- En
- Fr
- عربي
اقتصاد ومال
لميا المبيّض بساط – سابين حاتم – إسكندر بستاني.
يمرّ لبنان بسلسلة من الأزمات غير المسبوقة التي استنزفت موارده، وأدّت إلى انكماش اقتصادي يُعتبر الأكبر في تاريخه الحديث، أغرق نسبة كبيرة من المواطنين في فقر مدقع وعمّق الفوارق في المستويات الاجتماعية التي طالما اتّسمت بتفاوتٍ حاد يعود حتّى إلى ما قبل الأزمة الأخيرة، إذ فاق حينها دخل 10% من السكان الذين يشكّلون الفئة الأغنى خمسة أضعاف دخل الـ 50% الذين يشكّلون النسبة الأفقر من المواطنين (Assouad،2021).
منعطف صعب يشهده لبنان اليوم، فمن دون إصلاحات سريعة وفعّالة يمكن أن يغرق الاقتصاد اللبناني في أزمة طويلة. هناك حاجة فعلية إلى تسريع عجلة التحرّك نحو تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها، ومن بينها النظام الضريبي الذي يشكّل أحد أركانها الرئيسية. ومن المتوقع أن يؤدي هكذا إصلاح إلى ضمان الاستدامة المالية، وتمويل الإنفاق الاجتماعي، وإصلاح الاقتصاد على اعتبارات العدالة والمساواة، واستعادة الحد الأدنى من الثقة بين المواطنين والدولة.
في التقرير «كيف يمكن لنظام ضريبي جديد استعادة النمو وتحقيق العدالة»، نطرح، بناءً على تقييم مفصّل للوضع الحاضر ودراسات مقارنة، خارطة طريق نحو نظام ضريبي جديد يهدف إلى معالجة أوجه القصور في النظام الحالي وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين.
عقد من التناقضات في النظام الضريبي اللبناني
أدى اعتماد تدابير ضريبية منعزلة في لبنان إلى خلل في النظام الضريبي، ما أثّر سلبًا على الاستدامة المالية والنشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. انخفضت نسبة الضرائب من الناتج المحلي الإجمالي من 15.1% في 2019 إلى حوالى 6.6% في أواخر 2021، وفق صندوق النقد الدولي. تُشكل الإيرادات الضريبية الجزء الأكبر من إيرادات الدولة، وقد راوحت بين 69% و83% خلال العقد الماضي، وبالتالي فإنّ ضعف التحصيل الضريبي يضاعف تهديدات الاستدامة المالية.
قبل الأزمة الاقتصادية، أدى عدم رفع نسب الضرائب إلى تكبّد الخزينة أكلافًا مرتفعة جدًا إذ بلغت كلفة عدم تحصيل ضرائب إضافية بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يراوح بين 34 و36 مليون دولار سنويًا من فوائد دين.
بعد الأزمة، تفاقمت كلفة عدم كفاية التحصيل الضريبي بسبب تباين أسعار الصرف، وقُدّرت خسائر الإيرادات من سوء تقييم الرسم الجمركي بنحو 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
المحاولة الوحيدة لرفع الضرائب بين أواخر 2017 وبداية 2018 نتجت عنها آثار سلبية، إذ تراجعت الجباية بنسبة 1.8% وانخفضت معدلات جباية الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 15.2%، وفق وزارة المالية. في العام 2021، رغم الزيادة الاستثنائية في تحصيل الضريبة على القيمة المضافة، أصبح النظام الضريبي أكثر تمييزًا وإجحافًا.
من الواضح أنّ النظام الضريبي في لبنان بحاجةٍ إلى إصلاح شامل ومتوازن يراعي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لضمان استدامة المالية العامة وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
الإيرادات الضريبية (نسبة الضرائب من الناتج المحلي الإجمالي، 2019)
المصدر: آفاق الاقتصاد العالمي، صندوق النقد الدولي، تشرين الأول 2021؛ إحصاءات الإيرادات في أفريقيا، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2021).
الإيرادات الضريبية الفعلية والمقدرة في الموازنة (بمليارات الليرات)
المصدر: وزارة المالية 2022
تحديات الموارد البشرية والإدارة الضريبية في لبنان
شهد الأداء العام لموظفي الإدارة الضريبية في لبنان تراجعًا كبيرًا نتيجة لتدهور ظروف العمل وزيادة تكاليف المعيشة، التي تفاقمت بشكلٍ ملحوظ بفعل خسارة القيمة الحقيقية للدخل والاستنزاف الممنهج للقوى العاملة الماهرة منذ بداية الأزمة الاقتصادية.
