خلف كل بطل... أبطال

وللشهادة... وفاء

الألم في قلوبهم والفخر دم عروقهم...

انتهت المرحلة الأولى من جولتنا...
ومع انتهاء المعركة وانتصار الجيش على الإرهابيين كانت المرحلة الثانية: مزيد من الشهادات وهذه المرة في ظل صوَر الشهداء خلال الاحتفال الذي أقامته القيادة تكريماً لهم.
شهادات من نفوس يعتصرها الألم لكنها وجدت في الانتصار عزاء. «عادت اليّ الروح» تقول إحدى أمهات الشهداء، بينما تقيم أم شهيد آخر «زفة» الانتصار وتتقبّل التهاني.


• كتبت ندين البلعة:

فرح الانتصار ودمعة القهر
وقفتنا الأولى كانت مع عائلة النقيب الشهيد مارون الليطاني ابن دير الأحمر التي خسرت حنان إبنها البكر الذي سقط شهيداً في ساحة الشرف. هذا الإبن الذي كانت تفتخر به أمام جميع الأقارب والأصحاب «هيدا إبني الضابط المغوار!»
النقيب المغوار الشهيد مارون الليطاني، كان مصدر فخر لأهله، فارقهم وهو ما يزال في ربيع شبابه...
أمه، تخنقها الدمعات، وتمنعها من التكلّم أو البوح بمشاعرها. والده الياس يحاول التحلي بالقوة أمام زوجته، فيتكلم لكن الغصّة تقاطعه في كل جملة: لقد كان بطلاً، يهجم ولا يهاب لا الموت ولا الإرهابيين الجبناء. حذّرته من اندفاعه الزائد ولكنه لم يقتنع. يخبرنا رفاقه أنه كان دائماً في المقدمة، يتقيد بشعار المغوار «إتبعني».
يضيف والده: «شارك في الكثير من العمليات داخل مخيم نهر البارد، وتميّز بشجاعته واندفاعه غير المشروط، وأخلاقه الحسنة بين العسكريين. فهو كان يعبد الجيش «من بعد الله».
قبل استشهاده بأيام شارك في ثلاث عمليات خطرة وعاد منها سليماً منتصراً. وفي طريق العودة من أخر عملية، غدره قناص برصاصة أصابته في شريان قلبه الأساسي، فسقط هذا الجبل الذي لم تكن تهزّه ريح!!».
وتصل كريستين شقيقة الضابط الشهيد إبنة الخمس عشرة سنة: «لقد كان بمنزلة والد لي. كان دائماً يقول إنه لن يتزوج لأن لديه إبنة وهي أنا. عندما سافر في دورته الى أميركا، أحضر لي معه أشياء كثيرة مما تتمناه الفتاة. وكان دائماً ينبّه أهلي من أن يتسبّبوا بزعلي، كان يناديني «كعكة»! اشتقت اليه».
أما مايـك، الشقيـق الأكبـر في السنة الثالثة هندسة، فيعقّب على شقيقته: «أنا فخور بأن أخي شهيد والجميع يحبونه، ولكن ألم يكن بالإمكان أن يحتفل بالإنتصار مع رفاقه ونفتخر به كبطل حي؟».
ويختم الوالد: «فرحنا بانتصار الجيش، ولكن لم نستطع أيضاً أن نحبس دمعة القهر والإفتقاد لحبيبنا وفلذة كبدنا مـارون! اللـه ينصـر الجيـش دايماً».  


