- En
- Fr
- عربي
ثقافة و فنون
مشكلة الألم ملازمة لوالدتها مشكلة الشر لزوم غصن الصفصاف الباكي لأمه الشجرة، وقد شغلت مشكلة الشر عقول عباقرة الفكر وأعلام المعرفة منذ فجر التاريخ، وستظل كذلك حتى يتلاشى آخر دماغ في آخر جمجمة على وجه الأرض. ومشكلة الألم من المشكلات الكونية، بل هي مشكلة الإنسان الكبرى. فمن الناس من يقودهم الألم الى الكفر والزهد بالحياة، ومنهم من يشكل لديهم حافزاً لحب الحياة وللعطاء والإبداع. وكما رحب فريدريك نيتشه بالألم، فإن الشاعر بولس سلامه تآخى مع ألمه الذي لم يثنه عن الإبداع الشعري، فكيف كانت رحلته مع الألم؟
الروحانيات والواقع المادي
لقد حاول بولس سلامه تلطيف مأساته بأن خلع عليها بعض ألوان المهزلة لسببين: أولهما اجتناب الحديث المتشابه والنغم الواحد، وثانيهما مطاوعة الحياة في جدها وهزلها، وإن هي إلا هزل وجد.
إن اليد التي أدارت قلم شاعرنا هي التي اشتعلت عروقها، فجرى دمها فائراً حميماً، وغدا كل مفصل منها جحيماً. وحين أطل في بعض المراحل على الروحانيات استهدف من وراء ذلك نفع الأشقياء ضحايا الألم أمثاله، ويقول بولس سلامه: «ولا تسل عن غبطتي الروحية في هذه الهنيهة التي انتقل فيها الخيال، في شبه رؤيا، الى المستشفيات ومنازل الفقراء والمتألمين الذين نبذتهم الحياة عن مائدتها السمحاء نبذ اليتامى الضعفاء، وكأني بهم يقولون ما معناه: ربنا الحمد لك الحمد على المكروه، فلقد تروى قبلنا في لجة الشقاء رجل، ونحن لم نزل على الشاطئ لم تبتل أقدامنا بعد»، وهذا الرجل الذي تردى في لجة الشقاء هو شاعرنا بولس سلامه نفسه.
مشكلة الألم
في اعتقاد بولس سلامه أن المتفائلين زعموا أن هذا العالم على ما فيه من شر وصفحات سوداء هو أفضل العوالم الممكنة، فليس في الإمكان أحسن مما كان، ولا غرو أن ينبت بجانب القمح الزوان. وقالوا إن الشر ليس إيجابياً، ولكنه نقص في الخير كما أن العمى نقص في النظر، وقالوا إنه قد ينجم الخير عن الشر بإذن الله المحيط بالعلل والغايات. وقد يكون الألم الذي يعتبره الناس شراً منبتاً للخير، فلولاه لما اهتدى الطبيب الى مكمن الداء فاستأصله، ولولا الشعور بالبرد لما ابتدع الإنسان الكساء. ويستشهد سلامه بأراء زعيم المتشائمين الفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور ثم يقول: «فالألم واقع لا ريب فيه، ومن أنكره فقد أنكر الشمس في الظهيرة، وأنه ليشتد حتى يخرج بضحاياه عن الصحو فيوحي إليهم ما أوحى إليّ في مقطع من قصيدتي النسر، حيث تغنيت بالعدم».
«يا خالق الإنسان كيف خلقته
من معدن دنس ومن أحقاد
أخلى من القفر الجديب فؤاده
وإذا يرق فرقة الجلاد
الوصل طبع أبيه فهو مغلف
بالطين بئس البرد في الأبراد
جسد وسفك دم وعين منافق
جاءت مع الدنيا على ميعاد»
ويتساءل شاعرنا: أيكون الألم هو الطريق الموصل الى الله، ويكون الإنسان بين حفتيها كما كان المسيح بين اللصين؟ مشكلة الشر والألم عقدة العقد، والألم يملأ معظم الحياة، سميت الشر نقصاً في الخير أو جعلته واقعاً إيجابياً، وسواء استقبلته أو فررت منه، فإن أفضل الحلول لعقدة الألم هي أولاً فكرة الصبر والإذعان. ويؤكد سلامه أن الحياة تغص بالألم، وإنما أفراحها الحقيقية للمختارين، والمختارون قلة. كذلك كانوا وكذلك يبقون، ولم تستطع المدنية تخفيف آلام البشر، بل ضاعفتها بما فتحت من أبواب الترف. ويقول «أن مشكلة الألم التي تفرعت على مشكلة الشر وقد استعصى حلها على غطرسة العقل لتخل وتذوب في هذه الدموع، التي كان مثلها الأعلى دمعتان: واحدة في بستان الزيتون وواحدة على جبل الجلجلة».
