مناسبة

ماضون في العمل بواجبنا
إعداد: جان دارك أبي ياغي

الإمدادات والتنقلات
قد يبدو تأمين المساندة اللوجستية المستدامة (المحروقات، والتغذية والمياه) نوعًا من تحصيل الحاصل، غير أنّ الأمر لا يسير بسهولةٍ نظرًا لحجم القطاع وطبيعته الجغرافية القاسية، والمسافات التي تفصل بين المراكز المنتشرة. فحين نتحدّث عن مراكز تقع على علو يُقارب الألفين وخمسمئة متر، لنا أن نتخيّل صعوبة وصول الإمدادات خصوصًا في فصل الشتاء حين يفرض الثلج عزلته لأسابيع. وفي السياق نفسه تبرز صعوبة تنقّل العسكريين بين أماكن سكنهم ومراكزهم. لكنّ ذلك كله لا يقف عائقًا أمام تمسّك العسكريين بأداء واجبهم الوطني والسهر على حدودهم، لا سيما وإنّ لكل مشكلة حل عندما توجد الإرادة. فقد عملت قيادة الجيش على شق عدة شبكات من الطرق في مناطق ”لم تعرف الزفت سابقًا“، ما أدى إلى تسهيل تنقّل العسكريين والمواطنين على السواء. وفيما تتولى حافلات النقل المشترك العسكرية تأمين وصول العسكريين إلى مراكزهم وإعادتهم إلى مناطق سكنهم، عمدت قيادات الأفواج إلى استدراك حاجاتها التموينية وتخزينها، فضلًا عن تجهيز المراكز بمختلف مستلزمات الحياة اليومية من مياه وكهرباء وسوى ذلك.

التدريب وتطوير القدرات
لتمكين أفواج الحدود البرية من القيام بواجباتها ومهماتها بما يتوافق مع توجيهات قيادة الجيش والمعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال، أُنشئت في رياق مدرسة تدريب أفواج الحدود البرية لإعداد الضباط والعناصر وتطوير قدراتهم في مجال ضبط وإدارة الحدود الشمالية والشرقية من خلال إكسابهم المعرفة والمهارات الفنية والتقنية المناسبة، كما تقوم المدرسة بتنفيذ تدريبات مشتركة مع باقي الأجهزة الأمنية العاملة على الحدود.
تركّز برامج التدريب التكتية على رفع مستوى عناصر أفواج الحدود البرية من الناحية القتالية حيث يتابعون دورات تدريب تتضمن: الدوريات، الكمائن، حواجز تفيتش، إغارات، أسلحة، رمايات …
أما برامج التدريب التقنية فتشمل إكساب العناصر المهارات اللازمة لاستخدام العتاد الخاص بأفواج الحدود البرية مثل المناظير وكاميرات المراقبة، ووسائل كشف التزوير …
تتعاون المدرسة مع عدد من الشركاء المحليين والأجانب، إذ يحظى الجيش اللبناني بدعمٍ استثنائي من بعض الدول، لكونه ضمانة الاستقرار، ومصدر الثقة التي تدفعها إلى المتابعة في مشاريع تعزّز الأمن وبخاصةٍ الحدودي.
وحين نتحدث عن الأمن الحدودي وإدارة الحدود الشمالية والشرقية للبنان، نتحدث تحديدًا عن مشاريع الدعم الأوروبي للإدارة المتكاملة لهذه الحدود التي ينفّذها المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة ICMPD بتمويلٍ من عدة جهات، على رأسها المملكة الهولندية الحاضرة في لبنان منذ سنوات، وفي هذا المشروع تحديدًا منذ العام 2015.
أُنشئت مدرسة تدريب أفواج الحدود البرية في العام 2017، وعرفت تطوّرًا ملحوظًا من خلال دعم بريطاني وأميركي تمثل ببناء قرية تدريبية نموذجية تحاكي الواقع على الحدود، كما حازت في العام 2018 على شهادة ISO -21001/2018 لأنظمة إدارة المؤسسات التعليمية.
اعتمدت المدرسة منهجية تدريبية علمية شاملة ومتخصصة، تقوم على المزج بين النظري والعملي وإشراك المستفيد في رسم المعالم الأساسية لهذه المنهجية عبر سلسلة خطوات أبرزها:

