- En
- Fr
- عربي
إلى الأمام
لا يذكر التاريخ الكثير من الجيوش التي صمدَت في مواجهة ظروف صعبة مثل تلك التي يواجهها الجيش اللبناني. فقد حالت المشاكل الدستورية والسياسية التي واجهها لبنان عبر العقود الماضية دون تطوير مؤسسات قوية وثابتة، ما أدى إلى ما نحن فيه. وعلى المستوى الاستراتيجي، فشلت السلطة السياسية حتى الآن في رسم استراتيجية وطنية دفاعية وأمنية تكون خارطة طريق لتوجيه الجهود وتطوير القدرات. وفي خضم هذا كله تبدو المؤسسة العسكرية وحدها كاستثناء.
ألقت الأزمات بثقلها على كاهل المؤسسة العسكرية كجزء من النسيج المجتمعي اللبناني الذي يعاني ما يعانيه ولا مَن يلتفت إلى أوضاعه. ولكنها أبت أن تستسلم للمعاناة. وانطلاقًا من السعي المستمر إلى التأقلم والحفاظ على الجهوزية، أصدرت قيادة الجيش النسخة الثالثة من خطتها الخمسية ٢٠٢٣- ٢٠٢٧ لتطوير قدراتها CDP III Capabilities Development Plan، واستراتيجية التواصل الاستراتيجي الخاصة بها للعام ٢٠٢٣، وذلك في حضور ملحقين عسكريين من مختلف الدول الصديقة.
«نحن نعتمد على ثقة المجتمع الدولي»
في مستهل الكتيب الخاص بإطلاق هذه الخطة، كلمة افتتاحية لقائد الجيش العماد جوزاف عون يتحدّث فيها عن حالة الانهيار التي يمرّ بها لبنان، ويقول: «تتطلب التحديات الاستراتيجية والعملياتية الجديدة الناشئة عن مثل هذه البيئة المتقلبة نهجًا استشرافيًّا يركّز على تعزيز قدرة الجيش اللبناني على الاستجابة للتحديات المعقدة ومتعددة الأوجه».
وبالحديث عن خطة تطوير قدرات الجيش اللبناني التي تمتدّ على مدى خمس سنوات، يقول العماد عون: «هي خطة مصممة لتعزيز قدرات الجيش اللبناني، استنادًا إلى بحث ودراسة مكثفة وطويلة ومعمقة يشارك فيها الضباط الأركان. جوهرها هو الرؤية الأمنية الاستراتيجية للجيش، والخدمات اللوجستية، والتدريب والاحتياجات التي من المرجح أن تنشأ في السنوات الخمس المقبلة. وتمكّن هذه الخطة الخمسية الجيش من الحفاظ على قدراته العملانية من أجل تنفيذ المهمات المذكورة أعلاه... وبالتالي الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار».
ويختم حديثه قائلًا: «نحن نعتمد على ثقة المجتمع الدولي، الذي يواصل دعمه للجيش اللبناني انطلاقًا من سجلّه الحافل بالإنجازات الجديرة بالثناء في مكافحة الإرهاب الذي يهدّد الاستقرار الإقليمي والدولي والتصدي لتهريب المخدرات. ونعرب عن امتناننا لمختلف الجهات الدولية التي تقدم للجيش اللبناني دعمًا لا يتزعزع لتنفيذ عملياته العسكرية والأمنية».
خطة متكاملة
نائب رئيس الأركان للتخطيط العميد الركن يوسف حداد شرح أمام الحضور أهمية هذه الخطة وما تتضمّنه من معلومات تشكّل مرتكزًا لتوجيه خطط دعم الدول الصديقة للجيش. وشرح أنّ خطة تطوير القدرات هي بمثابة الأساس الذي يُمَكّن الجيش اللبناني من تعزيز قواته وقدراته بشكل فاعل، من خلال تخصيص الموارد اللازمة لمواجهة التهديدات والتحديات الناشئة والاستجابة والاستعداد لها. وشدّد العميد الركن حداد على أنّ ما يميّز الخطة الحالية هو وضع نظام تقييم مؤسسي لمراقبة التغييرات التي قد تطرأ على الخطة واتخاذ الإجراءات اللازمة لتصحيح المسار وفق الأهداف المرجوة، فالمؤسسة العسكرية تقرّ بأهمية الشفافية كعنصر حيوي في الحكم الرشيد والمساءلة، وبالتالي أطلقت قيادة الجيش لجنة الدفاع لمكافحة الفساد للمساعدة في تطوير السياسات والإجراءات التي تعزز الشفافية والمساءلة والسلوك الأخلاقي.