لن أتراجع
«كان مجنوناً، لديه إندفاع لا محدود لوطنه ولجيشه»، بهذه الكلمات تصف والدة العريف الشهيد جورج أسعد نعمة، إبنها البطل الذي لم يكمل الخمس سنوات من خدمته العسكرية بعد. كان يخدم في القوة الضاربة، ومن خيرة العسكريين الأكفياء.
«خلال المعركة حاولنا إبعاده عن الجبهة، إندفاعه كان سبب قلقنا عليه فقد كان دائماً في الخطوط الأمامية، لا يهاب الخطر. عندما علم بأننا نحاول إبعاده هددنا بعدم العودة الى المنزل وقال: «التحقت بالجيش لأدافع عن أرضي ووطني وعائلتي، هل أنا جبان لأتراجع؟ سوف أتابع حتى الموت!».
وتتوقف الكلمات، تقاطعها دمعات سخية كادت تخنق هذه الأم الحنون التي ما استطاعت استيعاب غياب حبيبها ذي الـ22 عاماً، بعد. «كنا نهاتفه خلال المعركة ولكنه كان دائماً يجيب «خير، خير» حتى لا يشغل بالنا ويطمئننا».
ويتابع والد الشهيد: «لم أشعر أبداً أنه ندم للمشاركة في هذه المعركة، فهو مخلص بطبعه لكل إنسان يتعامل معه، فكيف بالأحرى رفاقه في السلاح، الذين غُدر بهم».
وكحال أهالي الشهداء جميعهم، بكى أهل جورج غيابه يوم النصر ولكنهم شعروا بالفرح لانتصار الجيش وعودة رفاقه سالمين، فدماء الشهداء لم تذهب هدراً.

 

زفة الانتصار في بيت الشهيد
«هذا هو الإنتصار الحقيقي للجيش وللشعب اللبناني». بهذه الكلمات يستهل والد الرقيب الأول الشهيد رامي صعب كلامه.
«إن الدماء التي توحدت وروت أرض الوطن، هي الوحدة الوطنية الحقيقية، وعلى الجميع أن يتماثلوا بهذه الوحدة، وبهذا الإنتصار الذي يدفعنا الى الإستلهام في مواجهة كل عقبات المستقبل».
أما عن إبنه الشهيد فيقول: «لقد كان حديث الخدمة في المؤسسة العسكرية. كان يأمل دائماً أن يكون لديه مستقبل جيد في الجيش. تابع عدة دورات في الخارج وكانت علاقته بالآخرين ممتازة. صمم منذ البداية على الدفاع عن الوطن والشعب والأرض، واضعاً الشهادة أمام ناظريه».
وتابع: «الحمد لله أنه كانت هناك قيادة عسكرية استطاعت اتخاذ القرارات الصحيحة وتحقيق العدل. ولكن يجب دعم الجيش بالأسلحة المناسبة. يجب تأمين الأسلحة الحديثة والمعنويات لجيشنا كي يتابع سبيل النضال لتحقيق الأمن والإستقرار».
وحيّا والد الشهيد، جميع الأبطال الذين عادوا سالمين من المعركة وحققوا العدالة بعرقهم وتعبهم! «عدالة الأرض وإن شاء الله عدالة السماء». وأكد أن «الشهادة لا تثبط العزائم بل تثبتها لمواجهة المستقبل. فالوطن لا يُبنى من دون شهادة وتعب وتصدٍّ. كانت زوجتي ستزف إبني عندما يعود من المعركة منتصراً. وبالرغم من استشهاده زفّته واستقبلنا التهاني بالانتصار، في منزلنا».
ختاماً وجّه الوالد تحية لقيادة الجيش بشخص قائدها الحكيم العماد ميشال سليمان.

 

