وجهة نظر

عندما يرخي اليسار ظلّه على برج إيفل فرنسا أمام تحولات كبرى
إعداد: جورج علم - كاتب سياسي

جورج علم – كاتب سياسي


فعلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. حلّ الجمعيّة الوطنية، دعا إلى انتخابات مبكّرة، حدّد المواعيد، لكنّ رياح الديمقراطية التي أطلقها في الفضاء الفرنسي أحدثت إعصارًا جامحًا أخذ في طريقه الكثير من الحسابات والمراهنات، وأحدث زلزالًا سياسيًا عاصفًا لم تستكن تداعياته بعد.

تتجه فرنسا نحو برلمان معلّق بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في السابع من تموز الماضي، حيث تصدّر التحالف اليساري الجديد المشهد، من دون الحصول على الغالبية المطلقة. وحصل تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» اليساري على أكبر عدد من المقاعد، لكنه لم يصل إلى 289 مقعدًا اللازمة لضمان الغالبية المطلقة في مجلس النواب.

وتعدّ هذه النتيجة هزيمة لحزب «التجمّع الوطني» اليميني الذي توقّع الفوز، لكنه تراجع من جرّاء تنسيق بين «الجبهة الشعبيّة الجديدة»، وكتلة «معًا» للرئيس ماكرون، لخلق تصويت مضاد له. وجاء حزب «التجمّع الوطني» في المركز الثالث، بعد تكتل «معًا»، وهذا يعني أنّ أيًّا من الكتل الثلاث لن تستطيع تشكيل حكومة أغلبيّة، وستحتاج إلى دعم من الآخرين لتمرير التشريعات.

لم تعتد فرنسا على بناء تحالفات بعد الانتخابات، كما هو شائع في الديمقراطيات البرلمانية في شمال أوروبا، مثل ألمانيا وهولندا. وقد دعا السياسي اليساري المعتدل رافائيل غلوكسمان الطبقة السياسية إلى التصرّف «مثل البالغين». وفي حين استبعد زعيم حزب «فرنسا الأبيّة» اليساري جان لوك ميلانشون تشكيل ائتلاف واسع، تحدّث ماكرون عن دعوة الائتلاف اليساري للحكم.

وقال زعيم حزب ماكرون ستيفان سيغورنه إنّه منفتح على العمل مع الأحزاب الرئيسية، لكنّه استبعد أي اتفاق مع حزب ميلانشون. كما استبعد رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب أي اتفاق مع حزب أقصى اليسار.

 

التداعيات في حال عدم الاتفاق

إذا لم يتم التوصّل إلى اتفاق ضمن «مهلة زمنيّة مقبولة»، ستدخل فرنسا «منطقة مجهولة»، إذ ينصّ الدستور على أنّ ماكرون لا يمكنه الدعوة إلى انتخابات برلمانيّة جديدة قبل انقضاء 12 شهرًا، أي بعد مرور سنة.

وأكّد رئيس الوزراء المستقيل غابرييل أتال استعداده للاستمرار في إدارة الحكومة. وينص الدستور على أن يختار ماكرون من سيشكّل الحكومة، ولكن أيًّا كان من سيختاره، سيواجه تصويتًا على الثقة في الجمعيّة الوطنيّة. وقد يحاول ماكرون إبعاد الاشتراكيّين والخضر عن الائتلاف اليساري، لتشكيل ائتلاف اليسار – الوسط مع كتلته، لكن لا يوجد ما يشير إلى تفكك وشيك «للجبهة الشعبيّة الجديدة».

