- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
إحسان مرتضى – باحث في الشؤون الإسرائيلية
اقتنع اليهود عمومًا بانتصارات الحركة الصهيونية التي عملت على تحقيق ما آمنوا به من بناء وطن قومي لليهود في فلسطين، من دون الإقرار بالتدخل الإلهي في الأمر الذي ربطوه بجهودهم الخاصة. لكنّ الحريديم يشكّلون استثناء في هذا السياق، إذ ربطوا مسألة العودة إلى ما يسمونه ”أرض إسرائيل“ وإنشاء الدولة اليهودية، بـ”التدخل الإلهي“، وقدوم المُخَلّص (الماشياح اليهودي).
ورأى هؤلاء أنّ دعوة أشخاص مثل هرتسل ووايزمان تتعارض مع الدين اليهودي واعتبروها تحديًا لإرادة الله وتدخلًا في شؤونه، وكشف الحاخام كوك الابن عن أفكار جانحة في تطرفها كدعوته إلى حرب دينية شاملة ضد العرب باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق عودة المسيح المنتظر.
بحسب الحاخام يسرائيل هارئيل رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية «يوجد وطنان آخذان بالتكوّن في إسرائيل: وطن الإسرائيليين ووطن اليهود، والإسرائيليون هم أغيار (غوييم) غرباء يتكلمون اللغة العبرية لا أكثر ولا أقل، والعلمانية والديمقراطية لا تعتبران من القيم البنيوية الأساسية للشعب اليهودي. وعلى ضوء زيادة تمثيل الحريديم في الكنيست خلال العقود الثلاثة الأخيرة بما يتناسب مع نسبة تكاثرهم الطبيعي المرتفعة أكثر بكثيرٍ من العلمانيين، غرقت «إسرائيل» تدريجيًا في أزمة سياسية وعسكرية حادة بسبب قانون تجنيد اليهود المتعصبين الحريديم في صفوف الجيش. وكانت الخلافات حول قانون التجنيد قد ظهرت بقوة على الساحة الإسرائيلية في فترة الاحتجاجات ضد التعديلات الرامية لتحجيم القضاء وتقييده قبل حرب غزة، ثم عادت الآن بقوة أكبر في ظل حاجة جيش الاحتلال إلى التحاق آلاف الجنود في الخدمة عوضًا عمّن قُتلوا وأصيبوا منذ بداية الحرب، وفي ظل طرح القانون الجديد الذي يجيز التجنيد المحدود للمتدينين والذي لاقى معارضة حتى من داخل بعض مكوّنات الحكومة.
ملف جدلي صعب
لطالما كان تجنيد المتزمتين الذين يتهربون من الخدمة العسكرية بدعوى التفرغ لدراسة التوراة، ملفًا جدليًا شائكًا على مختلف المستويات في المجتمع الإسرائيلي منذ العام 1948. ومن المعلوم أنّ 70٪ من اليهود الإسرائيليين يؤيدون إنهاء الإعفاءات العسكرية الشاملة، وفق استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. وتتمثل المعضلة الأساسية لقانون الخدمة العسكرية للمتدينين في الوقت الراهن بتضييقها خيارات نتنياهو السياسية؛ فإمّا أن يخضع للأحزاب الدينية ويُشرِّع قانونًا خاصًا على مقاسهم ورغباتهم، مُخاطرًا بزيادة الاحتجاج والانقسام في «إسرائيل»؛ أو يرفض ذلك، مما يُهدِّد مستقبله السياسي وبقاء حكومته. وجدير بالذكر أنّه منذ العام 2017، أخفقت الحكومات المتعاقبة في التوصّل إلى قانون توافقي بهذا الشأن بعد أن ألغت المحكمة العليا قانونًا شُرّع في العام 2015، وقضى بإعفائهم من الخدمة العسكرية، معتبرة أنّه يمس بـ «مبدأ المساواة» في تحمل الأعباء بين المستوطنين. وفي حين تُعارض الأحزاب الدينية المساس بمبدأ الإعفاء، يطالب وزراء علمانيون بينهم عضو مجلس الحرب السابق بيني غانتس ووزير الدفاع يوآف غالانت وزعيم المعارضة يائير لابيد بوضع حد لهذا الإعفاء المزمن الذي يعتبرونه مشينًا. وفي السياق، ذكر موقع «والا» العسكري الإسرائيلي أنّ قادة الجيش كانوا قد أبلغوا وزير الدفاع غالانت، أنّهم بحاجةٍ إلى تجنيد حوالي 20 ألف جندي إضافي كي يتمكن الجيش من القيام بالمهمات الروتينية والعمليات الحربية المطلوبة منه في ميادين المواجهة المختلفة، في حين أكّد كبار قادة الجيش أنّ هناك ضرورة ماسة لهذا التجنيد الإضافي في ضوء التهديدات المتزايدة وتقديرات الاستخبارات بشأن إمكان فتح جبهات جديدة.
