- En
- Fr
- عربي
ملف
صغار ويافعون وشباب يقعون في الفخ
مَن يتحمّل المسؤولية وكيف يمكن الخروج من النفق المظلم؟
إنّها أكثر من مشكلة تُصيب المجتمع بمختلف فئاته وتستوجب تضافر الجهود لمواجهتها. إنّها آفة تهدّد الجميع، فوحش المخدرات يمدّ أذرعه السامة مستهدفًا أولادنا. والمفجع أنّ بين من يقعون في براثنه صغار لم يتخطوا الثالثة عشرة من عمرهم.
تنشط الأجهزة المختصة في التصدي لهذه الآفة، وتقوم هيئات وجمعيات أهلية بدورٍ مهم في هذا المجال من خلال التوعية ومعالجة المدمنين. مع ذلك، تستمر الحاجة الملحّة إلى مزيد من الإجراءات الجذرية، وفي طليعتها ضرب «الرؤوس الكبيرة» الضالعة في تجارة المخدرات وتفعيل سبل التوعية والحماية.
في هذا الملف إحاطة بالموضوع من جوانب مختلفة، وشهادات موجعة لمدمنين تابعوا العلاج وأعلنوا عودتهم إلى الحياة.
الواقع في لبنان: أرقام مخيفة
تشير المعطيات الإحصائية في لبنان إلى ارتفاع متسارع في نسبة استخدام المواد المسبّبة للإدمان (المخدرات والكحول)، وخصوصًا لدى فئة الشباب الذين تحصل نسبة قليلة منهم على العلاجات اللازمة.
سعت الدولة اللبنانية إلى وضع استراتيجيات وطنية لمكافحة المخدرات والإدمان، فأنشأت وزارة الصحة العامة «المرصد الوطني للمخدرات والإدمان» ضمن إطار استراتيجية مشتركة بين الوزارات المعنية لمكافحة هذه الآفة. يوفّر هذا المرصد المعلومات الضرورية حول انتشار استخدام المواد المسبّبة للإدمان وأنماطه في لبنان. وقد أصدر تقريره الأول بالتعاون مع وزارات: التربية والتعليم العالي، الداخلية والبلديات، الشؤون الاجتماعية، العدل، والجمارك اللبنانية، وبدعمٍ من الجمعية الفرنكوفونية للأمراض النفسية، ومشروع التعاون التقني في المرصد الأوروبي لمراقبة المخدرات والإدمان (مشروع سياسة الجوار الأوروبية)، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، ومنظمة الصحة العالمية، فضلًا عن تمويل من مجموعة بومبيدو.
في التقرير الوطني عن وضع المخدرات في لبنان للعام 2017 (أصدرته وزارة الصحة العامة)، سُجّل في العام 2016 ارتفاع مقداره 108% في عدد الأشخاص الموقوفين بسبب استخدام المخدرات مقارنة بالعام 2011 (1762 شخصًا مقابل 3669 شخصًا). وسُجِّل في العام نفسه ارتفاع مقداره 233% في عدد الأشخاص دون 18 عامًا الموقوفين لقضايا متعلقة باستخدام المخدرات مقارنة بالعام 2011، الجدولان رقم 1 و2.
سُجّل في العام 2016 ارتفاع مقداره 111% في عدد الذكور الموقوفين بسبب استخدام المخدرات مقارنة بالعام 2011 (من 1700 إلى 3591 موقوفًا)، فضلًا عن ارتفاع مقداره 26% في عدد الإناث الموقوفات في الفترة نفسها (من 62 إلى 78 موقوفة).
كذلك، بلغ عدد الملفات التي أُحيلَت إلى لجنة مكافحة المخدرات في وزارة العدل، بين العامَين 2013 و2018، 753 ملفًا منها: 473 حالة تلقّت العلاج بنجاحٍ وحصلت على شهادة تعافٍ، 95 حالة لم تتابع العلاج، و180 حالة قيد المتابعة حاليًا.
أمّا في التقرير السنوي لعلاج بدائل الأفيونات، فيظهر أنّ 1872 شخصًا كانوا يتلقّون العلاج في 7 مراكز في العام 2017.
جرائم المخدرات بين 2011 و2016
تُقسم الجرائم المتعلقة بالمخدرات إلى عدّة أنواع بدءًا بالزراعة والإنتاج وصولًا إلى التجارة والتهريب... وتُظهر أرقام الجدول رقم 2 عدد الأشخاص الموقوفين في مراكز الاحتجاز بأي جرم متعلق بالمخدرات، وكيفية تطوّرها ارتفاعًا أو هبوطًا في العام 2016 نسبةً إلى ما كانت عليه في العام 2011.
أمّا على صعيد كمية المواد المخدّرة المضبوطة، فقد سُجّل ارتفاع مقداره 54% بين العامَين 2012 و2016، بينما تراجع حجم المخدرات المضبوطة لدى المنتجين ضمن وجهة الاستعمال الجرمية بنسبة 33%. كما تراجع حجم المخدرات المضبوطة في المطار في الفترة ذاتها (الجدولان رقم 3 و4).
الأعمار
بين العامَين 2014 و2016 بلغ معدل الأحداث (بين 15 و18عامًا) بين نزلاء السجون بسبب جرائم المخدرات 4%. وسُجّل في العام 2016 ارتفاع بنسبة 12% في عدد هؤلاء مقارنة بالعام 2014. وفي حين ارتفعت نسبة الأحداث المسجونين الذكور في هذه الفترة، سُجّل انخفاض مقداره 23% في عدد البالغين المسجونين، كما انخفض عدد الإناث البالغات المسجونات (الجدول رقم 5).
قبل عمر الرابعة عشرة!
في العام 2001، أفاد 44% من عيّنة من 1307 تلامذة في المرحلة الثانوية أنّه من السهل/ السهل جدًا الحصول على المهدّئات، ورأى أكثر من تلميذ من أصل 10 أنّ الهيرويين متوافر بشكلٍ سهل/ سهل جدًا.
وفي قراءة لأرقام وزارة الصحة في مسألة الإدمان على المخدرات، فإنّ الطلاب هم في طليعة الضحايا، إذ تشير المعطيات الإحصائية في لبنان إلى ارتفاع متسارع في نسبة استخدام المواد المسببة للإدمان كالمخدرات والكحول لدى فئة الشباب خصوصًا. وتبيّن إحدى الدراسات أنّ حوالى 4.7% من التلامذة في المدارس الرسمية والخاصة، من عمر 13 إلى 15 سنة، قد استخدموا ولو لمرةٍ واحدة نوعًا أو أكثر من المخدرات، وأكثر من 70% من هؤلاء استعملوا المخدرات تحت عمر 14 سنة.