وبدوره، شرح العميد بسام فهيم، رئيس مكتب تطوير القدرات العسكرية التابع لأركان الجيش للتخطيط، كيف تمّ تحضير النسخة الثالثة من خطة تطوير قدرات الجيش اللبناني وفق أربع مراحل:
- التخطيط الاستراتيجي.
- تخطيط الإمكانات وتحديد الثغرات.
- اقتراح الحلول.
- مشاركة الخطة مع كبار القادة.
تتألف الخطة من ٦ فصول:
١- تحليل البيئة الاستراتيجية وتأثيرها على العمليات: ويتضمّن هذا القسم الفرضيات الأمنية الإقليمية والدولية، والتحديات العملياتية التي قد نواجهها في السنوات الخمس المقبلة، ما يعطينا فكرة واضحة عن العمليات ونطاقها، وبالتالي يمكننا تحديد حاجاتنا في مجال القدرات والإمكانات والنتائج العملياتية المرجوة، ومن بعدها تحديد المتطلبات والقدرات المستقبلية.
٢- التقييم المؤسسي الأساسي: يتم هذا التقييم بالاستناد إلى ٣ خطوات هي، تخطيط الأهداف، مراقبة التغييرات اللازمة وتقييم النتائج المرجوة.
٣- الدعم الدولي: يُعد هذا الدعم الركيزة الأساسية لمساعدة الجيش اللبناني في الحفاظ على جهوزيته العملانية ومواجهة التحديات والبيئة الأمنية.
٤- تمويل الخطة: حددت الخطة مصدَرين للتمويل، الموازنة السنوية المخصصة لوزارة الدفاع الوطني (للرواتب والخدمات الاجتماعية والصيانة)، وقانون الموازنة (للعتاد والمنشآت).
٥- تصنيف القدرات بحسب الأفضلية وتقدير التكاليف: يتضمن هذا القسم ثلاث أولويات تتم دراستها وإعادة النظر فيها باستمرار، وهي:
- الأفضلية الأولى: الحفاظ على القدرات الحالية وتطويرها لضمان استمرارية تنفيذ الجيش للمهمات الموكلة إليه.
- الأفضلية الثانية: إنشاء قدرات جديدة ستكون ضرورية لمواجهة التحديات والتهديدات الناشئة، وهي مكمّلة للقدرات اللازمة ذات الأولوية الأولى.
- الأفضلية الثالثة: كل التعزيزات الإضافية التي من شأنها تحسين القدرات الحالية، ولكن عدم توافرها لن يؤثّر على تنفيذ المهمات الحالية.
٦- تصنيف الثغرات المؤسسية بحسب الأفضلية: والتي يتم تحديدها استنادًا إلى الترابط مع الوظائف الأخرى، والقدرة على حشد الموارد لسدّ الثغرات، وسهولة النهج أو الحل المُحتمل، واستعداد الجيش اللبناني للتطوير واستعداد الدول الصديقة للمساعدة.
استراتيجية التواصل
أُطلقَت أيضًا إلى جانب الخطة الخمسية لتطوير قدرات الجيش، استراتيجية التواصل الاستراتيجي الخاصة بالمؤسسة العسكرية. فقد وضعت مديرية التخطيط للتواصل الاستراتيجي استراتيجية لعمليات التواصل الخاصة بالمؤسسة العسكرية للعام ٢٠٢٣، والتي تحدّد الإطار العام للتواصل على مختلف المستويات، استنادًا إلى توجيهات قيادة الجيش، والتي تشكّل الركيزة الأساسية للرسائل الموجّهة من خلال النشاطات التي تُنفَّذ خلال هذا العام، إضافةً إلى الإحصاءات والدراسات على الأرض. هذه الرسائل موجّهة لدعم الأهداف والغاية النهائية التي تحدّدها القيادة، وعنوانها: الجيش اللبناني مؤسسة وطنية جامعة، متماسكة، شفافة، موضع ثقة الشعب اللبناني والمجتمع الدولي.
وشرح العميد الركن الياس عاد (مدير التخطيط للتواصل الاستراتيجي) أن تحقيق هذه الغاية يتم عبر أربعة خطوط جهد وأهداف محددة تنبثق من المهمات التي ينفذها الجيش، وهي: حماية لبنان وسيادته، وخدمة الشعب اللبناني، والمحافظة على التقاليد والقيم الوطنية والاستعداد للقتال.
