ﻗﺮار اﻟﺘﺤﻜﻴﻢ اﻟﺘﺠﺎري اﻷﺟﻨﺒﻲ ورﻓﺾ ﺗﻨﻔﻴﺬه ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻲ

ﻗﺮار اﻟﺘﺤﻜﻴﻢ اﻟﺘﺠﺎري اﻷﺟﻨﺒﻲ ورﻓﺾ ﺗﻨﻔﻴﺬه ﻓﻲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻲ
إعداد: اﻟﻤﻼزم أول ﻣﻌﺮوف ﻣﻬﺪي

المقدمة

يعد تطور الأنظمة والقوانين عبر الزمن حالة طبيعية ناجمة عن العلاقات الاجتماعية المختلفة التي تنشأ بين البشر، مثل باقي الأمور الحياتية التي تحصل بسبب تغير العوامل الموجودة، وبخاصةٍ أن القانون من حيث المبدأ يقوم بإدارة التفاعل الاجتماعي. وعليه، هو جزء لا يتجزأ من علم الاجتماع الذي ينظّم حياة الأفراد والعلاقات بين الجماعات على حد سواء1، وكان لا بد في بادئ الأمر من وضع قواعد تحكم النزاعات التي تحصل ضمن المجتمع الواحد لإيجاد الحلول التي تمنع تطور الخلافات إلى حد لا تُحمد عقباه، لذلك تم وضع القوانين كأداةٍ فعالة لتنظّم حياة البشر وإدارة النزاعات والعمل على حلها.

أما من جهة النزاعات التي تحدث بين أشخاص ينتمون إلى مجتمعات قانونية واقتصادية مختلفة، فكان لا بد من السعي إلى إيجاد نظام قانوني عالمي ينظّم هذه الخلافات عبر وضع معيار قانوني موحد يعمل الجميع تحت سقفه، وذلك بسبب التطور الحاصل في العلاقات المتعلقة بتوريد البضائع أو تصديرها، من وإلى دولة ذات كيان قانوني مستقل عن الطرف الآخر في هذه العلاقة الناشئة، وبخاصةٍ إذا سلطنا الضوء على التفسير الذي جاء في قانون أونيسترال (Unictral) المتعلق بالمصطلح التجاري، إذ يتضمن هذا التعبير المسائل الناشئة عن جميع العلاقات ذات الصفة التجارية، تعاقدية كانت أو غير تعاقدية، والعلاقات ذات الطبيعة التجارية وتشمل المعاملات الآتية: أي معاملة تجارية لتوريد السلع أو الخدمات أو تبادلها، اتفاقات التوزيع، التمثيل التجاري أو الوكالة التجارية، إدارة الحقوق لدى الغير، التأجير الشرائي، تشييد المصانع، الخدمات الاستشارية، الأعمال الهندسية، إصدار التراخيص، الاستثمار، التوزيع، التمويل، الأعمال المصرفية، التأمين، اتفاق أو امتياز، المشاريع المشتركة، وغيرها من أشكال التعاون الصناعي والتجاري، نقل البضائع أو الركاب جوًا أو بحرًا أو عبر السكك الحديدية، أو بالطرق البرية.

لقد اعتُبر نظام التحكيم التجاري كنظامٍ لمعالجة النزاعات موجود أصلًا منذ فترة تاريخية بمنزلة حل من الحلول الواقعية التي ممكن أن توصل إلى النتيجة المرجوة المتمثلة بحل النزاعات القائمة، إذ سعى الحقوقيون في هذا العالم الذين ينتمون إلى أنظمة قانونية مختلفة إلى توحيد اللغة القانونية التي يتكلمون بها من أجل حل المشاكل العالقة، وكان لهم ما يريدون عن طريق التحكيم الذي يشكّل وسيلة مقبولة من مختلف الأطراف، واعتُبر بمنزلة عدالة دولية، وسعوا إلى بسط سلطته عبر الاتفاقيات المختلفة المبرمة، وعبر الهيئات التحكيمية التي تشكّل الراعي الرسمي لهذا النظام، وبخاصةٍ عند بروز الحاجة لإيجاد وسيلة سريعة لحل النزاعات القائمة بسبب تطور العلاقات التجارية.

كانت هذه الهيئات والاتفاقيات المختلفة بمنزلة خارطة أو بوصلة قانونية ملبية للاحتياجات المستجدة. وفي خضم هذا التطور القانوني الدولي، انقسمت الدول والتشريعات بين مؤيد لهذا النظام القانوني وبين متأنٍ في الالتزام بمندرجاته كافة، في هذا المجال تميل الدفة لمصلحة الملتزمين بهذا العمل إذ نجد أن معظم الدول بدأت تعتمد التحكيم التجاري الدولي بسبب منافعه، بينما ارتأت العديد من الدول التأنّي في هذا الموضوع وذلك ربما لأنها وجدت فيه شيئًا يُنقص من استقلالها القانوني، لكن سرعة التقدم القانوني والتجاري التي حصلت أدت إلى قبول الجميع بهذا العمل القانوني وإدخاله في صلب تشريعاتها القائمة، وإن كانت نسبة الالتزام تختلف بين دولة وأخرى، فتعاملت معه بعض الدول المُستَعمرة سابقًا بحذرٍ وريبة وتحفظ، وبخاصةٍ بسبب تجربتها السيئة مع الاستعمار ومعاناتها المكلفة لتتحرر من الوصاية السياسية، القانونية والاقتصادية، وبهذا التحفظ تكون قد اعتبرت أنها تحافظ على كيانها المستقل من التدخل الأجنبي والاستعمار الذي يسعى إلى العودة للسيطرة بمختلف الوسائل حسب رأيها، وقد يكون التحكيم واحدًا من هذه الوسائل.

لقد كان هذا القلق حال معظم الدول التي لحقت بها العديد من الخيبات نتيجة التحكيم الدولي والقرارت التي اتخذت بهذا الخصوص وأدت إلى خسائر مادية ومعنوية، ووجدت هذه الدول ذاتها بين قرار رفض هذا النظام القانوني وقبوله، الأمر الذي أدى إلى اختلاف في مستوى قبول التحكيم بين الدول المختلفة وبخاصةٍ وأن نظام التحكيم يتطور ويتسارع بشكلٍ موازٍ مع تطور الاقتصاد والصناعة ومختلف العلاقات التجارية الداخلية والدولية على حد سواء.