الإطار القانوني الذي يتمّ من خلاله التعاطي مع قضايا المخدرات
يوضح ممثل نقابة المحامين في المحكمة العسكرية المحامي صليبا الحاج أنّ القانون المعني بقضايا المخدرات هو القانون 673 تاريخ 16/3/1998 وهو قانون صارم.
في قضايا التعاطي، تنص المادة 127 من هذا القانون على الآتي: «كل من حاز أو أحرز أو اشترى كمية ضئيلة بهدف التعاطي، أو ثبت إدمانه، يُعاقب». لكن النيابة العامة التمييزية أصدرت تعميمًا بعدم ضرورة اللجوء إلى توقيف المتعاطي واعتباره مريضًا وليس مجرمًا، وبالتالي يُحال إلى لجنة مكافحة الإدمان في وزارة العدل ويحصل على تقرير اسمي بالشفاء فتسقط ملاحقته.
فُتح هذا الباب في المحاكم لحالاتٍ كثيرة يظلمها القانون الأساسي، ويقدّم المحامي الحاج مثالًا على ذلك: يتمّ توقيف طالب جامعي يتعاطى المخدرات، ولكنّه قد أقدم على ذلك بالصدفة، أو من باب الفضول، أو في جلسة مع رفاقه. توقيفه وإصدار حكم تعاطي مخدرات بحقّه قد يدمّر مستقبله لأنّه يلطّخ سجلّه العدلي مدى الحياة. لذلك، تمّ اعتماد التدبير المشار إليه والذي يحمي الشباب من تشويه سمعتهم وتلطيخ سجلّهم العدلي.
يميّز المحامي الحاج بين عدّة أنواع في قضايا التعاطي والمتعاطين: متعاطٍ بالصدفة، أو نتيجة مرض، أو بالعدوى من الأصدقاء، أو البيئة، أو مدمن. وهناك فارق كبير بين التعاطي والإدمان، فالمدمن هو من وصل إلى مرحلة يحتاج فيها إلى علاج نفسي وجسدي، لذلك يُحال إلى لجنة مكافحة الإدمان. وللتأكد من تطبيق العدالة، يمكن أن يُضاف في الحكم «إذا لم يمتثل للعلاج النفسي والجسدي ولم يستحصل على تقرير بالشفاء، ينفّذ عقوبته سجنًا».
وبالتالي يؤدي القضاء دورًا توجيهيًا في هذه الحالة، فيوعّي المتعاطي على حقوقه ويعطيه فرصة لتصحيح خطأه، فتسقط ملاحقته ويعود إلى حياته الطبيعية من دون أي وصمة عار. وفي هذا الإطار يقول النص حرفيًا: «يُعفى من الملاحقة لأنّه خضع للعلاج وثبت شفاؤه».
الترويج والإتجار
• ماذا عن قضايا الترويج والإتجار؟
يقول الأستاذ الحاج إنّ القانون ليس واضحًا تمامًا في هذه القضايا، والمادتان المتعلقتان بها (125 و126) لا تتخصّصان بتعبيرَي «ترويج» أو «إتجار»، ولكن بات عرفًا واجتهادًا لدى المحاكم أنّ المادة 125 تتعلّق بالإتجار بالمخدرات و126 بالترويج، من دون أي تصنيف حرفي.
باختصار، الإتجار هو بيع البضاعة وربح المال من متعاطين أو تجّار آخرين، بكيانٍ مستقلّ، في حين أنّ المروّج هو من يروّج لمصلحة تاجر، يعرض البضاعة على أشخاص ولكنّه ليس الرأس أو الشخص الأساسي في هذا العمل.
ويشير المحامي الحاج في هذا المجال إلى أنّ القانون يساوي بين المُتاجر بـ20 غرامًا والمُتاجر بـ20 كلغ، والمادتان 13 و15 منه تشملان بأحكامهما الأنواع كلها: حاملها وحائزها وناقلها ومقدّمها، ببدلٍ ومن دون بدل... لذلك يجري نقاش ضمن المحاكم حرصًا على عدم ظلم أحد. مثلًا: إذا أخذ شاب من أهله 10 دولار واشترى عشر سجائر مخدرات وتقاسمها مع رفيقه فأخذ منه ثمنها، لا يجب أن يعتبر مروّجًا لأنّه يقتسم السعر بينه وبين رفيقه المتعاطي. ولكن إذا كان يقدّم له المخدرات ويعرّفه إليها بهدف دفعه إلى شرائها، فهنا يمكن اعتباره مروّجًا. في مثل هذه القضايا، يتمّ التمييز بين المتدخّل في التعاطي وبين المروّج. ويرى الحاج في هذا الخصوص أنّ القانون اللبناني بحاجةٍ إلى تعديل لكي تصبح العقوبة بحَدَّيها الأدنى والأقصى متناسبة مع الكمية والتكرار أو اتخاذ تجارة المخدرات كمهنةٍ...
الجنحة والجناية
يشير الأستاذ الحاج إلى أنّ تعاطي المخدرات هو جنحة، أمّا الإتجار والترويج فجناية.
ويقول النص إنّ العقوبة في حال التعاطي تراوح بين الثلاثة أشهر والثلاث سنوات، ولكن في معظم الحالات يعتبر المتعاطي مريضًا ويُعطى أسبابًا تخفيفيّة تُنزل مدّة الحكم إلى ما دون الثلاثة أشهر.
في حال الإتجار والترويج، يكون الحدّ الأدنى للعقوبة هو السجن المؤبّد، ولكن مع إعطاء المجرم أسبابًا تخفيفيّة، يمكن تخفيض هذه المدّة إلى خمس سنوات كحدٍّ أدنى.
القانون العسكري
ينظر القضاء العسكري إلى قضايا التعاطي والإتجار والترويج كجرائم شائنة، غالبًا ما تكون عقوبتها الطرد من الوظيفة. فالقوات المسلّحة عمومًا وقيادة الجيش خصوصًا، قاسية وصارمة في هذا الموضوع، وهي تعتمد تدابير بحق المرتكبين، وذلك بسبب الأذى الذي قد ينتج عن تعاطي المخدرات، والخطر الذي يشكّله المتعاطي على محيطه وخصوصًا رفاقه إذا استخدم سلاحه مثلًا فيما هو تحت تأثير المخدّر.
