وعادوا أبطالا

يا مغاوير العزم والواجب انتهت المعركة فماذا تقولون؟
إعداد: الهام نصر تابت

عادت الحياة الى ثكنة المغاوير، أصداء خطواتهم تتردد في العرين الذي افتقد أسوده أشهراً.
مهمة ليست ككل المهمات، أنجزوها بكل ما في شرايينهم من دماء وبكل ما في قلوبهم من إيمان. وأنجزوها بكل الكفاءة التي نعهدها في هذا الفوج العريق. كانوا مغاوير الإقدام والعزم والمناقبية، مغاوير الواجب.

 

بالإرادة والعزم حققوا المستحيل
نحاول استكشاف رؤية العسكريين لما حققوه للبنان من خلال حسمهم معركة نهر البارد، نطرح السؤال على نقيب من السرية الثانية في فوج المغاوير.
يقول النقيب: أنقذنا لبنان من خطر كبير، عندما ننظر الى ما يحصل في العراق ندرك أهمية ما أنجزه الجيش.

 

• كعسكــرييــن قاسيتم الأهوال وقدّمتم الدم، هل تشعرون أن ثمة ما يعوّض تعبكم؟
- كل التعب لا يمكن أن يوازي نقطة دم سالت من شهيد أو جريح. أمّا ما يعوّض كل ذلك فهو بقاء الوطن وأمنه واستقراره وسيادته.

 

• كضابط كيف تنظر الى أداء عسكرييك؟
- لقد قاتلوا بشكل رائع، ما قاموا به لا يستطيع جيش في العالم أن يقوم به. في الماضي كنا نسمع كلاماً من نوع: ماذا تعملون أنتم؟ لا سلاح لديكم ولا عتاد... قاتلنا ببندقية م16 وجعلنا العالم كله يرى كيف يقاتل جيش بالإرادة والعزم واللحم الحي. عندما كنا في المخيم الجديد قال لي أحد الخبراء الأجانب في قتال العصابات والشوارع أنتم مجانين، تريدون دخول مخيم كهذا «ببارودة م16».

 

• اكتسبتم خبرات مهمة في هذه المعركة؟
- قتالنا يشكل دروساً بحد ذاتها، دروس يُستفاد منها في حروب مماثلة، لقد تدربنا على هذا النوع من القتال لكن عندما بدأت المعركة لم ننفّذ واحداً في المئة مما تعلمناه.
على الأرض كان الواقع يقتضي وسائل أخرى. في كل شارع بل في كل مبنى وغرفة.
كان علينا أن نبتكر شيئاً ما، خدعة ما، وهذا ما فعلناه.
قبل المعركة كنت في الأردن تابعت دورة دهم متقدمة مع أشهر فرقة في العالم في هذا المجال، لم نطبق شيئاً يذكر مما تعلمناه. كان علينا باستمرار أن نجد ما يلائم الوضع على الأرض.

 

• ماذا لو اضطررتم لا سمح الله الى خوض معركة أخرى؟
- جاهزون وأكثر من قبل.

 

• مررتم بالكثير من الأوقات الصعبة ماذا يحضر في ذهنك الآن؟
- الآن وفي كل لحظة أتذكر الرفاق الذين استشهدوا أو أصيبوا. أقسى ما يواجهنا استشهاد عسكري، وعلى الرغم من الألم والحزن كان لا بد من التصرف بسرعة والسيطرة على الوضع. في أحد المراكز استشهد رفيق لنا، أخليناه وتابعنا الهجوم. كان القتال ضارياً استمرينا الى أن سيطرنا على المكان بعد أن قتلنا إرهابياً وفرّ الآخرون.
سحبنا جثته، للحظة شعرت أن العسكر قد يقطعون الجثة، كانوا في حالة غضب وحزن عارم، فقدوا واحداً من أعز الرفاق وأشجعهم. نظرت الى الجثة وأعطيت الأمر بوضعها في ملالة الإخلاء. لم ينطق أحد بكلمة. سحبوه باحترام وتابعنا العمل.

