- En
- Fr
- عربي
وداع الابطال
السماء بكته بغزارة وكذلك اللبنانيون بمختلف انتماءاتهم وميولهم وطوائفهم. جميعهم شاركوا في وداع البطل، وقد اتفقوا جميعاً على إدانة جريمة الاغتيال التي استهدفت الشهيد البطل اللواء الركن فرنسوا الحاج ورفيقه المعاون الشهيد خيرالله هدوان.
في مراسم دفنه جمع اللواء الركن الشهيد حشوداً هائلة تمثل مختلف شرائح المجتمع اللبناني، وقد واكبت نعشه طوال مسيرة الحزن التي امتدت من بيروت الى حريصا، فإلى مسقط رأس الشهيد في رميش عبر المتن وكسروان وصيدا والجنوب، في مأتم غير مسبوق، فكان الحدث عرساً وطنياً جامعاً لا يماثله سوى العرس الذي شهده لبنان لدى عودة أبطال الجيش من نهر البارد.
بدأ تشييع اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج ورفيقه المعاون الشهيد خيرالله هدوان في مأتمين، الأول في حريصا ومن ثم في رميش جنوباً وحزّين بقاعاً، وسط إعلان يوم حداد وطني.
عند السابعة والنصف صباح الجمعة (14/12/2007) أقيمت مراسم نقل جثماني اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج ومرافقه المعاون الشهيد خيرالله هدوان من المستشفى العسكري ملفوفَين بالعلم اللبناني، فأدت سريتان من اللواء الثاني مراسم التكريم، وعلى وقع موسيقى الجيش اللبناني ونشيد الموتى تقدّم الموكب يترأسه ذوو الشهيدين وسط حشد من المواطنين. رفاق السلاح حملوا النعشين على الأكف في رحلة الوداع الأخيرة ووجوههم غارقة في الحزن. وانطلق الموكب من طريق بدارو وسط الزغاريد وذرف الدموع ونثر الأرز والورد، يشق طريقه باتجاه الحدث - الحازمية - فبعبدا حيث منزل اللواء الركن الشهيد.
طوال الطريق من بدارو الى بعبدا كان المشهد واحداً: ساحات يلفّها الحزن، وشوارع تزيّنها الشرائط البيضاء، ولافتات تحمل عبارات الوفاء للشهيد البطل. الحشود الشعبية كانت تملأ جوانب الطرقات تنتظر تحت المطر مرور موكب البطل لكي تؤدي له تحية الوداع الأخير.
في الساعة الثامنة، وصل الموكب الى مستديرة بعبدا، تتقدمه الدراجات النارية، فيما كانت الطوافات العسكرية تحلّق في الأجواء فوق خط سير الموكب. أُنزل النعش من السيارة عند مدخل البلدة ليرقص البطل على أكتاف رفاقه في الطريق الى منزله حيث كان ينتظره محبوه الكثر من أهل وجيران ورفاق ومواطنين أتوا من كل لبنان لوداعه.
بخطوات بطيئة، تقدّم النعش حتى المدخل يرافقه قرع الطبول وموسيقى لحن الموت، فيما كان عناصر من الحرس الجمهوري يؤدون مراسم التكريم، في مقابل تكريم شعبي من المحتشدين الذين كانوا ينثرون الورد والأرز على نعش الشهيد وسط نحيب وبكاء مرير. وإذ شق النعش طريقه الى صدر الدار، بدأت تتعالى الأصوات الموجوعة تشيد بمآثر البطل وتنعي رحيله، فيما كانت الدموع الحارة أبلغ من أي كلام قيل في وداعه.
لحظات قصيرة قضاها جثمان الشهيد في حضن أسرته، لم ترو غليل محبيه، وإذ استعد الموكب للمغادرة، بدأت تتعالى الأصوات: «ضيعانك يا آدمي يا بطل... يا بطل»... وعلا التصفيق حاراً، ورقص الجمع مع البطل رقصة الوداع.
كما في الاستقبال كذلك عند المغادرة أدى عناصر من الحرس الجمهوري مراسم التكريم، قرعت الطبول وعزفت الموسيقى لحن الموت وسط بكاء ثم وضع النعش في السيارة لينطلق الموكب باتجاه مسرح الجريمة عند ساحة بعبدا. هناك توقف النعش يحيطه الأهل والأصدقاء في ساحة غصّت بالأهالي ورجال الدين والمواطنين الآتين من الجوار للقاء العريس بنثر الأرز والورود والدموع، على وقع حزين لجرس الكنيسة. مرة أخرى، ارتفع الشهيد على الأكف، راقصاً، فيما علا التصفيق وانطلقت الزغاريد تحيي البطل في عرسه.