 

فرنسا تواجه مصيرًا تاريخيًّا بعد الانتخابات

شكّل قرار الرئيس الفرنسي بحلّ البرلمان خطوة مفاجئة للأوساط السياسيّة، إذ إنّه لم يكن مضطرًّا دستوريًا لاتخاذ هذا القرار الذي وصفه مقرّبون من الرئيس باعتباره خطوة لا بدّ منها للتعامل مع الصعود السريع لأحزاب اليمين المتطرّف. أمّا ماكرون نفسه فقد وصف قرار حل البرلمان بـ «الثقيل والخطير»، مستدركًا «أنّ هذه الخطوة هي خطوة ثقة يخطوها الرئيس نحو الشعب الفرنسي»، الذي «يعوّل على أصالته لمنع مارين لوبان من نيل غالبية برلمانية، ومن ثمّ حكومة فرنسية يمينية متطرفة للمرة الأولى في تاريخ الحزب».
وتباينت آراء الصحف الفرنسية، حيث رأى موقع «ميديا بارت» أنّ ماكرون يحاول أن يجعل من نفسه لمرة جديدة الحل الوحيد في مواجهة اليمين المتطرّف، في حين عنونت صحيفة «لوموند»: «3 أسابيع لتجنّب الكارثة»، معتبرة أنّ ما كان الفرنسيون يخشونه خلال 3 سنوات (قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة) أصبحوا مضطرّين للتعامل معه خلال 3 أسابيع فقط، ألا وهو صعود اليمين المتطرّف إلى سدّة الحكم.

 

10 خيارات لما بعد الانتخابات

تساءلت صحيفة «ليبراسيون» ما الذي سيحدث بعد الجولة الثانية من الانتخابات، لتردّ بما قالت «إنّه تمرين صغير في الخيال السياسي يجمع بين تحليلات بعض الخبراء بناءً على الإمكانات التي توفرها المؤسسات الدستوريّة، وبين واقع الجمعية الوطنية المستقبلي».
وإذ أشارت الصحيفة إلى مشهد سياسي جديد لم تعرفه الجمهوريّة الخامسة منذ إنشائها في العام 1958، تحدثت عن «حالة انسداد مؤسسي»، وحاولت تلخيص مآلاته في 10 سيناريوهات محتملة، على النحو الآتي:

 

1 – التعايش:
شهدت فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة هذا الوضع ثلاث مرّات، عندما لم يعد اللون السياسي لرئيس الجمهوريّة هو لون رئيس الوزراء وحكومته بسبب خسارة الرئيس في الانتخابات التشريعية. وقد وقع ذلك مرتين في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، ومرة في عهد الرئيس اليميني جاك شيراك. ولكن في كلّ مرة كان اليمين أو اليسار يحصل على الغالبية المطلقة. أمّا في هذه الحالة فقد دعا قادة اليسار الرئيس ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء من صفوف «الجبهة الشعبيّة الجديدة» بصفتها «القوّة الأولى» الناتجة عن الانتخابات.
ويقول أستاذ العلوم السياسيّة بنجامين موريل: «هذا هو السيناريو الأبسط من وجهة النظر المؤسسية والبرلمانية، ولكن لا أحد يعرف كيف سيتصرّف الرئيس ماكرون الذي اعتاد تركيز السلطة في شخصه، في هذه الحالة، كما أنّ التصويت على القوانين، وحتى الميزانية سيكون معقّدًا للغاية. وقد تظهر خلافات شائكة بين رئيس الوزراء المستقبلي والرئيس ماكرون، لأنّ ما اعتدنا أن نطلق عليه المجال المحجوز لرئيس الجمهوريّة في ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، لا ينصّ عليه الدستور، وبالتالي سيتعيّن على ماكرون أن يكافح بشدة من أجل الاحتفاظ بامتياز تجسيد فرنسا بالنسبة للخارج».

 

2 – تشكيل ائتلاف:
بسبب عدم ظهور غالبية واضحة، فثمة احتمال قيام تحالف بين المجموعات السياسية المختلفة لتشكيل ائتلاف حاكم. وهذه الممارسة الشائعة في الأنظمة البرلمانية، حالة غير مسبوقة في فرنسا في ظل الجمهورية الخامسة.
ومن المؤكد أنّ شيطنة اليسار من قبل المعسكر الرئاسي لا تساعد في تعاون بين الماكرونيين وهذا الجزء من الطيف السياسي الذي يشمل حزب «فرنسا الأبيّة»، والتي حذّر قادتها حلفاءهم في «الجبهة الشعبيّة الجديدة» من أيّ «اندماج» مع الأحزاب المنتهية ولايتها، كما أنّه من غير المتصوّر أن يظهر ائتلاف يميني يشمل حزب «التجمع الوطني»، وبالتالي فإنّ خيار الغالبية النسبيّة يبقى ضعيفًا جدًّا.


