- En
- Fr
- عربي
لبنان الجميل
د. هيام كيروز
من صنّاع البنية الثقافية في طرابلس
إلى المخزون التراثي والتاريخي، أَثْرت تاريخ طرابلس كوكبة من الأعلام، والمؤرخين، والأدباء، والشعراء، والفنانين في المجالات كافة، تألقت وأسهمت في الإضاءة على المدينة، منها:
في التاريخ والأدب والشعر: أبو المحاسن القاوقجي، عمر تدمري، معتزّ مطرجي، حسين الجسر، سليم اللوزي، الياس عاقوري، رشيد التدمري، خريستو نجم، سابا زريق، والمطران جورج خضر…
في الموسيقى: فرقة عبد الله زيادة للإنشاد والموشّحات الأندلسية، وكورال الفيحاء…
في المسرح: رفيق الرفاعي (رائد النهضة المسرحية في طرابلس)، فؤاد الأدهمي، نزار ميقاتي، فاروق الأحدب، سعيد تيزاني، وفائق حميصي…
في التلفزيون: صلاح تيزاني (وفرقته)، عبد السلام النابلسي، ماجد أفيوني، علي دياب، عبدالله حمصي، شكري أنيس فاخوري، جورج شلهوب، سميرة بارودي، ليلى قمري، وعبد المجيد مجذوب…
في الغناء: سلوى القطريب، عبد الكريم الشعار، وعائلة البندلي…
في رسم الكاريكاتور: محمود كحيل، ونيازي جلول…
المبادرة والفكرة
اختارت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ”ألكسوALECSO-“3 مدينة طرابلس اللبنانية ”عاصمة للثقافة العربية“ للعام 2024. المشروع يرقى إلى العام 2015، ومهندسوه في المقر الرسمي لهذه المنظمة، حدّدوا العام 2021 لهذه الاحتفالية، لكنّ انفجار مرفأ بيروت، وعامين من جائحة كورونا، استوجبا نقل الحدث إلى العام 2023، ثم تبيّن أنّ هذا التاريخ حُجز لعاصمة عربية أخرى، فنُقل إلى العام 2024.
«عاصمة الثقافة العربية» هي مبادرة لليونيسكو على غرار «عاصمة الثقافة الأوروبية»، شُرع في تطبيق الفكرة في العام 1996، بناءً على اقتراح للمجموعة العربية في اليونيسكو خلال اجتماع «اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية» (باريس ما بين 3 و4 كانون الثاني 1995)، في الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الثقافة في الوطن العربي بين 21 و22 تشرين الثاني 1998.
تستند الفكرة إلى أنّ الثقافة هي عنصر مهم في حياة المجتمع، ومحور من محاور التنمية الشاملة، وتهدف إلى تنشيط المبادرات الخلّاقة، وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، وذلك عبر إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات تظاهرة العاصمة الثقافية، وتنمية ما تقوم به من دور رئيسي في دعم الإبداع الفكري والثقافي، والانفتاح على ثقافات الشعوب وحضاراتها، وتعزيز قيم التفاهم والتآخي والتسامح واحترام الخصوصية الثقافية. تتأتى هذه الأخيرة من اختلاف الثقافة السائدة من مجتمع إلى آخر، وتصنّف إلى صنفين رئيسيين: الثقافة المادية وهي تشمل نتاج العمل الإنساني من معالم أثرية ومعمارية. والثقافة المعنوية، أي ما تختزنه المدينة من عناصر التراث الثقافي غير المادي: الممارسات الاجتماعية، والمعارف التقليدية وأشكال التعبير الثقافي من لغة وموسيقى وفنون، والمهارات المرتبطة بالصناعات الحرفية.
بدأت فكرة عواصم الثقافة بالتحقّق قبل إبرام العقد العالمي للتنمية الثقافية في منظمة اليونيسكو. فكانت أثينا أولى هذه العواصم (1985)، والقاهرة أولى العواصم العربية (1996) بعد إبرام العقد (1988)، وبيروت (1999). وبعدها طرابلس، المدينة اللبنانية الثانية، التي تبلغ المرتبة السابعة والعشرين في هذا السياق.