عند الإنطلاق باتجاه بازيليك - سيدة لبنان في حريصا. كانت حشود لا تحصى من المواطنين قد التحقت بالموكب يدفعها إيمانها بالوطن وبجيشه وبالمثل العليا التي استشهد من أجلها فرنسوا الحاج، وانطلقت بعفويتها من مختلف المناطق والطوائف خلف النعش تترحم على شهيد لبنان، لم تمنعها من متابعة المسيرة غزارة الأمطار ولا حدة الطقس ولا زحمة الطرقات.
وعلى طول الأوتوستراد الساحلي من جونية باتجاه بيروت وقفت السيارات وترجّل منها المواطنون لحظة مرور الموكب على المسلك المقابل في طريقه الى حريصا.
هذه المسيرة تخللتها عدة محطات حيث كان المواطنون في انتظار الموكب لينثروا الارز والورد ويطلقوا الأسهم النارية في تحية مؤثرة لبطل كان في حياته وفي استشهاده فداءً للبنان.
حريصا: مأتم عزّ نظيره
ودّع لبنان في مأتم رسمي وعسكري وسياسي وديبلوماسي وشعبي عزّ نظيره، مدير العمليات في الجيش اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج، بحضور حشد كبير غصّت به بازيليك سيدة لبنان في حريصا والساحات المحيطة بها على الرغم من الطقس العاصف والمطر الذي لم يتوقف منذ بدء الجناز حتى مغادرة الجميع البازيليك.
في تمام الساعة العاشرة صباحاً وصل جثمان اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج الى بازيليك سيدة لبنان وسط حزن وأسى عارمَين. ولدى دخول الجثمان على أكتاف الضباط رفاق الشهيد، علا تصفيق حاد استمر نحو خمس دقائق ريثما وضع الجثمان أمام المذبح وسط الكنيسة. وتكرّر المشهد لدى دخول قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي لوحظ وصوله بعد بدء الصلاة بدقائق.
تخللت القداس لفتة من الفاتيكان تمثلت في رسالة أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال ترتشيتشيو برتوني باسم البابا بنيديكتوس السادس عشر الى البطريرك صفير والتي تضمنت «بركة رسولية خاصة» وتعزية باللواء الشهيد و«مشاركة عميقة في المأساة التي حلّت مرة جديدة بلبنان».
من جهتها تعهّدت قيادة الجيش في الكلمة التي ألقاها رئيس الأركان اللواء الركن شوقي المصري مواصلة مسيرة الدفاع عن الوطن وتوقيف قتلة اللواء الشهيد، ودعت «بإسم دم» الحاج، الأطراف اللبنانيين الى «موقف تاريخي شجاع» والى تنازلات تفضي الى مصالحة ووفاق من دون شروط مسبقة.
مراسم الجنازة
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الصلاة عن راحة نفس اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج وعاونه المطرانان شكرالله نبيل الحاج (مطران صور) وبولس مطر (راعي أبرشية بيروت) والرئيس العام للآباء المرسلين اللبنانيين الأب إيلي ماضي وكاهن معبد سيدة لبنان الأب العام خليل علوان، وشارك في الصلاة السفير البابوي المونسينيور لويجي غاتي ممثلاً البابا بنيديكتوس السادس عشر، والمطران ميشال أبرص ممثلاً بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، والمطران كيغام خاتشاريان ممثلاً الكاثوليكوس آرام الأول، المطران رابولا أنطوان بيلوني ممثلاً بطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس بطرس عبد الأحد، الأرشمندريت اليكسي مفرج ممثلاً متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، والمطارنة رولان أبو جودة ويوسف بشارة وغي بولس نجيم وفرنسيس البيسري ومارون صادر وجورج أبو صابر وأنطوان نبيل العنداري وسمير مظلوم ومنصور حبيقة والياس نصار وأندريه حداد وجورج رياشي ويوسف كلاس وجورج بقعوني والياس رحال وبولس بندلي، ورئيس الكنيسة القبطية في لبنان الأب فيلو باتير ومدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبدو أبو كسم والأباتي الياس خليفة والأباتي بولس تنوري والأباتي بولس نعمان وكهنة من مختلف الطوائف المسيحية.