3 – حكومة وحدة وطنيّة:
هنالك صيغة تصوّرها ماكرون من المفترض أن تجمع بين المجموعات السياسية المعروفة باسم «القوس الجمهوري»، ولكنّها بقيت غير محدّدة، ولم ترَ النور قط، وتطبيقها على اليسار يتطلّب كسر الاتحاد المبرم قبل الانتخابات التشريعيّة، ولا يمكن أن يكون على جدول أعمال نظام التجمّع.

 

4 – أجواء العودة إلى الجمهوريّة الثالثة:
لأنّ الدستور يمنع إجراء أي حل جديد في السنة التالية للانتخابات التي تعقب حلّ البرلمان، يتوقع أستاذ العلوم السياسية توماس إيرهارد «وجود نظام جمعيّة مماثل لذلك الذي شهدته الجمهورية الثالثة، وهو مرادف لعدم الاستقرار الوزاري الكبير. وخطأ ماكرون ومستشاريه بحسب إيرهارد، هو أنّهم لم يفهموا أنّ الحلّ يعمل مثل الأسلحة النووية، أي التهديد به هو الذي يعطي القوّة، لا تنفيذه». ولذلك سيكون ميزان القوّة مختلًّا بين السلطة التنفيذيّة والبرلمان الذي لا يستطيع الإطاحة بالحكومة في أي وقت من دون خشية من الحلّ، على الأقل لمدّة عام.

 

5 – حكومة فنيّة:
لقد ظهر هذا التعبير في الأيام الأخيرة، لا بل قد تمّت صياغته من قبل حزب «التجمّع الوطني» لاستحضار حل افتراضي للانسداد المحتمل للمؤسسات، وتتمثّل الفكرة في السماح للخبراء بإدارة الوزارات لمدّة عام، قبل أن يسمح بحلٍ جديد لجلب أكثرية أكثر وضوحًا. وهي تذكّر برؤية ماكرون بأنّه: «من الضروري أن تحكمنا الخبرة… لا الأيديولوجيات».

 

6 – حكومة تصريف الأعمال:
ليس من السهل التمييز بين حكومة تصريف الأعمال، والحكومة الفنيّة، وهي سلطة تنفيذيّة مطاح بها، أو مستقيلة تتمتع بسلطاتٍ مقيّدة، وتظل في مكانها لإدارة الأمور، وحالات الطوارئ، وبالتالي تجسيد استمرارية الدولة في انتظار التوصل إلى اتفاق ائتلافي، وهي غريبة تمامًا عن الفرنسيين، مع أنّها شائعة بين جيرانهم البلجيكيين، والإيطاليين، والألمان.

 

7 – حل جديد:
مع أنّ الدستور لا يسمح مبدئيًّا لماكرون بحلّ البرلمان مرّة أخرى قبل مرور عام، «فقد تكون هناك طريقة – حسب بنجامين موريل – فالرئيس لكونه الضامن للمؤسسات في نهاية المطاف يمكن أن يكون لديه مسار قانوني لا يتمّ فيه التشكيك في قرار الحلّ الجديد، خصوصًا أنّ مثل هذا السيناريو لم يحدث قط».

 

8 – الاستقالة:
إذا كانت مارين لوبان أكدت خلال الحملة الانتخابية «أنّ ماكرون لن يبقى أمامه إلّا أن يستقيل»، فإنّ ماكرون نفسه أعلن أنّه يستبعد هذا الاحتمال، وكتب: «يمكنكم أن تثقوا بي للعمل حتى أيار 2027 كرئيسٍ لكم، وحامٍ لجمهوريتنا وقيمنا». علمًا أنّه – كما يقول موريل- «ليست هناك أي مصلحة عقلانية في الاستقالة من منصب رئيس الجمهوريّة. ومن وجهة نظر عقلانيّة أيضًا، لا فائدة من حلّ مجلس الأمة في هذا السباق أيضًا، ومع ذلك بوسع الرئيس أن يختار التخلّي عن مهماته، وسيكون الأمر لرئيس مجلس الشيوخ!».

