- En
- Fr
- عربي
الاستقلال في الذاكرة
في 22 تشرين الثاني من العام 1943 نال لبنان استقلاله، لكنّ وحدات الجيش اللبناني ظلّت في عهدة سلطات الانتداب، إلى أن تسلّمتها الدولة اللبنانية في الأول من آب 1945.
في ذلك العام، احتفل اللبنانيون بذكرى الاستقلال مع جيشهم، واحتشدوا لمشاهدة أول عرض عسكري يقدّمه، وصفّقوا له بالأكُف وبالعيون الدامعة فرحًا. ومنذ ذلك اليوم، بات العرض العسكري تقليدًا سنويًا لم يغب إلّا في ظروف استثنائية.
وقائع الاحتفال وصفتها صحيفة «النهار» آنذاك فقالت:
عشية العيد، ازدانت واجهات السراي ودوائر الشرطة والقصر البلدي بالأعلام اللبنانية وبالأنوار البيضاء والحمراء... ولبست البنايات المحيطة بساحة الشهداء حلّة قشيبة من الأعلام وسعف النخيل، كما ازدانت الشوارع الرئيسية في المدينة بالأعلام اللبنانية. ومنذ الساعة السادسة بدأت الجماهير تحتشد على الأرصفة كما الشرفات والنوافذ، لمشاهدة طواف الجيش بالمشاعل.
عند الساعة السابعة والنصف خرجت بعض قطعات الجيش من الثكنات، تتقدمها الدراجات البخارية، فحمَلة المشاعل، فموسيقى الدرك، تتوسطها أرزة صناعية تألقت الأنوار على أغصانها يحيط بها قسم من حمَلة المشاعل، فموسيقى الجيش، فحمَلة المصابيح، وسارت إلى قصر الرئاسة، وكان الأهلون يستقبلون هذا المنظر بالابتهاج والتصفيق.
وأمام القصر أطلّ فخامة الرئيس (بشارة الخوري) فاستقبلته الموسيقى بالنشيد الوطني، وطلب فخامته قائد المفرزة إلى القصر وصافحه.
وتابع الموكب سيره إلى ساحة الشهداء ووقف أمام السراي فاستقبله الأهلون بحماسة نادرة، وراحت موسيقى الجيش والدرك تتناوبان عزف الأناشيد. وحوالى الساعة الثامنة والنصف غادر الموكب الساحة عائدًا إلى ثكناته.
صباح العيد
كان يوم الخميس (صباح العيد)، يومًا مشهودًا في تاريخ البلاد الحديث، فقد بدأ الأهلون منذ الباكر يزحفون إلى ساحة الشهداء، يحتلّون الشرفات ونوافذ البنايات المحيطة بها والطرقات المؤدية إليها...
أقفلت بيروت تلبية لنداء جمعية التجار، وغصّت الأرصفة بتلامذة المدارس الرسمية والأهلية. كما بدأ المدعوون منذ الساعة الثامنة يفِدون إلى السرادق يعتلون المنصة التي أُعدّت خصيصًا لهذه الغاية.
العرض العسكري
... ثم بدأ الاستعراض، وأول من أطل من الجنود مفرزة تحمل علم الجيش المقصّب تتقدمها الموسيقى، فوقف الناس احترامًا للعلم المفدّى وتعالت الهتافات ودوّى التصفيق يشق عنان السماء.
وتبعته قطعات الجيش وفق البرنامج الذي وضعته القيادة العليا. من بينها قطعة القنّاصة اللبنانية التي تسير أمامها عنزتها المحبوبة، والفرق الخاصّة، والحرس الوطني يحملون الألوية على الرماح، ووحدة الرشاشات، فوحدة الفرسان وقد صفّت خيولها صفوفًا بيضاء وحمراء تمثل العلم اللبناني، فرجال الدرك، فالشرطة.
الآليات تحمل أسماء جبال لبنان وأنهاره
مرت الوحدات الآلية تتقدمها سيارات اللاسلكي، فسيارات الدفاع ضد الطيران، فالدراجات البخارية، فالدبابات فالسيارات المصفحة، وقد كُتب على كل منها اسم جبل من جبال البلاد: هذا جبل صنين يمرّ ويلحق به جبل الشيخ، فجبل عامل، فجبل الأرز، فنهر الباروك، فنهر الصفا، فنهر إبراهيم، وغيرها من جبال البلاد وأنهارها وأماكنها التاريخية.
وسارت وراءها سيارات الإطفائية بنظامها البديع رغم قِدَم معداتها التي تتطلب التجديد.
ويعجز القلم عن وصف شعور الناس في أثناء الاستعراض. فقد كانت عيونهم تدمع سرورًا وقلوبهم تنبض استبشارًا بهذا الجيش البديع التنظيم...
محطات بارزة في الاستقلال
• في العام 1945 شاهد اللبنانيون جيشهم لأول مرة في استعراض عسكري جميل أُقيم في ساحة الشهداء، صفقوا له بقلوبهم ودمعت عيونهم فرحًا واعتزازًا، والعلم اللبناني يرفرف وحيدًا وعاليًا بعد الاستقلال.
• تميّز احتفال العام 1946 بعيد الاستقلال بالعرض العسكري الكبير الذي جرى في ساحة الشهداء. وقبل ليلة العيد، ارتفعت الزينة على المباني الرسمية، وطافت فصائل من الجيش في شوارع العاصمة حاملة المشاعل تتقدمها موسيقاها، ومن الزينة التي استرعت الانتباه أرزة صُنعت بالأنوار الكهربائية ورُفعت فوق ثكنة الأمير بشير. ووصف المدعوون الأجانب العرض بأنّه يضاهي العروض التي تقوم بها أعرق الجيوش في أرقى البلدان.