وشارك في القداس والجناز الى جانب عائلة الشهيد وقائد الجيش العماد ميشال سليمان، النائب أنطوان خوري ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، وزير الدفاع الوطني الياس المر ممثلاً رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، الرئيس أمين الجميل، رئيس محكمة الاستئناف المذهبية الدرزية العليا نهاد حريز ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الوزيران خالد قباني ونعمة طعمة، الوزيران المستقيلان يعقوب الصراف ومحمد فنيش، السيد ميشال معوض ممثلاً الوزيرة نايلة معوض، السفير الإيطالي غبريال كيكيا، السفيرة البريطانية فرانسيس ماري غاي، السفير المصري فؤاد أحمد البديوي، سفير الاتحاد الأوروبي باتريك لوران، القائم بالأعمال الفرنسي اندريه باران، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية بيل غرانت، وديبلوماسيون عرب وأجانب ورئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النائب العماد ميشال عون ورئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية لحزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، والنواب: عبد اللطيف الزين والياس سكاف وبيار دكاش وبطرس حرب وفؤاد السعد وأكرم شهيب ووائل أبو فاعور وابراهيم كنعان وهنري حلو ونعمة الله أبي نصر ونادر سكر وآغوب بقرادونيان وسليم عون وهادي حبيش ويغيا جرجيان وجورج عدوان وعبدالله حنا وشامل موزايا ووليد خوري وعلي عمار وغسان مخيبر وفريد الخازن وأنطوان سعد وإدغار معلوف، والوزراء السابقون: بشارة مرهج واسطفان الدويهي وفوزي حبيش وخليل الهراوي وناجي البستاني ويوسف سلامة، والنواب السابقون منصور غانم البون وفارس سعيد وكريم الراسي وجهاد الصمد وغطاس خوري. كذلك حضر رئيس حزب الكتائب كريم بقرادوني والقنصل العام لجمهورية ملاوي أنطوان عقيقي والمستشار السياسي لرئيس «تيار المستقبل» الدكتور داود الصايغ، رئيس «حزب التضامن» إميل رحمة، والسادة كميل دوري شمعون وكلوفيس الخازن وأنطوان حبيب ومسعود الأشقر ونقيب الصحافة محمد بعلبكي ونقيب المحامين في بيروت رمزي جريج ونقيب المهندسين سمير ضومط ورئيس الإتحاد العمالي العام نبيل غصن، ورئيس «التيار الشيعي الحر» الشيخ محمد الحاج حسن، وشخصيات وحشد كبير من الفاعليات السياسية والعسكرية والدينية والنقابية والاجتماعية والديبلوماسية ووفود شعبية من مختلف المناطق ولا سيما المناطق الجنوبية وأهالي رميش.
ومن الحضور أيضاً قائد القوة الدولية في الجنوب الجنرال كلاوديو غراتزيانو والمدعي العام التمييزي سعيد ميرزا ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية جان فهد وقائمقام كسروان - الفتوح ريمون حتي والمدير العام للأمن العام اللواء الركن وفيق جزيني على رأس وفد من ضباط المديرية، وأعضاء المجلس العسكري، ومدير المخابرات العميد الركن جورج خوري ومدير الدفاع المدني العميد درويش حبيقة على رأس وفد من المديرية، المدير الإقليمي في جبل لبنان لأمن الدولة العقيد جورج قرعة على رأس وفد من ضباط المديرية ممثلاً المدير العام العميد الياس كعيكاتي، ووفـد من المديريـة العامـة لقـوى الأمـن الداخلي ضم قائد الدرك العميد أنطوان شكور والعميد سمير قهوجي وكبار ضباط المديرية.
البركة الرسولية الخاصة
بعد الإنجيل، تلا المطران الحاج الرسالة البابوية واستمع اليها الجميع وقوفاً، وهنا نصها: «إن الأب الأقدس بعدما علم بذهول الاغتيال المفجع الذي تسبّب بوفاة اللواء الركن فرنسوا الحاج وسائق سيارته، وبعشرات الجرحى, كلفني أن أعرب لكم عن تعازيه الحارة وعن مشاعره الأبوية ومشاركته العميقة في المأساة التي حلّت مرة جديدة بلبنان في هذه الأوقات الحرجة والدقيقة بالنسبة الى مستقبل البلد.
