- En
- Fr
- عربي
اقتصاد ومال
٢٠٢٠ عام الانهيارات والمحطات الاقتصادية الصعبة في تاريخ لبنان، بدءًا من خسارة الثقة الدولية نتيجة الامتناع عن دفع استحقاق سندات اليورو بوند من دون التفاوض مع الدائنين، مرورًا بفقدان السيولة بالعملة الأجنبية وتخلف المصارف عن تلبية زبائنها، وانهيار سعر صرف الليرة مقابل العملة الخضراء، وصولًا إلى انفجار مرفأ بيروت وتداعياته.
الواقع بات كارثيًا، وقد أدى إلى إفلاس عدد كبير من الشركات والمحلات التجارية، وارتفاع نسبة البطالة التي تخطّت الـ٥٠٪، ووصول أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى ما دون خطّ الفقر... لكن هل من أمل بالنهوض وكيف السبيل إلى ذلك؟
«الجيش» توجهت إلى أربعة خبراء في الاقتصاد قرأوا في وقائع العام المنصرم ووضعوا تصورهم لسبل وقف الانهيار وإعادة النهوض. وفي ما يأتي آراؤهم واقتراحاتهم للخروج من الأزمة.
عليا مبيّض (كبيرة الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط لدى مصرف جفريز):
الاقتصاد اللبناني في موت سريري، وتقاعس السلطات عن اتخاذ أي إجراءات إنقاذية خلال العام ٢٠٢٠ بشكل يحاكي خطورة المرحلة والأزمات النقدية والمالية والمصرفية المتلازمة، عمّق حدّة الانفجار وسرّع الانهيار. فقد بلغت حدّة الانكماش الاقتصادي الحقيقي المقدّرة في العام ٢٠٢٠ أكثر من ٢٥٪، وتقلّص حجم الناتج المحلي الإجمالي من حوالى ٥٠ مليار دولار في ٢٠١٩ إلى أقلّ من ٢٠ مليار. ترافق ذلك مع تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية الذي أدّى إلى تضحّم مفرط تخطّى عتبة الـ١٣٠٪ مؤخّرًا، وقد عزّزه استمرار مصرف لبنان بطباعة الليرة بشكل غير عقلاني. فاقم كل ذلك الأوضاع الاجتماعية المتردية أصلًا، فزاد من نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر من حوالى ٢٧٪ في العام ٢٠١٨ إلى أكثر من ٥٠٪ في العام ٢٠٢٠. من جهة أخرى، كان خيار الهروب إلى الأمام وعدم معالجة الخسائر الكبيرة في مصرف لبنان واستحداث عدة أسعار لسعر الصرف واستمرار العجوزات المالية (ميزان المدفوعات) والخارجية (موازنة الدولة)، (وإن تقلصت هذه الأخيرة على أثر الانكماش الاقتصادي)، السبب الأساسي وراء انخفاض السيولة من العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان أكثر من ١٢ مليار دولار، ما يضع المجتمع والاقتصاد اللبناني في وضعية هشة تهدد أمنه.
لذا من الأهمية بمكان أن تعلن الحكومة المقبلة فورًا حال طوارئ اقتصادية تنطلق من مبدأ أنّ المخاطر الاقتصادية والمالية والنقدية المحدقة بلبنان تهدد أمنه القومي والاجتماعي، وقد جاء انفجار المرفأ ليعظّم هذه المخاطر ويفاقمها إلى حد كبير. لذا يجب الابتعاد عن سياسة تضميد الجروح، وكسب الوقت، وإلّا بقينا لعقود نعتاش من فتات المساعدات الدولية في حالة من الاهتراء والموت البطيء تهدد السلم الأهلي وتهجّر من تبقّى من اللبنانيين.