وتواجه الإدارة الضريبية تحديًا كبيرًا على المدى المتوسط، يتمثل في نقص قدراتها البشرية، إذ يتم توظيف الموظفين الماهرين في أماكن أخرى خارج القطاع الحكومي. هذا الاستنزاف للمواهب ومغادرة الموظفين الذين تم إعدادهم وتدريبهم على مر السنين يهدد بإضعاف قدرة الإدارة على استئناف نشاطها بشكل منتظم أو تنفيذ أي إصلاحات ضرورية.
إنّ عجز الإدارة الضريبية عن أداء مهماتها بكفاءةٍ يؤثر سلبًا على علاقتها بالمكلّفين، ويزيد من مخاطر الاحتيال والتهرب الضريبي. فضعف الإدارة في تحصيل الضرائب بفعالية قد يؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطنين والدولة، ما يزيد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد.
لمعالجة هذه المشكلات، تحتاج الإدارة الضريبية إلى خطة إصلاح شاملة تركز على تحسين ظروف العمل، وتقديم حوافز جذابة لاستبقاء الموظفين الماهرين، وتعزيز القدرات البشرية والتدريب المستمر. بذلك يمكن تحسين أداء الإدارة واستعادة الثقة في النظام الضريبي، مما يسهم في تحقيق استدامة مالية واقتصادية للبلاد.
التقييم التشخيصي للإدارة الضريبية: استنتاجات رئيسية حول الأنظمة والعمليات
تواجه إدارة الضرائب في لبنان تحديّات كبيرة تؤثر على فعاليتها وثقة المواطنين في النظام الضريبي. نتائج أداة التقييم التشخيصي للإدارة الضريبية (TADAT) أكّدت عدة نقاط أساسية تستدعي الاهتمام:
- قاعدة بيانات المكلّفين: رغم أنّ قاعدة بيانات المكلفين تبدو متينة، إلا أنّ سلامة سجل المكلفين ما زالت هشة وعرضة لمخاطر الدقة في تسجيل البيانات والجرائم الإلكترونية بسبب نقص آليات التحقق.
- إدارة المخاطر: أدى ضعف إدارة المخاطر إلى ثغرات يستفيد منها بعض المكلفين على حساب الخزينة العامة، مما يتطلّب الحاجة إلى تعزيز آليات إدارة المخاطر لضمان العدالة الضريبية.
- القدرات الاستثمارية للإدارة الضريبية: تفتقر الإدارة الضريبية الحالية إلى القدرات اللازمة للاستثمار في دعم الامتثال الطوعي، وهو أمر أساسي لتحقيق عدالة أكبر في النظام الضريبي. ويعتبر تعزيز هذه القدرات أمرًا ضروريًا لضمان التزام جميع المكلفين.
- ضعف التدقيق: أدى هذا الضعف إلى زيادة احتمالات التهرّب الضريبي، مما يجعله أداة غير مباشرة لمعاقبة المكلفين الملتزمين لمصلحة الممتنعين عن الدفع.
- لمساواة في المعاملة: يواجه المكلّفون اليوم مسارات مختلفة للخضوع للتدقيق، ومن المرّجح أن يحاول صغار المكلّفين التهرّب من الضريبة مقارنة بكبار المكلّفين الذين تشملهم برامج التدقيق بانتظام. يتطلب هذا الوضع تعزيز العدالة في المعاملة بين جميع المكلّفين.
- تسوية المنازعات: تعتبر تسوية المنازعات فعّالة بشكل عام، إلا أنّها تستوجب بعض التحسينات في ما يتعلق بسرعة الاستجابة والاستقلالية تجاه الإدارة الضريبية.
بناءً على هذه النقاط، يجب أن تتخذ إدارة الضرائب خطوات عاجلة نحو تعزيز أنظمتها وعملياتها لتعزيز الثقة في النظام الضريبي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي في لبنان.
الاستنتاجات الرئيسية حول فجوة الأثر التصاعدي للضرائب
سلّطت الدراسة الضوء على ثغرات في التصميم التصاعدي للضرائب بما في ذلك ضربية الدخل ورسم الانتقال وضريبة الأملاك المبنية. هذه الثغرات ناتجة إلى حد كبير عن عدم اعتماد التراكمية عند احتساب الضريبة التصاعدية.
- ثغرات في التصميم التصاعدي للضرائب: توجد ثغرات في التصميم التصاعدي للضرائب، تشمل ضريبة الدخل ورسم الانتقال وضريبة الأملاك المبنية. تعود هذه الثغرات إلى عدم اعتماد التراكمية عند احتساب الضريبة التصاعدية، مما يضعف من تأثيرها.
- عدم خضوع غير المقيمين للضريبة التصاعدية: يُعد عدم خضوع غير المقيمين للضريبة التصاعدية من أبرز الثغرات، مما يؤدي إلى تفاوت في الأعباء الضريبية بين المقيمين وغير المقيمين.