 

• كيف يمكن للإنسان أن ينتصر على غضبه وانفعاله في موقف كهذا؟
- إنه الانضباط، الإنضباط في الحرب أهم من الإنضباط في السلم.

 

ما الذي توازيه الشهادة إذاً...
فـي السريـة نفسهـا نلتـقي رتيبـاً، في رصـيد هذا الرقيب الأول الشجاع ثلاث إصابـات، واحـدة منهـا كانت إصابـة بليغـة في الرأس، لكـن أياً مـن الإصابات الثـلاث لم تمنعه من العودة الى المعركة. «لم يكن وارداً بالنسبة اليّ أن أبتعد عن حضيرتي ورفاقي ما دام في جسمي عرق ينبض».

 

• ما الذي يدفع إنساناً الى موقف كهذا؟ لقد قمت بواجبك ولم تتخلف، من يصاب يحق له بالراحة.
- بالكاد نطقت بآخر كلمة... الرقيب الأول شعر بشيء من الاستفزاز، ردّ بحدة: «إذا كانت الإصابة تساوي أداء الواجب فما الذي توازيه الشهادة إذاً؟».
نسأله عن شعوره عندما تلقوا خبر الاعتداء على العسكريين ومعه الأمر بالاتجاه الى الشمال، يقول:
شعرت أنني لو كنت مكان أحد العسكريين الذين غُدروا فإن رفاقي لن يدعوا دمي يهدر، وسوف يردون اعتباري وكرامتي.

 

• إنها النخوة.
- والواجب...

 

الفخر والمسؤولية
ونلتقي عنصراً مغواراً. ايضاً من السرية الثانية. ننظر الى وجهه المضيء شباباً وحيوية. «الحمد لله على السلامة يا وطن» نقول. يرد بتهذيب عهدناه في جنودنا: شكراً.

 

• أنت مغوار ما الذي تعنيه لك شارة المغاوير على بزتك العسكرية؟
- تعني لي الفخر والمسؤولية، نحن من النخبة في الجيش وهذا يحمّلنا الكثير من المسؤوليات.

 

• ما أصعب ما كنتم تواجهونه في المعركة؟
- فقدان أحد الرفاق، وما يسبب من ألم.

 

• قاتلتم في أرض لا تعرفونها، الخطر أمامكم ومن حولكم في كل لحظة، ماذا يخطر ببال العسكر في أوضاع كهذه؟
- أمر واحد فقط إتمام المهمة والانتقال الى مبنى آخر.

 

• وعندما يسقط لكم شهيد أو جريح؟
- اندفاعنا يتضاعف، «نطحش» نتقدم ويكون تقدّمنا تحية لروح شهيدنا أو الجريح.

 

• كنت دائماً في الصفوف الأمامية، هل كانت عائلتك تعلم بذلك؟
- مطلقاً، كنت أقول لهم إنني في الخلف، أتصل بهم ليلاً في أوقات الهدوء، وأقول: «عندي ما في شي».
كنا نعلم أن هذه الخدعة يستعملها معظم العسـكريين، ولو صدّق الأهـالي أبنـاءهـم، لمـا كـان بينهم من عانى ما عاناه من الخوف والقلق... لكنهم كانوا يعلمون ويعتصمون بالصبر والدعاء.

 

«قدّ الحمل»
وننتقل الى السرية الثالثة، ملازم أول مغوار لا يخفي فرحه الكبير بالنصر، فرح يقدمه تحية لأرواح رفاقه الشهداء الذين يشعر بحضورهم كل لحظة. أمّا «الغصة» فلا تفارق القلب.

 

• كعسكري كيف خرجت من هذه الحرب؟
- خرجت بخبرة كبيرة في حرب الشوارع وهي الأصعب، اختبرت قدرتي وقدرات فصيلتي، وكنا «قدّ الحمل».

 

• أنت ايضاً ممن احتاجوا الى الراحة في المستشفى ورفضوها لماذا؟
- أنا آمر فصيلة، أعرف العسكريين ويعرفونني. نتفاهم بالاشارات من دون كلام، لا يمكن أن أتركهم، قلت للطبيب أعطني العلاج ولن أنام هنا ولو لليلة واحدة.