أما بالنسبة إلى مسار الحلول لوقف الانهيار الحاصل، فعلينا أن نعمل على مستويين إثنين في العام ٢٠٢١:
المستوى الأول هو وقف النزيف، وذلك عبر: (١) قوننة القيود على رأس المال بشكل يجعلها شاملة وغير استنسابية، ويتمّ تطبيقها بصرامة شديدة وعبر آلية شفافة. (٢) حماية السيولة المتبقية من العملات الأجنبية وإدارتها بطريقة استراتيجية وفق أولويات، وذلك عبر إعادة النظر بسياسة الدعم القائمة التي تشجّع التهريب وتؤدي إلى خسارة المزيد من الدولارات؛ والعمل على توحيد الأسعار المتعددة لسعر الصرف. (٣) إنشاء خلية لإدارة الأزمة من ذوي الكفاءة الملمّين بالواقع اللبناني ولديهم الخبرة في التعاطي مع المؤسسات الدولية والأسواق المالية. (٤) فتح قنوات الاتصال مع المجتمع الدولي لتأمين تمويل استثنائي لرفد القطاع الخاص بالسيولة والحد من إفلاس الشركات وخسارة الوظائف للبنانيين واللبنانيات، وذلك بالتوازي مع بدء تطبيق الإصلاحات.
أما المستوى الثاني فهو التصحيح المالي وإعادة هيكلة الاقتصاد عبر تنفيذ برنامج متكامل للاستقرار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي يسمح باستعادة النمو وخلق الوظائف بدل تدميرها. ويكون ذلك عبر صياغة عقد اجتماعي جديد يتمّ على أساسه إعادة بناء دولة قادرة وعادلة تحمي جميع مواطنيها، وتسمح ببناء نموذج اقتصادي جديد يبنى على ميزات لبنان التفاضلية، ولاسيما كفاءة عنصره البشري وعمقه الاغترابي. وفي المرحلة المقبلة لا بدّ من التركيز أولًا على الأهداف الآتية للنهوض:
- حكم القانون والحوكمة الرشيدة كركيزة لأي عملية إنقاذ، ولاستعادة الثقة بالدولة والاقتصاد عبر إيلاء الأولوية لأطر قانونية ومؤسسية تضمن استقلالية القضاء والمساءلة ومنع تضارب المصالح، والشفافية ومكافحة الفساد عبر منظومة شراء عام شفّافة وعصرية، وتشجيع المنافسة ومنع الاحتكار.
- الخروج من فخّ المديونية عبر إعادة هيكلة عميقة للدين العام (خفض نسبته إلى ٧٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية هذا العقد) وانتهاج سياسة مالية توائم بين متطلبات النمو والعدالة الاجتماعية. إنّ ذلك ضروري للتخفيف من حدّة تدهور سعر الصرف وتوسيع المساحة المالية لدعم الاستثمار وتطوير سياسات الحماية الاجتماعية. ليس الهدف خفض الإنفاق الأوّلي بشكل عشوائي، بل تحسين كفاءته والحدّ من الهدر عبر إعادة هيكلة القطاع العام ومؤسساته (بما فيها مصرف لبنان ومؤسسة كهرباء لبنان) ومعالجة خسائرها وزيادة الشفافية بإدارة المرافق العامة واستثمارها، كما وزيادة الإيرادات عبر وقف التهرّب الضريبي وسياسة ضريبية أكثر عدالة.
- اعتماد سياسة نقدية توائم بين متطلبات استقرار الأسعار وضرورة تصحيح الاختلالات الخارجية بشكل يعزّز تنافسية الاقتصاد ويدعم النمو عبر التصدير.
- إعادة رسملة القطاع المصرفي وهيكلته لكي يكون بميزانيته النظيفة وحجمه المناسب (نسبة إلى الناتج المحلي) رافعة لتمويل الاقتصاد، على أن توزّع أعباء إعادة هيكلة الدين واستيعاب خسائر مصرف لبنان بشكل عادل يحمي صغار المودعين ويستعيد العوائد المضخّمة.
- تفعيل الأسواق المالية وتحديثها لشحذ رؤوس الأموال وتوسيع مشاركة القطاع الخاص في عملية بناء البنى التحتية وتحديثها ضمن أطر ناظمة تعزّز المنافسة.
- تطوير سياسات العمل والحماية الاجتماعية ضمن أطر تمويل مستدامة، بما يشمل تحسين استهداف شبكات الأمان للفئات الأكثر تهميشًا، إصلاح الضمان ومنظومة التقاعد وتقديمات البطالة، وتطوير نظام التغطية الصحية ورفع مستوى التعليم الرسمي.
