرائيل، حيث تسلم الليكود السلطة وشنّ حربه على لبنان، وما من تداعيات سياسية كان لها الأثر المباشر سواء على صعيد تبني القمة العربية قرارات فاس التي تدعو للتسوية مع إسرائيل، أو على صعيد مشروع التقاسم الوظيفي مع الأردن.
وقد دشنت الانتفاضة الأولى عام 1987 مرحلة جديدة وهامة من تاريخ العمل الوطني والسياسي الفلسطيني إذ "نقلت الصراع إلى أرض الصراع"، وتمكن فلسطينيو الداخل من خلالها أن يأخذوا زمام المبادرة ضمن أشكال لم يعهدها الاحتلال من قبل، جعلت "كلفة الاحتلال للمناطق الفلسطينية عالية وباهظة الثمن"، الأمر الذي دفع رابين للقول : "إن معجزة فقط تنقذنا من الانتفاضة".
وإذا كانت المتغيرات الكبرى التي داهمت العالم والمنطقة في نهاية العقد السابق قد وجدت تعبيراتها السلبية في الخلل الهائل في موازين القوى لصالح الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، ما جرى التعبير عنه بمؤتمر مدريد، حيث طرحت الولايات المتحدة رؤية حلّ للصراع تستند إلى إعادة تعريفه أولا، واعتبار المناطق الفلسطينية "متنازعاً عليها" وليست "محتلة". وهذا حل ينطلق من الرؤية الكونية لواشنطن حيث تشكل إسرائيل جزءاً عضوياً فيها. وإذا كانت انتفاضة عام 1987هي السبب الذي أثمر اتفاق أوسلو أو المعجزة التي انتظرها رابين، فان الاتفاق ذاته كان السبب لاندلاع انتفاضة الأقصى.
لقد أدى اتفاق أوسلو إلى قيام سلطة فلسطينية على بعض المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية أرادها الإسرائيليون مجرد أداة أمنية، وبالفعل فقد حصرت السياسات الإسرائيلية السلطة ضمن هذا الفهم على اعتبار أن رابين اعتبر اتفاق أوسلو مجرد اتفاق أمني لا أكثر .
لكن انتفاضة الأقصى المندلعة في ظل وجود سلطة فلسطينية طرحت الكثير من الأسئلة الكبيرة على المجتمع الفلسطيني، من سلطة وطنيّة وفصائل معارضة، أهمها قضية البرنامج السياسي والمرجعية الوطنية وعلاقة السلطة بالمعارضة وتوفير الأمن الشخصي والجماعي للشعب الفلسطيني، وأصبحت مسألة استمرار الانتفاضة قضية ملحة بالرغم من المقاربتين الفلسطينيتين المتناقضتين حيالها، إذ الأولى، وهي مقاربة السلطة، تعتبر الانتفاضة وسيلة لتحسين شروطها التفاوضية، بينما الثانية، وهي لغالبية القوى الوطنية والإسلامية المنخرطة في الفعل الانتفاضي، تعتبر الانتفاضة خياراً استراتيجيا.
وفيما راوحت جميع الحلول والمقترحات الإسرائيلية والأميركية ضمن المفهوم الأمني، فإنها لم تصل أبداً إلى تقبّل فكرة إقامة سلام عادل ونهائي، بل، وفي أحسن الأحوال، إقامة كيان أمني فلسطيني على مساحة من الضفة لا تتجاوز نسبة 45% منها.
[1] بار زوهر، مذكرات بن غوريون، عام عوبيد، الطبعة الإنكليزية 1974.
[2] المصدر رقم 1.
[3] المصدر رقم 1.
[4] دان شفتان، الفصل الإجباري بين إسرائيل والكيان الفلسطيني، ترجمة أحمد أبو هدبة، "الباحث" بيروت 2003.
[5] المصدر رقم 4.
[6] المصدر رقم 4.
[7] جماعة من المؤلفين الفلسطينيين والأجانب: المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت1994.
[8] سعيد جواد، النهوض الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال، دار ابن خلدون، بيروت 1987.