لعل الثقافة، وهي في الأساس علامة لبنان الفارقة، تعيد بعضًا من الوهج الذي خبا مع تراكم الأزمات وتوالدها، ومع تخبّط وطن الأرز في قعر معضلات تستنزف حيويته. في هذا السياق، يأتي حدث اختيار طرابلس عاصمة للثقافة العربية للعام ٢٠٢٤. لكن قبل مقاربة هذا الحدث الاستثنائي، لا بدّ من إلقاء الضوء على مدينة طرابلس، عروس الشمال وعاصمة لبنان الثانية.
المدينة بحسب لو كوربوزييه Le Corbusier١ «هي الفنّ، والتاريخ، والشعر، وهي الاقتصاد، والهندسة، والفن المعماري، كما أنّها الناس، والصلات، والعواطف والثقافة. وهي الحكومة والسياسة، والتجارة والصناعة، وأصدق انعكاس للإنسان في جميع أحواله… وفي انتصاراته واندحاراته. فهي صورة للقوة، والغنى والفقر، والحرمان، والروحانية، والمادية. تتجلّى شكليًّا في الشوارع والعمارات والجسور والأرض، والنبات والماء والساحات، والمقابر، والكنائس، والمساجد، وأماكن الترويح».
ينطبق هذا التوصيف على طرابلس التي اجتازت التاريخ بمواكب الإمبراطوريات، مشكّلةً منصّة لإشعاعها الحضاريّ: فمن الحقبة الفينيقية التي ترقى إلى نيّف وثلاثة آلاف عام اشتهرت خلالها صناعة السفن، إلى الحقبة الرومانية (64 ق.م) التي شهدت بناء قاعة لهواة الرياضة استقطبت رياضيين متنافسين من جميع أنحاء العالم الروماني على مدى ستة قرون، مرورًا بالفتح العربي (25هـ – 646 م) حين اتخذها خلفاء بني أميّة قاعدة بحرية رئيسية لبناء الأسطول الإسلامي. ومن ثمّ خضوعها للعباسيين وللطولونيين، وبعدهما الدولة الفاطمية (في مصر) التي ازدهرت خلال عهدها صناعة الورق والصابون وكذلك دباغة الجلود والعطور، فضلًا عن ارتفاع مستوى الثقافة في المدينة، إذ ضمّت مكتباتها مئات آلاف الكتب، وعُرفت بـ «دار العلم» وكان يؤمها عديدٌ من العلماء والأدباء من مختلف البلدان المحيطة. وفي العام 1109 وقعت طرابلس في أيدي الصليبيين الذين دام حكمهم حتى العام 1289 وغدت الإمارة الكونية الصليبية الرابعة، إلى أن حرّرها المماليك وجعلوا منها مدينتهم الثانية بعد القاهرة، وشيّدوا على امتداد ساحلها عدة أبراج حربية. وإثر معركة مرج دابق (1516) سقطت بيد العثمانيين ليمتد حكمهم عليها وعلى سائر بلاد الشام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1918).
وخلال كل تلك الحقبات، شكّل موقع طرابلس الجغرافي نظرًا لاستقامة المسافة بينها وبين البلدان المحيطة، مرفأ أساسيًّا لعب دورًا اقتصاديًا وعسكريًا، حتى قيل «إذا دحرجت البيضة من بغداد مثلًا، ظلّت تتدحرج حتى تستقرّ في طرابلس».
جبل الإله
يرجع البعض اسم المدينة إلى الأصل الإغريقي Tripoli، وذلك بعد أن اتّحدت أحياؤها الثلاثة التي أنشأتها مدن صور وصيدا وأرواد، فأصبحت عاصمة الاتحاد الفينيقي، أو «متروبول فينيقيا». ويستند أنيس فريحه إلى حقيقة جغرافية في أصل الاسم، ذلك أنّه ثمة جبل بالقرب من طرابلس يُدعى «تربل» أي جبل الإله. فلفظ تربل (Turbul) هو الاسم الفينيقي لطرابلس، أضاف إليه الإغريق اللاحقة (suffixe) اليونانية (S)، فغدا الاسم Turbulus، ثم حُرّف إلى Tripolis أي المدن الثلاث. وقد اقترن لقبها المتأخر باسمها، فعرّفت بـ طرابلس الفيحاء، وذلك لرحابة بساتينها وتنوعها.