كم كان الإنتصار أجمل لو كان هنا...
استشهد يوم عيد ميلاده، يوم عيد الجيش، في الأول من آب. كان قدر العريف الشهيد محمد معين، المغوار البحري، أن يكون له شرف الإستشهاد يوم عيد الشرف والتضحية والوفاء.
تخبرنا إحدى شقيقاته عن شخصيته المرحة وضحكته التي كانت تدوّي في كل مكان وأينما حضر.
«ليلة عيد ميلاده، أي قبل استشهاده بيوم، جال في كل أرجاء القرية وراح يسلّم على جميع سكّانها حتى عاد في ساعة متأخرة الى المنزل. وكأنه شعر بأنها ستكون زيارته الأخيرة فراح يودّع الجميع. وفي الصباح استفاق باكراً وأوصله شقيقنا الثاني الى باب المخيم. وقد أبى إلا وأن يطمئن على عودته الى المنزل فاتصل عدة مرات حتى تأكد من وصوله. آخر اتصال له كان الساعة التاسعة والنصف، في الحادية عشرة والنصف استشهد».
لقد استشهد «معين» كما كان يناديه الضابط الذي كان دائماً برفقته، في محاولة لإنقاذ هذا الضابط، ولكن كان قدرهما أن يترافقا على درب الشهادة ايضاً.
عندما كنا نطلب منه الرجوع الى الوراء كان يقول: يا راسنا، يا راسُن، لست جباناً لأنسحب. دمي هو فداء للجيش». استشهد بعد أقل من سنة على التحاقه بصفوف الجيش، ليفارق سبع شقيقات وشقيقاً ويترك والدة مريضة، أضعف همتها فراق ولدها الشهيد، الذي لم يكبر بنظرها بعد.
«لم يذهب دم أخي هدراً. لقد استشهد من أجل قضية ولكنها كانت خسارة لنا. لكَانَ طعم الإنتصار ألذّ لو كان بين رفاقه. ولكن لولا دم الشهداء لما تحقق الإنتصار!».

 

الصقر الشجاع
زوجة وطفلة صغيرة خسرتا الزوج والوالد الذي اسشهد في ساحة الشرف لتفتخر به إبنته عندما تكبر. ألم يعرف أنه ترك حرقة في قلب عائلته التي بكت فراقه وما توقفت بعد؟
كان العريف الشهيد صقر أبو علي، من عداد اللواء الخامس، بطل شجاع ولديه الحماسة لكل ما يقوم به، كما تصفه والدته. «قضى يومين معنا ثم غاب إثني عشر يوماً ليستشهد بعدها من دون أن نراه».
بالنسبة الى زوجته الحرقة أكبر: «خلال الإثني عشر يوماً لم أكلمه سوى ثلاث مرات. آخر مرة كانت قبل استشهاده بيومين. كنا نحضّر لخطبة شقيقته فطلب مني أن أهيّىء له أغراضه وأن أسبقه الى منزل أهله حيث سيلاقيني عند عودته الساعة الثانية عشرة. فكان الإتصال المريب الساعة الواحدة».
تؤكد الزوجة أن إبنتها ستفتخر بوالدها الشهيد البطل الذي كان يحب الجيش، ولكن غيابه سيكون صعباً عليها.
أما شقيقه فيخبر عن صعوبة استشهاده خصوصاً وأنه كان يوم خطبة شقيقته.«تعلّقت به كثيراً آخر فترة فكنت أرافقه أينما ذهب. كنت أكلمه دائماً فعلمت أنه أُبعد عن الجبهة واعتقدت أنه لم يعد عليه خطر. يوم الخطوبة رنّ الهاتف فقلت لهم هذا صقر، ولكنه وللأسف كان رفيقه الذي أعلمنا باستشهاده.
كان الخبر صعباً، فهو قبل أن يلتحق، كان قد اشترى الفستان لأخته وقام بكل التحضيرات اللازمة. كان شديد الحماس، وكأنه يودّعنا».
ويؤكد شقيق صقر أنه سيلتحق بالمؤسسة العسكرية بعد عشـرة أيام «لبقـاء الوطن وإكراماً للنصر الذي حققـه الجيش ورسمـه الشهـداء بدمائهم».