بداية الرحلة مع الألم
أصيب بولس سلامه بوعكة صحية: رأى الأطباء أن مبعث آلامه هو التهاب اللوزتين، فتم حرقهما بالكهرباء، ولكن الآلام لم تتوقف، وأخذ ينتقل من طبيب الى آخر، الى أن وصل أخيراً الى المستشفى، وأجريت له عملية استئصال الزائدة. ثم أجرى فحوصات عامة وصور أشعة، وجاءت النتيجة أن هناك تورماً بجانب مكان الزائدة، فعاد الى المستشفى حاملاً التقارير الطبية، وتركزت الظنون على وجود مرض السرطان، وخلال وجوده في المستشفى كان يشعر بأن التورم يكبر ويكبر، وأجريت له عملية جراحية، وعاد الى عمله بعد ثلاثة أشهر.
في عام 1939 نقل من زحلة الى بعبدا رئيساً للغرفة الجزائية، وقضى الصيف في قريته «بتدين اللقش» وعمد الى المقويات من دواء وطعام، وأكثر من الكالسيوم والفيتامينات حتى غدى بادناً نشيطاً. وباشر في بعبدا عمله، ولكن الألم لم يفارقه، فأشار الطبيب عليه بتصوير الجرح ليرى مبلغ التقدم، ويقول: «كان طبيبي يعتمد مصوراً يؤمن بعلمه ونفاذ بصره وبصيرته في القراءة والتأويل». بعد ذلك دخل المستشفى للمرة الثالثة وبقي نحو خمسين يوماً وجاءت التباشير ان العلة في اللحم، وأنها من النوع الذي يشفى باستعمال اليود. ولكن هذا أيضاً لم يجد نفعاً. بدأت معنوياته تضعف، ويقلق، ويطلب من يرشده الى حبل النجاة: «وأرشدني بعض إخواني الى طبيب حامل شهادة يضاف إليها معرفته بالطب العربي القديم، وكان ذلك مطلع عام 1940». وبعد أن فحصه قال الطبيب: ثمة دمّل في الكلية، وتطوّع لإجراء عملية لاستئصاله، فدخل المستشفى للمرة الرابعة. وأجريت له العملية الجراحية فتبيّن أن الكلية سليمة، وهنا وبعد هذه الرحلة مع الألم يقول:
بعد العملية، تعذّر عليه المشي بسبب انغراز ظفر إبهامه في اللحم في رجليه الاثنتين، وكان لا يعرف النوم تحت وطأة الألم الشديد فقال:
«أوّاه لو كان الرقاد يزورني
لا يلتقي جفناي إلا خلسة
لرضيت من دنياي بالإغفاء
فكأن بينهما قديم عداء»
ولقد لاحظ شاعرنا الجريح أنه عندما يبدأ الجسم بالتخدر يحس المريض بالإسترخاء فيشعر أن جسمه كان متقلصاً منكمشاً ثم تهدّل في لحظة والتصق ظهره بالمشرحة، متوهماً أنه كان بينه وبينها فاصل بعيد. انه تصوير رائع لوضعية المريض تحت تأثير المخدّر. ومنذ بلغ الرابعة والثلاثين ودّع شاعرنا صفو العيش الى غير رجعة، وقال: «غلّ العذاب قلمي قرابة عشر سنين، وقد ملأت الآلام ليلي ونهاري. وجع متقطع وسهد متقطع، وقلق دائم، ولعلك تقول أن الألم لم يشحذ العزائم، ويرهف الحس، ويقوّي الروح على الجسد فتنطلق القبّرة مغرّدة في صباح ربيعي، وهو قول صحيح من جهة، فاسد من جهة أخرى. أما صحته فعندما يكون الألم معنوياً ناجماً عن غرام مكبوت، أو عن تبرّم بجور جائر، أو يكون صدى لحزن وما شاكل ذلك من الجراح النفسية».
نفّس شاعرنا عن كربته وآلامه بالشعر، حيث تأكد أن لا خلاص له إلا بالقلم، فكتب يقول:
«يا موت يا حلم الخيال النائي
شوقي إليك أشد من غصص الهوى
في كل قطر منك غيث وأفق
ما الموت إلا رقدة سحرية
أبدية سكراتها فنعيمها
يا صبح آمالي وحلو رجائي
وأشد من ولع الهجير بماء
وضائع غر وكف سخاء
فحضرة الأحلام غب شتاء
أمواج لذات ومهد صفاء»
هكذا، أخذ يطلب الموت لينقذه من أوجاعه وآلامه، طلب الزاهد بمتاع الدنيا، للإندماج بالمطلق، حيث الراحة الأبدية.
وبعد أن عجز عن الحركة، وأصبح ملازماً الفراش مع آلامه خاطب ربه قائلاً:
«اللهم لئن شللتني عن الحركـة وعزلتني عن العالم الخارجي، فشلّ قلبي عن الخطيئة، واعزلني عن السيئات، وليكن هـذا المطهر اليسير بديلاً عن مطهرك العادل، فأكــون قــد أسلفت في هـذه الدنيا بعضاً من حساب الآخـرة، ولترجـح كفة الرحمـة على كفة العـدل».