 

9 – الصلاحيات الكاملة:
رأت «ليبراسيون» أنّ شائعة اللجوء إلى المادة 16 من الدستور لمعالجة غالبية واضحة في البرلمان، يدحضها جميع المختصّين الجادّين، ولا يمكن تفعيل هذا الإجراء المسمّى «الصلاحيات الكاملة» الممنوحة لرئيس الجمهوريّة إلّا عندما تكون مؤسسات الجمهورية، أو استقلال الأمة، أو سلامة أراضيها، وتنفيذ التزاماتها الدولية مهدّدة بشكلٍ جدّي وفوري، ومن المستحيل الاستناد إلى هذا السياق، يقول توماس إيرهارد.

10 – الإصلاح المؤسسي:


تساءلت الصحيفة: هل يستطيع رئيس الدولة أن يقترح إصلاح الدستور كحل؟
يقول توماس إيرهارد الذي لا يؤمن بهذا الخيار، إنّه «لا يمكننا أن نتجاهل نتيجة الانتخابات التشريعية، وبخاصة أنّ ماكرون – خلافًا «للجبهة الشعبية الجديدة» التي تريد إنشاء جمهورية سادسة، ويقوم بعض أعضائها بحملةٍ من أجل جمعية تأسيسية – لا يعتقد أنّه ينبغي طي صفحة الجمهورية الخامسة».
… وتبقى الأيام وحدها كفيلة بتحديد مواصفات الحكومة الجديدة، ومؤهلاتها، وبرنامج أولوياتها، و«صحة المساكنة» ما بين رأسي السلطة التنفيذية، وما ستنتهي إليه المفاوضات الناشطة داخل المجتمع السياسي الفرنسي من «تسوية» لتحاشي الفراغ، والمراوحة.

 

فرنسا ما بعد الانتخابات .. والسياسة الخارجية

ويبقى السؤال الأبرز: ما تأثير الانتخابات على السياسة الخارجية لفرنسا، في ظلّ التوازنات الجديدة داخل البرلمان الفرنسي؟
أوكرانيا: الجواب التلقائي: ما بعد الانتخابات، ليس كما قبلها.
كان الصوت عاليًا، والنبرة مرتفعة، قبل الانتخابات أعلن الرئيس ماكرون لقناة «فرانس 2» التلفزيونيّة «أنّ ما يدور في أوكرانيا حرب وجودية لفرنسا وأوروبا. وإن فرنسا مستعدة لاتخاذ قرارات لضمان عدم انتصار روسيا». وكان أكد في وقت سابق أنّه «لا ينبغي استبعاد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا في المستقبل»، مع الإشارة إلى أنّه «لا يوجد إجماع على هذه الخطوة حاليًّا».
هذا كان قبل الانتخابات الفرنسية، فماذا بعدها؟
صحيفة «لوفيغارو» أوضحت بأنّ ماكرون «يمكنه، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلّحة إصدار الأمر بذلك، ويتعيّن عليه إبلاغ البرلمان في موعد لا يتجاوز الثلاثة أيام بعد بدء التدخل». وهي تضيف: «بعد الانتخابات، تغيّر المشهد، وفتَرت العزيمة، وأصبح السيناريو الذي كان معدًّا، موضع إعادة النظر وينتظر حكومة جديدة».
وهي تتحدث عن عدة سيناريوهات لهذا التدخل تشمل:
1 – تشييد مصانع أسلحة في أوكرانيا، وهذا المشروع شبه مستحيل في ظل ارتفاع تكلفة عقود التأمين وفق الجنرال فرنسوا شوفانسي مستشار الجغرافيا السياسية، والدكتور في علوم المعلومات والاتصالات.
2 – المساعدة في إزالة الألغام، والتدريب وتشغيل معدّات معيّنة. وقد صرّح مصدر عسكري فرنسي بعد الانتخابات، «بأن تدريب الجنود الأوكرانيّين يتم بالفعل في فرنسا وبولندا على يد الجيش الفرنسي، لكن ليس في بلدهم.. لتفادي الاحتكاك مع الروس».
3 – حماية أوديسا، وهي إهراءات الحبوب لفرنسا وأوروبا.
4 – إقامة الجيش الفرنسي منطقة ملاذ آمن عبر نشر قوات لإغاثة الجنود الأوكرانيين، وهذا ما يرى الكولونيل الفرنسي ميشيل جويا أنّه «حاليًّا حلم بعيد المنال».
5 – المواجهة في الخنادق، استُبعد هذا السيناريو كليًّا. وتقول جوليا غرينيون أستاذة القانون في جامعة لافال في كيوبيك: «سنكون طرفًا في النزاع لأنّنا سنشتبك مع قوات مسلّحة ضد عدو مشترك»، بينما يؤكد الجنرال شوفانسي: «إنّ التكلفة ستكون باهظة، وسيضطر ماكرون إلى طلب التصويت البرلماني لأنّ الرأي العام لن يتقبل أن تعود التوابيت بالجملة، من دون استشارته».
وتنتهي «الصحيفة» إلى خلاصة: «هذه السيناريوهات كانت مطروحة بقوّة وجديّة قبل الانتخابات.. بعدها، هناك سياسة مختلفة، وسيناريوهات مختلفة.. علينا أن ننتظر».