لقد دخلت النزاعات في دائرة مفرغة نتيجة لتنازع القوانين في المكان والزمان، في الشكل والمضمون، إذ سعى كل طرف إلى فرض إيقاعه القانوني الوطني على النزاع الحاصل لأي سبب من الأسباب عن طريق القضاء التقليدي مع ما يحمله من تعقيدات وتقييد والالتزام بحرفية النص لجهة عدم القدرة على المناورة في مجال إيجاد الحلول، وبخاصةٍ لأن القاضي الذي ينتمي إلى دولة ما يعتبر أن العدالة تكمن في نظامه الوضعي الموجود. لذلك كان لا بد في هذا المجال من البحث عن وسيلة قانونية تسمح باختزال هذا الطريق الطويل، من هنا جاء النظام التحكيمي الدولي ليحل عقدة مهمة من العقد القانونية المتعلقة بالالتزامات الدولية، وأدى إلى تسهيل الحلول وطرح حلول عملية قابلة للتطبيق ناجمة عن اتفاق الأطراف. من المفيد في هذا المجال التعرف على هذا النظام الذي كان مجهولًا أو بالحد الأدنى غير واضح لفترةٍ طويلة من الزمن بالنسبة للكثير من الأشخاص، على الرغم من وجود موادها القانونية والمعترف بها في لبنان ومعظم دول العالم العربي والتعرف أيضًا على العوامل المحيطة به.

انطلاقًا من هنا سوف نعالج الدراسة عبر تقسيمها إلى قسمين، إذ يعالج القسم الأول الإطار النظري للتحكيم التجاري مع ما يحمله الأمر من تعريف للتحكيم ومفهومه النظري، أما القسم الثاني فيعالج موضوع الإشكالية المتمثلة برفض التحكيم التجاري والعوامل المحيطة به بالإضافة إلى الاستنتاجات.

القسم الأول

تعريف التحكيم التجاري الدولي ومفهومه القانوني

يعد التحكيم من أهم الوسائل البشرية القانونية المستعملة لفض النزاعات العالقة بين طرفَين بواسطة طرف ثالث، لا سيما بالنسبة لرجال الأعمال الذين لديهم غاية أساسية متمثلة بمتابعة تجارتهم وعدم توقّف عملية الربح المادي، وذلك بعيدًا عن قضاء الدولة. ويأخذ هذا الشخص الثالث مشروعية من مصدرَين أساسيَين، المصدر الأول هو إرادة الخصوم والمصدر الثاني هو قبول المشرع القانوني بهذه الرغبة، وذلك بمنح الترخيص للحكم من أجل القيام بعمله من خلال مواد واضحة وصريحة من الممكن اللجوء إليها لتدعيم هذه الفكرة القانونية. وقبل البحث بها، يجب الإشارة إلى أن التحكيم وعلى الرغم من أنه يشكّل حالة تتمثل بالابتعاد عن القضاء التقليدي وهو عملية بديلة لحل النزاع العالق، إلا أنه يبقى عملًا قانونيًا بحاجةٍ للقضاء من أجل تفعيل القرارات التحكيمية ومن أجل إلزام من يعمل على رفض تنفيذ قرار التحكيم ووضعه أمام التزاماته العقدية.

أولاً: تعريف التحكيم

التحكيم هو عملية قانونية غير قضائية متفق عليها من الأطراف المتنازعة لحل النزاعات العالقة وتسويتها، فهذه الوسيلة تسمح لطرفَين متنازعَين أن يلجآ إلى طرف ثالث وهو المحكّم ليعرضا القضية عليه، فيستند إلى القانون والأعراف والاتفاق الحاصل بين الطرفَين من أجل حل هذه القضية، ويقوم بإصدار رأي نهائي ملزم للحل يوجب على الفريقَين الالتزام والقبول به. والتحكيم فعل قانوني يرتكز على أخذ جزء من اختصاص القضاء التقليدي المكلّف أساسًا بحل النزاعات القائمة والناجمة عن العقود التجارية الدولية التي تم إبرامها بين أطراف ينتمون إلى أنظمة قانونية مختلفة تعتمد قوانين متمايزة، وتكليف حل هذه النزاعات إلى أشخاص ثالثين يتم اختيارهم بإرادة المتنازعَين بصورةٍ شخصية قائمة بشكلٍ أساسي على القيمة الفردية لهؤلاء المحكّمين لما يمثّلون من صفات خاصة2 ومعرفة متقدمة وسمعة في هذا المجال.

بسبب أهمية التحكيم اعتُبر تعريف التحكيم من المسائل التي شغلت الفقه والتشريعات الوطنية والعالمية على حد سواء من أجل تحديد المقصود بهذه العبارة القانونية3. حسب التعريف العالمي للأمم المتحدة، إن لفظ التحكيم يُقصد به كل تحكيم سواء تم تنظيمه من خلال مؤسسة تحكيمية دائمة أم لا. ويذكر القانون النموذجي للأمم المتحدة تعريفًا بشكلٍ مباشر للتحكيم4 في المادة 7 منه وهو «بأن اتفاق التحكيم هو اتفاق الطرفَين على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض المنازعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بينهما علاقة قانونية محددة، تعاقدية كانت أو غير تعاقدية، ويجوز أن يكون اتفاق التحكيم في صورة شرط تحكيم وارد في عقد، أو في صورة اتفاق منفصل أو مشارطة تحكيمية كما يظهر لاحقًا». كما صدرت تعاريف مختلفة تتناول موضوع التحكيم إذ أُطلق تعريف بأنه نظام يقوم بمقتضاه أطراف النزاع بتخويل شخص ثالث للفصل في النزاع5، وهو تسوية الخلاف بقرارٍ يصدر من شخص أو هيئة تم الاتفاق على تنصيبهم من قبل أطراف النزاع6.

إن التحكيم هو وسيلة يقوم فيها الأطراف برغبتهم الخاصة بإحالة النزاع إلى طرف ثالث محايد من اختيارهم، يكون هذا الطرف محكّمًا يقوم بإصدار حكمه في النزاع القائم على البراهين والأدلة التي يتم تقديمها إلى المحكمة الخاصة بالتحكيم7. وبالعودة إلى القوانين المرعية الإجراء التي نعمل عليها، نجد أن القانون اللبناني قد أجاز لطرفَي النزاع الاتفاق على تعيين شخص ثالث من أجل حل النزاع التجاري العالق بينهما بواسطة التحكيم8. كذلك عرّفت اتفاقية لاهاي الدولية التحكيم بأنه يهدف إلى حل النزاعات بين الدول، عبر قضاة يتم اختيارهم، حسب رغبة الأطراف ذات النزاع على أساس احترام القانون9، لذا التحكيم هو العمل الذي يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى التحكيم بمقتضى اتفاق الطرفَين مركزًا دائمًا للتحكيم أو لم تكن10، وبالتالي، التحكيم أسلوب يهدف إلى الحصول على حل لمسألةٍ ما، بما في ذلك تنظيم العلاقة بين شخصَين في حال وجود خلاف والعمل على حله11.