إن الأب الأقدس يكل الى الرحمة الإلهية الذين توفاهم الله، ويسأل الله القدير أن يؤاسي عائلاتهم ويشفي الجرحى ويساعد جميع الذين أصابهم العنف الذي لا مبرر له، ويسأل الله أن يجود على المسؤولين عن الحياة العامة وعن الشعب اللبناني بالقوة المعنوية والشجاعة لكي يجدوا بمعزل عن المصالح الخاصة طريق الوحدة والمصالحة، لكي يتمكن البلد من التقدم على طريق السلام والاستقرار فيكون واحداً بالنسبة الى الجميع ورسالة أخوة وعيش مشترك.
إن الأب الأقدس إعراباً منه عن المؤاساة الروحية يبعث إليكم بطيبة خاطر، بركة رسولية خاصة».
كلمة البطريرك
ثم ألقى البطريرك صفير كلمة عنوانها «اسهروا لأنكم لا تعلمون في أي يوم يجيء ربكم» (متى 24:24) وهنا نصها:
«كلام السيد المسيح هذا يصح اليوم أكثر ما يصح في بلدنا لبنان، وفينا نحن معشر اللبنانيين. ولا يدري أحد منا من أين يأتيه القدر المحتوم، أمن سيارة ملغومة أو من متفجرة مخفية تحت مقعد سيارة، على الرغم من جميع الاحتياطات والحذر، والإقلال من الرواح والمجيء، والاقتصاد في المكالمات الهاتفية، الى ما سوى ذلك من احتياطات فإن حوادث الاغتيالات لا تزال تتوالى، دونما رحمة أو شفقة منذ ثلاث سنوات.
ونحن اليوم أمام فجيعة كبيرة، ليست بضابط من خيرة الضباط وحسب، بل بوطن تتلاعب به الأهواء ويسقط من أبنائه بين الحين والحين، وعلى فترات ليست متباعدة، أشدهم دفاعاً عنه، وأقدرهم على المناداة بمحاسنه وجمالاته، وأكثرهم اندفاعاً في سبيل الذود عن علمه وكيانه وقيمه، والوتيرة مستمرة منذ ارتفاع الكابوس ظاهراً عنه، والذي لا يزال يتربص به، وكانت الضحايا تختار من بين نواب الأمة والجياد من أبنائه وحمايته سواء أكانوا أصحاب كلمة حرة، أم رأي جريء أم قلم حر أم فكر يأبى الانصياع.
فإذا بيد الغدر تمتد اليوم الى الجيش وقادته البواسل، والجيش كان وسيبقى سياج الوطن وقد برهن بالأمس في نهر البارد، مثله سابقاً في مجالات شتى، أنه درعه الواقية وقد برهن خصوصاً في هذه المرحلة عن تمسك وتراص ضمن له النصر، على قلة العتاد، وشح الوسائل القتالية. ولكن الشجاعة والانتظام غالباً ما يقومان مقام ما ذكرنا، وقديماً قيل: «الرأي قبل شجاعة الشجعان».
وكان الفقيد الذي نودع اليوم بالدموع السخية والأسى العميق بعد القائد ومعه الرأس المدبر والعقل المنظم، وبالرغم مما أظهر من حكمة وشجاعة ودراية سقط من جنوده بالأمس في ما خاضوا وهو على رأسهم من معارك ضارية في نهر البارد، عدد أوفى على المئة وسبعين ضحية، وكأن ذلك لم يكن كافياً ليشفي غليل من يتآكلهم الحقد على بلد آمن لا يريد إلا الخير لجميع الناس على السواء وليس في مقدوره إلا أن يريد له الخير وخصوصاً لأقربهم اليه.
وقد عرفنا أنه، رحمه الله، كان من المجلين منذ التحاقه بالجيش اللبناني سنة 1972 وكان ابن تسع عشرة سنة، وقد جاءه من رميش، في أرض الجنوب المنكوبة التي لا تزال منذ أكثر من نصف قرن تعاني ما تعاني من اجتياحات وحرمان وتهجير وقهر، وقد اضطلع بما أسند اليه من وظائف أثبت في قيامه بها عن كفاية وجدارة، فقاد تباعاً كتيبتين وفوج التدخل الثالث وفوج المغاوير، وأصبح مديراً للإستعلام في أركان الجيش للعمليات ثم مديراً لها. وتابع دورات في الداخل والخارج في فرنسا وأميركا وإيطاليا وأحرز ستة عشر وساماً ما عدا ما خصه به قائد الجيش من تنويهات بلغت العشرة، وتهانئ بلغت الأربع والعشرين تهنئة وكان يتقن من اللغات أربعاً: العربية، والفرنسية والإنكليزية والإيطالية.