مدينة تطفو على هياكل الحضارات
تُحقق المدن خلودها المادي بآثارها، وخلودها الروحي بفنونها وأفكارها. في هذا الإطار يقول ابن خلدون في مقدمته «… أشكال العمران هي المعبّر الأهم عن الرقيّ الفكري للمجتمعات».
وخلف العشرات من الحروب والغزوات التي تعرضت لها، تبدو طرابلس عريقة بآثارها الموغلة قدمًا في الحضارات. فقد تأسست خلال الألف الثاني قبل الميلاد كمركزٍ لاتحاد كنعاني بين سكان مدن صيدا وصور وأرواد، وتوافرت لها حينها دفاعات بحرية طبيعية وأسوار على جميع جوانبها مدعّمة بأبراج. وتُظهر بنيتها أنّ المماليك، كما العثمانيين وغيرهم، نظّموا عمرانها بهدف إتمام الجوانب الأمنية والدفاعية والتجارية والدينية، من القلعة المشرفة على المدينة إلى الأبراج التي نشرها المماليك على امتداد الساحل لتكون بمنزلة حصن منيع اتّقاءً لهجمات الغزاة، والمعالم الدينية التي شيّدها الولاة والأمراء، وأوّلها الجامع المنصوري الكبير، والقصور، والتكايا، والعيون والآبار، والمطاحن، ومعامل الحرير، والأسواق، والجسور، والخانات، والكنائس والأديار والمكتبات…
وتشير الشواهد الحيّة من دكاكين ومنازل إلى أنّ الأشكال المنتجة بتأثير العادات والقيم الاجتماعية السائدة، وبتأثير القوانين والتشريعات المتلاحقة، كانت أشكالًا تحمل تميّزًا خاصًا. فبعض المباني والأزقّة هي على درجة من الأهمية التاريخية، مع تغيّرات عمرانية وتوسعات مجالية بسيطة لم تفقدها خصوصيتها، على الرغم من تهدّم أقسام منها إثر طوفان نهر أبو علي2 في العام 1955.
مع تنامي حركة العمران، تعرضت المدينة المملوكية – العثمانية خلال القرن العشرين لتغيرات تدريجية حوّلتها إلى منطقة تعرف بـ «طرابلس القديمة»، تتميز بطابع شعبي واضح، معظم سكانها من الفقراء وذوي الدخل المحدود، يعيشون في المباني الأثرية، ويطبعون المجال ومحيطه بطابع فولكلوري يحمل عبق المراحل التاريخية، وتروى في زواياه قصص الجنّ، وتُمارَس فيه العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة.
التجوّل في المدينة القديمة (المينا) تحديدًا في محيط القلعة، يؤكد أنّها تنام على إرث عظيم: فالسوق الذي يخترقها كشريان من الجنوب إلى الشمال، ينفتح على مئات الدكاكين بأبوابٍ خشبية، يعلوها عقد حجري، تمارس الوظيفة ذاتها منذ أكثر من 700 عام. ويتشعّب السوق إلى عدّة أسواق تعتبر من الأسواق التاريخية الأكثر ندرةً في العالم، وتُشكّل نواة المدينة التاريخية: أسواق العطارين والنحاسين، الصابون، القطنيات، الأقمشة، الأثاث، الحلويات. وتتناثر فيها المحترفات والمطاعم والمقاهي، وأشهرها مقهى «الرمانة» الذي كان أول من استقدم الفرق الموسيقية والمغنين والمغنيات في أوائل القرن الماضي. وغير بعيد عنها الحمامات بأسرارها وطقوسها، والمدارس والخانات. وإذا واصلت السير أوصلتك الطريق إلى شارع المكتبات: السائح، الشرق، العلوم، دار السلام… وهي تحوي مئات الألوف من الكتب التي توثّق الحضارات المتعاقبة.
وفي المنطقة ذاتها (المينا) يقع «بيت الفن» الذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني عشر على يد آخر الملوك الصليبيين، ويعتبر ملجأ لمحبي الفن والموسيقى والأدب في المدينة.