  • التدريب وفق الحاجات: يتم وضع الخطة التعليمية السنوية بعد سلسلة اجتماعات مع الجهات المستفيدة (أفواج الحدود البرية) للوقوف على حاجاتها بما يتوافق مع المهمات المكلفة بها.
  • التدريب وفق المستوى: تقدم المدرسة تدريبًا متخصصًا وفق عدة مستويات، انطلاقًا من تطوير المهارات الفردية وصولاً إلى تدريب وحدة بمستوى سرية.
  • تطوير المناهج والبرامج: يتم تصميم مناهج وبرامج تدريبية تتناسب مع الأهداف المطلوبة، ويُعمل على تطويرها بشكلٍ دائم استنادًا لاقتراحات المدرِّبين والمتدرِّبين، وبما يتوافق مع حاجات القطع المستفيدة وتوجيهات قيادة الجيش.
  • اعتماد الواقعية والأسلوب التفاعلي: وذلك من خلال ربط التدريب بالواقع ومحاكاة الظروف الميدانية التي قد يواجهها العناصر المتدرِّبون في حياتهم العملية، وخلق بيئة تعليمية تفاعلية تُسهم في تحقيق أفضل النتائج.

حماية الحدود وضبطها هي في طليعة مسؤوليات أي جيش في العالم، وهي أيضًا في طليعة المسائل التي تطرح إشكاليات مهمة ترتبط بعوامل مختلفة، منها ما يعود إلى قدرات الجيوش البشرية واللوجستية، ومنها ما يعود إلى طبيعة الأرض وجغرافيتها والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي… وبناء عليه فإنّ مهمة حماية الحدود وضبطها بشكلٍ كامل تبقى مسألة معقدة، حتى في أعظم دول العالم… هذا ما يجب أن نتذكّره دائمًا كلّما طُرحت مسألة الحدود اللبنانية – السورية، ومع الأسف هذا ما يتجاهله كثيرون، في حين يبذل الجيش جهودًا جبارة للقيام بواجبه على أفضل وجه، متجاوزًا صعوبات لا تُحصى ولا تُعد.

ولئن كانت مسألة تدفّق النازحين السوريين بتداعياتها وتعقيداتها من أبرز الأخطار التي تهدد لبنان، فإنّ الكل يعلم أنّ معالجة هذه المسألة ومكافحة الهجرة غير الشرعية والتهريب، لا تتمّ فقط من خلال تنفيذ الجيش لمهماته، بل تتطلب تضافر جهود جميع المعنيين.
ما يعنينا هنا هو ما يقوم به عسكريونا الذين يتفانون في أداء واجبهم، هذا الواجب الذي يكلّفهم أحيانًا دماءً غالية وليس فقط عرقًا وجهدًا وسهرًا. فمن السهل شمالًا إلى الجرود شرقًا ينتشر عسكريو أفواج الحدود البرية الأربعة، مقدمين أنموذجًا في الصلابة والتضحية من الصعب أن يُدرك أبعاده سوى من اختبر طبيعة الحدود وعرف تعقيدات الواقع على جانبيها.
فمن تداخل الأراضي بين البلدين إلى تداخل الصلات والروابط، ومن وعورة المرتفعات واستحالة رصد ومراقبة جميع المسالك والمعابر التي تنبت بين ليلة وضحاها، إلى قسوة العوامل المناخية، ومن الفقر والحرمان، إلى عقود من الإهمال وانعدام التنمية، وسوى ذلك الكثير الكثير مما يعرفه العارفون…