- تحديث الإدارة العامة للارتقاء إلى منظومة خدمة عامة كفوءة وفعّالة، تنظّم عمل القطاع الخاص ولا تقف عائقًا أمامه، وتخضع للمساءلة والمحاسبة على أدائها، وتعتمد نظمًا رقمية.
- إعادة صياغة علاقات لبنان الخارجية ومراجعة الاتفاقيات التجارية بشكل يعزّز مصالح لبنان الاستراتيجية ببعدَيها السياسي والاقتصادي.
هذه هي الحلول وإلا...
الدكتور إيلي يشوعي (خبير اقتصادي):
شهد العام أحداثًا جسيمة يمكن تلخيصها بأربعة:
١- توقّف الدولة عن سداد دينها الخارجي، علمًا أنّه كان بإمكان الحكومة شراء سندات اليورو بوند هذه بأقل من قيمتها بـ٤٠٪. وبقرار وقف الدفع، اختارت الحكومة إعلان إفلاسها ووضع لبنان في عزلة مالية ودولية، وإسقاط صدقيّته المالية العالمية، التي حافظ عليها منذ الاستقلال ولغاية تاريخه. ولكنّها في المقابل سمحت بهدر ٧ مليارات دولار ضمن سياسة الدعم الذي استفاد منه بشكل كبير الأجانب المقيمون على الأراضي اللبنانية والتجار والمهرّبون.
٢- توقّف المصارف عن الدفع، وتحويل ودائع الزبائن إلى شيكات مصرفية أصبحت غير مقبولة اليوم من الجميع، كما أنّ قيمتها الحقيقية هي ثلث القيمة المدوّنة عليها، وبالتالي لم يعد الشيك وسيلة للدفع كما كان في السابق. وهذا يعني عمليًا، إخضاع المصارف لقانون ٢/٦٧ أي إخضاعها للجان بغية تصفيتها.
والمشكلة هنا هي في إخضاع هذه المصارف لإغراءات البنك المركزي المتكررة، وآخرها كان تجريد المصارف ممّا تبقى لديها من سيولة مودعة خارج لبنان، حين وعدها بفوائد تراوح بين ٨ و١٠٪ ، بعد أن كانت تستفيد عليها بفوائد متدنّية تبلغ نصف ٪.
٣- التدقيق المالي الجنائي المستحيل تحقيقه في لبنان، نظرًا لعدم استقلالية القضاء، وخير دليل على ذلك، ما نشهده في مسار التحقيق في قضية انفجار المرفأ، إذ إنّه يخضع لاعتبارات طائفية ومذهبية ووظيفية.
٤- قضية الدعم وأموال المودعين التي بقي منها ١٨ مليار دولار في البنك المركزي. فمن الأجدى إعادة هذه الأموال إلى أصحابها عبر المصارف، وهكذا ينخفض سعر صرف الدولار، لأنّ الطلب عليه سوف ينخفض نتيجة توافره بين الناس.
إنّ الحلّ لمعضلة الدولار هو ترك السوق يحدّد السعر نفسه بنفسه وفق قاعدة العرض والطلب، وتعيين حكومة من وزراء اختصاصيين أكفّاء أصحاب أيادٍ نظيفة، وتطبيق اللامركزية الإدارية، واللجوء إلى التلزيمات الدولية في مجالات الكهرباء والهاتف… وإلا فعلى البلد السلام، فهو سائر نحو الانحدار بسرعة قياسية.
لا للمسّ بالاحتياطي الإلزامي والذهب
الدكتور أنيس بو دياب ( أستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية - الفرع الرابع، وعضو هيئة مكتب المجلس الاقتصادي والاجتماعي):
كان العام ٢٠٢٠ مليئًا بالمحطات الاقتصادية الصعبة، أولى هذه المحطات تشكيل حكومة لم تحصل على الثقة المحلية والعربية والدولية، بل نالت ثقة هزيلة من المجلس النيابي. وقد طلبت هذه الحكومة مهلة مئة يوم كي تقوم بصياغة خطة تعافٍ اقتصادية. وللغاية وقّعت عقدًا مع شركة لازار للاستشارات المالية، وبعد استشارة عدد كبير من المعنيين، امتنعت عن تسديد المستحقات من سندات اليورو بوند في آذار الفائت.