على مستوى إيجاد هذا النظام وتطوره المتسارع، نجد أن العدالة القائمة على التحكيم هي عدالة خاصة وجديدة قديمة في ذات الوقت، وهي لم تولد على حالها التي نعرفها بهذا الشكل في عصرنا الآني، بل نشأت وتطورت وفق عدة عوامل تاريخية وقانونية تفاعلت مع بعضها في واقع معين، وتم تنظيم هذا التفاعل بشكلٍ مدروس ودقيق من أجل الوصول إلى التحكيم بالشكل الذي نعرفه. وكان اختيار نظام التحكيم التجاري من قبَـل الأطراف المتنازعة مبنيًا على عدة عوامل تم دراستها من قبل المهتمين بهذا الأمر، كما جرى وضع قواعد محددة دفعت إلى سلوك طريق التحكيم، واختلفت أسباب اتباعه ما بين قانونية ومادية وفي بعض الأحيان نفسية وعملية.

إن الأسباب القانونية مبنية على عدم رغبة التجار في بلد معين الخضوع لنظامٍ قانوني لم يدرسوه بشكلٍ جيد وأيضًا لم تنشأ تجارتهم وفقه، واعتبار الأنظمة القانونية المغايرة غريبة عنهم، وعليه لا يفضل هؤلاء التجار العمل وفقها. كذلك الأمر فإن الأسباب المادية قائمة على التوفير في الكلفة المادية وتجنب سلوك الدرب القضائي التقليدي المكلف على الأطراف على أكثر من صعيد12 وذلك بشكلٍ واضح. كما تأتي الرغبة بتوفير الوقت ضمن هذه الأسباب بالإضافة إلى السرية المطلوبة من قبل الجميع. أما لجهة الأسباب النفسية التي تدخل كعاملٍ مساعد في سلوك درب التحكيم، فإن الأطراف المتنازعة ترغب بحل النزاع العالق بجوٍ من الود وعدم خلق جو عدائي ممكن أن يؤثر لاحقًا في العلاقة التجارية الناشئة بينهما بشكلٍ سلبي.

التحكيم الدولي الذي يشكّل موضوع دراستنا يُعد مادة مهمة تناولتها معظم التشريعات الحديثة للعديد من الأسباب، وأهمها أنه وسيلة لمعالجة النزاعات التي تحدث بين طرفَين ينتميان إلى نظامَين قانونيَين مختلفَين، فهو يشكّل وسيلة للعبور نحو نظام قانوني عالمي مقبول من قبل الأطراف، وهذا ما يقطع الطريق على اتجاهات معقدة ممكن أن تسلكها النزاعات التجارية الكبرى التي تحصل في ظل النظام العالمي الحديث.

يجب أن نشير هنا إلى أنه يُعد التحكيم التجاري الدولي، التحكيم الذي يختص بالنزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لطرفَين ينتميان إلى نظامَين قانونيَين مختلفَين، أي أن الطرفَين المتنازعَين ينتميان إلى دولتَين مختلفتَين تحكم كل منهما قواعد قانونية مختلفة، كذلك يُعد التحكيم دوليًا إذا اتصل بمصالح التجارة الدولية.

لا يجوز اللجوء إلى التحكيم من دون اتفاق الطرفَين، وأي رفض للفكرة من قبل أي طرف يستوجب انتفاء أحد الشروط الرئيسة للتحكيم، ويظهر لاحقًا إمكانية تصنيف أنواع مختلفة منه وذلك حسب موضوع النزاع العالق بين الأطراف وحله بواسطة هذه المؤسسة عن طريق طرف ثالث لتسوية النزاع من خلال ممارسة المهمة القضائية التي تم تكليف هذا الطرف بحلها13. فيعتمد التحكيم الدولي على اتفاق الفريقَين لتفعيله والعمل تحت مظلته القانونية، ما يعني أن الطرفَين المتنازعَين في هذا العقد قد قررا تقديم نزاعهما أمام المحكّم الذي اختير نيابة عن الفريقَين، في أمل الوصول إلى حل النزاع العالق، وعادة ما يحتوي العقد بين الطرفَين على أحكام تتعلق بكيفية معالجة النزاعات المستقبلية في حال وُجدت والموافقة على الحل بواسطة التحكيم.

ثانيًا: مفهوم التحكيم

في عملية تحديد مفهوم التحكيم القانونية يتبين لنا أنه بعد ظهور التعقيدات القضائية والقانونية والمشاكل التي ترافق حل النزاعات القانونية بواسطة القضاء العادي، كان لا بد من البحث عن طريقة للحل تتجاوز العيوب أو الأمور التي تزعج أطراف النزاع في أثناء معالجته، والتي ترافق المسلك القضائي التقليدي في طريق حل النزاع العالق، إذ يعمد الأطراف إلى البحث عن معالجة جديدة توصل أفراد العلاقة المختلفين إلى حل مرضي لهما من دون الدخول في تعقيدات تؤدي إلى عرقلة العلاقة بينهما ولو لفترةٍ وجيزة، وبخاصةٍ في العلاقات التجارية حيث تقف هذه الفكرة على تبادل إرادتَين مختلفتَي الرغبة في حل نزاع ناشئ بينهما، وحق الأطراف المختلفة في اختيار التحكيم كوسيلةٍ بديلة عن القضاء العادي للدولة.

إن هذه الأمور جعلت من معرفة التحكيم وفكرة تكوّنه من الأمور المهمة التي يسعى طلاب القانون إلى دراستها نظرًا لأنه يُعد من الوسائل المهمة لحل النزاعات الناشئة على الرغم من اختلاف هذه الفكرة بين مجتمع وآخر، وبين زمان وآخر، إلا أن الفكرة الأبرز في هذا المجال هي من مصلحة الجميع اللجوء إلى التحكيم14. وعند تكريس هذه الفكرة، يتحول هذا المفهوم القانوني الاختياري إلى تحكيم إلزامي يُعرف بالتحكيم الإجباري، وبخاصةٍ بعد سير معظم الدول في الطريق القانوني الذي يؤدي إلى هذا الأمر. وبعد أن كان القضاء العادي هو السبيل الأول لحل النزاعات، جاء التحكيم لينافسه بسبب الأفضلية العملية التي يتمتع بها هذا النظام غير التقليدي مقارنةً مع النظام القضائي، لكن كما معظم الأمور القانونية والاجتماعية المختلفة التي تظهر بشكلٍ جديد تعلو بعض الأصوات الرافضة لهذا الأمر، وهناك أطراف أيضًا متحفظة على النظام التحكيمي أو بعض الأمور الإجرائية والشكلية. وعلى الرغم من قبوله من معظم الأطراف والتشجيع على العمل به كنظامٍ قانوني، جاءت آراء تتحدث عن نقاط سلبية من بينها أنه يؤثر سلبًا في النظام القضائي ويمس بالسيادة الوطنية العليا للقضاء العادي.