تُطبّق المحاكم العسكرية العقوبة نفسها على المدني والعسكري، مع فارق الوظيفة بالنسبة إلى العسكري. فإذا ضُبط في مكان وظيفته يتعاطى المخدرات، يتمّ توقيفه (من قبل الشرطة العسكرية أو المخابرات)، يُسلَّم إلى مكتب مكافحة المخدرات، ومن بعدها يُحال إلى المحكمة العسكرية، وفي معظم الأحيان يتمّ تسريحه أو طرده من المؤسسة. ولكن في بعض الحالات، تنظر قيادة الجيش في سجلّ العسكري الموقوف فإذا كان في الخدمة منذ عشرات السنوات وضُبط يتعاطى من دون أي سوابق أو تكرار، يوضع تحت المراقبة لمدة سنة، فإذا كان سلوكه سليمًا خلال هذه الفترة، تكتفي القيادة بخفض رتبته أو تأخير ترقيته أو تشكيله تأديبيًا من دون طرده (هذه الحالات لا تتعدّى الـ10 إلى 15% من مجموع القضايا).
في ختام حديثه يقول المحامي الحاج: «إنّ الحرب على آفة المخدرات تبدأ بتوقيف الرؤوس الكبيرة وسدّ المنابع والمصادر الداخلية والخارجية...» .
كيف يدخلون النفق المظلم وهل من سبيل للخروج؟
تشرح الاختصاصية في الأمراض النفسية والعقلية الدكتورة رلى الخليل أسباب الإدمان وأعراضه وعلاجه، في حديث إلى «الجيش». وهي تؤكّد أنّ هناك عدّة عوامل قد تدفع المرء إلى تعاطي المخدرات.
من أبرز هذه العوامل ما يأتي:
- الوضع العائلي غير المستقر، إذ إنّ الأفراد الذين ينشأون في عائلات مفكّكة، تكثر فيها المشاكل الأسرية والخلافات المستمرة بين الوالدين، هم أكثر عرضةً للجوء إلى المخدرات هربًا من واقعهم المؤلم.
- الوقوع ضحيّة العنف داخل الأسرة وخارجها، فالأشخاص الذين يتعرضون إلى العنف الكلامي أو الجسدي، أو الاعتداء الجنسي، أو التنمّر(وهو ما يكثر في أيامنا هذه في المدارس) من دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم، يصبحون أكثر استعدادًا للجنوح والوقوع فريسة هذه الآفة.
- تشجيع رفاق السوء الذين يجرّون المرء إلى المخدرات عبر عدة وسائل، ومن أبرزها حثّه على تدخين سيجارة الحشيشة، مؤكّدين أنّها غير ضارة ولا تسبّب أي أذى صحّي.
وفي هذا الإطار، تؤكّد الطبيبة النفسيّة أنّها ومن خلال مواكبتها لعلاج عددٍ كبير من المدمنين، لاحظت أنّ معظمهم تعرّف إلى المخدّرات من خلال حشيشة الكيف ثم تطوّر إدمانه إلى ما هو أخطر منها، مشيرةً إلى ضرورة عدم التراخي أو الاستخفاف في موضوع تدخين الحشيشة.
- المستوى المعيشي والاقتصادي، الذي يسهّل لأبناء الطبقة الغنية الوصول إلى المخدرات بسبب وفرة الأموال في محفظتهم، وبسبب عدم متابعة ذويهم لإنفاقهم، بالإضافة إلى توافر المواد المخدرة وترويجها في الأماكن الترفيهية التي يرتادها الجيل الشاب. في المقابل، فإنّ أبناء الطبقة الفقيرة يقعون ضحيّة المخدرات بسبب فقرهم وبؤسهم.
- المشاكل النفسية والعقلية، إذ إنّ بعض الأولاد الذين يعانون الإفراط في الحركة أو الوسواس القهري أو داء ثنائي القطب Bipolar يتعرّضون للإساءة من قبل ذويهم أو مدرّسيهم الذين لا يدركون طبيعة المشاكل النفسية التي يعانونها، ويُدرجون تجاوزاتهم في خانة قلة التهذيب والاحترام. إنّ مثل هؤلاء الأولاد يتعرّضون للعنف الكلامي والسخرية والإساءات بمختلف أنواعها، ما يجعلهم عرضة أكثر من غيرهم للوقوع فريسة المخدرات، لكنّهم يتماثلون للشفاء من الإدمان بسرعةٍ أكبر من سواهم حين يخضعون للعلاج النفسي.
الأعراض
يمكن اكتشاف المتعاطين، من خلال تصرّفاتهم ومشاعرهم المرتبكة وقلّة تركيزهم. في هذا الإطار، تنصح الطبيبة النفسية الأهل بالتنبّه إلى العلامات التي يُظهرها أبناؤهم في حال تعاطي المخدرات، ومنها الانزواء والعدائية وعدم الاتّزان، إلى الاضطرابات الغذائية (شهيّة مفرطة أو فقدان الشهيّة)، والمصروف الزائد. وتشير أيضًا إلى العلامات الجسدية للإدمان، ومنها احمرار العين وانتفاخ الجفون وتوسّع البؤبؤ وجفاف الفم والشفتين، والحركات اللاإرادية للعينين والفم؛ فضلًا عن العلامات الأخرى كالازرقاق والندوب التي تتركها الإبر المستخدمة في عملية التعاطي.
العلاج
يشمل علاج الإدمان برنامجًا متكاملًا يبدأ بـ«الديتوكس» أي تخليص الجسم من السموم كما توضح الدكتورة الخليل، إذ يخضع المريض لعلاجٍ طبّي متكامل داخل المستشفى للتخلص من آثار المواد المخدّرة أو الكحولية الموجودة في جسمه. كما تُجرى له فحوصات لمعرفة مدى تأثير تعاطي المواد المخدّرة على مختلف أعضاء جسمه، والتأكد من خلوّه من أي أمراض عضوية تستلزم العلاج.
وتضيف أنّه في مرحلة ما بعد «الديتوكس»، يخضع المريض لمتابعة داخل مراكز التأهيل أو عبر العلاج البديل، أي الخضوع للعلاج من دون البقاء داخل مركز التأهيل.