وإن ما يزيد في أسفنا عليه أننا منذ أسبوعين استقبلناه في بكركي ولم نعرف أن سلامه علينا سيكون وداعاً، وقد شاقنا منه إيمانه بربه وتمسكه بممارسته وتعلقه بكنيسته وحديثه الهادئ وطلته البهية وقامته الفارعة وبعده عن تعال وشموخ.
فلا غرو إذا ما اشتد حزن ذويه عليه وقد رأينا بعضهم على شاشة التلفزة ينتحبون ويلطمون الوجه أسفاً وحرقة وقد خسرته منطقته ويفتقده وطنه هو وأمثاله ممن استشهدوا فدية عن الوطن. ولست ادري من قال إن شجرة الوطن لا تبسق وتورق إلاّ إذا سقتها دماء أبنائها الميامين، وهذا هو قدر الذين ينذرون نفوسهم للدفاع عن وطنهم وقيمه في كل مكان وزمان.
وإنّا، إذ نتقـدم بالتعازي القلبيـة من عائـلـة الفقيد بدءاً من أرملته وابنه وابنتيه ووالديه وأشقائه وشقيقـاته ومـن ذوي مرافقـه المعـاون خيـرالله هـدوان الذي استشهــد معه وسائر ذويه، نعرب لسعـادة قائـد الجيش ورفـاق الفقيد الشهيد الذين نشـاطرهم شعورهم العميق لفقـده، وجميع المسؤولين عن قيم الوطن، سائلين الله بشفاعة سيدة لبنان أن يتغمد روحه الطيبة بوافر عفوه ورضوانه، ويحفظ لبنان وشعبه من المكاره».
كلمة قيادة الجيش
بعد القداس وصلاة البخور، ألقى رئيس الأركان اللواء الركن شوقي المصري كلمة قيادة الجيش، وهنا نصها:
«بدماء الشهداء يحيا الوطن، وكلما كثرت القرابين على مذبحه ازداد قوة ومنعة وشموخاً، فالاستقلال المجاني لا يدوم، والحرية الرخيصة لا تُعمِّر، والبنيان القوي العصي على الرياح لا تحميه إلاّ إرادة الرجال الأوفياء الأشداء، المتسلحين بالحق والإيمان، والمؤمنين بقدسية الرسالة حتى الشهادة.
اليوم، نودّع ضابطاً من كبار ضباط الجيش وخيرتهم، رأى في الانضواء تحت راية المؤسسة العسكرية الموقع المناسب لتحقيق آماله وطموحه في خدمة الوطن، فانبرى يكرّسُ سني عمره، لحظة بلحظة، جهداً وبذلاً وتضحية، في سبيل إعلاء شأن مؤسسته إلى المستوى الذي يليق بدورها الوطني، وبتضحيات ضباطها وعسكرييها، فكان له في كل درب شذى، وفي كل أفق شعاع، حتى تعملق في تحمل المسؤولية، وضاقت بشجاعته وجرأته وفروسيته ساحات التضحية وميادينُ العطاء.
لقد حاولتْ يدُ الغدر والإرهاب، من خلال استهدافك، يا شهيدنا البطل، استهداف المؤسسة العسكرية، ظناً أنها من خلال هذه الجريمة تستطيع ثني الجيش عن أداء مهماته الوطنية، والنيل من إنجازاته التي تعمدت بدماء مئات الشهداء والجرحى، لكن، غاب عن بال هؤلاء الإرهابيين الحاقدين، أنه كلما سقط عسكريٌ شهيد، ازداد الجيش إصراراً وعزماً على تحدي المخاطر والصعاب، ومواصلة مسيرة الدفاع عن الوطن وحماية أهله، وغاب عن بالهم أيضاً، أنهم مهما تمادوا في القتل وسفك الدماء، لن يجدوا منفذاً للنيل من إرادة الحياة وروح الإيمان المتجذر في نفوس أبناء المؤسسة العسكرية، المصممين اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، على بذل الغالي والنفيس، حفاظاً على سلامة الوطن وأمن المواطن، والتصدي لمن تسول له نفسه التطاول على كرامة الجيش ودوره المقدس.
