- En
- Fr
- عربي
ثقافة وفنون
حب لا ينفصل عن الألم وألم لا يفارق الحب
إستهلّ حياته الشعرية عقب تحرر لبنان من النير العثماني، وكان التيار الرومانسي قد بدأ يستهوي الشعراء اللبنانيين بفعل إنتشار الثقافة الفرنسية، في عهد الإنتداب، وتأثير الأدب المهجري. وقد آتى هذا التيار الروح الشرقية التواقة إلى الحلم والخيال والتعلق بالطبيعة.
كان من الطبيعي أن يؤثر هذا التيار والتيار الرمزي الذي وصل إلينا بعده في نتاج هذا الشاعر، وقد تعمق في الثقافة الفرنسية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، فإذا هو، في بواكيره، يستذكر الماضي فيأسف على صباه المضيّع في فرار الزمن. ويسأم رتابة الوجود ومتاعب الحياة، فيحاول الهروب إلى فردوس وهمي، إلى سكرة الحب، عصب الحياة، إلى الطبيعة وجمالاتها المذهلة عن واقع نثري جاف.
مَن هو هذا الشاعر والأديب المبدع؟ إنه يوسف غصوب.
«فإن الشعر حب أو جمال
لعلّي مائت بهما... لعلّي؟»
البداية والنهاية
وُلد يوسف غصوب في بيت شباب، إحدى قرى المتن الشمالي العام 1893، ونشأ في عائلة محافظة ميسورة. ولكنه حُرم في طفولته، حنان الأمومة، إذ ماتت والدته أنيسة مفرّج، بُعيد ولادته. فاقترن أبوه بأختها جميلة، التي عوّضت عليه الكثير من الحنان الذي حُرم منه.
بدأ شاعرنا دراسته في معهد قرنة شهوان حيث كان الشاعر الصحافي وديع عقل يدرّس العربية، فتلقى عليه أصولها وتميز مذ ذاك، بحب الشعر والإنصراف إلى الوحدة والتأمل في غمرة الأحلام. وأكمل دراسته الثانوية في معهد الآباء اليسوعيين في بيروت، وكان من أبرز رفاقه شارل القرم ورياض الصلح. وما كان إنتقال الشاعر إلى بيروت، وهو في سن المراهقة العام 1905، بالأمر الهيّن عليه، فالأجواء مختلفة وطريقة التعليم جديدة عليه والرقابة المدرسية صارمة.
أستاذ اللغة العربية في معهد الآباء اليسوعيين لم يستطع أن يصرف الشاعر الناشئ يوسف غصوب عن هوايته الشعرية، فاستمر ينظم وينشر في الصحف ولا سيما في مجلة «المشرق» الرصينة التي كانت تصدر عن المعهد بالذات.
تخرّج شاعرنا في المعهد المذكور بتفوق العام 1912، فبدأ حياته العملية موظفاً في بورصة بيروت بضعة أشهر، تدرج خلالها في الصحافة في جريدة الثبات. وفي مطلع العام 1913 دُعي إلى العاصمة الايطالية روما، لتدريس اللغة العربية في المدرسة المارونية في عهد الآباتي عبيد، فأقام حوالى العامين في هذه المدينة. وهناك تسنى له أن يدرس اللغة الإيطالية ويتعلم تقنية التصوير الأصولي وتذوّق الموسيقى الكلاسيكية.
وعندما اشتدت نيران الحرب سافر يوسف غصوب من إيطاليا إلى غينيا الفرنسية حيث يعمل عمه شيبان. وفي أفريقيا التي وصل إليها العام 1915 عاش حلم العودة إلى الحرية، العودة إلى الطبيعة.
عاد إلى لبنان شاعراً محترفاً. وكانت للشعر أهمية أكثر منها الآن. وفي لبنان أخذ ينتقل من جريدة إلى أخرى، ومارس العمل في الصحافة الأدبية والنقدية، في: البشير، المشرق، والأحوال، البرق، المعرض، وغيرها. وفي قهوة المنشية في ساحة الشهداء كان يلتقي عدداً من الشعراء ومنهم: أحمد شوقي، الجواهري، حافظ إبراهيم، شبلي الملاط، معروف الرصافي، الياس ابو شبكة، الأخطل الصغير، خليل مطران وعمر فاخوري. والعام 1924 عهدت إليه المفوضية الفرنسية العليا في بيروت، رئاسة قلم الترجمة وظلّ في هذا المنصب حتى إعلان إستقلال لبنان. العام 1929 تزوج من هيلين الهاني. وفي أيار 1972 فقد لبنان علماً من أعلامه الشعراء بموت شاعرنا يوسف غصوب.