• كتبت ريما سليم ضومط:

كان له ما أراد
كان يسرّ الى أخيه أنه يتمنى الموت شهيداً ومدافعاً عن الوطن، لم يخيّب القدر آماله، بل كان له ما أراد حيث انضم العريف المغوار مصطفى خضر الشامي إبن الواحد والعشرين عاماً الى قافلة شهداء الجيش الذين دفعوا الثمن الأغلى لإنقاذ لبنان من براثن الإرهاب والفتنة التي كانت تحاك له.
في انتصاره في معركة نهر البارد، قدّم الجيش لعائلة الشهيد العزاء الأكبر كما تشير والدة مصطفى، لأنه بذلك حقق أمنية ولدها:
«كان إبني يؤكد لي دوماً أننا سنشهد إنتصار الجيش وسيفرح الوطن بأسره. واليوم أشعر بعزاء كبير لهذا الانتصار على الرغم من الألم العظيم الذي خلفه استشهاد ولدي والكثيرين من رفاقه، خصوصاً من أبناء عكار».
وتتابع بصوت خنقه الحزن «ليته تمكن من مشاركتنا الفرحة... قبل نصف ساعة من استشهاده إتصل بي هاتفياً ليقول لي «رضاك يا أمي، أنا بخير، إنتبهي الى أخي المريض (لديه أخ مقعد منذ أربع سنوات).
ما زالت كلماته تطن في أذني، تذكرني في كل لحظة بقلبه الكبير وبعطفه على إخوته. فقبل موته بحوالى الأسبوع كان يطمئنني بالحديث عن علاج أخيه وعن كيفية تأمين الأدوية له... كم كان حنوناً ومحباً لأخوته، وكم كان مرحاً يملأ المنزل بهجة عندما يدخله! بعد استشهاد مصطفى أعاني الكثير من جراء حزن أخيه المريض، واضطر الى حبس دموعي وإخفاء لوعتي كي لا أزيد آلامه وشقاءه...».
وتتابـع الوالـدة بمزيـج من الغضب واللوعة «أنا أولاً وأخيراً أُم فُجعت بموت إبنها ظلماً وغدراً، حرقوا قلوب الأمهات، جازاهم الله على أعمالهم. نحن لم نضمر لهم الشر، أما هم فقد فعلوا، ولا أعلم لماذا! حرمونا فرحة الحياة والضحك والبهجة فكيف نغفر لهم؟».
وتتحسر الوالدة المفجوعة على فقيدها مؤكدة أنه «لم يبق لي منه سوى صوره وملابسه، هي أملي الوحيد، عندما أشتاق اليه أختلي بها وأقبّلها وأفرغ فيها أحزاني...».
وتضيـف بصـوت أنهكه البكاء «أعتز به في موته كاعتزازي في حياته، لأنه مات بطلاً. رضي الله عنه...». وتختم بالحزن والدموع «أشعر حتى الآن كأنه ما يزال حياً، وما زلت أجلس قرب الباب أنتظر عودته!».

 

الحمد لله لم يحقق الإرهاب هدفه
«راح الغالي، راح كبير إخوته، الحنون، العطوف...». بهذه الكلمات القليلة تختصر والدة العريف الشهيد سعد محمد قاسم حزنها ولوعتها لخسارة إبنها البكر الذي قضى في ربيع شبابه دفاعاً عن أرض الوطن وشعبه.
وتتابع فيما تمسح دمعها عن الخطوط التي رسمها الحزن على وجنتيها «ما أصعب أن تتكسّر الأحلام والآمال التي رسمناها لأبنائنا، ليحل مكانها الفراغ... كنا نفكر في الفترة الأخيرة في بناء منزل لسعد، ونحثّه على اختيار عروس وبناء عائلة... لكن الأشرار إغتالوا الحلم، ونشكر الله أنهم لم يتمكنوا من تحقيق مخططهم في القضاء على الوطن».
وتؤكد الوالدة الملتاعة بصوت متهدّج «كان يعلم أنه سيموت، فقد وجد رفاقه في أغراضه رسالة يشير فيها الى ساعة موته والى كيفية تلقي عائلته الخبر... كان يدرك مدى الحزن الذي سيجتاحنا عند سماعنا النبأ، هو الذي اعتاد أن يجلب البسمة والفرح الى حياتنا... هو كبير أخوته الذي يعطف عليهم ويحضنهم، وكم كان حزنهم كبيراً على خسارة الغالي الذي لا يعوّض، رضي الله عنه!  
وفيما تحاول الوالدة المفجوعة مواصلة حديثها تجتاحها نوبة بكاء تصب فيها لوعتها وقهرها لتؤكد في ختامها «مهما قلت عن ولدي لا أستطيع التعبير بشكل كافٍ... هو الدنيا كلها بالنسبة إليّ... لا يمضي يوم لا أتحسّر فيه على فقدانه... نحن لم نفعل شيئاً للأشرار فلماذا اعتدوا علينا وسلبونا أغلى ما نملك؟».