تشرف على هذه المعالم من بعيد الساعة الحميدية، ويحرسها برج برسباي، وإلى جانبه ما تبقى من محطة قطارات الماضي، تقابله عمارات جميلة تعود إلى القرن التاسع عشر، وأنقاض تفصل مسرح الأنجا (هو من أول المسارح التي عرفتها المدينة)، ودور سينما تعود إلى ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، قضت الحرب على ازدهارها؛ لكنه عاد منذ نحو عشر سنوات بفضل حركة المجتمع المدني الناشط فيها.
وعلى هامش المدينة تتشكل أحزمة من بؤس وتتوالد لك أثناء تنقّلك غبطة محفوفة بالمشاعر، يدوزنها صراخ الباعة، وتعززها الشوارع المأهولة، المكتظة، متكاملة الوظائف، وتحضنها الأحياء المتصلة بعضها ببعض، وقد وصلت بكثافة قاطنيها إلى حدود الذروة والإشباع، لكأن الحياة برمتها حشدت هنا، في قلب هذا المكان الذي يستقطب الزمن التاريخي المتداخل بديمومة اليوميات.
يقابل هذه المشهدية الموغلة في قدم الحضارات، توسع عمراني بدأ في بداية القرن العشرين، وتنامى خلال مرحلة الاستقلال، وازدادت وتيرته مع نشاط شركة نفط العراق التي اعتمدت على مرفأ طرابلس لتصدير النفط بعد العام 1948، ما أدى إلى تحوّل طرابلس إلى مدينة متداخلة عمرانيًا مع محيطها من بلدات وقرى، رافق ذلك تحولات اقتصادية نقلتها إلى هوية المدينة الخدماتية.
معالم الحداثة
أول ما يطالعك من ملامح الحداثة العمرانية «معرض رشيد كرامي الدولي» في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، المصنّف على قائمة اليونسكو للتراث الحديث. ينبسط هذا المعرض في مجاله الفسيح مثل لقلق أبيض في مواجهة البحر، بأروقته العريضة. يحف النخيل الباسق كأعمدة المآذن بأقواسه المفتوحة على المدى والمتشابكة بتناغم وكأنها أشجار. تقابل الامتداد الأفقي للمعرض أحياء حديثة دأبت على التشكّل بزخمٍ خارج قلب المدينة، وباصطفاف رتيب لمبانٍ لا تنتمي إلى الوجدان التراثي للمدينة القديمة، وإنما تخضع مجالاتها لمواصفات البناء المعاصر، وترافقت طفرة البناء مع الازدهار الاقتصادي.
إنها حال المدن بوجوهها المتداخلة والمتباينة. وهي حال طرابلس، محكوم عليها بإرثٍ باذخ يشدها إلى ماضٍ عريق، وبواقع متواضع لا يليق بتاريخها. ولعل اختيارها «عاصمة للثقافة العربية» أتى ليداوي اسمها المجرّح بأحداثٍ مريرة، وبمخاضٍ موجعٍ وقاسٍ.
تمايز استجاب لمعايير منظمة ”ألسكو“
من خلال هذه المقاربة التاريخية والاجتماعية، ندرك كيف أنّ طرابلس، بعراقتها وشواهدها المادية، وبذاكرتها الجماعية التي توحدها، وبالنسيج الاجتماعي الذي يسكنها، وبالاتجاه الحداثي الذي يتأصل فيها، وبالتعدد الذي ينزع إلى الجدل والصيرورة، إنما هي تمايز يبدع كائنًا مركبًا من ألوان وتكوينات استجابت مجتمعة للمعايير التي اعتمدتها منظمة ألسكو لاختيارها عاصمة للثقافة العربية للعام 2024.