في الحالتين، يخضع المريض لعلاجٍ بالأدوية المضادة للمواد المخدّرة، ولجلساتٍ علاجية بهدف تأهيله على الصعيدين النفسي والسلوكي لدعمه وتفادي الانتكاس. وتتنوّع الجلسات بين الفرديّة والأسريّة، أي التي تتمّ بوجود أفراد الأسرة. يُشرف على العلاج طبيب نفسي، يقوم بتدريب المريض على مقاومة المخدرات واستئناف تعاطيها، ويبحث معه في المؤثرات أو الضغوط النفسية التي دفعته إلى الإدمان، بهدف تدريبه على إيجاد الحلول اللازمة من دون اللجوء إلى المخدّر. كذلك، يتعلم المريض من خلال العلاج السلوكي بعض المهارات والاستراتيجيات لتفادي الانتكاس، كما يتمّ إعداده للاندماج مجدّدًا في المجتمع من دون الشعور بالذنب أو العار. في هذا الإطار، تشدّد الخليل على أهمية تفهّم الأسرة للمدمن، فهو إنسان مريض بحاجةٍ إلى دعم عائلته إلى جانب العلاج الطبّي.
كذلك، يعالج الاختصاصيون الأعراض الانسحابية، وهي الأعراض النفسية والجسدية التي تصاحب عملية نزع السموم من الجسم، بسبب التغيّر الكيميائي والفيزيولوجي، ومن بينها اضطرابات النوم والأرق التي تصاحبها آلام في البطن وارتفاع ضغط الدم والتعرّق، بالإضافة إلى الهلوسات والاضطرابات النفسية الشديدة كالاكتئاب الحاد الذي يمكن أن يصل إلى حد الرغبة في الانتحار.
إلى أين يقود النفق؟
يؤدي تعاطي المخدرات إلى أضرارٍ جسدية ونفسية جسيمة، قد تصل إلى حدّ الموت. من أبرز الأضرار الجسدية: أمراض البنكرياس والكبد، حدوث تلف في أنسجة الدماغ والرئتين، جفاف الجلد، ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراضٍ سرطانية مختلفة (سرطان الدم، والبنكرياس، والبروستات، والعظم، والجلد)، احتمال الإصابة بنوبةٍ قلبية نتيجة انخفاض تدفّق الدم إلى القلب، وارتفاع إمكانات الإصابة بالعقم عند الرجال.
أمّا أبرز الأضرار النفسية فهي التوتّر النفسي واليأس والاكتئاب وصولًا إلى احتمال الإقدام على الانتحار، بالإضافة إلى احتمال الإصابة بانفصامٍ في الشخصية والتخيّلات البصرية والسمعية.
على الصعيد الاجتماعي، يؤدي الإدمان إلى انزواء المدمن وانقطاعه عن المجتمع، فإذا كان يعمل يتراجع أداؤه، وإذا كان طالبًا يتراجع في دراسته وصولًا إلى الانقطاع عنها تمامًا في بعض الحالات. ويتعرّض المتعاطي أيضًا لمشكلاتٍ سلوكية، ويصبح أكثر عرضةً للجنوح، حيث لا يتوانى عن القيام بأعمالٍ إجرامية كالسلب والقتل بهدف الحصول على المال اللازم لشراء المواد المخدّرة، كما يمكن أن يقوم بسلوكياتٍ شاذة ومنحرفة نتيجة حالة اللاوعي التي تنتابه لدى تعاطي المواد المخدّرة.
لا تقتصر عواقب إدمان المخدرات على المتعاطي وحده، وإنّما تشمل المجتمع بأسره بشكلٍ أو بآخر. فالإدمان إضافة إلى كونه جريمة يعاقب عليها القانون، يمكن أن يؤدي إلى انتشار الجرائم نتيجة الفساد الذي يخلّفه في نفوس المتعاطين. كذلك، فإنّ تجارة المخدرات تشكّل عامل خطر وتهديد على سلامة المجتمع، من خلال اقتراف تجّارها الجرائم بحق كل من يتصدى لهم، بما في ذلك رجال الأمن والقانون.
على الصعيد الاقتصادي، يؤدي الإدمان إلى عدة نتائج سلبية، من أبرزها تراجع إنتاجية الفرد بما في ذلك من انعكاسات سلبية على الدخل القومي، بالإضافة إلى التكاليف الباهظة في فاتورة العلاج.
تضافر الجهود للوقاية
انطلاقًا من أخطارها المهدّدة لسلامة المجتمع، تُعتبر قضية مكافحة المخدرات والوقاية منها واجبًا وطنيًا يفرض تضافر الجهود بين مختلف عناصر المجتمع، من الأسرة والمدرسة إلى المؤسسات الحكومية والدستورية بالإضافة إلى الجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام والاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين.
الأسرة:
تؤدّي الأسرة الدور الأهم في حياة المرء، فهي المسؤولة عن تعزيز ثقة الأولاد بأنفسهم وتنمية قدراتهم الذاتية، بما فيها قدرتهم على مواجهة الصعوبات والتغلّب عليها، وبالتالي فهي المسؤول الأول عن حماية أفرادها من الوقوع في فخّ المخدرات. من هنا، يجب ألّا تقتصر جهود الوالدين على تأمين المأكل والمشرب والتعليم لأولادهما، وإنّما يجب متابعتهم بشكلٍ يومي من خلال مراقبة سلوكهم والتعرّف إلى أصدقائهم، والإصغاء إلى مشاكلهم وتدريبهم على حلّها، بالإضافة إلى خلق حوارٍ بنّاءٍ دائمٍ بين أفراد الأسرة جميعًا يتناول مختلف المواضيع بما فيها آفة المخدرات وأخطارها.
المدرسة:
ممّا لا شك فيه أنّ هناك العديد من المحاولات الناجحة لتجّار المخدرات في الترويج لبضاعتهم داخل حرم المدارس والجامعات، وغالبًا ما يُواجَه هذا الأمر بالتكتّم خوفًا على سمعة المدرسة أو الجامعة. من هنا، يشدّد الاختصاصيون على ضرورة التعاون بين المؤسسات التعليمية والسلطات الأمنية والأهل في مواجهة هذه الآفة. كما يحثّون المدارس على تكثيف الرقابة على الطلبة، وممارسة دورها التربوي في توعيتهم من مخاطر الإدمان وعواقبه المدمّرة على صحتهم وعلى مستقبلهم العلمي والاجتماعي. من الممكن أن يتمّ ذلك من خلال المحاضرات التوجيهية والندوات التثقيفية، أو حتى عبر استضافة أشخاص وقعوا في فخ المخدرات والاستماع إلى شهاداتهم حول التجارب المُرّة التي خاضوها. من المفيد أيضًا، أن تشجّع المدارس والجامعات طلابها على ممارسة النشاطات الرياضية بمختلف أنواعها، لا سيّما في الصفوف المتوسطة والثانوية حيث يرزح الطلاب تحت عبء الدروس والامتحانات والتخطيط للمستقبل.