لكن نتيجة للنقاط الإيجابية التي يتمتع بها النظام التحكيمي بدأت تتوضح صورة النظام المطروح كبديلٍ عن القضاء التقليدي من حيث المفهوم العام لهذا النظام، وصرنا نعلم أنه نظام قانوني شبيه بالقضاء نظرًا لأن القرار الحكمي الذي ينجم عنه أشبه بحكمٍ قضائي مبرم ويملك حجة القضية المحكوم بها15 إلا أنه يبقى معلقًا بالقضاء عند الرغبة بالتنفيذ، فيضطر الراغب عند هذه العملية اللجوء إلى المحكمة واستصدار أمر على عريضة من رئيس الغرفة الابتدائية التي أودع أصل القرار في قلمه16 لإلزام الطرف غير المستفيد من التنفيذ إلى الرضوخ للقرار التحكيمي، وعندها ينفّذ القرار بواسطة القضاء العادي مثله كمثل الحكم القضائي. وهنا تتكرس فكرة التناغم بين القضاء والتحكيم، كما يعود للمحكّم سلطة البحث في القضية وإصدار قرار ملزم للفريقَين يوجب الأطراف المختلفة القبول بهذا القرار، وذلك من دون أن يكون لهما رأي في الحل الذي توصلت إليه هيئة التحكيم.

يجب توضيح أمر أنه لكي يعد التحكيم دوليًا يجب توفّر عاملَين أساسيَين، إذا توافرا بالإمكان اعتبار هذا النوع من التحكيم تحكيمًا دوليًا، وهذان العاملان هما: العامل الموضوعي، والعامل الفني.

 

- العامل الموضوعي: يجب تحديد هامش تطبيق القواعد الدولية للتحكيم، وذلك بتبنّي المعيار الاقتصادي، إذ لا بد من خضوع قواعد التحكيم الدولي إلى قواعد تحررية تضمن للمتعاملين مع التحكيم الدولي حد أدنى من الاستقلالية، ولتفعيل هذا العامل يجب أن تكون العلاقة بين الطرفَين المتنازعَين اقتصادية قائمة على الربح والخسارة.

 

- العامل الفني: وهو العامل الذي يتحدث عن انتماء طرفَي النزاع إلى دولتَين مختلفتَين، الأمر الذي ينجم عنه نظامَين قانونيَين مختلفَين، ووجود نصَين قانونيَين ينظمان الحياة العملية القانونية والتجارية لكل من هذين الطرفَين، وفي هذه الحالة يرفض الأطراف الالتزام وتطبيق نظام دولة أخرى وهذا ما يدفعهم إلى اللجوء للتحكيم ولنظامٍ بديل لحل النزاع17.

 

إن تفعيل التحكيم الدولي وتحديد مفهومه يطرح فكرة نوع النزاع القائم والعلاقة الناجمة عنه، إذ من الممكن أن يكون النزاع المطروح للتحكيم ماليًا، مدنيًا، تجاريًا، عقديًا أو أي نزاع قائم ومحدد بين أشخاص مختلفين، وفكرته الأساسية تتحدث عن مختلف أنواع الأطراف، فهو ممكن أن يكون بين أشخاص عاديين أو معنويين، أو بين شخص ومؤسسة، أو شخص ودولة، أو بين دولتَين على أن يكون الطرفان قد اتفقا على حل الخلافات التي ممكن أن تنشأ بواسطة التحكيم وذلك بإدراج بند التحكيم في العقد المعمول به بين الطرفَين الملتزمَين سلفًا بتطبيق الحكم. ويعد التحكيم نظامًا مختلطًا يبدأ باتفاق ثم يصبح إجراءات قانونية وينتهي بحكمٍ قضائي هو قرار التحكيم، وربما يكون بإجراء مصالحة بين الأطراف، وبذلك يكون الأصل في فكرته هي إرادة الطرفَين وإقرار المشرع لهذه الإرادة18.

لقد تطور نظام التحكيم وأصبح مظهرًا حديثًا من مظاهر التطور القانوني في العلاقات التجارية الدولية19، نظرًا لأهميتها الكبيرة في المعاملات التجارية، لا سيما إذا كان متسمًا بالصفة الدولية، فالاعتبارات الدولية في مجال التجارة تدفع الأشخاص المختلفين إلى الاتفاق على التحكيم من أجل حل النزاع عبر التحكيم بدلًا من طرحها أمام القضاء العادي20.

إن فكرة التحكيم تدفعنا إلى القول إن التحكيم نوع من العدالة الخاصة21 وهي غير عادية، تعمل تحت نظام اتفاقي قضائي يترك للأفراد تسوية النزاعات العالقة في إطار التراضي والاتفاق بعيدًا عن المحاكم والجلسات القضائية وذلك لعديدٍ من الأسباب. ويجب إضافة أمر في هذا المجال وهو ضرورة وجود خبرة وثقافة قانونية عالية تعود للمحكّم، وعليه أيضًا أن يكون حياديًا في التعامل مع الأطراف المتنازعة وعلى مسافة واحدة من جميع الأطراف، فهذا الأمر يعد من الأساسيات في هذا المجال، وعليه أن يوفق في عمله في إيجاد حل قانوني للنزاع بين الطرفَين من أجل إنهاء النزاع. وفي خلاصة موضوع التحكيم، نجد أن الأمر بكامله قائم على رسم هيكلية لحل النزاعات والمشاكل عبر إدخال العديد من البنود والآراء في داخل العقد، بشكلٍ يكون الهدف الأول والأخير هو حل هذا النزاع والانتقال إلى إكمال العلاقة كأطرافٍ تجارية22، واستمرار التجارة التي يعملون في ظلها لأن هذ الأمر هو الغاية الأساسية التي يسعى إليها الجميع ويعتبرون أن إكمال التجارة هو الحل الأنسب والأربح لهم.