 

• كيف كانت آخر مرحلة من القتال؟
- كانت صعبة جداً، المسافة بيننا وبين الإرهابيين لم تعد تتعدى الـ 10 أمتار أو 15 متراً. كانوا محاصرين داخل بقعة ولا مجال للهرب، كنا نقتل منهم الكثيرين. لكنهم ظلوا يطلقون الرصاص من الطوابق السفلية، هناك كانت المرحلة الأصعب. ظلام، كمائن، مع ذلك تقدّمنا، قاتلنا بكفاءة عالية ولم يتعرض عسكريونا هناك إلا لإصابات طفيفة.

 

• عندما انتهى كل شيء، ما كان شعوركم، ماذا فعلتم؟
- لأول وهلة لم نصدق أن الأمر انتهى فعلاً. أما عندما أدركنا ذلك فكان ما عشناه لا ينسى...

 

أدركت أنني فعلاً مغوار
آمر إحدى الحضائر في السرية الثالثة يعتبر أنه شعر بعد هذه المعركة فعلاً أنه مغوار. هو فخور لأن دم الرفاق لم يذهب هدراً:
«عندما قدّمت التعازي لأهل رفيقي الشهيد شوقي محمود قلت لأمه، دمه لن يذهب هدراً، وهو لم يذهب هدراً. دمه ودم جميع الشهداء والجرحى افتدى وحدة لبنان».

 

• علمنا من الرفاق أنك سجلت رقماً قياسياً في عدد الإصابات، وقد استشهد شقيقك الصيف الماضي بسبب العدوان الإسرائيلي، ألم تشعر في لحظة ما بشيء من التردد، أو الخوف، خصوصاً أنك أصبحت مسؤولاً عن عائلة شقيقك بعد استشهاده؟
- ولا لحظة... إرادتي في القتال لم تتزعزع لثانية واحدة، أقسمت على القيام بواجبي ولا يمكن أن أتراجع، في عروقي يغلي دم رفاقي الشهداء الذين ينتظرون منا أن نتابع مسيرتهم، ومن حولي آمال اللبنانيين المعلّقة على الجيش، كيف يمكن أن أتراجع؟

 

• هل كانت أمك تعلم أنك على الخطوط الأمامية؟
- كنت أقول لها إنني في عرمان، عندما وصلنا الى المخيم القديم، علمت، راحت تجري الاتصالات ليبعدوني عن الجبهة، صدر أمر بنقلي الى المستوصـف، قلت لهم إما أن أظل مع رفاقي وإما أن أنتحر... وتابعت المهمة حتى آخر لحظة.
نبقى في السرية نفسها، أيضاً رقيب أول، مغوار يشعر بمعنى أن يرتدي رجل بزة عسكرية ويقسم على الحفاظ على وطنه، معتمراً شرف المغوار. «نحن نرتدي هذه البزة لنحافظ على وطننا ونحمي شعبه، وهذا واجبنا».

 

• كانت معركة صعبة....
- لم تكن سهلة، لكننا وضعنا حداً لخطر الإرهابيين على بلدنا. وكعسكريين اكتسبنا خبرات جديدة مهمة. ونحن جاهزون لأي مهمة أخرى، المهم أن يبقى وطننا.

 

• أنت ايضاً ممن لم يقبلوا مغادرة ساحة المعركة بعد أن أصبت، لماذا هل هي أخوّة السلاح كما يقول الجميع؟
- «رفاقي جوا كيف يمكن أن أكون برّا»... إنهم رفاقي أمضي معهم من الوقت أكثر مما أمضيه مع أهلي وأخوتي. قد يصعب على البعض فهم هذا، ربما عليكم أن تذهبوا الى المخيم لتدركوا كيف يوحّد الهدف الرجال وكيف يجعلهم الخطر جسماً واحداً.

 

• حضرة الرقيب الأول المغوار، نحن ذهبنا الى المخيم وسوف نخبر عمّا رأيناه ونروي عمّا أحسسناه...