- ضريبة الأملاك المبنية: تفتقر ضريبة الأملاك المبنية إلى التصاعدية التراكمية، مما يقلل من فعاليتها كأداة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
- تأثير انخفاض قيمة العملة الوطنية: تراجع أثر تصاعدية الضريبة بشكل كبير بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية وتعدد أسعار الصرف قبل تعديلات قانون موازنة العام 2022. وعلى الرغم من التعديلات التي أُدخلت في قانون الموازنة، إلا أنّ الأثر التصاعدي لضريبة الدخل تراجع من جديد، واتسعت الفجوة نتيجة عدم احتساب الضريبة على أساس القيمة الحقيقية للإيراد.
- التفاوت الضريبي: أدت التعديلات في قانون موازنة العام 2022 إلى زيادة التفاوت الضريبي بين فئات المكلفين بضريبة الدخل، مما أضعف العدالة الضريبية.
- تهرّب ضريبي ممنهج: تعرّض رسم الانتقال لتهرّب ممنهج، ما يشير إلى ضرورة تعزيز الرقابة والإجراءات لضمان الامتثال الضريبي.
- ضريبة القيمة المضافة: تعدّ الضريبة على القيمة المضافة، وهي مصدر الإيرادات الرئيسي للحكومة اللبنانية، ضريبة تنازلية على الدخل القابل للتصرف، ما يزيد العبء الذي تتحمّله الفئات ذات الدخل المنخفض.
- المعاملات التفضيلية: تشمل المعاملات التفضيلية العديد من التنزيلات والإعفاءات المصممة لمصلحة قطاعات أو فئات محددة من دافعي الضرائب. تمنح هذه المعاملات إعفاءات لما لا يقل عن 135 فئة من الأفراد والصناعات، وتنزيلات خاصة لما لا يقل عن 27 فئة من الأفراد، ما يزيد من التفاوت وعدم المساواة بين المكلفين.
- التأثير السلبي للمعاملات التفضيلية: يسهم الاستخدام المفرط للمعاملة التفضيلية في توسيع فجوة عدم المساواة بين المكلفين، ويجعل من الصعب على الإدارة ضبط الإجراءات والتحكّم بها. كما يزيد من مخاطر الاستنسابية في تطبيق القوانين.
- توحيد معايير المعاملة التفضيلية: يُعد توحيد معايير المعاملة التفضيلية، بما في ذلك الإعفاءات والتنزيلات، أمرًا أساسيًا لاستعادة الحد الأدنى من العدالة في النظام الضريبي.
في ضوء هذه الاستنتاجات، يتضح أنّ هناك حاجة ماسة لإصلاح النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة وفعالية. ويتطلب ذلك معالجة الثغرات الحالية، وتعزيز التصاعدية التراكمية، وتوحيد معايير المعاملة التفضيلية، وتطبيق سياسات تعزز من الامتثال الضريبي وتقلل من التهرّب والتجنب الضريبي.
توصيات لتحسين النظام الضريبي في لبنان
يتطلب تحقيق نظام ضريبي عادل مراعاة الخصائص الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد وتوجهات السياسات العامة والعقد الاجتماعي. ويرتبط نجاح النظام بمدى توفيق السلطات بين الأهداف الضريبية والاقتصادية والاجتماعية وتوزيع العبء الضريبي بشكلٍ عادل.
يبدأ الإصلاح بتحديد الدور المالي للدولة، بما في ذلك التخصيص وإعادة التوزيع وتحفيز النمو والاستقرار الاقتصادي ضمن استراتيجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار أساسيات الاقتصاد الكلي. ولا توجد مقاربة مثالية واحدة للإصلاح الضريبي، والحالة اللبنانية فريدة بتعقيداتها الاقتصادية والسياسية.
لمواجهة التحديات، يمكن للبنان اتباع مسارين: - سيناريو طويل الأجل: ترسيخ الإصلاح في الحوار المجتمعي والنقاش السياسي، وخلق بيئة لإعادة بناء نظام ضريبي تصاعدي يشمل الضرائب الموحدة، ضريبة الثروة، الضرائب المخصصة، حزم الحوافز الضريبية، إدارة الأداء، وتوعية المواطنين.
- تدابير قصيرة ومتوسطة الأجل: تحسين تحصيل الإيرادات، إنهاء استنزاف القدرات، تحديث السياسات، توحيد الإجراءات، وتعزيز مشاركة المواطنين.
رغم أهمية إصلاح النظام الضريبي لتشكيل مجتمع أكثر عدلاً ودعم التنمية الاقتصادية، فإنّ التغيير معقد ويتطلب تحديد التحدّيات ومعالجتها بعناية من قبل جميع أصحاب المصلحة.