• كتبت تريز منصور:

عادت إليّ الروح
«عادت إليّ الروح عندما انتصر الجيش على الإرهابيين». بهذه الكلمات تختصر والدة الرقيب الأول الشهيد ماجد حمود شعورها. وقد حضرت إحتفال تكريم الشهداء حاملة صورة إبنها البطل.
إستشهد إبنها في أواخر العام 2006 في أثناء تفكيكه ألغاماً خلّفها العدو الإسرائيلي خلال عدوانه على لبنان الصيف الماضي، فالشهيد من عداد فوج الهندسة.
بالنسبة اليها الانتصار الذي حققه الجيش على الإرهاب مصدر فخر واعتزاز. الجيش أنقذ الوطن من إجرام هؤلاء، وكأم شهيد تشعر أنها معنية تماماً بالانتصار كجميع أهالي العسكريين الذين استشهدوا في نهر البارد.
دم إبني الشهيد لم يذهب هدراً. لقد كان فداءً للوطن وللمؤسسة العسكرية التي ناضلت وتناضل من أجل كرامة لبنان، تقول.
وتضيف:
كان ولدي بطلاً وشاباً عصامياً مثابراً على العلم والتطور، لو لم يستشهد لكان الآن في عداد رفاقه الذين تخرجوا من كلية الإعلام حاملين إجازة (إختصاص تلفزيون). لكنه لبّى واجبه، قدره أن يستشهد لحماية وطنه ومواطنيه.
وتختم بالقول:
أنا مستعدة لتقديم أولادي شهداء فداءً للوطن. وقد كان لأحدهم شرف ارتداء بزة شقيقه والانضمام الى هذه المؤسسة التي تحمي لبنان وترعانا كأهالي شهداء.

 

فداء للجيش ولبنان
ونلتقي والدة الشهيد العريف المغوار علي هوشر السيدة فاطمة من برقايل - عكار، تؤكد بدورها أنها مستعدة لتقديم ثلاثة وأربعة من أولادها للشهادة فداءً للجيش وللبنان.
«إبني بطل، أنقذ الوطن من براثن الإرهاب، استشهد في نهاية المعارك، وهو كان يضجّ عنفواناً وكرامة، كان واثقاً من النصر منذ البداية».
وإذ تغالب دموعها تختم بالقول:
«الله ينصر الجيش بصورة دائمة، ويحمي قائده الحكيم الخلوق العماد ميشال سليمان».


• كتبت ليال صقر:

باقٍ أبداً
المعاون الشهيد ريمون توفيق عيسى، بطل مقدام انضم في الثامن من آب الماضي الى قافلة الشهداء الأبرار الذين سبقوه على درب الشهادة. عريس لم يمضِ على زواجه سنة واحدة، ووالد لم تمضِ على أبوّته الثمانية أيام.
جماد صورته يكاد ينطق، وبريق عينيه يُطمئن الناظرين الى أن الشهيد لا يموت، وأنه باقٍ أبداً بروحه ونفسه المرحة وشخصيته اللطيفة بشهادة كل ذويه ومن عرفوه.
برصاصة قنص غاشمة وبشرّ وإرهاب، خطفوا بسمته العذبة وتركوا تنهدات ألم وصرخات وجع لوالدين منكوبين وزوجة مفجوعة وطفل يتيم، سيكبر من دون أن يرى والده يفرح به وهو ينطق كلمة «بابا» للمرة الأولى، ومن دون أن يسانده هذا «البابا» وهو يقوم بخطوته الأولى، وإخوة وأخوات سحقتهم وطأة الجرح.
«ما فينا نحكي شي، ما بيطلع معنا حكي...» يقول شقيقه الأكبر. كلمات خافتة مخنوقة خرجت من شفتين مرتجفتين وعينين دامعتين محمرّتين حمرة الحسرة، واللوعة. ويترك الشقيق الكلام لشقيقته علّ الكلمات تجد لديها سبيلاً.
«اشتقنالك يا ريمون،
فخورون نحن بشهادته! الله يحمي رفقاتو ويردّ عنن، قضى أخي في المؤسسة العسكرية ثمانية أعوام، تطوّع في الشؤون الجغرافية وكان حظه، أن يتشكّل منها الى الفوج المجوقل وكأن الشهادة كانت محتّمة عليه».
«مرّ على عيدك يا ريمون خمسة أيام ولست معنا للاحتفال بالإثنين والثلاثين ربيعاً».
وتتابع: «آمن ريمون بقضية الوطن، وإيمانه هذا جعله يستشهد. كان كإبن لي، لم أعتبره يوماً أخي فقط، أنا أكبره بأعوام عديدة وحناني تجاهه كحناني على أولادي تماماً، خرج عريساً من بيتي. كنت أخاف عليه كثيراً، خصوصاً في فترة المعركة، كنت أتصل به يومياً للاطمئنان عليه فيبادر الى القول: «إنتو انتبهوا على حالكن، نحنا عم نحميكم».
وكانت تنظر بين الحين والآخر الى العسكريين الذين كانوا يتجولون حولها وفي الملعب بعينين مشتاقتين متلهفتين لرؤية ريمون يتجول بينهم بقامته الممشوقة وقدّه وضحكته التي لم تكن تفارق وجهه، ولكن أنّى لذلك أن يحصل، وهو الذي غادر وارتقى الى سماء بعيدة عالية، أعلى من أي ضغينة وغدر وشرّ.
وتضيف: أشكر ربي أنه رأى طفله إبن الثمانية أيام قبل أن يستشهد. «واللي حرقلنا قلبنا أكثر، إبن عمي العريف الشهيد سمير كميل طنوس اللي ما لحّقنا حتى نشوفه عريس. صمد كل فترة المعركة ليسقط «وردة للانتصار»، وردة العائلة يوم عودة الأفواج المقاتلة من نهر البارد».
وتابعت أخت الشهيد قائلةً: «وهبت عائلتنا للوطن شهيدين، بطلين طاهرين، ونحن فخورون بشهادتهما ولن نتردد يوماً في تطويع أبنائنا وإخواتنا وأحفادنا في المؤسسة العسكرية على ألاّ يضيع ثمن دماء الشهداء. فلبنان يستحق منا الكثير وكما كان يقول ريمون: «إذا ما في وطن ما في عيلة». والوطن اللي فيه رجال مثل ريمون وسمير ما بيموت. كنا نتمنى لو كان هو في الاحتفال اليوم...». واغرورقت عيناها بالدموع وتابعت «هوي بقلبي بعدو عايش، البطل ما بيموت، وريمون قضّى حياته بطل».  
«كان محباً وحنوناً، طيب القلب مندفعاً منذ صغره، كان واضحاً أنه مشروع شهيد، وهذا ما كان يحفّز خوفي عليه وقلقي تجاهه».
في هذه الأثناء، كانت ليال زوجة الشهيد، تتسلّم الدرع من ممثل قيادة الجيش، وتعود الى مقعدها تحتضن الدرع الى صدرها. درع مهما عزّى حزنها، لن يعوّض عليها أو يحلّ مكان ضمة من عريسها البطل الذي تركها أماً حديثة العهد ومفجوعة، فهي لم تكد تحتضن ميشال الصغير، وتنتظر عودة والده من المعركة، حتى فقدت الى الأبد هذا الوالد والزوج الحنون عمود أسرتها.