يوضح الدكتور فيصل طالب المدير العام السابق لوزارة الثقافة، أنّ الاحتفاء بعواصم الثقافة العربية يهدف إلى تظهير الحالة الثقافية في المدن المختارة بصورة ناشطة وحلّة راقية، وتحديث إطلالتها الحضارية وتنمية مخزونها الثقافي، بما يؤكد مكانتها المتجددة في تاريخ الثقافة العربية، وما قدمته في هذا السبيل من إبداعات ومبادرات وإسهامات في ميادين التراث والأدب والفنون ورفدت به الثقافة الإنسانية. ومن الأهداف أيضًا، تفعيل المنتديات الثقافية، وتطوير أحوالها، وتمكين المثقفين من إبراز إنتاجهم. فضلًا عمّا تتيحه من فرصة ثمينة لإطلاق المدينة المحتفى بها في الفضاء التنموي العام بمندرجاته الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية وتحفيز التفاعل في ما بينها. وتوفّر الاحتفالية التي ترافق الحدث فتح قنوات التواصل مع الجهات الثقافية الوطنية والعربية والعالمية، وتبادل المشاركة وتبصّر الحلول للمشكلات والمصاعب التي تعيق عمليات النمو والتقدم.
ما الذي ستشهده طرابلس؟
يشير الدكتور طالب إلى أنّ «الحدث الاستثنائي لا يحدّه تاريخ، فالاحتفالية تنطلق بأنشطة تقام على مدار السنة، وتتضمن معارض متنوعة، وندوات، ومحاضرات ومنتديات ثقافية وأمسيات شعرية، وحفلات موسيقية وزيارات دورية إلى معالم المدينة تستمر حتى اليوم الأخير من السنة».
ويضيف: «لعل أهم تجليات الاحتفالية، هي تلك التي تفضي إلى تحفيز الإنتاج الأدبي والفكري، وتشجيع تجارب البحث العلمي، ودعم الإصدارات في المجالات المعرفية كافة، ووضع قوائم بعناصر التراث الثقافي غير المادي، وفهرسة المؤلفات النثرية والشعرية، وجمع الأمثال والحكم الشعبية، وإجراء الدراسات، وإقامة الندوات حول بعضها، وتنظيم معارض الكتاب والفنون التشكيلية والحرف اليدوية، وكذلك المهرجانات والعروض السينمائية والمسرحية والموسيقية، وإجراء المباريات الهادفة إلى نشر الثقافة العربية وتعميق مفاهيمها لدى الأجيال الجديدة، ومنح الجوائز المناسبة في هذا النطاق، والاهتمام بثقافة الأطفال، وتكريم شخصيات تركت بصماتها المضيئة في الحياة الثقافية.
جهود رسمية وشعبية
يقع تنفيذ فعالية الاحتفالية على عاتق الهيئات المشاركة: الروابط الثقافية، ديوان طرابلس الثقافي، منتدى ريشة عطر، النادي الثقافي في بلاد البترون، البيت الزغرتاوي، والجمعيات الكشفية…
على المستوى التقني، تحدّت وزارة الثقافة كل المعوقات، من ضعف في الإمكانات، وتمّ تشكيل لجنة متخصصة تضم أكثر من 200 عضو، بهدف توزيع المهمات على أهل الاختصاص لتنظيم فعاليات الاحتفالية، وكُلّفت بشرى بغدادي عكرة لتكون صلة الوصل بين لبنان وألكسو. كما جرى إعداد البرامج، ورسم خريطة نشاطات ثقافية بالتعاون مع هيئات وجمعيات. ولا بد من الإشارة إلى جهود المواطنين الطرابلسيين الذين اندفعوا لإنجاح الفعالية، من التمويل، إلى المشاركة في الإعداد والتبرع بالمقتنيات، وحملات النظافة، والتحفيز الإيجابي…
ولعل العنوان الأبرز لخدمة الفعاليات المتنوعة والمتعددة، يتمثّل في مجموعة «أسابيع ثقافية» تنظمها مجموعة من الدول العربية الحريصة على لبنان كأيقونة فكر وثقافة، الأمر الذي يضفي على احتفاليات طرابلس جاذبية وأبعادًا فنية، جمالية وإبداعية.