الشرق الأوسط.. حرب غزّة

 

على مدار أشهر الحرب في قطاع غزّة، كانت التظاهرات تجوب شوارع بريطانيا وفرنسا بشكل كبير دعمًا للفلسطينيّين، وذلك قبل أن تُجري الدولتان انتخابات تشريعيّة أسفرت عن وصول اليسار الذي يعتبر أكثر دعمًا للفلسطينيّين، مما أثار تساؤلات بشأن ما ستكون عليه سياسات البلدين تجاه الصراع الأكثر تعقيدًا في الشرق الأوسط. في فرنسا ظهرت خلافات حول عدّة نقاط في التحالف لكنّ التصريح الأبرز بشأن المسألة الفلسطينية، كان من رئيسة الكتلة النيابيّة لحزب «فرنسا الأبيّة» ماتيلد بانو التي أشارت إلى أنّه «سيتم الاعتراف بدولةٍ فلسطينيّة خلال أسبوعين» حال تولّي الحزب الحكومة الجديدة. لكن يرى محلّلون أنّ الأمر صعب نظرًا لأنّه لم يفز بالأكثريّة، وفي ظلّ المخاوف من زعيم اليسار المتطرّف جان لوك ميلانشون الذي يوصف «بأنّه استفزازي، يتمتع بكاريزما، لكن ينفر منه البعض، حتى في صفوف معسكره»، وفق «فرانس برس».
بين ليلة وضحاها، عدّلت فرنسا بهدوء موقفها تجاه الحرب في غزّة بشكلٍ لم يكن متوقعًا. في البداية سارعت فرنسا إلى الانضمام إلى نظرائها في الاتحاد الأوروبي، وأعلنت دعمها الكامل لحق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، وأُضيء برج «إيفل» بألوان العلم الإسرائيلي. ودعم الرئيس ماكرون اقتراحًا يقضي بتشكيل «تحالف دولي» ضد حركة «حماس»، ومنعت الحكومة الفرنسيّة التجمعات المؤيدة للفلسطينيّين على أراضيها.
لكن بعد مرور أسابيع قليلة، هدأت نبرة ماكرون الداعمة «لإسرائيل»، وخرجت تصريحاته نسبيًا عن الإصطفاف الأوروبي، داعيًا تل أبيب لوقف قتل المدنيين، فيما استضافت باريس مؤتمرًا لجمع المساعدات الإنسانية من أجل فلسطينيّي غزّة، وتعهّد بتوفير تبرعات فرنسيّة بين 20 إلى 100 مليون يورو هذا العام.