أول كلماتها كانت: «كم أنتظر ريمون هذه الساعة! كانت أمنيته أن يكون حاضراً ساعة الانتصار. وصلت تلك الساعة ولكن القطار كان أسرع مما اعتقد. هو في عليائه يتأمل رفاقه يحتفلون بنصره». تمتمت ليال، ثم أعقبت: «ماذا عساي أقول لك عنه، أنا أعتبره بطلاً حقيقياً بلا مبالغة... قال لي ريمون ذات مرة: «هناك ناحية في شخصيتي لم تتعرّفي عليها بعد، أنا وطني لأبعد حدّ. سألته عن معنى ذلك برأيه وعما إذا كان يحب وطنه أكثر مني، فقال «لا تحزني، نعم!».
«يوم استشهاده تأكدت أنه عنى الأمر، وأنه فضّل حبّ لبنان على حبنا الذي دام أكثر من تسع سنوات. كنت حاملاً حينها، وأضاف: «لوما حبيّنا وطنّا يا ليال ما كنتي عشتي لا إنت ولا إبنك».
«صعبة فكرة وجودي في بيتنا من بعده، أنا لم أطأ عتبة البيت في جبيل منذ استشهاده. هذا البيت الذي كان «شقى عمره» والذي عمل طوال حياته ليؤمنه لنا».
ونظرت من خلال دموع تترقرق في عينيها وقالت: «قد ما بحكي عن ريمون ما بعطيه حقه. كان يحب رفاقه بطريقة مش طبيعية وكان يخاف على الجميع أكثر من خوفه على نفسه. ولم أرَ في حياتي حباً أعظم من حبه للآخرين».
«استيقظت يوم استشهاده باكراً على أصوات ضجيج غير اعتيادي في منزل أهلي في الشمال، فبادرت الى سؤال أخي عن سبب هذا الضجيج فقال لي أن ريمون قد أصيب (كان يكذب ليخفف عليّ وطأة الصدمة)، أول ما فكرت به أن الأمر سيتيح لي رؤيته بيننا بعيداً عن يوميات القتال وأخطار المخيم. ولكني ما لبثت أن تنبهت للسواد الذي اتشحت به النساء في المنزل، أيقنت حينها أن ريمون قد استشهد».
وتتذكّر متنهدة: «آخر مرة أوصله فيها أخي الى المخيم أوصاه بي وبميشال. وقالها مرة لقريبة لي: «خايف إتعلق بالصبي»، وكأنه كان يعرف أنه لن يراه طويلاً ويشبع من براءته».
وتماسكت ليال بعد جهد لتقول: «جلّ ما يعزيني اليوم أن ريمون حقق معظم أحلامه التي اتسمت بالبساطة والتي عمل على جعلها واقعاً ملموساً ومنها تأسيس عائلة ورؤية إبنه قبل استشهاده».
سكتت هنيهة، ثم تابعت: «أنا مدرّسة وأكتب أحياناً. سألني مرة لماذ لا أكتب للجيش وكنت في كل مرة أجيبه أنه وفي أول استجابة لطلبه سأكتب للجيش وبالتحديد لبطلي الغالي وزوجي الشهيد كلمات، لم أتمنّ يوماً أن أكتبها ولا أن تخرج من حبر قلم لوعتي وغصّتي عليك يا ريمون!».
«أفرح عندما يقولون لي أن ريمون «بطل»، ولا أستطيع وصف شعوري لدى تسلمي الدرع والأوسمة. بيكبر قلبي فيك يا ريمون، ولكني أحزن... لم يعش ليرى إبنه يكبر أمام نظريه».
لريمون أربعة أشقاء عسكريين، منهم من تقاعد ومنهم من تطوّع أبناؤه لخدمة المؤسسة العسكرية الرائدة والتي يهب هؤلاء دماءهم في سبيلها.
ويشكّل شمال لبنان عموماً وبلدة الشيخ طابا خصوصاً أكبر مثال عن العطاء والسخاء من أجل أن يحيا لبنان.
هي التي رفعت في شهر واحد وبفارق سبعة وعشرين يوماً شهيدين بطلين من أبناء العائلة الواحدة الى جنّة الخلود والانتصار. شأنها شأن العديد من البلدات والعائلات اللبنانية التي زيّنت ساحاتها صوَر شهداء مقدامين، رفعوا عالياً راية الجيش، وخالداً إسم لبنان، وقادوا قافلة الشهادة على امتداد مسيرة الشرف والتضحية والوفاء...