خطة شجاعة توفّر إطارًا لصناعة القرار
على هامش إطلاق الخطة الخمسية للجيش اللبناني، كان لنا لقاء مع عدد من الملحقين العسكريين الحاضرين الذين أجمعوا على أهمية دور الجيش اللبناني، الذي يبقى المؤسسة الوحيدة التي تعمل بكامل طاقاتها والمسؤولة عن الحفاظ على الاستقرار والأمن في البلاد مع ما لذلك من أهمية على صعيد الاستقرار الإقليمي. وقد سألناهم عن تقييمهم لخطة الجيش وأهميتها لتعزيز قدرات المؤسسة العسكرية وجهوزيتها، بالإضافة إلى الخبرات والموارد التي يعتقدون أنّ بلادهم يمكن أن تدعم من خلالها نجاح هذه الخطة الخمسية، ورؤيتهم المستقبلية لتطبيقها في ظل التحديات والأزمات التي تواجه لبنان والمنطقة. وفي ما يأتي بعض الإجابات.
مساعد الملحق العسكري الروسي العقيد Yuri Anatolyevich Penkov يعتقد أن هذه الخطة ضرورية ومهمة جدًا لتعزيز قدرات الجيش اللبناني وجهوزيته، ويؤكد أنّ روسيا الاتحادية تستطيع أن تقدم الخبرات والدعم للجيش اللبناني في مختلف المجالات ولكن كخطوة أولى، يجب توقيع اتفاقية التعاون العسكري المتبادل بين البلدَين من أجل تفعيل هذه العملية. ويرى أنّ الجيش اللبناني هو من العناصر الأساسية التي تحافظ على استقرار هذا البلد، وبالتالي فإنّ تنفيذ الخطة الخمسية سيعزز قدراته على حماية مواطنيه من أي تهديدات داخلية أو خارجية.
الملحق العسكري لجمهورية صربيا، Lieutenant Colonel Vladan Reljin يجد أنّ خطة تطوير قدرات الجيش اللبناني مفصلة وشجاعة للغاية، وستشكّل تحديًا كبيرًا. وإذا وجدت قيادة الجيش الموارد اللازمة، ونجحت في تحقيق معظم أهداف هذه الخطة فإنّ ذلك سيسهم بشكل كبير في تعزيز القدرات العملانية للجيش، ويحسّن الوضع الأمني في لبنان.
وبحسب رأيه، يمكن للجيش اللبناني الاستفادة من التعاون والمساعدة الدوليين في كل المجالات المذكورة في الخطة، لكن يجب أن يركز أكثر على تعزيز قدرات القوات الخاصة والبحرية. ويؤكّد أنّ السلطات العسكرية والمدنية الصربية تقوم بدراسة هذه الخطة وتحليلها، حتى تحدد في أي مجال أو موارد يمكنها أن تدعم جهود تحديث الجيش اللبناني.
وبدوره، يرى الملحق العسكري الروماني Colonel Stefan Iovanescu أنّ هذه الخطة تقدّم لمحة شاملة موجزة عن الوضع الحالي للجيش اللبناني، وتوضح رؤية القيادة في ما يتعلق بتعزيز القدرات العملياتية العسكرية من أجل مواجهة التحديات المستقبلية. ونظرًا لأنّ الخطة تقرّ بأهمية الدعم الدولي للنجاح، فإنها توفّر إطارًا جيدًا لصنّاع القرار في البلدان الأخرى لتحليل الاحتياجات المتوقعة للجيش اللبناني والمجالات التي يمكن أن تساعده فيها. ويضيف قائلًا: «لسوء الحظ، من المحتمل أن يؤثّر توجيه الجهود الدولية حاليًا نحو الصراع في أوكرانيا على الموارد المتاحة التي كان من الممكن أن تستثمرها بعض البلدان في لبنان. ومع ذلك، فإن الخطة توفّر مرونة كافية لكل من المساهمات الكبيرة والصغيرة، ويمكن أن يؤدي الحوار الثنائي إلى نتائج إيجابية لكلا الجانبين».
من جهة أخرى، يعتبر الملحق العسكري الروماني أنّه في هذه البيئة المليئة بالتحديات، يُعد مشروع الخطة الخمسية جهدًا جديرًا بالثناء وضروريًا يتسم بالوضوح ويقدم رؤية حول كيفية احتفاظ الجيش اللبناني بدوره المحوري في البلاد والإسهام في الأمن الإقليمي على حدٍّ سواء. ويؤكّد في ختام حديثه أنّ المساءلة والتتبع المذكورين في الخطة هما أمران أساسيان بالنسبة إلى المجتمع الدولي والمحافظة على السجل الإيجابي للمؤسسة، من هنا يجب أن تكون عملية الرصد والإبلاغ عن مراحل تطبيق مختلف المتطلبات مستمرة وشفافة.