المشكلة ليست بعدم الدفع، بل في عدم الدخول بمفاوضات مع الدائنين، وهذا الأمر عادة ما يسيء إلى سمعة الدولة. وجدير بالذكر أنّها المرة الأولى التي يتخلّف فيها لبنان عن دفع مستحقاته.
بعد ذلك واجهت الحكومة جائحة كورونا التي أربكت عملها، فإقفال البلد مع المطار يكلّف الدولة خسارة نحو ١٢٠ مليون دولار يوميًا، هذا عدا عن الخسارة الفادحة في الناتج المحلي، ما أدّى إلى تراكم الأزمات الاقتصادية. وقد أضيف إلى ما سبق الانهيار الكامل للعملة الوطنية مقابل سعر صرف الدولار الأميركي الذي ارتفع بشكل جنوني لامست مستوياته الأربعة آلاف، إثر توقف المصارف عن تلبية طلبات الزبائن.
في شهر نيسان وضعت الحكومة خطة التعافي، وشكّلت وفدًا للتفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج دعم. ولكن كان للأطراف المشاركة في المفاوضات وجهات نظر متناقضة. ففريق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة كان متحمسًا جدًا لخطة التعافي التي قدمتها لازار، في حين أنّ فريق وزير المالية وحاكمية مصرف لبنان لم يكن متحمّسًا لهذه الخطة، ولا سيّما لناحية الخسائر، بحيث أنّ كل طرف يحملها للطرف الآخر، ويتهمه بسوء إدارة الملفات المالية والإدارية للبلد.
أدى فشل المفاوضات مع الصندوق الدولي إلى انهيار كبير في سعر الصرف بين شهري حزيران وتموز، لامست مستوياته العشرة آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد.
بعد فشل المفاوضات مع صندوق النقد، أعيد النقاش بهذه الخطة بين الحكومة واللجنة المالية البرلمانية لجهة عدم القبول بهذه الخسائر. وظهرت الفروقات بأرقام الخسائر مجدّدًا، بحيث أنّ الحكومة قدّرت خسائر الاقتصاد بـ٢٤١ مليار ليرة لبنانية، بينما قدّرتها اللجنة البرلمانية بـ١٠٤ مليار ليرة لبنانية، أي بفارق ١٤٠ مليار، وكان هذا كفيلًا بنسف خطة التعافي الاقتصادية، وبتأخير تنفيذ خطة الدعم الدولي للبنان.
بعد ذلك، حلّت الكارثة الكبرى على لبنان وهي عملية تفجير المرفأ في الرابع من آب، التي ذهب ضحيتها أكثر من مئتي ضحية وآلاف الجرحى والبيوت المدمّرة، إضافة إلى دمار شبه شامل للمرفأ الذي يعتبر العصب الأساسي للاقتصاد الوطني. وقد قدّر صندوق النقد الدولي قيمة خسائره بـ٨,٢ مليار دولار أي ما يساوي ١٧٪ من الناتج المحلي الإجمالي بناء على أرقام ٢٠١٩. بالتالي، من غير الممكن تعويض هذه الخسائر بشكل سريع. وإثر هذه النكبة، استقالت الحكومة، ومنذ ذلك الوقت، بتنا نعيش في دوّامة تشكيل الحكومة على الرغم من المبادرات الساعية إلى ذلك.
وجدير بالذكر أنّ لبنان لا يعاني فقط أزمة انهيار مالي، بل أزمة اقتصادية ونقدية على حدٍّ سواء وفق صندوق النقد الدولي. فقد خسر الاقتصاد نصف ناتجه المحلي، ونصف قوته العاملة، وبات يُعتبر أدنى ناتج محلي في اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط.
خسائر القطاع التجاري وصلت إلى ٥٠٪، القطاع الفندقي خسر نصف مؤسساته (انخفاض عدد المطاعم والسناك من ٨٠٠٠ إلى ٤٠٠٠). وارتفعت نسبة البطالة من ٢٣٪ إلى ٤٤٪ هذا العام، إضافة إلى تسجيل عجز كبير في ميزان المدفوعات بلغت قيمته ٩ مليارات دولار أميركي، على الرغم من تراجع قيمة الواردات من ٢٠ مليار دولار إلى ١١ مليار دولار، كما أنّ نسبة الصادرات لم تتحسن.
