متاحف في بلادي

يوسف غصوب مبدع أتاح للجماد رواية التاريخ
إعداد: جان دارك ابي ياغي

محترفه أدرج على لائحة المتاحف

إحترف فن النحت، وناضل في سبيل تعزيز الفن ومكانة الفنان في لبنان.
النحات يوسف غصوب رحل حافراً اسمه على سجل الخلود الذهبي مع تواقيع الكبار الكبار.
محترفه في الفنار تحوّل إلى متحف يضم مجموعات من أعماله تشهد لإبداعه وقدرته على استنطاق المواد الجامدة.
مجلة «الجيش» زارت متحف الفنان يوسف غصوب في البلدة التي غيّر اسمها من «قبّارية» (أي مركز القبور) إلى «الفنار» بمرسوم جمهوري، وجالت بين الأوسمة الفنية التي أبدعتها يد الفنان، فصار هو وساماً على صدر الفن اللبناني.

 

الحداد الفنان

ولد النحات يوسف غصوب في قرية الفنار سنة 1898. تلقى دروسه الإبتدائية في مدرسة البستان - بكفيا التي أسسها الشيخ ابراهيم المنذر.
ألحقه والده بدكان للحدادة، وهو في العاشرة من عمره، ولما تعلم الصنعة، افتتح له دكاناً في ساحة سرايا الجديدة. تزامن عمله في الحدادة مع وقوع الحرب العالمية الأولى، فكان من بين الأعمال التي نفذها صنع سيوفٍ للجيش العثماني. في الثامنة عشرة من عمره تزوج. وتابع أعمال الحدادة حتى سنة 1929، عندما تعرف الى جان الدبس، وهو صاحب مصنع للقرميد في الفنار، فاستلم إدارة مصنعه. ولأن الدبس كان ميالاً الى الفنون الجميلة، والنحت بالأخص، فقد خطرت للرجلين فكرة صنع نموذج مصغّر من الجصّ لهياكل بعلبك، والاشتراك به في المعارض الفنية الدولية.

بعد تأمين ما يلزم من تمويل ودراسات، بوشر العمل في المشروع، وكان ذلك أوائل العام 1931. المقياس الذي اعتمد كان 1/100، أي 6 أمتار طولاً، و3 أمتار عرضاً، وقد دام العمل قرابة السنتين، في محترفٍ خاص، في حديقة لشارل قرم قرب المتحف الوطني.
عرض النموذج أولاً في بيروت - بناية البورصة قرب ساحة النورية. ثم عرض في معرض دولي في باريس سنة 1934، كما عرض في نيويورك.
ووفاءً بالتزام حيال ممول المشروع، قام يوسف غصوب بصنع نموذج ثانٍ من تلك الهياكل،  وضع حينها في المتحف الوطني اللبناني، إلا أنه مجهول المصير اليوم. امضى غصوب فترة في نيويورك ثم عاد إلى باريس حيث التحق في الأكاديمية الفرنسية للفنون لمدة ستة أشهر، أتاحت له صقل موهبته على القواعد الكلاسيكية..

ومن ثم، عرّج على مصر حيث قضى أربعة عشر شهراً برفقة النحات الكبير أحمد مختار. مع عودته إلى الفنار أكبّ في محترفه على بناء صيته الإبداعي، وتوالت إنجازاته. وفي موازاة أعماله الفنية، سعى غصوب إلى ترسيخ العلاقة بين الفنان والجمهور من خلال إقامة معارض خارج العاصمة بيروت، ليتمكن أكبر عدد ممكن من الناس من التعرف إلى الانتاج الفني اللبناني فلا يظل مقتصراً على الطبقة الراقية. ونظّم عدة معارض تكللت بالنجاح. كان يوسف غصوب صرخة مدوية في وجه  اللامبالاة، خصوصاً على المستوى الرسمي، بحقوق الفنانين. وكان في طليعة المناضلين من اجل إقرار هذه الحقوق. أسّس وترأس جمعية الفنانين للرسم والنحت، وانطلاقاً من ايمانه بالدور الحضاري والتغييري للفنان، عمل لرفع مستوى الفن في لبنان. وبناءً على اقتراحه، أقرّت الدولة، مبدأ إقامة معرضين للفن التشكيلي اللبناني في صالة مبنى الأونسكو: واحد في الربيع، وآخر في الخريف، ما أتاح نشر هذا الفن، وغزوه الدور والقصور.