ثق أيها البطل الشهيد، وأنت في عليائك، بأن مؤسستك التي وهبتَها حياتَك لن يغمُضَ لها جفن قبل توقيف القتلة المجرمين والاقتصاص منهم أمام العدالة، وأعلم بأن دماءك الذكية، التي بذلتها قرباناً طاهراً على مذبح الوطن، لن تذهب هدراً، بل ستكون طريقاً لوحدة لبنان التي ترسّخت بامتزاج الدماء ووحدة الشهادة.
إننا، باسم دمك الغالي، ندعو الجميع، إلى اتخاذ موقف تاريخي شجاع، يُفضي إلى بناء جسور الثقة والتواصل بين الأطراف، والمسارعة إلى تحقيق المصالحة والوفاق، من دون شروط أو مساومات أو قيود، لأن المصالحة والوفاق لا يتوقفان على موازين القوى والتجاذبات السياسية، فسيل دماء الشهداء يستحق منا التضحية والتنازل عن كل ذلك، على أن تكون الثقة المتبادلة هي الضمانة الأساسية والوحيدة لجميع الأفرقاء، كما أن رسائل الدم هذه، لا تستهدف الجيش فحسب، بل تستهدف الكيان برمته، والرد عليها يكون بالابتعاد عن الكيدية والأحقاد والحسابات الضيقة، وبالتالي التلاقي على القواسم المشتركة، ففي اتحادنا نكسب القوة ونستطيع تحقيق المستحيل.
نودعك اليوم، نحن رفاقَ السلاح وأخوة الدم والدرب والمصير، وفي قلوبنا جميعاً جرح يعتصر الأكباد وأسى يدمي العيون، لتعود إلى الجنوب، إلى بلدتك الأبية التي ترعرعت فيها باكراً على شذى التراب واخضرار شتلة التبغ، وتنشقت من فضائها نسائم العنفوان والحرية، ثم انطلقت منها إلى رحاب الوطن الكبير، زارعاً في أرجائه أغراس إيمان وانتماء. إنك لم تكن في يوم من الأيام، جنوبياً أكثر منك شمالياً، بل عملت دائماً في خدمة الجميع، متجرداً في معاملة مواطنيك، صلباً في التمسك بالحق، مستقيماً كحد السيف، جريئاً في مواجهة الأعداء، مستعداً للشهادة، فكان لك ما أردت، والتحقت بقافلة الشهداء الذين سقطوا ذوداً عن الوطن خلال التصدي للعدو الإسرائيلي في حرب تموز، ومواجهة الإرهاب في نهر البارد بالأمس القريب.
نعاهدك أيها الشهيد الغالي، بأننا لن ننساك، وستبقى مآثرك البطولية خالدة في ذاكرة الجيش والوطن، شعلةً تستنير بها أجيال المؤسسة العسكرية، ولن ننسى عائلتك الوفية الصبورة، التي تقاسمت وإياها أعباء الحياة، ورافقتك في السراء والضراء، ونهلت من معينك محبة الوطن وأصالة القيم والأخلاق، فسيظل الجيش ملاذها الدائم وعائلتها الكبرى.
باسم قيادة الجيش أتوجه إلى ذوي الشهيد ورفاقه وأصدقائه وإلى اللبنانيين جميعاً، بأحرّ التعازي وعميق المواساة، سائلاً الله أن يتغمد شهيدنا الغالي بواسع رحمته، وأن يُلهِمَ الأهل والرفاق والأحبة نعمة الصبر والسلوان».
ثم تقبّل العماد ميشال سليمان وعائلة الشهيد وضباط المجلس العسكري التعازي في الكنيسة، قبل أن يُنقل الجثمان الى مسقط رأس الشهيد في رميش.