من السهل إلى أعلى الجرود
منذ مطلع الاستقلال إلى مطلع الألفية الثالثة، لم تشهد الحدود بين لبنان وسوريا والممتدة على نحو 340 كلم انتشارًا كاملًا للجيش اللبناني. وقد بدأ هذا الانتشار مع اتخاذ مجلس الوزراء في 20/12/2008، قرارًا يتعلّق بمراقبة الحدود الشرقية وضبطها. والقوة التي انتشرت على طول هذه الحدود نمت باضطراد وباتت تُمسك الحدود الشمالية من العريضة إلى وادي خالد، والشرقية من الهرمل إلى جبل الشيخ. وذلك بعد أن تحولت تدريجًا، إلى أفواج الحدود البرية الأربعة:
أُنشئ أول هذه الأفواج في 1/5/2009، تتمركز قيادته حاليًا في شدرا – عكار. وهو ينتشر على امتداد الحدود الشمالية، وتشمل مسؤولياته الحدود اللبنانية السورية الشمالية وجزءًا من الحدود الشمالية الشرقية بطول 110 كلم. تتميز هذه الحدود بسهولة تجاوزها بسبب قلة الحواجز الطبيعية، بالإضافة إلى الكثافة السكانية العالية، وتداخل الأراضي خصوصًا في منطقة وادي خالد، فضلًا عن قرب المنازل من الحدود.
وأُنشئ الثاني في 1/9/2009، تتمركز قيادته في بلدة رأس بعلبك في البقاع. وينتشر على طول الحدود الشرقية والشمالية الشرقية (حوالي 85 كلم من نقطة ضهر الهوة في عرسال حتى نقطة البستان في بلدة القصر). تتميَّز الحدود في هذا القطاع بأنها جبلية من الشرق وسهلية من الشمال الأمر الذي تنشأ عنه فوارق كبيرة في الارتفاع، فأعلى نقطة هي حليمة القبو (2462 م) وأدنى نقطة هي حوش السيد علي (545 م).
أما الفوج الثالث فأُنشئ في1/9/2014، تتمركز قيادته في ثكنة الياس أبو سليمان – أبلح في البقاع، وتشمل بقعة انتشاره الحدود اللبنانية – السورية من عنجر شمالًا إلى جرود عيحا جنوبًا على مسافة 75 كلم. ويتميَّز هذا القطاع بخصوصية تعود إلى عدة أسباب من بينها التداخل بين الأراضي اللبنانية والسورية، ووجود معبر المصنع ضمن نطاقه، وطبيعة أرضه الجبلية الوعرة والطقس القاسي، شمس لاهبة وصقيع لا يُحتمل.
آخر هذه الأفواج هو الرابع الذي أُنشئ في 1/3/2016، وتمركزت قيادته في ثكنة محمد مكي – بعلبك. وهو ينتشر في السلسلة الشرقية من ضهر الهوة شمالًا (جرد عرسال) إلى جرد بلدة معربون جنوبًا بطول حوالي ٨٥ كلم من الحدود اللبنانية – السورية. وتُعتبر أراضيه بمجملها جبلية وعرة، تضاريسها صعبة تتخللها وديان تمتد من الأراضي السورية وصولًا إلى الأراضي اللبنانية، وتتراوح الارتفاعات عن سطح البحر في هذا القطاع ما بين 1500 متر (مركز النبي سباط) و2400 متر (مركز عش النسر).
مهمة هذه الأفواج محددة بمراقبة الحدود البرية للحؤول دون أعمال التهريب بمختلف أشكاله ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وضبط المخالفات وتوقيف الفاعلين­، وذلك من خلال إقامة مراكز مراقبة ونقاط تفتيش ثابتة وظرفية، بالإضافة إلى تسيير الدوريات.
غير أنَّ تنفيذ هذه المهمات دونه عقبات وصعوبات قد تختلف إلى حد ما بين فوج وآخر، لكنّها تتمحور في معظمها حول المعطيات الجغرافية والديموغرافية المعقَّدة نظرًا إلى تداخل الأراضي على جانبي الحدود، وطبيعة الأرض الوعرة والتضاريس التي تعيق المراقبة عند بعض النقاط، ما يسمح باستحداث ممرات جديدة تُستعمل في عمليات التهريب. يُضاف إلى ذلك افتقار المناطق الحدودية إلى مقومات أساسية في البنى التحتية والخدمات، وكثافة أعداد الأشخاص الذين يحاولون الدخول خلسة إلى الأراضي اللبنانية وهم لا يحملون أوراقًا ثبوتية.
يُجمع على هذه النقاط قادة الأفواج الأربعة، ويتحدثون في المقابل عن جهود استثنائية يبذلها العسكريون لتجاوز العقبات، وعن العمل المستمر على خطين متوازيين: بناء مزيد من القدرات تدريبًا وتجهيزًا، وبناء مزيد من الثقة مع المواطنين عبر تحسس أوضاعهم وحاجاتهم والقيام بمشاريع تُسهل حياتهم.
من خلال العمل الدؤوب والتدريب المتواصل والتعاون مع وحدات الجيش المنتشرة وفروع مخابرات المناطق والتنسيق مع الأجهزة الأمنية الأخرى، تمكّنت هذه الأفواج من تذليل بعض العقبات، والتوصل إلى نسبة عالية من النجاح، على الرغم من اتساع القطاع وعدم القدرة على تغطيته بشكلٍ كامل بواسطة أجهزة المراقبة. كما تشهد هذه النسبة أيضًا ارتفاعًا ملحوظًا بفضل تقنيات الرصد ووسائل المراقبة المتطورة.