[9] ميرون بنفنستي، التطورات السياسية والاجتماعية في الضفة والقطاع، مؤسسة الأرض للدراسات،دمشق 1988.
[10] انظر المصدر رقم 7.
[11] انظر المصدر رقم 8.
[12] غازي السعدي، الأوضاع السياسية والاجتماعية في الضفة والقطاع، دار الجليل، عمان 1983.
[13] المصدر رقم 9.
[14] هارتس، نيسان 1979.
[15] انظر المصدر رقم 12.
[16] ميرون بنفنستي، جروزلم بوست، ترجمة منير كنعان، مؤسسة الأرض 1986.
[17] ميرون بنفنستي، الإدارة المدنية، القوانين والأنظمة، مؤسسة الأرض 1988.
[18] عامير شابيرا، عل هامشمار، أيلول 1987.
[19] يهودا ليطاني، هآرتس، أيار 1987.
[20] استطلاع نشرته هآرتس، 5 نيسان 1981.
[21] انظر المصدر رقم 20.
[22] انظر المصدر قم 17.
[23] انظر المصدر رقم 8.
[24] جفري أرونسون، سياسيو الأمر الواقع في الضفة والقطاع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1990.
[25] مقابلة مع شارون، معاريف آبار 1987.
[26] انظر المصدر رقم 25.
[27] انظر المصدر رقم 12.
[28] انظر المصدر رقم 24.
[29] انظر المصدر رقم24
[30] انظر المصدر رقم24.
[31] انظر المصدر رقم 24.
[32] انظر المصدر رقم24.
[33] الاقتصاد الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، عزمي الأطرش، دمشق 25/1/2003.
[34] السياسة المائية الإسرائيلية، خبراء مياه إسرائيليين ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1986.
[35] انظر المصدر رقم 32.
[36] فضل النقيب ، الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1986.
[37] المصدر رقم 32.
[38] وزارة العمل الفلسطينية، استراتيجية التشغيل في فلسطين، رام الله1999 .
[39] عيسى عبد الحميد، سياسة الجسور المفتوحة، مركز الأبحاث الفلسطينية، بيروت1973 .
[40] أحمد يوسف أبو الحسن الحسابات القومية في الضفة والقطاع، مكتب الإحصاء الفلسطيني دمشق1994.
[41] عصام الزعيم، اقتصاد الضفة والقطاع في ظل الانتفاضة، وزارة الثقافة السورية 1991.
[42] انظر المصدر رقم40.
[43] انظر المصدر رقم40.
[44] ميرون بنفنستي، اقتصاد الانتفاضة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999.
[45] أحمد أبو هدبة، الاقتصاد الفلسطيني وحدود السيطرة الإسرائيلية،المستقبل الاقتصادي بيروت 1999.
[46] شمعون بلاص ، الأوضاع السياسية والاجتماعية في المناطق عشية حرب الأيام الستة، يديعوت أحرنوت 1976.
[47] انظر المصدر قم 24.
[48] مجلة الرقيب، رخصة للقتل ، موقع الانترنيت الخاص بمؤسسة حقوق الإنسان الفلسطينية20/12/2003.
[49] انظر المصدر رقم 24.
[50] انظر المصدر رقم 24.
[51] انظر المصدر رقم 24.
[52] سماح إدريس،الحجارة المتنوعة ،مجلة الآداب، 2002/2/6.
[53] المصدر،رويرت فيتسك ،موت أوسلو،10/10/2001.
[54] المصدر زئيف شيف ،هآرتس ،25/12/2000.
[55] يوسي بيلين، حمامة مجروحة،25/6/2001.
[56] الدستور الأردنية ،سوسيولوجيا الانتفاضة،8/1/2001.
[57] إيهود باراك، مقابلة تلفزيونية،25/11/2000.
[58] آريه شابيط،هارتس،21/6/2002.
[59] المجد الأردن8/3/2001.
[60] ألوف بن ،هارتس،28/12/2003.
[61] اليكس فيشمان ،يديعوت أحرنوت ،24/10/2003.
[62] عامير ربابورت ،معاريف ،26/2/2003.
[63] حيمي شليف :هارتس ،2/1/2004.