تكمن الخطورة في ضرب القطاعات الأساسية للاقتصاد اللبناني (القطاعات الفندقية، والمصرفية والتربوية والاستشفائية...)إذ إنّها باتت تئنّ من الشلل النصفي وتعمل بنصف طاقتها الإنتاجية.
على الرغم من سوداوية المشهد، يمكن للاقتصاد الوطني الخروج من هذا النفق المظلم، وذلك من خلال التضحيات الكبيرة والإرادة الوطنية الجامعة، التي يمكن أن تتجلى بحكومة مستقلة، تتمتع بصلاحيات استثنائية بعيدة عن المحاصصة، تضع نصب أعينها التفاوض الفعلي مع صندوق النقد الدولي لتعويض شحّ الدولار، ما يعيد الثقة بالاقتصاد، ويؤمن الاستقرار الداخلي من خلال إعادة هيكلة المجالس الإدارية للقطاع المصرفي.
في هذا الإطار ثمة حاجة إلى عدة قوانين خاصة بـCapital Control وإدارة السيولة، وبالمشتريات العامة، فضلًا عن تطبيق القوانين المرعية الإجراء في الهيئات الناظمة، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP... والأهم من كل ذلك، إجراء التدقيق الجنائي (ابتداءً من المصرف المركزي مرورًا بجميع المؤسسات العامة والوزارات والصناديق والمجالس) الذي يحدد المسؤولية وقيمة الخسائر، ونجاح هذا التحقيق يحتاج إلى استقلالية القضاء.
إنّ نسبة الفقر في لبنان اليوم هي ٥٠٪ وفق صندوق النقد الدولي، وإذا رُفع الدعم عن بعض الأصناف سيؤدي ذلك إلى رفع النسبة بوتيرة سريعة قد تصل إلى ٧٠٪، علمًا أنّ الدعم بالطريقة التي نُفّذ فيها أثبت فشله، فالمستفيدون منه ليسوا فقط ذوي الدخل المحدود، بل إنّه يطال المهرّبين والتجار بنسبة ٧٠ في المئة. وبالتالي لا بدّ من رفع الدعم، ووضع سياسة جديدة لدعم العائلات الأكثر فقرًا، من خلال برنامج مع البنك الدولي الذي أصبح شبه جاهز.
يحتاج لبنان اليوم إلى حكومة، لأنّها تشكل نقطة الارتكاز للخروج من الأزمة، ولا سيّما أنّ حجم الاحتياطي الإلزامي أصبح محدودًا ويجب عدم المسّ به أو باحتياطي الذهب، لأنّهما مع بعض المؤسسات الأخرى في الدولة اللبنانية، يشكلان نقطة الارتكاز لإعادة النهوض بالاقتصاد الذي يحتاج إلى خطة تفوق مدتها الثلاث سنوات وترتكز على ثلاث نقاط رئيسية، هي: الإصلاح Reform، الإنعاش Recovery، وإعادة إعمار بيروت Reconstruction.
ربما نصل إلى طريق التعافي ولكن...
سابين عويس (رئيسة جمعية الإعلاميين الاقتصاديين):
يمكننا وصف العام ٢٠٢٠ بـ«عام الانهيار والإفلاس»، نظرًا لتخلّف لبنان عن سداد ديونه باليورو بوند في آذار الفائت. لقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية في آواخر العام ٢٠١٩ جراء فقدان السيولة بالدولار الأميركي في الأسواق، وعجز المصارف عن تلبية زبائنها، وعن التعامل مع الأزمة ومواجهتها بحكمة ومهنية. وقد ترافق ذلك مع تدهور سعر صرف الليرة. ولم تُتخذ أي إجراءات لوقف هذا التدهور والمسار الانحداري، ما أدّى إلى ارتفاع جنوني بأسعار السلع، في حين كانت السياسة النقدية للحكومة تصرّ على حماية سعر الصرف وتثبيت سعر النقد. وجدير بالذكر هنا، أنّه على الرغم من أنّ أزمة السيولة أسهمت في تخفيض فاتورة الاستيراد إلى النصف، إلا أنّ هذا الأمر لم يُسهم في تخفيض نسبة العجوزات في ميزان المدفوعات، بحيث بلغ العجز التراكمي حتى نهاية هذا العام ١٢ مليار دولار، وهذا ناتج عن تراجع التحويلات والتدفقات المالية من الخارج.