التنسيق مع الأجهزة الأمنية
لا يمكن للمهمات، وخصوصًا الأمنية منها، أن تنجح من دون التواصل والتنسيق بين الأجهزة المعنية على صعيد تبادل المعلومات واستثمارها من جهة، ومكافحة التهريب على أنواعه وملاحقة المطلوبين وتوقيف المخالفين وتسليمهم من جهة أخرى. ويشكّل التواصل المستمر مع المراكز الأمنية المنتشرة على المعابر الشرعية (الأمن العام والجمارك والأمن الداخلي)، عامل قوة لضبط الحدود في ما يتعلق بمكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية. يشكل هذا التعاون أحد أهم الركائز لضبط أمن الحدود، ومعالجة الصعوبات.

مهمات إضافية
لا تقتصر مهمات أفواج الحدود البرية على مهمتها الأساسية، فهي تضطلع أيضًا بمهمات حفظ الأمن والتصدي للمجموعات الإرهابية، وملاحقة المطلوبين والمخالفين من خلال تسيير الدوريات وإقامة الكمائن، ونقاط المراقبة وحملات الدهم…
يُضاف إلى ذلك تعزيز ثقة المواطنين بالمؤسسة العسكرية من خلال مشاريع إنمائية تخدم المصلحة العامة. في هذا السياق يُذكر شق بعض الطرقات، وإنارة الساحات العامة والطرقات بواسطة أجهزة إنارة تعمل على الطاقة الشمسية بالتعاون مع مديرية التعاون العسكري – المدني في الجيش، كما تُذكر أعمال ومبادرات كثيرة يشعر من خلالها المواطنون أنّ الجيش هو إلى جانبهم دائمًا. في المقابل، يهبّ المواطنون إلى الالتفاف حول الجيش مقدرين جهوده لمساعدتهم وتوفيره الأمان اللازم لوصولهم إلى أراضيهم في مناطق نائية ظلت لسنوات محظورة عليهم، كما يقدّرون تضحياته الكبيرة لحمايتهم وضمان أمنهم وسلامتهم.

المساعدات والحاجات
شكّلت المساعدات التي قدمتها عدة دول مانحة عاملًا مهمًا في دعم المهمات العملانية لأفواج الحدود البرية، ومن أبرز الجهات التي قدمت المساعدات: الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، ألمانيا، الدانمارك، هولندا، كندا، والإتحاد الأوروبي. وقد كان لهذه المساعدات دور محوري في تعزيز قدرات الأفواج وتحسين أدائها، أولاً عبر أنظمة المراقبة والاستشعار والرادارات التي جرى تركيزها على أبراج المراقبة التابعة للمراكز المتقدمة، وثانيًا عبر التدريب المتواصل للعسكريين من مختلف الرتب على تشغيل أنظمة المراقبة وتنفيذ التدابير العملانية لضبط الحدود، على الرغم من حجم قطاع المسؤولية وكثرة المهمات التي تتطلّب جهدًا مضاعفًا ومزيدًا من أجهزة المراقبة والعتاد لمسك الحدود بشكل كامل وتغطية النقاط غير المرئية في بعض الأماكن.
في خلاصة أساسية، تعمل أفواج الحدود البرية وسط الصعوبات المتأتية من طبيعة المهمة والمتطلبات اللوجستية والعوامل الجغرافية وسواها، عبر اعتماد استراتيجيات متعددة يعزز فعاليتها التزام العسكريين وتفانيهم في أداء واجبهم على أكمل وجه.