 

التاريخ في تماثيل ونماذج

تكشف منحوتات يوسف غصوب قدراته الفنية وبراعته كنحات طوّع المواد الصماء في تماثيل ومجسمات تنبض بالحياة.
في ناحية من نواحي المحترف - المتحف تماثيل لا يعوزها سوى النطق لفرط تطابقها مع ملامح أصحابها. ويتوسط الصالة نموذج مصغر لقصر بيت الدين تحولت مقاييسه بنسبة واحد من مئة وهو غاية في الفن والإبداع، ففيه يشاهد المرء «قاعة العمود» ومدخلها الجميل ودار الحريم والحمامات تحيط بها الحدائق وقاعة لامارتين، وجناح ابراهيم باشا، وسواها من الصالونات الأنيقة والمماشي الفسيحة. ويحيط بهذا النموذج المصغر الجميل تمثالان نصفيان من البرونز للأميرين فخرالدين المعني وبشير الشهابي، وآخر للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، إلى تماثيل لتشرشل وستالين وديغول وغيرهم من عظماء التاريخ، وكلها تبرهن عن مدى اتساع خبرته الفنية. في الجانب الآخر من الصالة، يشاهد الناظر تمثالين للمرحوم إميل إده وللشيخ بشاره الخوري، والجدير بالذكر أن النحات يوسف غصوب عمل على وضع مجموعة من التماثيل النصفية للرؤساء الذين تعاقبوا على الجمهورية اللبنانية، من شارل دباس الى كميل شمعون.

ومن الإنجازات الفنية للنحات غصوب في بداياته، تمثال للمطران جرمانوس فرحات بالحجم الطبيعي رفع في مدينة حلب، ونموذج لمدينة البتراء وكنيسة القيامة بتكليف من المملكة الأردنية الهاشمية للاشتراك في معرض نيويورك الدولي، ونموذج لقصر سرسق، قدّم للملك سعود في أثناء زيارته الى لبنان، ونماذج لآثار تدمر وعنجر ومدرسة الحكمة في بيروت، وتمثال للعذراء مريم على مدخل جزين، وآخر في كنيسة السيدة في سن الفيل، وأنصاب للوزير السابق المحامي إميل لحود ولجبران خليل جبران وطانيوس شاهين وأبو سمرا غانم ويوسف الشنتيري والمطران اغناطيوس مبارك، والشيخ بيار الجميل والأب إرنست سارلوت (مؤسس معهد عينطوره) والرئيس صبري حماده والبطريرك حويك والدكتور نعمه نخو (أول طبيب نفساني في لبنان ومؤسس مستشفى الأمراض النفسية) وغيرهم...
واشتهر يوسف غصوب بتمثال المصلوب (نموذج في كنيسة السيدة - الفنار) وبمراحل درب الصليب التي انتشرت في العديد من الكنائس اللبنانية.

 

صاحب رأي وموقف

كان يوسف غصوب صاحب رأي وموقف، عبّر عنهما في العديد من المقالات حول الفن وشؤونه.
وفي احدى مقالاته يقول:
«... على شطآن لبنان ترعرع الفن ونما، وأول تمثال من الصخر نحت من صخور لبنان... وكما ان الفينيقيين ابتكروا حروف الهجاء فهم أيضاً ابتدعوا فن النحت ونحتوا لإلههم تمثالاً عظيماً عبدوه. والعالم بأسره مدين لهم بهذا الابتكار، وعندي كبير الأمل بأن الفن في لبنان سيصل يوماً الى مستواه الرفيع بفضل رجال الفن وعظيم نشاطهم وثباتهم...».
أخيرا، اشارة إلى ان يوسف غصوب الذي كان أول من أدخل تقنية العين في النحت وأبرزها بشكل طبيعي، وقد تتلمذ على يده الكثير من النحاتين المعاصرين، أُدرج متحفه أخيراً على لائحة المتاحف السياحية في لبنان. وقد بذلت حفيدته ورئيسة لجنة المتحف السيدة فينوس غصوب شامي جهوداً كبيرة مشكورة لجمع روائع هذا الفنان وجعلها في متناول محبي الفن.

تصوير: المجند وسيم المصري