القسم الثاني

رفض تنفيذ القرار التحكيمي ومندرجاته

 

إن تنفيذ قرار التحكيم التجاري بشكلٍ عام لم يُترك لرغبة أطراف النزاع وعلى أهوائهم، بل خضع لرقابةٍ قضائية في مختلف مراحله، وتعرّض للطعن بالبطلان بناء على نقاط قانونية محددة، بالإضافة إلى رفض التنفيذ لعدة أسباب. من هنا سوف نتحدث في القسم الثاني عن رفض تنفيذ القرار التحكيمي وأسبابه المختلفة التي تم ذكرها والحديث عنها في القانون اللبناني بالتحديد. فأهمية دراسة رفض تنفيذ قرار التحكيم الأجنبي تكمن في أن نظام التحكيم بمجمله قائم على مبدأ عدم الدخول في مسألة تنازع القوانين المختلفة التي يعمل وفقها التجار كل في بلده، فيرغبون لهذا السبب اللجوء إلى قانون عالمي موحد ينجم عنه قرارات تحكيم خارجية بحاجةٍ للتنفيذ على أرض واقع مغايرة للواقع الذي صدرت فيه، لذلك يتوجب الإحاطة والمعرفة بنقاط رفض التنفيذ المتعددة. وعليه، نتطرّق أولًا في هذا القسم إلى الحديث عن رفض التنفيذ لقرار التحكيم الأجنبي والعوامل المحيطة به والدافعة إليه والمبنية على عدة أسباب، وثانيًا يتم تسليط الضوء على رفض التنفيذ للقرار التحكيمي في لبنان واستنباط بعض الاستنتاجات حول الموضوع المطروح.

 

أولاً: رفض تنفيذ القرار التحكيمي الخارجي

تتعدد أسباب رفض تنفيذ القرارات التحكيمية ويعد الأمر إشكالية بارزة في هذا المجال، فعند محاولة تنفيذ قرار تحكيمي أجنبي في دولة ما، ينحصر دور القضاء في الرقابة على تنفيذ القرارات التحكيمية بإحدى النتيجتَين، الأولى الاعتراف بالقرار التحكيمي وإعطاؤه الصيغة التنفيذية، أما الثانية فهي رفض تنفيذه23، والرفض يدفع الطرف الثاني إلى سلوك درب القضاء للحصول على أمر التنفيذ ويؤدي إلى ضياع الوقت والنفقات. وهنا يبرز الوجه الآخر للإشكالية المتمثل بالعودة واللجوء إلى القضاء التقليدي، الأمر الذي حاول الأطراف المختلفون الابتعاد عنه لما يوجد فيه من نقاط سلبية على حد زعمهم وبخاصةٍ أن هذه النقاط هي الدافع الأساسي من أجل اللجوء إلى التحكيم.

لقد أجمعت مختلف القوانين على نوعَين من الأسباب التي تؤدي إلى رفض التنفيذ، النوع الأول قائم على طلب الطرف المطلوب التنفيذ ضده، أما النوع الثاني قائم على رفض المحكمة أو القضاء الوطني.

1- رفض التنفيذ القائم على طلب الطرف المطلوب التنفيذ ضده

إن أسباب رفض تنفيذ الحكم التحكيمي الأجنبي بناء على طلب أحد الخصوم تتشابه في مختلف التشريعات، وقد يصل هذا الأمر إلى درجة التطابق في بعض الأحيان. يعود هذا التشابه بالدرجة الأولى للمصدر الأساسي لقوانين التحكيم، أي القانون النموذجي للتحكيم24 الذي تم إعداده من قبل لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية (اليونسترال، uncitral) والذي استقى منه مختلف المشرعين قوانينهم، ويمكن تحديد هذه الأسباب بثلاث نقاط تتفرع منها عناوين أخرى:

- رفض التنفيذ بسبب الإخلال بالشروط الشكلية: يتفرّع من هذا الموضوع نقطتان؛ الأولى هي عدم وجود عقد خطي ومكتوب، لأنه شرط أساسي من أجل انعقاد التحكيم بشكلٍ عام ونشوئه، لذلك عند انتفاء هذا الشرط يختفي السبب الأول الدافع إلى التحكيم وبالإمكان اعتبار التحكيم باطلًا وغير قائمٍ، فهنا يكون العقد المكتوب أو الخطي شرطًا أساسيًا لصحة التحكيم وليس وسيلة إثبات فقط، وبالتالي ترتّب على تخلّفها أو الخطأ فيها بطلان التحكيم، ويمكن البناء على هذا البطلان من أجل رفض التنفيذ، بل حتى لو لم يبطل التحكيم، بإمكان القاضي المحلي رفض تنفيذ قرار التحكيم الخارجي. أما النقطة الثانية في موضوع الشروط الشكلية فهي عدم تحديد موضوع النزاع، يعد بمنزلة عدم وجود اتفاق صحيح للتحكيم، لأن هذا الاتفاق هو شرط أساسي من شروط التحكيم25 ولكي تكتمل أركان هذا الشرط يجب أن يكون موضوع النزاع محددًا في الاتفاق26 تحت طائلة رفض التنفيذ من قبل القاضي المحلي.

- الإخلال بالشروط الموضوعية: إن الشروط الموضوعية المطلوب توافرها في اتفاق التحكيم تعد ضرورية لإثبات صحته وبالتالي إن عدم وجودها يؤدي إلى رفض التنفيذ، في هذا المجال هناك ثلاثة شروط، الشرط الأول هو وجود التراضي إذ يعد هذا الأمر بمنزلة قبول اللجوء إلى التحكيم، أما الشرط الثاني فهو توفر الأهلية لدى الأطراف وهو من العيوب الموضوعية الأساسية في عالم القانون ويؤدي إلى إبطال المعاملات القانونية كافة ورفض تنفيذها، وهذا الأمر ينعكس على القرار التحكيمي أيضًا الذي يعد في جزء هام منه قانونيًا، أما الشرط الثالث فهو عدم توافر شرط محل اتفاق التحكيم أي قانون معيّن عند الاتفاق بالعودة الملزمة، وعدم وجود هذا الشرط يؤدي إلى آثار مهمة من بينها بطلان الاتفاق التحكيمي.

- الإخلال بالقواعد الأساسية للإجراءات: هناك قواعد للإجراءات يجب الالتزام بها لتنفيذ قرار التحكيم، وعدم العمل وفقها من شأنه أن يؤدي إلى رفض التنفيذ بشكلٍ كامل، وهذه الأمور هي المساس بحق الدفاع بشكلٍ يؤدي إلى عدم إمكانية أحد الأطراف تقديم دفاعه بشكلٍ يرضيه لأن حق الدفاع يعد من الحقوق المقدسة والمحمية في مختلف القوانين والشرائع، كما أن تجاوز المحكّمين لنطاق سلطتهم والنظر في نقاط لم يشملها اتفاق التحكيم هو من دواعي رفض التنفيذ إذ على المحكّم الالتزام حرفيًا باتفاق التحكيم، كذلك الأمر عدم صحة تشكيل هيئة التحكيم بالشكل الذي أراده أطراف النزاع والذي يفرضه القانون المعمول به يعد عاملًا مؤديًا إلى رفض التنفيذ.