• في العرض الذي قدّمه الجيش في العام 1951، لفتت الأنظار فرقة المتزلجين بألبستهم البيضاء وأدوات التزلج وأسلحتهم الخفيفة. وبلغ حماس الجمهور أشده عندما مرّ سرب من القاذفات وآخر من المطاردات فوق رؤوس المشاهدين. والمعلوم أنّ سلاح الطيران اللبناني في الخمسينيات كان الأقوى بين أسلحة الطيران في العالم العربي والشرق الأوسط.
• في 23 تشرين الثاني من العام 1953 كان عيد الاستقلال مميزًا، إذ جرى عرض عسكري في شارع فؤاد الأول قامت به وحدات من الجيش اللبناني، وشاركت في العرض للمرة الأولى طائرات لبنانية نفّاثة وبحّارة لبنانيون، ما أجّج الشعور الوطني في نفوس المواطنين، وأثّر فيهم أبلغ التأثير. ولعل ما جاء في افتتاحية لسان الحال في اليوم التالي من الاحتفال، تعبير صادق عما كان يجول في خاطر كل لبناني مخلص، فكتب المحرر يقول: «شهد المحتفلون بعيد الاستقلال يومها العرض العسكري الرائع الذي دلّل على أنّ الجيش اللبناني هو حقًا راية الاستقلال وعزّته وفخاره... وإذا كانت مهمة جيشنا الباسل هي أن يدافع عن الحدود وأن يملي مهابته على اللبنانيين... فإنّ مهمة اللبنانيين أجمعين هي الدفاع عن حدود الوطن المعنوية بصيانتهم ميثاقه المقدس...».
• في ليلة عيد الاستقلال من العام 1957، طافت عناصر من الجيش اللبناني بالمشاعل في شوارع العاصمة. وفي اليوم التالي نظّمت وحدات الجيش عرضًا عسكريًا شاركت فيه عربات تمثّل مشاهد منوعة من التراث اللبناني: سيارة تجري على ظهرها مباراة في لعبة السيف والشيش، وأخرى تمثل قلعة راشيا، وثالثة تجري عليها رقصة الدبكة....
• في 22 تشرين الثاني من العام 1959 كان الجيش قد نما عديدًا وعدة، ونظّم أكبر استعراض قام به. فالعرض العسكري الذي جرى في شارع فؤاد الأول كان أضخم عرض شهده لبنان منذ فجر استقلاله. وكانت القطع والوحدات تمر أمام منصة الرئيس فؤاد شهاب بانتظام بديع. وكانت الأعلام في الطليعة: الجيش والدرك والشرطة والمدرسة الحربية ومن ورائها «القلابق البيض» لتطلّ بعدها فرقة التزلج ببزتها البيضاء، ويحمل كل فرد منها عتاد التزلج، وبينهم أمهر المتزلجين في لبنان والعالم. وبعد علم الحرية أطلت صفوف البحّارة اللبنانيين، ثم الطيارون. وحين أطل المشاة كانت عنزة الفوج الأول تتصدر الصفوف بخطى ثابتة «وقد ارتدت علم الفوج سروالًا. وبانتظار وصول السلاح الآلي كانت تتقدم نحو المنصة سرية لاسلكي المشاة، ثم تتابعت سرية الهاون وسيارات الفوج الكشاف والجيب يحمل مدافع 106 وأخيرًا فصائل من المدفعية والمدرعات وسلاح الهندسة».
• في الستينيات توالت الاستعراضات والاحتفالات تبعًا للنمط الذي استمر في ما بعد وما زال حتى اليوم. مع الفارق الذي نلاحظه في أسماء القطع والوحدات تبعًا لنموّ الجيش وتطوّر أسلحته.
• ففي العام 1960 وللمناسبة نفسها أوردت جريدة «العمل» افتتاحية تحت عنوان «بوركت يا يوم الاستقلال» وممّا جاء فيها: «للعيد كل عام نكهة، وكل عام للناس إليه نظرة، ليس لأنّ العيد يتغيّر معناه، ولكن لأنّ معالمه تتوضح، وتتراءى أبعاده».
«... سِيروا يا جنود لبنان، صفوفًا، صفوفًا، أضيئوا بالمشاعل ظلمة الليل، ارفعوا البنود، وردِّدوا شعارات الوطنية والبطولة.
اخترِقوا الشوارع بأيديكم المرفوعة بالنور الهادي، وحرِّكوا في قلوب الشعب مشاعر العزة والكرامة».
«ممجَّدة هي صفوفكم، وأنتم تسيرون بخطى واثقة، مطمئنة، مؤمنة...».
«جميلة هي تقاليدك يا جيش لبنان المفدى لأنّك منذ كنت، كنت عنوانًا للبسالة، ودرعًا للاستقلال، ومجالًا لخدمة الوطن، والوفاء له...».
بدورها، كتبت جريدة «الأنوار» في عددها الصادر في 23 تشرين الثاني من العام نفسه، وفي ذكرى الاستقلال تقول: «يحتفل اللبنانيون في هذا اليوم البهيج بِعيدَين مندمجَين في عيد واحد، هما عيد الوحدة الوطنية وعيد الاستقلال».