الإعلام والمؤسسات:
يُعَدّ الإعلام بوسائله المتطورة من أبرز أدوات التأثير في الرأي العام، ومن هنا تبرز أهميّته في نشر التوعية لدى الأجيال الصاعدة وتحذيرها من مخاطر الإدمان والإتجار به، وذلك عبر برامج حوارية وحملات مدروسة، تشارك فيها الوزارات المختصّة والمؤسسات غير الحكومية التي تُعنى بمكافحة الإدمان، بالإضافة إلى اختصاصيين في مجالَي الصحة العامة والنفسية.
التعاون بين الوزارات المعنيّة:
إنّ العواقــب الصحيــة، والاجتماعية، والاقتصادية الناجمــة عــن إدمان المخدرات شأن يطاول عدّة وزارات، وبناءً عليه، فقد أُطلقت في السنوات الأخيرة حملة تعاون بين وزارات: الصحة العامة، الشؤون الاجتماعية، التربية والتعليم العالي، الداخلية والبلديات، والعدل تحت عنوان «الاستراتيجية المشتركة بين الوزارات لمكافحة المخدرات والإدمان في لبنان 2016- 2021». تسعى الاستراتيجية إلى دعم توافر خدمات عالية الجودة تراعي الفرق في العمر وبين الجنسين، للوقاية والعلاج وإعادة التأهيل وإعادة الدمج الاجتماعي والحدّ من المخاطر، بالإضافة إلى تحسين إمكان الوصول إلى تلك الخدمات، وتعزيز حماية حقوق الأشخاص الذين يعانون اضطرابات استخدام المواد المسبّبة للإدمان، وزيادة كفاءة أنشطة تخفيض العرض.
يُسهم تحقيق هذه الأهداف على المدى الطويل في انخفاض معدل انتشار اضطرابات استخدام المواد المسببة للإدمان، وتأخير عمر بدء استخدامها، بالإضافة إلى انخفاض معدل انتشار الأمراض الانتقالية بين الأشخاص الذين يستخدمون المواد بالحقن، وانخفاض عدد حالات الجرعة الزائدة. كما يُسهم في مكافحة الوصمة تجاه الأشخاص الذين يعانون اضطرابات استخدام المواد المسببة للإدمان.
أنواع المخدرات
تتوافر في الأسواق مئات الأنواع من المخدرات التي يمكن إدراجها ضمن أربع فئات:
• المثبّطات Depressants: يندرج في إطارها: الأفيونيات، الكحول، الترامادول، الهيرويين، والكودايين. يُستخدم قسم كبير من المثبّطات لأغراضٍ مشروعة بهدف مكافحة الاضطرابات العقلية والأرق، إلّا أنّ البعض يسيء استخدامها بهدف الشعور بالنشوة، علمًا أنّها من العقاقير التي تسبّب الإدمان بدرجة كبيرة، ومن أكثر أنواع المخدرات خطورة، ومن المحتمل أن تسبّب الموت لزيادةٍ في الجرعة.
• المنشّطات Stimulants: من بين أصنافها الكوكايين والكيتامين والـFreebase. تُستخدم لزيادة الطاقة والقدرة على التركيز وتحسين الأداء لفترةٍ محدودة، لكنّها تؤدي على المدى الطويل إلى الإدمان، ويمكن أن تسبّب انفصامًا في الشخصية أو الجنون.
• المهلوسات Hallucinogens: من ضمنها حشيشة الكيف والـLSD. من آثارها النفسية الاضطراب في النشاط الذهني والخلل في الإدراك، إذ يتصوّر متعاطيها أنّه يملك قدرات خارقة ويعيش حالة من الخيال والأوهام قد تؤدي به إلى الانتحار. أمّا الآثار الصحية على المدى الطويل فتتمثّل في الضعف العام والهزال، وضعف مقاومة الجسم للأمراض، والصداع المستمر، وأمراض مزمنة في الجهاز التنفسي مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية، وتصل تلك الأعراض إلى حد الإصابة بالسّل.
• المستنشقات Inhalants: كالبنزين، ومزيل طلاء الأظافر بالإضافة إلى مجموعة واسعة من المواد الكيميائية التي يتمّ استنشاقها للحصول على شعور باللذة العالية. وفي حين أنّها تميل إلى أن تكون أقلّ استخدامًا من مواد أخرى، فإنّ استخدامها يسبّب العديد من الآثار الصحية الخَطِرة.
• المهدّئات: Benzodiazepines من ضمنها، Xanax وAtivan Valium وهي تُستخدم لعلاج الأرق ومجموعة واسعة من الاضطرابات النفسية، إلّا أنّ إساءة استخدامها تؤدي إلى الإدمان، ويمكن أن تسبّب العديد من المشاكل الطبية والنفسية.
مراكز التأهيل: تجمّع «أم النور» نموذجًا
بات في لبنان العديد من الجمعيات والمراكز التي تُعنى بمرافقة المدمنين وتأهيلهم وإعادة دمجهم في المجتمع، منها تجمّع «أم النور» الذي تأسّس منذ حوالى 30 عامًا، وهو يعمل في حقلَي الوقاية والعلاج.
البداية كانت مجموعة صغيرة من الشباب، توفيَ صديق لهم من جرّاء جرعة زائدة، فتطوّعوا لحماية صديق آخر كان أيضًا مدمنًا. تطوّرت هذه المجموعة التي بدأت بخيمةٍ في مار شربل- عنايا، لتصبح اليوم جمعية غير حكومية تلتزم مساعدة الأفراد في التغلّب على مشكلة الإدمان.
استقبل المركز حتى اليوم ما يزيد عن 7 آلاف حالة تعاطي مخدّرات من المناطق والانتماءات والمستويات الاجتماعية والثقافية كافةً، وهو يقدّم خدماته من دون أي كلفة أو تمييز. مديرة دائرة الوقاية في التجمّع السيّدة ميراي وهيبة تشرح آلية العلاج في المركز وتتحدّث عن برامج الوقاية الخاصة بالتجمّع.