تعاني جميع القطاعات (المصرفية والسياحية والتجارية والتربوية) من أزمة حادة، وقد شهدنا عمليات صرف جماعية للموظفين والعاملين، ومزيدًا من التدهور في الأسعار... وأظهرت المؤشرات الدولية أنّ نسبة الفقر في لبنان قد تخطّت الـ٥٥٪.
إنّ تراجع الناتج المحلي إلى أقل من النصف، وجائحة كورونا التي أسهمت بارتفاع نسبة البطالة جراء الحجر وإقفال المؤسسات، وتراجع النشاط الاقتصادي، وانعدام الثقة على مختلف المستويات، أدّى إلى غياب أي إنفاق استثماري جديد، وحلّت النكبة الكبرى مع انفجار الرابع من آب.
وفي التوصيف الأخير للعام ٢٠٢٠ أنّه عام «الخيبة» التي أصابت جميع اللبنانيين نتيجة الإهمال، والتراخي وقلة مسؤولية السلطة السياسية في طريقة تعاملها مع الأزمات الاقتصادية وحالة الإنكار، على الرغم من سخط الشارع وثورته المحقة ضد الفساد والإهمال في ١٧ تشرين ٢٠١٩.
وخيبة الأمل تتجلى مع بروز مؤشر خطير، وهو البطالة التي باتت تشكّل ثلث القوى العاملة، وإفراغ لبنان من كفاءاته، بسبب الهجرة، بحيث تشير الأرقام إلى أنّ ٦٠٠ ألف طلب هجرة سُجّلت في السفارات... وهذه الارتدادات الخطيرة على مختلف الصعد التي شهدها العام ٢٠٢٠، سوف تترك آثارها في العام ٢٠٢١.
لقد مرّ لبنان بأزمات كبيرة، ربما أقل خطرًا من الأزمة الحالية، وتمكّن من التعافي، وربما نصل إلى طريق التعافي بجهود استثنائية، ولكن المخيف اليوم يتمحور حول شقّين:
- عدم وجود أي مؤشرات تُظهر النوايا الجدّية لوقف النزيف ووضع حدّ للانهيار ومنع الارتطام بقعر الهاوية، على صعيد تشكيل حكومة، أو على صعيد عمل حكومة تصريف الأعمال وذلك يشمل معالجة الملفات المالية، والصحية (كورونا)، والتجارية، والاقتصادية والاجتماعية بالمسؤولية والوعي الكافيين للتخفيف من حدّتها في المستقبل...
- فقدان لبنان لدوره النموذجي الذي تألّق به على مدى عقود في محيطه العربي ( تجاريًا وماليًا وسياحيًا)، إذ كان صلة الوصل بين الشرق والغرب. حاليًا، نرى البلدان المجاورة تأخذ هذا الدور الخدماتي نتيجة التطبيع الحاصل مع إسرائيل، على جميع الصعد الخدماتية، السياحية والمصرفية. والمؤسف أنّ السلطة لا تدرك أهمية خسارة هذا الدور النموذجي، ولا أحد يسأل «أي لبنان نريد»؟.
الحلول اليوم هي تشكيل حكومة مؤلفة من الاختصاصيين الكفوئين، بعيدة عن الحسابات السياسية وقادرة على التعاطي مع الملفات الشائكة، وتحظى بثقة الداخل والخارج…
في النهاية، يبدو أنّ القراءات في وقائع العام الكارثي لا تختلف كثيرًا، أما اقتراحات الحلول لوقف الانهيار فهي وإن تباينت، تجمع على مقولة محورية مفادها أن ما من مشكلة إلا ولها حل. فالنهوض ممكن، المهم هو توافر إرادة حقيقية للإصلاح لدى جميع المعنيين.