نتاجه
في شهر شباط العام 1928 صدر للشاعر «القفص المهجور» وهو أول دواوينه الشعرية، بحلة قشيبة زينته رسوم عزت خورشيد، وقدّم له الأديب عمر فاخوري فاعتبره «حدثاً أدبياً مرموقاً، وزهرة نضرة في هذه الأيام الجديبة في بيداء حياتنا الأدبية». أما يوسف غصوب فقد عرّف ديوانه بهذه الأبيات:
«هذي أناشيد موقعة أنغامها الحرّى على كبدي
لا حكمة فيها ولا عظة بل صورتي صوّرتها بيدي
حالات نفس في مسرّتها أو في كآبتها ولم أزدِ»
وفي حزيران العام 1936، صدر له ديوان «العوسجة الملتهبة». وهي رمز توراتي على صورتها ظهر الله أول مرّة على النبي موسى وأعلن رسالته. وقد سعي غصوب من خلال هذا الديوان، الى اكتشاف طريق البشرية واستجلاء مبهماتها واستيضاح غوامضها، حتى أدرك الأعماق في نفس الإنسان، فشهد العراك الدائم بين الخير والشر، بين الملاك والشيطان، في قلب ذاك الراهب المتنسّك، كما حضر مواكب الفسق، والعهر، والنفاق الإجتماعي تسير، في تلك الجنازة الحمراء صاخبة ضاجّة بين الناي والعود، وقد سخر زبانيتها من المقدسات، فزيّفوا الحب وزوّروا السعادة، وأغووا الدهماء باللذائذ الفاسدة والنشوات العابرة.
«وهم سكارى يزجّيهم إلى سفرٍ إبليس في عصبة من قومه السودِ
يسوقهم بسياط الفسق تنهشهم نهش الأسنّة أقفاء الرعاديدِ
ويضحكون، وقد داست نعالهم شوى فتى منهم في الدرب ممدودِ
زلّت به قدم في لهوه، فهوى فنيّبوه فعال السيد بالسيدِ»
ورأى البعض أن «العوسجة الملتهبة» هي رسالة حب تجلّى للعاشق، وكأنه آتٍ من السماء، فبانَ للحبيبين من عالم الأسرار، ما احتجب إذ أضاء نفسيهما نور إلهي. هكذا خيّل للشاعر في فاتحة ديوانه. ثم عاوده الحنين في ما يشبه الرؤى، الى أيام مضت واصلة بالصبح لطف المساء. فبعد أن طال ليله وأصبح بُعدُ الحبيب جفاء، في دوامة هذا الكابوس، وجد الشاعر نفسه ملقى على نعش وثير الوسادة وقد نوّر الموت فؤاده.
وقد تخلّلت هذا الديوان محطات غاب عنها شبح الموت والقبر، توقف عندها المخيّب، الغريب عن دنياه، وأصغى الى نداء البواخر يدعوه الى الإنفلات من حياة تذوب حسرة في عقيم المنى، فهفت نفسه إلى صوت هابط من عالم خفي، عالم المتلهفين إلى عناق الإله.
في العام 1947 صدر له ديوان «قارورة الطيب» فغمر الطيب الناس، وأخذتهم نشوة الشعر الحق.