عودة البطل الى أرضه... والرحلة طويلة
من حريصا إنطلق الموكب باتجاه الجنوب، وكما في الذهاب، كذلك في الإياب كان آلاف المواطنين تحت المطر على طول الأوتوستراد الساحلي ينتظرون حاملين الأعلام والصور. الورد والأرز والدموع... ومع الوصول الى بوابة الجنوب لم يتغير المشهد، لكنه بات أكثر نبضاً وتأثيراً. فالفارس عائد الى أرضه... بالمطر والزغاريد والدموع والزهور والصلوات والأرز المنثور والحناجر المخنوقة، استقبل الجنوب والجنوبيون وأهالي رميش موكب اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج العائد الى تراب بلدته مكللاً بدم الشهادة في عرس مهيب لم يشهد لبنان مثيلاً له.
على وقع التكبير وصوت أجراس الكنائس وأغنية «بيي راح مع العسكر»، انتظرت صيدا ومنطقتها، بعسكرييها وأحزابها لتستقبل موكب جثمان اللواء الركن الشهيد فرانسوا الحاج في أثناء رحلته الأخيرة الى مسقط رأسه رميش.
قبل أكثر من ساعة على وصول الموكب الجنائزي، خرج أبناء صيدا والقرى المجاورة الى مدخل صيدا الشمالي عند جسر الأولي لاستقباله وإلقاء التحية والنظرة الأخيرة على نعشه، وهم يرفعون الأعلام اللبنانية والحزبية وأقفلت المدينة حداداً وزنرت شوارعها وساحاتها بالأعلام اللبنانية والرايات السوداء ولافتات كتب على إحداها «عاصمة الجنوب تفتح ذراعيها لاحتضان ابن الجنوب الشهيد فرنسوا الحاج... عميد شهداء الوحدة الوطنية». وكانت لموكب الشهيد الحاج في صيدا ثلاث محطات إستقبال رئيسة، أولاها استقبال رسمي عند جسر الأولي دعت اليه بلدية صيدا وشاركت فيه شخصيات سياسية ورسمية وروحية وعسكرية وحزبية ورؤساء بلديات وفاعليات، وتقدم الحضور النائبان ميشال موسى وأسامة سعد وممثل النائبة بهية الحريري المنسق العام لـ«منظمة شباب المستقبل» أحمد مصطفى الحريري ومحافظ الجنوب مالك عبد الخالق والمدعي العام الإستئنافي في الجنوب عوني رمضان ورئيس بلدية صيدا عبد الرحمن البزري وجمع كبير من رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية في إتحاد بلديات صيدا والزهراني ومنطقة جزين وقائد منطقة الجنوب العسكرية في الجيش العميد الركن الياس زعرب وممثلون للأحزاب الوطنية والإسلامية و«حزب الله» و«الجماعة الإسلامية» و«حركة أمل» والحزب السوري القومي الاجتماعي و«جبهة العمل الإسلامية» والحزب الشيوعي، وممثلون للفصائل الفلسطينية وتحالف القوى الفلسطينية.
وإثر وصول الموكب الى الأولي، توقف بضع دقائق وسط نثر الأرز والورود، وصافح نجل اللواء إيلي الحاج الحضور، وألقى كلمة شكر فيها «لفاعليات صيدا ومنطقتها عاطفتهم التي تجلت في الاستقبال الحاشد الذي يعكس محبة وتقديراً لوالدي الشهيد وللخط الوطني الذي يمثله ضمن المؤسسة العسكرية، حامية الوطن».
أما الاستقبال الشعبي الثاني فكان لحظة مرور الموكب أمام مسجد الحاج بهاء الدين الحريري، حيث اصطف مئات المواطنين على جانبي الطريق ونثروا الورود والأرز على الجثمان وهم يلوحون بالأعلام اللبنانية، كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً. وغمرت الموكب عشرات الأكاليل من مؤسسات تربوية وجمعيات أهلية. ورافق الموكب قائد منطقة الجنوب العسكرية في الجيش العميد الركن الياس زعرب ومدير فرع مخابرات الجيش في الجنوب العقيد عباس ابراهيم وسط تدابير أمنية وانتشار لعناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي على طول خط سير الموكب في صيدا.
من شمال صيدا الى جنوبها حيث كانت محطة الاستقبال والوداع الثالثة لموكب اللواء الشهيد أمام سرايا المدينة، وتقدم الحشد عبد الخالق وأحمد الحريري والمسؤول السياسي عن «الجماعة الإسلامية» في الجنوب بسام حمود وعدد من رؤساء البلديات والمصالح والدوائر الحكومية.