تصوير:
الجندي الأول
بلال العرب
تريزمنصور
راشيل تابت


وصار إسمك «الشهيد البطل»
برصاصة قنّاص، صفّوا كل دمّاتو
ونسفوا البسمة اللي ما فارقت يوم شفافو
وحوش عم تنهش بقلوب برية
كرمال شو، كرمال أي قضية
حرقوا قلب إمّ ما تهنّت بشبابو
وهدّوا همّة بي شقيت كتير ديّاتو

لا بينفع حكي ولا بيفيد السؤال
رحل البطل، راح الغالي عليّ
اشتقت لضحكتك اللي زيّنت الدار
اشتقت لخوفك وحنيّتك عليّ

بساعة الكفر بضعَف وبعاتب الرب
وبصرخ بحرقة ليش خطفتوا مني
ابنو «ميشو» بعدو طفل صغير
انحرم ع بكير من كلمة «يا بيّي»
وبساعة الإيمان بردني الوعي
بيخلق مني صخرة صوّان
بتتحمل قهر بتتحمل ريح الأيام
اللي معرضة كل يوم تهب عليّ

لمّا الجرح ينزف وتتوجّع النهدات
وتسبق «يا ريت» كل الكلمات
بيصرخ صوت وبيقول «هيدا قدرو»
واللي بيموت شهيد قديس عند ربو

بيّك يا «ميشال» بطل الأبطال
بعلّي راسي وبفتخر بشهادتو
وتنعيش بكرامة وما ينهدروا الدّمات
واجب ع الجيش يكفّي رسالتو

بيبقى اتذكر شو كنت تقول:
«أنا وطني...
وحب الوطن غالب ع حبي لإلك
ولو ما دافعنا عن وطنّا لبنان
لا منعيش بكرامة ولا بيربا الصبي»

زوجتك التي لن تفارقها أبداً
ليال


الويل لمن يمسّ الوطن

يشمخ اعتزازاً بشهادة ابنه، والد العريف الشهيد روني النّجار يقول: «تاريخنا في النضال معروف ومحفور في ذاكرة الوطن... شعارنا: الويل لمن يمسّ الوطن، وإن كان الثمن الذي دفعناه أغلى الأثمان، فلذة الكبد... إنما في سبيل الوطن تبخس أثمان التضحيات».
وليس بعيداً عن والد الشهيد روني النّجار، نلتقي والد العريف الشهيد محمد أيوب بقلب يعصره الألم يقول: «أنا عسكري متقاعد حملت قضية لبنان 25 عاماً وحمّلتها من ثم لإبني فاستشهد على مذبح الوطن بطلاً شريفاً. الإرهابيون كانوا ينوون تدمير بلدنا ونشر الذعر بين أهله، الجيش قضى عليهم بإمكاناته المحدودة وبدماء شهدائه. لكن من أجل هذه الدماء، نريد حقيقة كل ما جرى».