 

لماذا هذا التبدّل السريع؟

نشرت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسيّة مذكّرة سريّة تشير إلى أنّ 12 سفيرًا لفرنسا في الشرق الأوسط ومنطقة المغرب العربي، كتبوا مذكّرة جماعية، وقّعوا عليها، وأرسلوها إلى قصر الإليزيه، ووزارة الخارجية الفرنسية، وتضمّنت اعتراضات صريحة، وتحذيرات من تداعيات المواقف التي اتخذها ماكرون لدعم «إسرائيل»، وبانت فرنسا على أثرها متّهمة بالتواطؤ في أعمال الإبادة التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة.

  • هذه المذكرة، وفق «الصحيفة»، بالإضافة إلى عوامل أخرى، كانت وراء التحوّل في الموقف الفرنسي. ومن بين هذه العوامل:
  • النفوذ الواسع للجاليات العربية والإسلامية في فرنسا.
  • انتصار اليسار المؤيد للقضية الفلسطينية، في الانتخابات التشريعية.
  • حماية المصالح الفرنسية الحيوية في العالم العربي، خصوصًا مع دول مجلس التعاون الخليجي.
  •  

فرنسا .. ولبنان

تعير فرنسا اهتمامًا بالغًا للتطورات عند الحدود الجنوبية، وهي بذلت جهودًا لخفض التصعيد، ووقف الأعمال القتاليّة. وتقول باريس إنّها تسعى لضمان تنفيذ القرار الدولي 1701، ومنع شنّ حرب واسعة ضدّ لبنان عبر مقترحات تقضي بوقف الأعمال الحربيّة، وعودة سكان الجنوب إلى بلداتهم، مقابل عودة سكان شمال فلسطين المحتلة إلى مناطقهم، تمهيدًا لإعادة تموضع الأطراف المتصارعة، والتفاوض لحل الخلافات الحدودية البرية في مرحلة لاحقة.
ويؤكد خبراء فرنسيون، وفق صحيفة «لوموند»، عدم حصول تغيير كبير في السياسة الفرنسيّة تجاه لبنان، حتى في حال قيام حكومة يسارية في باريس، لأنّ اليمين، واليسار الفرنسي، وأحزاب الوسط يلتقون عند ثوابت سياسية، والتزامات معنوية تجاه وطن الأرز.
ويشير الخبراء إلى بعض هذه الثوابت لجهة الحرص على استقلال لبنان، ووحدته، وسيادته على أراضيه، ودعم استقراره. ويتحدّثون عن مبادرات أربعة ما زالت تتفاعل، وستبقى حيّة نابضة حتى بعد النتائج التي انتهت إليها الانتخابات التشريعية الفرنسية:

  • مبادرة إنقاذ لبنان التي طرحها الرئيس ماكرون في قصر الصنوبر في بيروت في الأول من أيلول 2020، بعد كارثة انفجار المرفأ في الرابع من آب، من ذلك العام، وزيارة التضامن التي قام بها في السادس من آب، أي بعد مرور يومين فقط على الانفجار.
  • المبادرة التي حملها وزير الخارجيّة ستيفان سيجورنيه إلى بيروت لوقف إطلاق النار في الجنوب، والوصول إلى وضع مستقر ودائم على طول الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
  • المبادرة التي جنّدت لها باريس أكثر من موفد، آخرهم وزير الخارجية الأسبق جان إيف لودريان، لإنهاء الفراغ المؤسساتي، وانتخاب رئيس للجمهورية.
  • المبادرة تجاه الجيش اللبناني، إن لجهة مؤتمرات الدعم التي استضافتها باريس، أو لجهة السياسة الفرنسية المتّبعة لدعم المؤسسة العسكرية معنويًا ولوجستيًا.
    هذه المبادرات وغيرها، لم تحدث صدمات إيجابية كبرى، لكن التذكير بها يؤدي إلى استخلاص استنتاجات ثلاثة:
    لا تغيير يذكر تجاه لبنان في حال وصول اليسار الفرنسي إلى السلطة التنفيذية، لا تغيير في الدفع الفرنسي الدبلوماسي لوضع المبادرات الفرنسية موضع التنفيذ في لبنان. ولا تغيير في الموقف من الثوابت الفرنسية التاريخية تجاه «لبنان، سيّد، حرّ، مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه».