في ذاكرة الأجيال

وديع الصافي صوت بحجم الوطن
إعداد: تريز منصور

«طلّ الصباح» من دون الصوت الحامل جبروت الجبال وعذوبة السماء

 

«طلّ الصباح وزقزق العصفور» لكن وديع الصافي لم يستيقظ في ذلك الصباح.
الصوت الذي ارتقى إلى مصاف الأيقونة في الذاكرة بعد أن نحت فيها طويلًا، ظلّ محتفظًا بقدراته الخارقة بالرغم من تقدّم العمر.
الصوت الصافي المدهش في تركيبة وحّدت بين جبروت الجبل وعذوبة السماء، أخذ صاحبه إلى أقاصي الأرض وإلى أعماق الجمال.
غادر وديع الصافي، الجبل الذي لم تهزّه ريح. الموت حقّ، لكنّ الخسارة مؤلمة، خصوصًا في زمن يشتاق إلى « الرجال الجبال»، وإلى القامات المديدة في الفن وفي سواه من مجالات الحياة.

 

من نيحا إلى بيروت
ولد وديع فرنسيس المعروف بوديع الصافي في قرية نيحا الشوفية في 1 تشرين الثاني 1921. وهو إبن بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس (رقيب في الدرك اللبناني)، والإبن الثاني في ترتيب العائلة المكوّنة من ثمانية أولاد.
عاش طفولة متواضعة غلب عليها طابع الفقر والحرمان.
العام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت وانتسب إلى مدرسة دير المخلص، فكان المنشد الأوّل في جوقتها ونجمها الكنسي. لم يتمكن من متابعة دراسته، حيث توقّف بعد ثلاث سنوات لظروف اضطرته إلى دخول سوق العمل من أجل مساعدة الوالد في إعالة العائلة، فعمل في محل لبيع الألبسة، كما عمل في محل أحذية وصالون حلاقة، واشتغل في معمل للقرميد والزجاج.
شغفه بالموسيقى سيطر على كل شيء في حياته. فمنذ صغره أحبّ الغناء، وتعلّم العزف على العود، معلّمه الأول كان خاله الدركي نمر شديد العجيل الذي يعشق الطرب، وبعد انتقال العائلة الى بيروت تولّى المهمة ألكسي اللاذقاني.

 

تحقيق الحلم والتألّق
الإنطلاقة الفنية كانت العام 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى لحنًا وغناءً وعزفًا، من بين أربعين متباريًا، في مباراة للإذاعة اللبنانية، حين غنّى «يا مرسل النغم الحنون» للشاعر (المجهول آنذاك) الأب نعمة اللّه حبيقة. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام، الذين اتفقوا على اختيار إسم «وديع الصافي» كإسم فني له، نظرًا الى صفاء صوته.
كانت إذاعة الشرق الأدنى، بمثابة معهد موسيقي تتلمذ وديع فيه على يد ميشال خياط وسليم الحلو، اللذين كان لهما الأثر الكبير في تكوين شخصيّته الفنية.
بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. هنا كان للشاعر أسعد السبعلي دور مهم في إعطاء أغنية وديع الصافي هوية مميّزة، وكانت البداية مع «طل الصباح وتكتك العصفور» (1940)، التي أعقبها مجموعة من أجمل ما غناه وديع الصافي.
العام 1947، سافر مع فرقة فنية إلى البرازيل حيث أمضى 3 سنوات في الخارج.
بعد عودته من البرازيل، أطلق أغنية «عاللّوما»، التي كان لها الأثر الكبير في شهرته، وأصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون على بعضهم بعضًا.
قال فيه محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني أوائل الخمسينيات «ولَو» المأخوذة من أحد أفلامه السينمائية، «من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت»، وقد شكّلت هذه الأغنية علامة فارقة في مشواره الفني، فلُقب بصاحب الحنجرة الذهبية، وقيل عنه في مصر إنّه مبتكر «المدرسة الصافية» في الأغنية الشرقية الشعبية.
العام 1952، تزوّج السيدة ملفينا طانيوس فرنسيس، إحدى قريباته، ورزقا خمسة أولاد: دنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد.
في أواخر الخمسينيات، بدأ بالعمل مع العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية، إنطلاقًا من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت فيروز ونصري شمس الدين، والأخوين رحباني وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وعصام رجّي وغيرهم.
مع بدايــة الحــرب اللبنانية العام 1975، غادر وديــع الصافي لبنــان إلى مصــر، ومن ثمّ إلى بريـطانيا، ليستقــرّ بعدهــا في باريس.
كان سفره اعتراضًا على الحرب الدائرة بين الأخوة في لبنان، مدافعًا بصوته عن لبنان الفن، الثقافة والحضارة.
وكانت أغانيه بمثابة رسالة أمل جدّدت إيمان المغتربين بوطنهم، وذلك من خلال كلماتها التي حملت في طيّاتها معاني حب الوطن والوفاء لترابه وأرزه.

 

رحلة الإبداع تتواصل
منذ الثمانينيات، بدأ الصافي بتأليف الألحان والتراتيل، اقتناعًا منه بأن كلّ أعمال الإنسان لا يتوّجها سوى علاقته باللّه. العام 1990، خضع لعملية القلب المفتوح، ولكنه استمر بعدها في عطائه الفني بالتلحين والغناء. فعلى أبواب الثمانين من عمره، لبّى الصافي رغبة المنتج اللبناني ميشال الفترياديس لإحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، مع المغني خوسيه فرنانديز، والمطربة حنين، فحصد نجاحًا منقطع النظير، أعاد وهج الشهرة إلى مشواره الطويل.
لم يغب يومًا عن برامج المسابقات التلفزيونية الغنائية قلبًا وقالبًا، فوقف يشجّع المواهب الجديدة التي رافقته، وهي تغنّي أشهر أغانيه.
يحمل الصافي إلى جانب جنسيته اللبنانية ثلاث جنسيات: المصرية والفرنسية والبرازيلية، الاّ أنه يفتخر بلبنانيته، ويردّد أن الأيام علّمته بأن «ما أعزّ من الولد الا البلد».

 

أغان في البال
غنّى وديع الصافي للعديد من الشعراء،  وللعديد من الملحنين أشهرهم الأخوان رحباني، توفيق الباشا، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، رياض البندك. ولكنّه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه لأنّه كان الأدرى بصوته، كما كان يقول، ولأنّه كان يُدخل المواويل في أغانيه، حتّى أصبح مدرسة يُقتدى بها.
كان له الدور الرائد في ترسيخ قواعد الغناء اللبناني، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد، وأصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في بلده فقط، بل في العالم العربي أيضًا. اقترن اسمه بلبنان، وبجباله التي لم يقارعها سوى صوته الذي صوّر شموخها وعنفوانها.
من أغانيه الأكثر حضورًا في الذاكرة: «لبنان يا قطعة سما»، و«طلّ الصباح»، و«صرخة بطل» و«الليل يا ليلى يعاتبني» و«شاب الهوى وشبنا» و«مريت ع الدار»، و«لوين يا مروان»، و«عصفورة النهرين» و«الله يرضى عليك يا ابني» و«الله معك يا بيت صامد بالجنوب» وموال «يا مهاجرين ارجعوا»، «طلّوا حبابنا» و«سهرة حب» و«يا شقيق الروح» و«عندك بحرية» و«على اللـه تعود على الله»... إضافة إلى التراتيل الكنسية، ومنها «اللهمّ اسمع أقوالي» وغيرها...
كرّمه أكثر من بلد ومؤسـسة وجمعية وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها أيام الرؤساء كميل شمعون، فؤاد شهاب وسليمان فرنجية والياس الهراوي، كما منحه الرئيس إميل لحود وسام الأرز برتبة فارس. وكرّمه معهد العالم العربي في باريس(1989) وقدّمت له جامعة الروح القدس في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى (1991).
كما منحه الرئيس ميشال سليمان وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى، الذي وضع على نعشه خلال مراسم جنازته.

 

وداعًا.. يا وديع
توفي وديع الصافي في 11 تشرين الأول العام 2013 عن عمر يناهز الاثنين والتسعين عامًا، وأقيمت له مراسم دفن مهيب حضره حشد من رجال السياسة والصحافة والفن...
ترأس الجنازة البطريرك الماروني بشارة الراعي في كاتدرائية مار جرجس المارونية في وسط بيروت.
ودّع اللبنانيون من كانت أغانيه لسان حالهم، بنثر الورود والأرزّ، ومنحه فخامة رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى المذهب، ثم ووري جثمانه الثرى في قريته نيحا.
قيل عنه الكثير عبر أثير الإعلام، وكتبت الصحافة أجمل كلمات العزاء والمجد لهذا العظيم الذي قد تمضي مئات السنين قبل أن يولد وديع مثله، صوته بحجم وطن.

 

أعماله

 

• المهرجانات الغنائية:
شارك وديع الصافي في المهرجانات الغنائية الآتي ذكرها:
• «العرس في القرية» (بعلبك 1959).
• «موسم العزّ «، و«مهرجان جبيل» (1960).
• «مهرجانات فرقة الأنوار» (1960-1963).
• «مهرجان الأرز» (1963).
• «أرضنا إلى الأبد» (بعلبك 1964).
• «مهرجان نهر الوفا» (1965).
• «مهرجان مزيارة» (1969).
• «مهرجان بيت الدين» (1970-1972).
• «مهرجان بعلبك» (1973-1974).

 

• أفلام سينمائية:
شارك وديع في أكثر من فيلم سينمائي، من بينها:
• «الخمسة جنيه».
• «غزل البنات».
• «موّال» و«نار الشوق» مع صباح (1973).


وديع الصافي «ضابط في جيش لبنان الأبي»

عقب معركة نهر البارد حيّا وديع الصافي الجيش مغنيًا من كلمات ميشال جحا وألحان جورج الصافي، «جيش لبنان الأبي». المطرب الكبير حمل ثقل سنواته الثماني والثمانين  آنذاك بهمة الشباب. وفي ساحة الكلية الحربية وقف مرتديًا البزة العسكرية حيث صور أغنيته.
ويروي مخرج الفيديو كليب المؤهل أول شربل نصر أن المطرب الكبير شعر بالتعب، لكنه أصر على متابعة العمل إلى أن انتهى التصوير، الذي استغرق وقتًا طويلًا.
قبل ذلك صوّر وديع الصافي وأيضًا من إخراج المؤهل أول نصر فيديو كليب لأغنية «أنا اسمي لبنان» (2004)، وهي من كلمات جوزف موراني وألحان نهاد نجار.
أما آخر فيديو كليب صورّه للجيش (2012) فكان لأغنية «شو دينك»، من كلمات جورج الصافي وألحانه، تمّ التصوير في الفوج المجوقل، وكان الإخراج لعبده نجار.