العوافي يا وطن

الإرث الغالي
إعداد: د.إلهام نصر تابت

تطوي الأزمة الاقتصادية الطاحنة في لبنان عامها الخامس بعد أسابيع قليلة، فيما تمرّ أربع سنوات على كارثة انفجار مرفأ بيروت. وتستمر تداعيات الأزمة السياسية في إطالة عمر الفراغ الرئاسي، بينما تكاد الحرب جنوبًا أن تُطفئ شمعة عام كامل من الدماء والدمار من دون أن تَخْفُت حدّة نيرانها.

لكن مع ذلك كلّه، ومع ما يصاحبه من ارتدادات سلبية على أداء مؤسسات الدولة وأجهزتها وخدماتها، وما يستتبعه من تأثيرات تطال مختلف جوانب الحياة اليومية، ومن هموم ومخاوف… يتوهّج صيف لبنان ساحلًا وجبلًا مهرجانات واحتفالات وفرحًا.

لم تهزم أسوأ الأزمات وأقساها اللبنانيين، ولم تستطع رميهم في شوارع اليأس والبؤس. بلد شهد ما شهدناه من ضياع جنى أعمارنا وحتى رواتبنا، وتكدّسنا طوابير بائسة أمام المصارف ومحطات الوقود والأفران… كان يُمكن أن ينهار أمنه كما انهار اقتصاده. صحيح أنّ نسبة الجرائم ارتفعت بما فيها أعمال السلب والسرقات وسواها من الاعتداءات، لكنّنا ما زلنا ننعم بالأمن ونسهر حتى الصباح ونعود إلى بيوتنا آمنين.

مدينة شهدت كارثة بحجم كارثة انفجار مرفأ بيروت، كان يُمكن أن تظل أسيرة الفاجعة والسواد لسنوات، لكنّ بيروت نهضت مشرقة بالحياة وإن خبّأت جرحها العميق. الشوارع التي دُمّرت مؤسساتها عادت تنبض بالحياة وشهدت افتتاح مئات المطاعم وسواها من أماكن الترفيه والمؤسسات التي كانت قد أُغلقت، إلى أخرى استُحدثت. وجد اللبنانيون سُبلًا للتكيّف مع الواقع ومواجهته مثبتين صلابتهم وقوة إرادتهم.

صحيح أنّ سعي الشباب إلى الهجرة والعمل في الخارج مستمر مع ما له من تداعيات سلبية على مستقبل البلد، غير أنّ الأموال التي يمدّ بها المغتربون أهاليهم في لبنان تُشكّل أحد أبرز شرايين الصمود في وجه الأزمة. والصحيح أيضًا أنّ ثمة هجرة معاكسة رغم الأزمة ومخاطر الحرب واعتداءات العدو.

الأطباء الذين كانوا في طليعة الفئات التي هاجرت بسبب الإحباط واليأس مع بداية الأزمة ومن ثم انفجار المرفأ، باشروا منذ الربيع العودة إلى لبنان، إذ عاد حوالى 50% منهم. وعلى خط موازٍ رُصدت عودة عائلات لتسجيل أبنائها في مدارس لبنان بعد أن كانت قد غادرت بسبب الأزمة.

تهديدات العدو اليومية لم تمنع أبناء الجنوب من التوجّه إلى قراهم المدمرة لإحياء مناسبات دينية أو اجتماعية، ولم تمنع الطلاب من التقدم إلى الامتحانات بجدارة وعزم على المواجهة بسلاح العلم، كما أنّها فشلت في منع اللبنانيين المغتربين والسياح العرب وسواهم من التوجّه إلى لبنان والاستمتاع في ربوعه.

ازدحام السير الصيفي رغم ما يسببه لنا من هدر للوقت والأعصاب والوقود، يظل علامة عافية في بلد يُـ­تقن شعبه فنّ النهوض مستندًا إلى مهارة التكيّف مع الظروف التي يمتلكها بنوه، وهذه ميزة بيّنت دراسات في جامعة هارفرد أنّها من أبرز سمات من ينجحون في الحياة.

ولعل من أبرز تجليات هذه الميزة ما عكسه أداء المؤسسة العسكرية خلال السنوات الخمس الصعبة الأخيرة، وتمكّنت من خلاله الوفاء بالتزاماتها حيال اللبنانيين والعسكريين على السواء. فرغم الانقسامات الحادة والأوضاع الكارثية، حفظت أمن الوطن، وأتاحت لأبنائه، مؤسسات وأفرادًا، أن يحافظوا على الأمل في مواجهة اليأس، كما حفظت كرامة المنضوين في صفوفها. وقد حفظ هؤلاء إرثهم الغالي في المناقبية والإباء والتضحية، مؤكدين مرة جديدة أنّ القيم والمبادئ التي يلتزمونها هي خميرة مباركة في معجن الوطن.

في الأول من آب الذي يحمل معه هذا العام الذكرى الـ79 لتأسيس جيشنا، نقول بكل فخرٍ واعتزاز …

العوافي يا جيشنا.

العوافي ياوطن.