التأهيل والمتابعة
بدايةً، تشير السيّدة وهيبة إلى وجود دائرة للعلاج ومركز للتأهيل الخارجي، وتوضح أنّ مركز الاستقبال هو أول محطة يمرّ بها الراغب في العلاج، حيث يقابل فريقًا متعدّد الاختصاصات يدرس وضعه الصحي والنفسي والاجتماعي والقانوني والعائلي، وملفّه وتاريخ تعاطيه والمواد التي تعاطاها. فإذا تبيّن أنّه مازال في مرحلة التعاطي ولم يصل بعد إلى حدّ الإدمان، يتوجّه إلى مركز العلاج الخارجي الذي يقدّم خدمات علاجية للمتعاطين تشمل الدعم النفسي والاجتماعي والصحي والقانوني.
أمّا المدمن فيتمّ تحويله إلى المستشفى ليخضع للديتوكس قبل أن يتوجّه إلى مركز التأهيل.
يعتمد التأهيل في التجمّع على المجتمعات العلاجية Communautés Thérapeutiques، إذ يُقيم المدمن بين أشخاص يشبهونه ويخضع معهم لبرنامجٍ علاجي، يمتدّ من 12 إلى 15 شهـرًا ويُقسم إلى أربع مراحل، لكل منها هدف معيّن.
وبذلك يتدرّج موقع متلقي العلاج من نزيل يتولّى أحد الأشخاص مرافقته، إلى مُرافق يتحمّل مسؤولية شخصٍ آخر دخل حديثًا إلى مركز العلاج، فرئيس وحدةٍ من وحدات العمل (المطبخ، الزراعة والمواشي، الفنون على أنواعها والكلفة)، ليصبح في المرحلة الأخيرة مشرفًا مسؤولًا عن الجماعة، يواكب البرنامج ويكون داعمًا لفريق العمل، حتى أنّه يحمل نسخة عن مفاتيح المركز. هنا يبدأ الشخص برسم خطة لحياته ومستقبله بعد الخروج من مركز التأهيل.
برنامج العلاج مكثّف لا يترك أوقات فراغ للفرد حتى لا يسمح له بالتفكير بالمادة المخدرة. يتضمّن لقاءات حوار ومقابلات فردية وجماعية، ومواكبة نفسية واجتماعية وسلوكية، فضلًا عن التدريب على المهارات اللازمة للتعامل مع نقاط الضعف وتخطّيها وتعزيز نقاط القوة.
بعد انتهاء فترة التأهيل، يبقى الشخص على تواصل مع مركز المتابعة وذلك لمواكبة مرحلة الانخراط السليم والفاعل في المجتمع والوقاية من الانتكاسات.
التوعية
بما أنّ «درهم وقاية أفضل من قنطار علاج»، طوّرت «أم النور» برامجها الوقائية التوعوية منذ العام 2000 معتمدة وسائل تربوية واستراتيجيات لتطال كل شرائح المجتمع على كامل الأراضي اللبنانية. لذلك تبدأ برامج التوعية من عمر 9 سنوات وما فوق وتستند إلى ما يُسمّى «نموذج بيئي» يأخذ بعين الاعتبار كل المستويات: الشخصي Intrapersonnel، العلائقي Interpersonnel (عائلة وأصحاب ومدرسة)، والاجتماعي- السياسي socio-politique (القرارات والقوانين والإعلام)، ولكل فئةٍ برنامج خاص بها.
تسعى برامج الوقاية إلى تعزيز الوعي الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية، من خلال: نشر المعلومات حول تعاطي المواد الإدمانية وكيفية تجنّبها، تدريب الأساتذة والناشطين الاجتماعيين على تطبيق المهارات الحياتية في مؤسساتهم، تدريب الكوادر الاجتماعية وأصحاب القرار على التخطيط ووضع مشاريع وقائية وتطبيقها في مناطق وجودهم، تمكين الأهل وتحفيزهم وتوعيتهم على المشاركة في تفعيل أدوارهم الوقائية لحماية الأجيال الناشئة وخلق شبكة أمان اجتماعية، خلق نواة شبابية قادرة على التأثير الإيجابي من خلال ما يُعرف بالتربية عبر الأقران في كل مؤسسة، وقد أسّس التجمّع حتى الآن حوالى 30 فريقًا شبابيًا.
عائدون إلى الحياة
قابلنا في تجمّع «أم النور» ثلاثة مدمنين سابقين، هؤلاء الذين نقدّم قصصهم بأسماءٍ مستعارة، يستعيدون الرحلة الموجعة وصولًا إلى قول كل منهم «بدي عيش الحياة بتلبقلي».
سامي (27 سنة): وُلد في نيويورك، تطلّق والداه وهو في الشهر الثاني من عمره فربّاه جدّاه في لبنان. يخبرنا: في عمر 16 سنة بدأت بشرب الكحول لأكون Cool ومقبولًا في محيطي وبين أصحابي إلى أن أدمنت عليها، إذ لم يكن هناك سلطة تردعني، جدّاي قدّما لي العاطفة ولكن ليس التوجيه، وكنتُ أعاني النقص العاطفي.
بعد سنةٍ تعرّفت إلى الحشيشة ورحتُ أتعاطاها مع الكحول فأعجبتني الفكرة لأنّها جعلتني غير واعٍ، أعيش في عالمي الخاص المزيّف، وأضفت إلى قائمة المواد التي أتعاطاها حبوب الوجع والأدوية والمسكنات. صرت أحب أي مادة تجعلني فاقدًا للوعي...
تخرّجت من المدرسة ودرست ثلاث سنوات International Business في الـLAU، وهناك تعرّفت إلى الكوكايين التي بدأتُ بتعاطيها في المناسبات Party Drug، ثم اعتقدت أنّها تعطيني الطاقة والتركيز، فصرت أتعاطاها بانتظام إلى أن خسرت جامعتي. قررت الذهاب إلى دبي للابتعاد عن المخدرات والعمل، ولكن هناك وقعتُ في الفخّ مجددًا إلى أن خسرت عملي ومنزلي وكل شيء.
تواصلت مع أبي وطلبت العمل معه في نيويورك ومتابعة جامعتي... هناك عدتُ مجددًا إلى الكحول والتعاطي إلى أن طردني والدي من العمل وبتّ في الحضيض. عرفت التشرّد والذلّ والجوع، حتى أنّني كنتُ أبحث عن بقايا السجائر في الطريق لأدخّنها. فعدتُ إلى لبنان وتعرّفت إلى الهيرويين بالإبر ولكن لم يَعُد بإمكاني شراؤها...