تهديد بقاء الحكومة
ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أنّ الأحزاب الدينية في الائتلاف الحاكم (شاس ويهدوت هاتوراه) هددت بالانسحاب في حال تبنّي قانون جديد للتجنيد، علمًا أنّ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة كانت قد سعت إلى سَنّ قانون يكرّس إعفاء الحريديم من الخدمة الإلزامية حفاظًا على بقائها، ما فتح الباب على مصراعيه أمام تفاعلات معقّدة تنذر بأزمةٍ سياسية وحكومية صعبة. وفي المقلب الآخر قال الحاخام الأكبر لليهود السفارديم في إسرائيل (طائفة اليهود الشرقيين) يتسحاق يوسف: «إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش فسنسافر جميعًا إلى خارج البلاد»، وأضاف مستنكرًا: «لا يوجد شيء من هذا القبيل، إنّ العلمانيين يضعون الدولة على المحك»، لافتًا إلى أنّ «كل هؤلاء العلمانيين لا يفهمون أنّه من دون المدارس الدينية لم يكن الجيش لينجح، فالجنود لم ينجحوا إلا بفضل أهل التوراة». وأكّد أنّ «عليهم (العلمانيين) أن يفهموا أنّه من دون التوراة والكُلّية والمدرسة الدينية، لن يكون هناك نجاح للجيش». واعتبر وزير البناء والإسكان ورئيس حزب «يهدوت هتوراه»، يتسحاق غولدكنوبيف، أنّ «القرار متوقّع، ومحزن ومحبط جدًا. دولة إسرائيل قامت لكي تكون بيتًا للشعب اليهودي الذي تُشكّل توراته حجر بقائه. التوراة المقدسة ستنتصر». أمّا زميله في الحزب نفسه، وزير «شؤون القدس وتراث إسرائيل»، مئير بروش، رأى أنّ «حكم المحكمة العليا ينشئ في الواقع دولتين اثنتين: واحدة هي الدولة التي تدار كما هي الآن، وأخرى هي التي سيستمر فيها أبناء المعاهد الدينية في دراسة التوراة كما دأبوا في الدولة التي أعلنها بن غوريون. لا يوجد قوّة في العالم بمقدورها إجبار شخص روحه معلّقة بدراسة التوراة على ألا يفعل ذلك». وكذلك قال الحاخام الحريدي يتسحاق فريدمان: «لدي ما بين 30 إلى 40 حفيدًا، وإذا سألوني ماذا تفضّل، أن يقتلهم العرب أو أن يصبحوا علمانيين؟ فإنّ العلمانية عندنا تتجاوز الموت، وهي أكثر خطورة بكثير». وأضاف: «التجربة علمتنا أنّ الحريديم الذين يتجندون في الجيش يتركون الدين، وهذا أسوأ من الموت». وقال إنّه لا يجد ثقافة مشتركة بين الإسرائيليين العلمانيين والحريديم، وإنه «من الأفضل أكل لحم الخنزير على الوجود في مجتمع علماني وفكر علماني، وكذلك من الأفضل الوجود في السجن على الوجود في الجيش».