طرابلس الحاضرة وكثيفة الحضور
أثبتت طرابلس قدرتها على التفاعل مع الحدث بديناميكية، بفضل اندفاع القيّمين عليها من فعاليات رسمية، ومن جمعيات ومنتديات وفنانين، وأدباء، ومهندسين، ما أنعش معنويات المقيمين وحفّز حيويتهم. هذه الديناميكية أوجدت بيئة توليدية للفنون وللتراث، تتواتر أيامها بنشاطٍ مكثف، يقطر جمالية في معارض الرسم، والفن التشكيلي، والأيقونات، ومعرض الحلى التراثية، والبطاقات البريدية القديمة4، والصابون، والمأكولات، ومعرض للصور الاحترافية يختزن تراث طرابلس ويحفظ ملامحها، ومعرض «الفنانين العشرة» ومعرض «حج مبرور»، ومعرض فني لمهندسين مبدعين بعنوان «ذاكرة وطن»، الذي أقيم في «متحف نابو» وتم خلاله الإعلان عن إدراج المتحف المذكور كوجهة سياحية دولية. وبينما يُقام في «بيت الفن» (مركز ثقافي تراثي) كثيرٌ من الأنشطة كالأمسيات الشعرية، والموسيقية والغنائية، يشهد المسرح الوطني في طرابلس تقديم عروض مسرحية من بلدان عربية ومهرجان «مونودراما» – المرأة في دورته الرابعة، فضلًا عن لقاءات شبابية ونشاطات عديدة متنوعة. وبذلك أصبحت الاحتفالية ميدانًا للإنتاج الفكري والفني والتراثي، ومساحة متجددة للتفاعل ولإطلاق الطاقات البشرية، وشاهدًا على ما تنطوي عليه هذه الطاقات من وعي، وإرادة، وإيمان بالمستقبل.
جسر إلى الغد
من الثابت أنّ طرابلس كمجتمع، اكتسبت وعيًا أكبر بفضل الاحتفالية، وأن هذه الأخيرة شكّلت قوة دافعة للفعاليات وللفنانين والأدباء وللسكان بشكل عام، للانخراط أكثر في هوية مدينتهم، وللاضطلاع بالدور الذي يمليه عليهم اللقب، وأتاحت لهم البوح بمكنوناتها بما فيها من أسرار وجماليات.
إن الاستكانة إلى هذه الاحتفالية لا تحول دون استبصار الواقع، وبالتالي فإنّه من المهم استثمار هذه الفرصة الثمينة، كي يشع المناخ الثقافي إلى جميع المدن اللبنانية، وأن يكون صيغة متنامية مؤهلة للاستثمار تقترن بمعالجة المشاكل المطروحة على جميع المستويات، وفق رؤية استراتيجية تكون قاعدة للمستقبل. فطرابلس، أمانة يجب المحافظة عليها وتسليمها للأبناء، بعد أن نضيف إليها ما يفاخرون به.
مراجع
1 – مجلة فكر، العدد 108، كانون الثاني – شباط 2010.
2 – طرابلس تحكي قصتها بالكلمة والصورة، وزارة الثقافة، الجمهورية اللبنانية، 2024.
3 – سابا زريق، الآثار الكاملة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 2013.
4 – محسن أ. يمين، مجلة الطباعة، العدد 7، 2002.
5 – حديث مع عبد الناصر ياسين – مدير بيت الفن.
6 – https://www.alescomnculture.org
هوامش
1 – Le Courbusier واحد من أبرز معماريي مطلع القرن العشرين.
2 – نهر أبو علي: هو نهر قاديشا، أعطي اسم «أبو علي» نسبة إلى فخر الملك أبي علي بن عمار، أحد حكام طرابلس، كما دعي هذا النهر بـ «الغضبان» لتدفق مياهه وطوفانه في فترات زمنية متعاقبة.
3 – ألكسو: منظمة تابعة للجامعة العربية – مقرها تونس، هي بمنزلة يونيسكو عربية، تضم في عضويتها وكلاء وزراء الثقافة في العالم العربي (المديرين العامين) أو من ينوب عنهم.
4 – كانت طرابلس سبّاقة في نشر البطاقات البريدية بعد بيروت، وربما كان أول مَن التفت إلى ذلك فيها، المصوّر ميشال دايفيد، الذي كان ينشط انطلاقًا من محله الكائن في مخازن آل القرداحي في شارع التل بين 1910-1914، ونقل عدوى نشر البطاقات في طرابلس إلى الشيخ عبد الله الرافعي، صاحب المكتبة الرافعية فيها، وذلك قبل الحرب العالمية الأولى، ومنه إلى سلسلة من الناشرين. (محسن أ. يمين – مجلة الطباعة، العدد 7 – ربيع 2002).