«في الغيب قيثارة طروب وعازف بالنُّهى لعوبُ
تلطف أنغامه فتخفى فتجتلي بعضها القلوب
خواطر ما لها قرار ومنبع ما به نضوب
تفيض من مبهم بعيد وجرسها مبهم قريب
تدفقت في الصدور لحناً صدى تراجيعه عجيب
يدق أبواب كل نفس وقلّ منهن من تجيب»
أما ديوانه الأخير «الأبواب المغلقة» فقد صدر العام 1965، ونال عليه جائزة «أصدقاء الكتاب». إنطوى هذا الديوان على فصلين تلوّنا بلونين مختلفين: لون رمادي يعكس الماضي بشجونه وكأنه رجع صدى الدواوين السابقة، ولون وردي مستمد من أجواء الطبيعة المبرئة في كنف الجبل منذ بدأت تتفتح أمام الشاعر أبوابه المغلقة. وعبّر عن هذا التضاد في اللونين بقوله:
«عالم موصدة أبوابه
يتولاه ظلام وضياء»
الشاعر والمرأة
وصف بعض النقاد يوسف غصوب بشاعر المرأة. والواقع أن المرأة، كرمز الجمال وملهمة الشعراء، احتلت المنزلة الأولى في نتاجه الشعري، فقلما خلت قصيدة له من حبيبة عذابها جميل، تنير ظلمة وحشته حضوراً أو حلماً وذكرى. لقد أنشد المرأة وهو في سكرة الهوى وحتى في غيبوبة الحسّ. تغزّل بها، كما هي، كما خلقها الله، لا في ما تجمّلت به. فهي إذ تطل عليه بعريها تُسكر حواسه الخمس وخياله وتروي نفسه ودمه فلا يرى في جسدها إلا ورق ورد وطيب وضياء.
«لا يعتريه العار في عريه في الحسن منجاة من العار»
قدّس غصوب الحبيبة، مهرجان الحسن، فلم يكفر بها لعوباً متقلّبة يغرّها الثناء على حساب الوفاء. ولا شك أن المرأة هي أهم موارد وحي الشاعر. المرأة كغاية بذاتها أو كرمز حي لأسمى جمال. لقد تغنى بها في تنوع أوضاعها، جرّدها، عرّاها، فصّلها تفصيلاً دقيقاً، أعاد خلقها في قالب خاص، جعل منها معبودته المصطفاة.
برع يوسف غصوب في إبراز جاذبية حواء: جسد يختلج، نهد يعربد، شفاه تلتهب، كما في وصف إنفعاله حيالها وقد غمرته النشوة فأنسته أمسه وغيّبت عنه التطلّع إلى غده فتشبث بالهنيهات الهاربة، شأنه شأن كبار الرومانسيين، ولئن غالى في وصف مفاتن المرأة وفي تفجير حسّه الجامح، فذلك، على ما بدا، إستجابة لحاجة تعبيرية لأنه، من خلال ملهمته، تطلّع الى أبعد، إلى شهوانية صوفية. فعرائس يوسف غصوب هنّ، بوجه عام، أقرب إلى بياتريس دانتي عروس الفردوس المستعاد التي تنقذ من بأساء الوجود، وتثير الحنين إلى الجذور السماوية، منها إلى دليلة التي تمارس سيطرة استعباد وإغواء على أشد الرجال:
«مدى نفسي في الضحى والعشي تناديك من وجدها أضلعي
خيالك حتم على ناظري وصوتك حتم على مسمعي
أما حان أن ترتوي شفتاي وعيناي من وجهك الأروع
فأنشق منك نعيمي ونحيا بحبك، أنشى وتنشي معي»
كان لشاعرنا يوسف غصوب في نظراته وفي نبرته، ما يجعلنا نزداد تعلقاً بهذا السر الذي يجمع في الشخص الواحد بين كآبة القلب وفرح العقل. فقد بدا لنا حضوره كمثل وردة تتوهج نضارة حين تنظر اليها بعين الجسد، لكننا نرى، حين نتأملها بعين البصيرة، أن هاجس الذبول هو ما يشغلها. إنه حضور كمثل كوكب من الحزن يدور في فلك من رجاء الفكر وتفاؤل الإرادة.
يوسف غصوب شاعر بين الشعراء الذين حاولوا أن يحوّلوا حياتهم التي أملاها الله إلى شعر يمليه القلب، وها هي دواوينه تتوهج، عبر الشعر، وفي ما وراء الموت، عالية بين أبواب شعرنا، المشرّعة العالية. كان شعره حباً لا ينفصل عن الألم، وألماً لا ينفصل هو الآخر عن الحب.