 

2- رفض التنفيذ للقرار التحكيمي الخارجي القائم على قرار المحكمة الوطنية التلقائي

إن حالات الرفض للتنفيذ القائمة على طلب المحكمة التلقائي، جاءت في سياق المعالجات المختلفة للقرارات التحكيمية وكيفية تنفيذها، وذلك بناء على حالات واقعية محددة أو نزاعات حدثت وتم دمجها في مختلف القوانين، وهناك أنظمة وقوانين عربية عالجت في إطار موضوع رفض التنفيذ فقط النقاط القائمة على حالات رفض المحكمة التلقائي، وهنا نعالج ثلاث نقاط تتعلق برفض التنفيذ، وهي على الشكل الآتي:

- رفض التنفيذ إذا كان القرار التحكيمي يتعارض مع النظام العام للدولة: إن النظام العام هو عنوان مرن يختلف بين مكان وآخر، وبين زمان وآخر في ذات المكان27، وفي حال اختيار أطراف النزاع لنظامٍ عام خارجي يتعارض مع النظام العام الوطني إذا كان قرار التحكيم خارجيًا فإن هذا الأمر يؤدي حكمًا إلى رفض تنفيذ القرار التحكيمي، وبخاصةٍ وأن المادة 2 الفقرة 5 من اتفاقية نيويورك التي التزم لبنان تطبيق أحكامها بواسطة الإجازة لحكومته بالانضمام لهذه المعاهدة28 والتي تعد مرجعًا في تنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية جاءت على ذكر أنه ترفض تنفيذ القرار التحكيمي إذا كان يناقض السياسة العامة في البلاد.

- رفض تنفيذ الحكم الخارجي إذا كان يتعارض مع حكم نهائي في الدولة المطلوب التنفيذ فيها: لقد جاءت العديد من القوانين العربية والدولية في أحكامها المتعلقة بالتنفيذ لتذكر أنه ترفض المحكمة الوطنية تنفيذ قرار أجنبي تحكيمي إذا كان يتعارض مع حكم داخلي سبق صدوره في المحاكم الوطنية29، إذا كانت القضية مماثلة للقضية المطروحة أمام هيئة تحكيم أجنبية، ويعتبر الحكم الخارجي المطلوب تنفيذه عن بلد آخر حكمًا قابلًا للرفض في حال تعارضه مع حكم صادر من قبل القضاء المحلي وذلك لسبب جلي، هو ضحية الرفض لقرارين متعارضين في قضيتين متشابهتين لأن ذلك يعاكس المنطق.

- رفض التنفيذ في حال عدم قابلية موضوع النزاع للتحكيم: يعتبر موضوع قابلية النزاع للتحكيم من الأمور التي يجب تسليط الضوء عليها في القرار التحكيمي، بالنظر إلى أن اتفاق التحكيم هو ليس مطلقًا من حيث الموضوع بل على العكس هو مقيد بقيود قانونية وأطر مختلفة تحدد ما يجوز في التحكيم وما لا يجوز، وبالتالي إذا ما تناول التحكيم موضوعًا لا يجوز التحكيم فيه وصدر قرار في هذا المجال فإن هذا الأمر يعتبر مدعاة لرفض التنفيذ من قبل القضاء بشكلٍ عام في القرارات التحكيمية الدولية، خاصةً في مسائل الأحوال الشخصية، مسائل الجنسية بحيث لا يجوز الاتفاق على نزع الجنسية والمسائل الجنائية والمسائل المتعلقة بالملكية الفكرية.

ثانيًا: رفض التنفيذ في لبنان، واستنتاجات حول الموضوع

إن القرارات التحكيمية الدولية إذا جرى الاعتراف بها تكون قابلة للتنفيذ بعد التثبت من صحتها وعدم مخالفة القرار للنظام العام الوطني30، كما يتمتع قرار التحكيم الأجنبي الذي حاز على الصيغة التنفيذية بالقوة التنفيذية العائدة لقرارات التحكيم اللبنانية كما يستفيد من ذات طرق التنفيذ31.

لقد عالج القانون اللبناني للتحكيم في الجزء الثاني تحت عنوان «في تنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية» في مواده المختلفة وتحدثت المادة 18 32 من قانون التحكيم عن هذا الجزء عن أنه: لا يجوز الاعتراف بالقرار التحكيمي الأجنبي ولا منحه الصيغة التنفيذية إذا أثبت المحكوم عليه تحقق الأمور الآتية:

- صدور القرار التحكيمي استنادًا إلى عقد أو بند تحكيمي غير صحيح حسب القانون الذي يخضع له هذا العقد.

- تناول القرار التحكيمي نزاعًا خارجًا عن موضوع التحكيم أو متجاوزًا نطاقه، وفي هذه الحالة يمكن قصر الاعتراف أو منح الصيغة التنفيذية على فقرات القرار التحكيمي الصادرة في نطاق التحكيم والقابلة للانفصال عن الفقرات الأخرى.

- تأليف الهيئة التحكيمية أو إجراء المحاكمة لديها بصورةٍ مخالفة للقانون الذي يخضع له القرار.

- عدم تبليغ إجراءات المحاكمة التحكيمية إلى المحكوم عليه أو عدم تمكينه من الدفاع عن حقوقه.

- عدم إبرام القرار التحكيمي وفق قانون البلد الذي يخضع له القرار إلا إذا كان من القرارات المؤقتة القابلة للتنفيذ حسب أحكام القانون المشار إليه.

- إبطال مفاعيل القرار التحكيمي أو وقفه في البلد الذي يخضع له القرار على أن يحق للمحكمة في هذه الحالة أن تؤجل البت في الطلب إذا وجدت مبررًا لذلك.

- عدم قابلية موضوع النزاع للتحكيم حسب أحكام القانون اللبناني.

كذلك ذكرت المادة 20 من هذا القانون (الرقم 440/2002) على أنه يحق للمحكمة اللبنانية أن ترد حكمًا طلب الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي الأجنبي والاعتراف به إذا كان هذا القرار مخالفًا للنظام العام، وجاءت المادة 22 من ذات القانون لتعطي صفات شكلية من أجل منح القرار التحكيمي الصيغة التنفيذية وهي أن يبرز طالب تنفيذ القرار ما يأتي:

- النص الأصلي للقرار أو نسخة تتوفر فيها الشروط المفروضة لصحتها بقانون البلد الذي صدر فيه.

- الأوراق المثبتة لاكتساب هذا القرار القوة التنفيذية وفق القانون الذي يرعاه.

- المستندات التي تثبت أن أوراق المحاكمة التحكيمية قد أُبلغت إلى المدعى عليه إذا كان صادرًا بالصورة الغيابية.

- ترجمة مطابقة لأصل المستندات المدرجة أعلاه ومصدقة وفق أحكام القانون اللبناني.