لماذا قرّرت أن تستيقظ من عالمك هذا؟
لأنّني خسرتُ كل شيء، واكتشفتُ أنّ هذا العالم الوهمي ليس منتجًا، فأنا اليوم عمري 27 سنة لم أحقّق أي اختصاص أو شهادة، ولست في علاقة عاطفية، كما خسرت الكثير من المال. هذا العالم الوهمي لا يدوم!
في التجمّع أحبّوني واحتضنوني كما أنا من دون أي شروط، عرفوا أنّ المدمن في داخلي هو الذي يفتعل المشاكل وليس أنا الحقيقي. في المجتمع كنتُ مدمنًا منبوذًا، وعندما تابعت العلاج بدأت ألمس التغيير فعادت إليّ ثقتي بنفسي واستعدت حبّي للحياة، «بدّي عيش وبتلبقلي الحياة».
«ما تطنّشوا»
سلمى (34 سنة): مدمنة في مرحلة العلاج، تعاطت المخدرات منذ 18 سنة. تخبرنا: منذ صغري كنتُ أرى أبي يعنّف أمّي، تطلّقا. أساسًا أبي يتعاطى المخدرات. اعتدى «صاحب» أمي عليّ، فكرهتها وعشتُ مع جدّتي التي ربّتني، وخالتي التي كانت صديقتي المقرّبة، توفِيَت فجأة أمام عينَي وهي كانت تعيش حياةً نظيفة وسليمة.
شخصيًا، أعاني اضطراب المزاج ثنائي القطب Bipolar، كذلك كنتُ سمينة وهذا سبّب لي مشاكل نفسية وفقدان شهية. في المدرسة كان رفاقي يتنمّرون عليّ بسبب شكلي. في إحدى المرّات تعرّضت للضرب من قبل أولاد أكبر منّي كسروا لي ضلعَين وكان عمري 13 سنة. كل هذه الأسباب اجتمعت لتدفعني إلى مجموعة من الأصدقاء جرّبتُ معهم المخدرات للمرّة الأولى في المدرسة في عمر 14 سنة، وقد جرّبنا الهيرويين منذ البداية.
كنتُ آخذ المال من أهلي الذين عاشوا حالة إنكار تجاه إدماني، ولم تعترف أمي بالأمر إلّا حين تلقّت اتصالًا من مخفر حبيش يفيدها أنّني موقوفة بتهمة مخدرات! بعدها رحنا ندخل المنازل بالخلع للسرقة، ونقوم باعتداءات مسلّحة على مراكز مالية معروفة... تمّ توقيفي 8 مرّات وسُجِنت...
• ما هي أسوأ حالة بلغتِها في الإدمان؟
- تزوّجتُ بالتاجر ليزوّدني المواد المخدّرة، قصدنا مركز العلاج سويًا في العام 2006، هو نجح ويعيش حياةً نظيفة منذ 13 عامًا، وأنا انتكست (تطلّقنا منذ 8 سنوات).
لا أحب التحدّث كثيرًا عن فترة الإدمان لأنّ الجميع يعرف ما يختبره المدمن من الوساخة والوجع الداخلي والخارجي، والخسارات الكبيرة كالعائلة والكرامة، والسجن والذلّ. أفضّل أن أتحدّث عن علاجي، المرّة الأولى كانت بين العامَين 2006 و2008 والثانية بين 2017 و2018.
في المرة الأولى كان عمري 22 سنة، دخلت مركز علاج «أم النور» معتقدةً أنّه سيمارس عليّ سحرًا يشفيني من دون أن أبذل أي مجهود أو أُفصح عمّا في داخلي من جروحات. تابعتُ فترة العلاج من دون قناعة. وكنتُ أكذب على المربّين وأتظاهر بأنّني سامحتُ والدتي ونفسي، ولكن ذلك لم يكن صحيحًا. أنهيتُ هذا التأهيل بالكذب وعدم القناعة، وخرجتُ بعد سنة وشهرَين إلى الحياة لأعود إلى التعاطي بعد ثلاثة أسابيع، وبقيتُ على هذه الحال نحو 11 سنة.
في المرّة الثانية كلّمتُ أمي وطلبتُ مساعدتها بعد أن بلغتُ الذروة. كنتُ قد أصبحت في عمر 32 سنة، واعية لمشكلتي وأمراضي النفسية ولا أريد سوى التخلّص منها. كان عليّ أن آخذ «القرار» و«أحب نفسي»، وفشلتُ بذلك، وانتكستُ من جديد فخرجتُ وتعاطيتُ المخدرات متوقّعةً أن أشعر بالراحة. شعرتُ بالذنب والفشل وراودتني فكرة الانتحار. بدأ العمل المكثّف معي لأنفتح على الآخر، ولم ينجح ذلك إلّا حين تحدّثت مع مربّية كانت مدمنة سابقة. أثّر كلامها فيّ فأفرغتُ كل آلامي وأفكاري وماضيَّ أمامها، وحينها توصّلتُ لمسامحة أمي، فباتت صديقتي الأقرب، والآن أعيش معها منذ سنتَين.
أنهيتُ فترة العلاج منذ 4 أشهر تقريبًا وأنا في مرحلة المتابعة. بتُّ أعرف كيف أحمي نفسي، لا أقصد الملاهي الليلية ولا الأماكن التي قد أجد فيها كحولًا حين أكون متعبة. أمي إلى جانبي وباتت تعرف أوقات ضعفي وتستعين بالأبحاث والمعالج النفسي لمساعدتي على تخطّي هذه الأوقات. من هنا، أتوجّه إلى الأهل وأقول لهم «ما تطنّشوا» إذا لاحظتم أمورًا غريبة عند أولادكم، بل ساعدوهم منذ البداية لكي لا يغوصوا أكثر في مشاكلهم.
الحياة صعبة، وكل يوم بالنسبة للمدمن السابق هو معركة في هذه الحياة وعليه أن يحارب لكي لا ينجرّ إلى الانتكاسة. اتّخذتُ قراري بالعيش من دون مخدرات، وتحقيق طموحي بأن أكمل شهادتي بالأدب الإنكليزي. أصغر الأمور مثل فنجان قهوة مع صديق أو رحلة إلى الجبل أو مشاهدة مسلسل مع أمي... تمنحني السعادة!