وأقيم قوس نصر رمزي بألوان العلم اللبناني تحية للشهيد الحاج، وعزفت موسيقى كشافة لبنان المستقبل والشبكة الكشفية لحن الموتى والنشيد الوطني قبل أن يتابع الموكب سيره جنوباً.
بين صيدا وصور تابع الموكب بصعوبة شق طريقه المزروع بمحبة الجنوبيين الذين أبوا إلا أن يلقوا النظرة الأخيرة على شهيد الوطن في عودته الأخيرة الى الأرض التي أحب. إجراءات أمنية مشددة وانتشار كثيف للجيش حيث وقف العسكريون على كل الطريق الرئيسة المؤدية الى مسقط رأسه، ليؤدوا تحية الفخر والوداع، لضابط استعد الجنوب لاستقباله قائداً للجيش فإذ به يستقبله عشية الأعياد بطلاً مضرجاً بدماء الشهادة.
سكان قرى الجنوب خصوصاً الحدودية منها استقبلوا موكب الشهيد بعد الظهر وسط الأمطار الغزيرة استقبال القائد البطل العائد منتصراً من أرض المعركة، وكانت له محطات توقف بارزة عند بلدات السلطانية - دير انطار - تبنين ومثلث صف الهوا - بنت جبيل - عيناتا، وفي ساحة عين إبل. وأخيراً كان العرس الكبير في رميش التي استقبلته عند بركتها التحتا قرب ساحة منزل والديه على وقع لحن الموت والنشيد الوطني عزفتهما فرقة من موسيقى الجيش أعقبتهما زغردة النسوة ونثر الأرز والورود. وتوالى على الرقص بنعشه رفاق السلاح وشباب رميش والأحبة ودخل دقيقتين للمرة الأخيرة الى منزل والديه، للوداع ومن ثم توجه به رفاق السلاح محمولاً على الأكف الى كنيسة التجلي، حيث ترأس صلاة البخور لراحة نفسه راعي أبرشية صور للموارنة المطران شكرالله نبيل الحاج وراعي أبرشية صور للروم الكاثوليك المطران جورج بقعوني وعاونهما كاهن رعية رميش الأب نجيب العميل، ولفيف من كهنة الأديار ورعايا قضاء بنت جبيل.
وحضر ممثلاً قائد الجيش العميد الركن الياس زعرب، وممثلاً رئيس مجلس النواب علي بزي، وممثلاً الأمين العام لـ«حزب الله» النائب حسن فضل الله، والنواب ميشال موسى وأيوب حميد وقاسم هاشم وسمير عازار، وممثلاً لوزير السياحة نبيل براكس، وممثلاً لرئيس «التيار الوطني الحر» اللواء عصام أبو جمرة وممثلاً لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي سرحان سرحان، وممثلاً للنائبة بهية الحريري أحمد الحريري، ومحافظ الجنوب محمود المولى، وممثلاً للمدير العام لقوى الأمن الداخلي العميد روجيه سالم وممثلاً للمدير العام للأمن العام العقيد موسى جفال، وممثلاً للمدير العام لأمن الدولة العقيد مجدي أبو ضرغم، وممثلاً المدير العام للجمارك الرائد بطرس نون وممثلاً القائد العام للقوة الدولية «اليونيفيل» نائبه الجنرال ب. نهيرا، وقائد القطاع الغربي في القوة المعززة الجنرال باولو دي روجيرو وعدد من ضباط الكتائب الدولية، وفريق من مراقبي الهدنة وممثلاً مفتي صور وجبل عامل الشيخ علي الأمين وممثلاً لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ مهدي الأمين، وعدد كبير من رؤساء البلديات والمخاتير في رميش وقرى قضاء بنت جبيل، وراهبات وفاعليات وأهالي البلدة والجوار وهيئات كشفية واجتماعية وحزبية.
وتلا المطران بقعوني مجدداً على مسامع الحضور البركة الرسولية البابوية، وتلاه الأب انطوان عساف قارئاً عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، ثم أقيمت صلاة البخور ومن بعدها أقيمت التعازي في الكنيسة ثم دفن اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج في مدافن العائلة.
هكذا وُدع اللواء الركن الحاج من قبل كل من عرفوه وأحبوه وهو غادر عائلته الصغيرة كما مؤسسته العسكرية بيته الثاني باكراً، وفي قلبه غصة على الوطن وفي عينه دمعة على الجنوب الذي كان دوماً في أول اهتماماته.