إن عدم اقتران الطلب بالمستندات المطلوبة من شأنه أن يدفع إلى رفض تنفيذ القرار الخارجي، لذلك على القاضي أن يأخذ بمفاعيل القرار التحكيمي الأجنبي والتأكد من الشروط المذكورة في المادتَين 18 و19 من قانون التحكيم المعالج (440/2002) من أجل التنفيذ.

في الاستنتاجات، تظهر أهمية التحكيم التجاري لا سيما الدولي، لذلك تم اعتماده من قبل معظم التشريعات المختلفة كبديلٍ عن القضاء33، كما تم إدراج قانون خاص به على صعيد الأمم المتحدة بسبب الأهمية التي أدركها المجتمع الدولي للتحكيم كوسيلةٍ لحل النزاعات التجارية العالقة وتسهيل موضوع التجارة الدولية، ونجحت معظم الدول في دمج هذا النظام في صلب قوانينها الوطنية، وذلك نتيجة للسلاسة التنظيمية العملية والقانونية مقارنة مع القضاء الأساسي في هذه البلدان، كذلك تفضيل الأطراف التجارية التحكيم بالنظر إلى إمكانية اختيار الإطار الذي تتم معالجة النزاع فيه إن كان لجهة تحديد القانون المعتمد واختياره أو سائر الإجراءات الأخرى المتعلقة بالعملية التحكيمية والتي من شأنها أن تسهل عملية حل النزاع العالق.

في هذا المجال، يجب ذكر أن الهدف الرئيس من إصدار القرار التحكيمي هو تنفيذه الذي يصطدم بمشكلةٍ أساسية تتمثّل برفض تنفيذ قرار التحكيم. من هنا، يتوجب بعد التعرف على قرار التحكيم التجاري أن يلم الباحث بمختلف الجوانب المحيطة بهذا الأمر، ومن بينها التعرف على الأسباب الموجبة لرفض التنفيذ من أجل العمل على تخطّيها وتجنبها لاحقًا، إذ بعد تحديد هذه الإشكالية يجب العمل على تجاوزها، وينبغي لذلك تحديد قواعد واضحة في هذا المجال، تتضمن من جهة الالتزام بالقوانين الدولية للتحكيم والاتفاقيات المختلفة التي تتعلق بتطبيق قرارات التحكيم الأجنبية، ومن جهة ثانية العمل على دراسة القرار التحكيمي بتمعّنٍ قبل إصداره من أجل تجاوز العقبات المؤدية إلى شوائب بهذا القرار تكون مانعة من التنفيذ، أو قد يستغلها أي طرف في النزاع الذي يكون تنفيذ القرار التحكيمي ليس من مصلحته بأي شكل من الأشكال. وبعد تكوين المعرفة الكاملة نذهب لمعالجة المشكلة الأساسية التي يصطدم بها التحكيم والمتمثلة برفض التنفيذ، وبعد ذلك العمل على تجاوز هذا الأمر وتخطّيه بواسطة تكريس المعرفة المتعلقة به وكذلك وضع قواعد المعالجة التي تؤدي إلى تجاوز هذه المشكلة.

من الواضح تعدد أسباب رفض تنفيذ القرار التحكيمي على مختلف المستويات، إن كان على الصعيد الدولي أو على الصعيد الوطني وهذا الأمر بحد ذاته إشكالية مهمة وكبرى في هذا المجال، إذ إن الهدف الأساسي من وراء السلوك التحكيمي هو الحصول على قرار تحكيمي ملزم لطرفَي النزاع ويحمل حجة القضية المحكوم، أما حين يصطدم هذا القرار في أمور من شأنها أن تعيق التنفيذ فعندها ندخل في دوامة الإشكالية المطروحة في المقدمة.

من جهة أخرى، من الواضح تحديد الأسباب التي تدفع إلى رفض التنفيذ في القوانين والتشريعات في البلدان المختلفة34 وهذا الأمر يعد من الحسنات بالنظر إلى عدم جواز اعتماد أي سبب آخر من أجل رفض التنفيذ من خارج النقاط القانونية التي المحددة والمعتمدة قانونيًا في مختلف الدول، لا سيما بعد الإشارة إلى تشابه كبير بين مختلف التشريعات، بالنظر إلى أن هذا النظام هو نظام عالمي، وهنا يجب الذكر إلى أنه لا يجوز للقاضي أن يثير أي نقطة لرفض التنفيذ عفوًا ولم يثيرها أطراف النزاع باستثناء الأمور التي تتعلق بمخالفة النظام العام والتي لم تتم إثارتها من قبل أي من طرفَي النزاع. وعليه أن يلتزم بما تم تحديده من قبل الأطراف المتنازعة وذلك تحت طائلة الاعتراض على قرار القاضي، وبخاصةٍ وجود مهلة محددة لطرح رفض التنفيذ، والأمور المطروحة خارج هذه المهلة لا تقبل ولا يتم العمل بها ومعالجتها بأي وسيلة.

الخلاصة

في ظل التطورات الاقتصادية والتجارية المتصاعدة في العالم بشكلٍ عام، ظهر موضوع التحكيم التجاري الدولي كحالةٍ واقعية علمية موازية لهذا التطور، لما له من نقاط متداخلة ومؤثرة على هذا الصعيد، واعتبر تنفيذ مندرجات هذا النظام وتطبيقها موضوعًا مهمًا للدراسة القانونية مع ما يحمله من أمور مؤثرة في التقدم الاقتصادي والتجاري. وكانت إشكالية رفض تنفيذ قرار التحكيم التجاري الدولي موضوعًا يستحق الاهتمام والدراسة، وفي هذا المجال تم اختيار موضوع رفض التنفيذ في لبنان بالتحديد كنموذجٍ قانوني مهم لاستعراض تأثير رفض تنفيذ قرار التحكيم التجاري الدولي، بسبب حجم عالم التحكيم الواسع وارتباطه بعمليات تبادل تجارية دولية وكثرة قضايا التحكيم المنبثقة عن هذا السوق.

رفض تنفيذ قرار التحكيم التجاري هو حالة واقعية موجودة ومنصوص عنها في مختلف القوانين والتشريعات الدولية، ونقاطها تقريبًا تتشابه وفي بعض الأحيان هي ذاتها، لكن أهمية دراسة هذه النقاط وتكريس المعرفة بها حتى لا يقع في فخها من يصدر هذا القرار، وتأتي من أجل الحفاظ على قرار التحكيم الصادر وحمايته من رفض التنفيذ لأن العمل على معالجة هذه النقاط قبل إصدار القرار التحكيمي من شأنه أن يحمي هذا القرار ويصونه إذ يعمد المحكّم إلى معالجة الخلل قبل حصوله، في حال قرّر أحد الأطراف سلوك درب التنفيذ يكون خياره غير ناجح لأن الخطأ تمت معالجته مسبقًا.