جدير بالذكر هنا، أنّ أحزاب اليمين المتطرف في انتخابات «الكنيست» المتتابعة كانت قد دخلت في صفقة تاريخية تقضي بحصولها على أصوات المتدينين المتزمتين، طوال العقود الماضية، في مقابل استمرار إعفائهم من التجنيد العسكري، وتقديم حكومات هذه الأحزاب أموالًا وهبات وبرامج رفاه اجتماعي لمؤسساتهم ومدارسهم، علمًا أنّ الآلاف من طلاب المدارس الدينية يتقاضون مخصّصات مالية تبلغ 8500 دولار سنويًا للطالب، ليتفرغوا لدراسة شريعة التوراة والتلمود والقوانين الحاخامية اليهودية (الهالاخاه). وقد عقّب العلماني بيني غانتس على مواقف الحاخامات المتزمتين هؤلاء بالقول: إنّ كلمات كبار حاخامات السفارديم «تمثل ضررًا أخلاقيًا على الدولة والمجتمع الإسرائيلي». وقال: «إنّ قانون التجنيد كما صاغته الحكومة هو فشل أخلاقي خطير سيؤدي إلى صدع عميق في داخلنا، في وقت نحتاج فيه إلى القتال معًا ضد أعدائنا».
ثغرة تسمح بالمناورة
لقد ناقشت المحكمة العليا في «إسرائيل» مؤخرًا، بشكل رئيسي، مشاريع قوانين تجنيد الحريديم بعد أن بات عبء عدم المساواة في الخدمة بين المستوطنين، في الظروف الحرجة الراهنة، أكثر حدة من أي وقت مضى، ويتطلب تقديم حل مستدام للقضية. وقررت المحكمة إلغاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية، من دون أن يصدر حتى تاريخ كتابة هذه السطور أي قانون يُلزم «الحريديم» بالتجنيد أو يمنع إعفاءهم منه، وجل المسألة أنّ الحكومة والجيش لم يعودا قادرَين على إعفاء هؤلاء، لأنّه لا يوجد قانون يعفيهم من الخدمة العسكرية، خصوصًا بعدما انتهت صلاحية تشريع الإعفاء قبل سنة تقريبًا، لتصبح أوامر الحكومة بعدم التجنيد، والمعمول بها منذ ذلك الحين، باطلة، كونها لا تتوافق مع القانون النافذ، أي قانون الخدمة الأمنية الذي يلزم كل الإسرائيليين بالخدمة، من دون تمييز بين «حريدي» و«غير حريدي». لكنّ حزب الليكود الإسرائيلي بزعامة رئيس الوزراء نتنياهو انتقد توقيت صدور قرار المحكمة المذكور، كما انتقده حزب «شاس» بزعامة أرييه درعي قائلًا: «إنّ الشعب اليهودي صمد في وجه الملاحقة والحروب والاضطهاد، فقط بفضل الحفاظ على وحدته وتوراته»، فالتوراة بحسب قوله هي «سلاحنا السري لمواجهة جميع الأعداء، كما وعد خالق العالم». وأضاف أنّه «إلى جانب مقاتلينا الأعزاء الذين يضحّون بأنفسهم مقابل الأعداء، سنواصل الحفاظ على دراسة التوراة ونواصل صنع المعجزات في المعركة عبر هذه الدراسة».
المحكمة العليا أبقت من جهتها على ثغرة من المرونة تجيز للجيش الإسرائيلي اتخاذ القرار بشأن «حجم» التجنيد في صفوف طلاب المدارس من المتشدّدين، إذ أجازت تجنيدهم المحدود فقط. ويوجد حاليًا نحو 63 ألف طالب من طلاب المدارس الدينية الحريدية، الذين هم بموجب الحكم الصادر ملزمون بأداء الخدمة العسكرية. وفي محاولة لتجنّب تفاقم الأزمة داخل الجيش والحكومة والمجتمع في ظل الحرب المشتعلة على أكثر من جبهة، أعلن جيش العدو أنه قادر على تجنيد حوالي 3 آلاف من اليهود المتشددين فقط بحلول نهاية العام 2024، وهو الإعلان الذي ينسجم مع الثغرة المتروكة في قرار المحكمة ويتلاقى أيضًا مع طرح المستوى السياسي في حكومة نتنياهو، ما يتيح لهذا الأخير الاستمرار بالمناورة مع الأحزاب الحريدية الضامنة لاستمراره السياسي.