الإدمان موت يومي
ظروف سمير (في العشرينيات من عمره) تختلف عن الخبرتَين الآنفتَين، فعائلته كانت إلى جانبه وهو اليوم في آخر مرحلة من العلاج، يستعدّ للخروج من المركز لخوض حربه مع الحياة. يخبرنا عن تجربته التي بدأت بتنقّله بين 27 مدرسة بسبب سلوكه.
أنا الأصغر في عائلة فقيرة مؤلفة من أب وأم وأخ وأخت مع فارق كبير في السنّ. أبي كان قاسيًا وعنيفًا معنا، هدفه التربية الصحيحة والعلم والنجاح، ولكنّ الأسلوب كان خاطئًا. ولم أعد أشعر بالأمان ولا بالانتماء لمنزلي الوالدي. كنتُ أفعل كل شيء «نكاية» بأبي الذي حاول تحقيق طموحاته فيّ، إلى أن كبرتُ وبدأت العمل، وجدتُ انتمائي في الشارع في عمر الـ15 سنة، مع رفاق أصبحوا في ما بعد مدمنين.
في البداية كنتُ أرفض حتى التدخين، ولكن عندما جرّبتُ الحشيشة لأول مرّة بسبب خوفي وخجلي ومراعاتي لمشاعر الآخرين، شعرتُ أنّني أقوى. ملأت المخدرات الفجوة العاطفية التي كنتُ أشعر بها، فأصبحتُ أعالج مشاكلي وخجلي وضعفي بتناول أي شيء (كحول، حشيش، أو أي نوع من المخدرات).
وصلتُ إلى مرحلة الإدمان من دون أن أدرك ذلك، شعور يوازي عشرات أضعاف الألم الذي نشعر به في أسوأ مرض قد يُصاب به شخص طبيعي. جرّبتُ الأنواع كلها وتعرّفتُ إلى تجار، ومع كل الألم، كنتُ أشعر أنّني «مهضوم» ومقبول اجتماعيًا، وكان هذا في سنّ 19.
استمرّت هذه الحال لمدّة سنة تقريبًا، أجني المال من عملي في إحدى المؤسسات الإعلامية وأحصل على المواد، إلى أن بدأ الأمر يؤثّر على حياتي ونومي والتزاماتي. قرّرتُ التوقّف عن المخدرات. كان الأمر مستحيلًا من دون مساعدة، فصارحتُ أهلي ولجأتُ إلى عدّة مراكز للعلاج ولكن لم أُشفَ. سرقتُ وتاجرت، وفقدتُ الأخلاق والمعايير والمبادئ... وحين «سكّرت الدني» وكنتُ أبكي من داخلي (لأنّ المخدرات تخدّر المشاعر وتمنعنا من البكاء)، تعرّفت إلى «أم النور» حيث أجريتُ مقابلة أشعرتني بجدّية الموضوع. تهرّبتُ لمدة ثمانية أشهر، ثم عدتُ بكامل إرادتي، واجتمعت عائلتي إلى جانبي لدعمي، كما تابعت أمي محاضرات وجلسات يتابعها الأهل في موازاة علاج ابنهم.
هنا وجدتُ الإيمان والثقة وشعرتُ بالانتماء... عرفتُ قيمتي كإنسانٍ، وكيفية تحمّل المسؤولية. استعدتُ ثقتي بنفسي، تعلّمتُ كيف أواجه مشاكلي وأواجه الآخر بأسلوبٍ هادئ وصريح، بتُّ أعرف كيف أعبّر عمّا يزعجني، خصوصًا في وجه أبي، الأهم هو الصدق.
• كيف تصف عالم الإدمان؟
- إنّه موت يومي. أمي قالت لي «لن أشاهدك تموت أمامي كــل يــوم»! المخــدرات مــوت المشاعــر والجســد والأخــلاق...
توزيع النسب وفق المستويات التعليمية والمواد المستخدمة
تشير الإحصاءات التي يجريها تجمّع «أم النور» الذي يستقبل المتعاطين والمدمنين، ويقدّم لهم العلاج، إلى أنّ هؤلاء يتوزعون في مختلف المستويات التعليمية، وذلك وفق الآتي: 17.1% ابتدائي، 25.9% تكميلي، 18.1% ثانوي، 15.5% تقني، 15.8% جامعيين لم يتخرّجوا بعد، 6.3% حائزين شهادة جامعية، وغير متعلمين 1.6%.
أمّا في ما يتعلّق بالمواد المستخدمة، فإنّ الذين استقبلهم المركز في العام 2018 يتوزّعون كما يأتي: Freebase 47.3%، كبتاغون 9.8%، سالفيا 46.1%، ترامادول 51.8%، ميثادون ومثيلاتها 16%، بنزوديازيبين 20.9%، ألعاب الحظ والمقامرة 19.5%، المواد المتطايرة 1.2%، كوكايين 73.2%، حشيشة أو قنّب 88.9%، إكستاسي 30.9%، أمفيتامين 44.3%، مخدرات LSD (حمض الليزرجيك دايثيلاميد) 25.2%، هيرويين 34%، وكحول 75%.
مستشفى ضهر الباشق الحكومي يقدّم العلاج بتكلفةٍ زهيدة
في إطار السعي لمكافحة المخدرات، يفترض توافر مراكز تؤمّن للمدمنين العـلاج اللازم بتكلفةٍ زهيدة، كي يتمكّن الفقراء منهم ومحدودي الدخل من متابعة العلاج من دون الوقوع تحت عبء المصاريف الضخمة.
يتكفّل مستشفى ضهر الباشق الجامعي الحكومي والمدعوم من وزارة الصحة بمعالجة الإدمان على المخدرات منذ العام 2013. وهو يوفّر الفطام من المخدرات «الديتوكس»، أي العلاج الصحي لتنظيف جسم المدمن من رواسب المخدرات، ضمن مدَّة تراوح بين سبعة وعشرة أيام. بعدها يتمُّ تحويل المريض إلى مراكز تأهيل متخصصة بالعلاج النفسي. تصل كلفة هذا العلاج المدعوم من وزارة الصحة إلى نحو 450 ألف ليرة لبنانية، بينما تصل في مستشفىً خاص إلى ما يقارب الأربعة آلاف دولار.
يتولى العلاجَ أطباءٌ ومعالجون نفسيون، ومرشدةٌ اجتماعية، إلى جانب طاقم طبي تمريضي متمرس في معالجة الإدمان.