أما في ما خص مراكز التحكيم التجارية المعروفة فيعد وجودها عاملًا مؤثرًا في هذه الإشكالية ومفيدًا في حال الاستفادة منه بشكلٍ جيد، وعائقًا في وجه التنفيذ عند الخلل في الاستفادة منه، بالإضافة إلى الاتفاقيات التحكيمية التجارية المختلفة التي تدعم هذا التنفيذ بشكلٍ عام والتي تتغير أهميتها أيضًا حسب طبيعة الاستفادة من وجودها ومدى تطبيقها، وفي هذا المجال تعد الخبرات الخاصة بالهيئات التحكيمية، التقنية والعلمية وقدرتها على إثبات ذاتها في ساحة النزاعات التحكيمية في لبنان من العوامل المؤثرة بشكلٍ أو بآخر في هذه الإشكالية، وبخاصةٍ لأن الأمر يتعلق بضرورة وجود الخبرة والكفاءة والقدرة على فرض إيقاع هذه المؤسسات على الأطراف قبل إصدار القرار التحكيمي وفي أثنائه وبعده.

لقد أخذت الدول المختلفة على عاتقها عبر أنظمتها التشريعية موضوع تطوير التحكيم التجاري الدولي وتنظيمه من خلال سَن وإدخال التشريعات والنصوص التحكيمية، وكذلك الأمر عبر تحسين الجو الاستثماري والتشجيعي للاستثمارات الأجنبية، لأن لُب الموضوع الأساسي هو التنمية والتطوير التجاري الدولي بين مختلف الدول، وعملت على تطوير التعاون الفعال من أجل النهوض بآلية التحكيم التجاري الدولي.

في هذا المجال تجدر الإشارة إلى أنه من أجل الوصول إلى الغاية المطلوبة في تطوير آلية التحكيم التجاري الدولي في أي بلد من البلدان يتوجب تضافر الجهود بين العديد من الجهات، لا سيما القانونية، الاقتصادية والتعليمية، عبر تنظيم المؤتمرات وعقد الاتفاقيات الثنائية والجماعية، واتخاذ مختلف الإجراءات التي تبعث الثقة في الأنظمة القانونية المغايرة لنظام التاجر القانوني، كذلك الأمر تطوير الوعي المتعلق بالتحكيم التجاري حول فوائده وحسناته والمزايا التي يتمتع بها وذلك من أجل تعميم فكرة اللجوء إلى هذا النظام وتكريس مفهومه كعملٍ قانوني مهم مُصاحب للإجراءات التجارية لما له من فائدة قانونية متطورة على هذا الصعيد.

يبدو واضحًا بعد هذه الدراسة في ما يتعلق بالإشكالية المطروحة التأثير الكبير لموضوع رفض التنفيذ المنطلق من الأسباب القانونية المطروحة في قوانين التحكيم المختلفة، لا سيما قانون التحكيم اللبناني وبخاصةٍ بالنسبة إلى تعدّد النقاط المؤدية إلى رفض التنفيذ وكثرتها إلى حد ما، وعليه من المفيد إطلاق بعض التوصيات المساهمة في معالجة هذه الإشكالية أهمها الاطلاع على قوانين التحكيم المختلفة والعمل تحت مظلتها القانونية كذلك الأمر دراسة العقد التجاري بشكلٍ جيد قبل البدء بالتعامل التجاري من أجل تجنّب الدخول في النزاعات، وتنفيذ العقود التجارية حسب المتفق عليه منعًا من الدخول في النزاعات، كذلك التأنّي في دراسة القرار التحكيمي والعمل بدقةٍ قبل إصداره منعًا من إمكانية تطابق أي من نقاط رفض التنفيذ عليه تجنبًا لرفض أحد الأطراف تنفيذ هذا القرار.

 

قائمة المراجع

 

مراجع باللغة العربية

 

الكتب

1. إبراهيم، كمال، التحكيم التجاري الدولي قيمة التحكيم وحتمية قانون التجارة الدولي، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1999.

2. أبو زيد، رضوان، الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي، طبعة أولى، دار الفكر العربي، مصر، 1981.

3. جرباء، محمد بن عبد العزيز، شؤون قانونية سعودية دستورية تجارية منهجية، طبعة أولى، مكتبة القانون والاقتصاد، 2013.

4. جريح، محسن، التحكيم التجاري الدولي والتحكيم الداخلي، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، منشورات زين الحقوقية، 2016.

5. جمعة، صفاء فتوح، العقد الإداري الإلكتروني، الطبعة الأولى، دار الفكر والقانون للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014.

6. حداد، حفيظة السيد، الموجز في النظرية العامة في التحكيم التجاري الدولي، الطبعة الأولى، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2010.

7. حريري، محمود مختار أحمد، التحكيم التجاري الدولي، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، بيروت، 1999.

8. دسوقي، عبد المنعم، التحكيم التجاري الدولي والداخلي، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995.

9. سبعاوي، زياد، التحكيم التجاري ما بين الشريعة والقانون، الطبعة الأولى، المركز القومي للإصدارات القانونية، القاهرة.

10. عبد الله، حيدر مدلول، الرقابة القضائية على التحكيم في المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، المركز العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017.

11. كفارنة، محمود عارف أرحيل، النظام القانوني للتحكيم التجاري في ظل القانونَين المصري والأردني (دراسة مقارنة)، طبعة أولى، دار الكتاب الثقافي، عمان، 2019.

12. كيلاني، محمود، عقود التجارة الدولية في مجال نقل التكنولوجيا، مجموعة الرسائل العلمية، الطبعة الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2014.

13. محمد، سيد عبد النبي، التحكيم في المنازعات التجارية الدولية النظرية والتطبيق، الطبعة الأولى، وكالة الصحافة العربية، مصر، 2019.

14. محمد، محمد محمود الروبي، الضبط الإداري ودوره في حماية البيئة، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2014.

15. نداوي، آدم، المرافعات المدنية، المكتبة القانونية، بغداد، 2006.

16. وافي، محمود علي عبد السلام، خصوصية إجراءات التحكيم في كل من مصر ودول الخليج العربي، الطبعة الأولى، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2016.

 

 

القوانين والمراسيم

1. قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الرقم 90 الصادر في 16/9/1983.

2­. قانون التحكيم الرقم 440 الصادر في 29/7/2002.

 

المعاهدات والاتفاقيات

1. مجلة الأحكام العدلية العثمانية، العام 1876.

2. اتفاقية لاهاي الدولية لعام 1907.

3. قانون التحكيم النموذجي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي 1985 مع التعديلات.