تحقيق عسكري

ربع قرن ونيّف على العمل في مواجهة خطر الألغام
إعداد: باسكال معوّض بومارون

باسكال معوّض بومارون

عندما أُعلن أنّ حجم المساحات الملوّثة بالألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة في لبنان هو حوالي 150 مليون متر مربع، بدا أنّ تنظيف هذه المساحات أشبه بمهمة مستحيلة. لكن المستحيل غدا واقعًا مع انتهاء العمل في 126 مليون متر مربع من الأراضي الملوثة وتسليمها إلى أصحابها، فيما استمرت الجهود لجعل لبنان خاليًا تمامًا من الأجسام المشبوهة.

 

بثقةٍ وأمان…
في نهاية العام 2021 تمّ إعلان «محافظة لبنان الشمالي خالية من الألغام ومخلّفات الحروب» بعد إنجاز مشروع تنظيف الأراضي الملوّثة بالألغام في قرى وبلدات المحافظة، بحيث بات بإمكان أهلها استثمار أراضيهم بثقةٍ وأمان. كذلك، أُقيم في أيلول 2023 حفل إعلان جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع خالية من خطر مخلّفات الحروب. والتي مثّلت تحديًا جديدًا بتطهير المناطق التي كان يحتلّها الإرهابيون الذين تركوا خلفهم كمًّا هائلًا من القنابل والقذائف والشرائك الخداعية والعبوات الناسفة المرتجلة.

 

شعار المركز
رسم بيضاوي الشكل بإطار أصفر اللون، على خلفية سوداء عليها اسم المركز وخريطة لبنان بألوان العلم اللبناني، للدلالة على أنّ صلاحيته تشمل جميع الأراضي اللبنانية. ونقّاب بوضعية الركوع يعمل على سبر الألغام وكشفها. وخلفية سفلى خضراء للدلالة على أنّ عمل المركز يهدف إلى إعادة تأهيل الأرض وإعادة لبنان إلى طبيعته الخضراء. ومثلث أحمر اللون عليه رسم وعبارة «لغم» مع سياج من الشريط الشائك للدلالة على الخطر الذي تشكّله الألغام، وأعمال التوعية التي ينفّذها المركز للوقاية من مخاطر الألغام والقنابل العنقودية.

 

إنشاء المركز
أُنشئ المكتب الوطني لنزع الألغام بتاريخ 7/6/1998، وتمركز آنذاك في المدرسة الحربية – الفياضية، ثم نقل إلى الحازمية، واستقر بعدها داخل ثكنة شكري غانم – الفياضية. واعتبارًا من تاريخ 20/6/2007 وإنفاذًا للقرار رقم 10 الصادر عن مجلس الوزراء القاضي باعتماد السياسة الوطنية للأعمال المتعلقة بالألغام، استُبدلت تسمية «المكتب الوطني لنزع الألغام» بـ «المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام» LMAC – Lebanon Mine Action Centre تماشيًا مع المصطلح المعتمد في المعايير الدولية للأعمال المتعلقة بالألغام IMAS الموضوع من قبل منظّمة الأمم المتحدة.

 

مؤتمرات وندوات وورش عمل
عمل المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام منذ إنشائه على عقد مؤتمرات وندوات وإقامة ورش عمل والمشاركة في مؤتمرات وندوات دولية وعربية، ما أدى إلى إبراز حجم المشكلة في لبنان، وأسهم في تأمين الدعم العربي والدولي، وإعداد كوادر متخصصة، فضلًا عن نشاطات عديدة للتوعية. في هذا السياق نذكر:
1999: زيارة الملكة نور الحسين للمركز واطلاعها على مشكلة الألغام في لبنان والحاجات الملحّة في هذا المجال، وأعقب ذلك مؤتمر عربي حول مخاطر الألغام والوقاية منها.
2010: إطلاق مشروع دعم البرنامج اللبناني للأعمال الإنسانية لنزع الألغام من خلال البطاقة المصرفية ”عطاء“.
2011: استضافة لبنان الاجتماع الثاني للدول الأطراف في اتفاقية الذخائر العنقودية، بمشاركة ١٣٠ دولة.
2014: إحراز مشروع التعاون بين بنك لبنان والمهجر والمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام جائزة المرتبة الأولى بشرف، كأفضل مشروع تعاون من بين الشركات المشاركة في ورشة عمل حول «المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) في لبنان».
2015: احتفال في اليوم العالمي للسلام نظّمته شركة Bee Events & PR وأُعلن خلاله المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام «مؤسسة لبنانية أولى للسلام 2015»، وذلك تكريمًا لجهوده وعطاءاته في حماية الوطن والمواطنين من خطر الألغام.
2016: المؤتمر السنوي الخامس لمديري البرامج الوطنية للأعمال المتعلّقة بالألغام بدعم من مركز جنيف الدولي لأنشطة إزالة الألغام لأهداف إنسانية.
كانون الثاني 2018: في مناسبة اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، عُقد في مجلس النوّاب «اللقاء البرلماني الأول لمصابي الألغام»، في حضور عدد من النوّاب والسفراء وممثّلي هيئات ومنظّمات دولية وأهلية، وعدد من المصابين بالألغام الذين جلسوا على مقاعد النوّاب.
نيسان 2020: توقيع رسمي لمذكرة تفاهم بين وزارة الدفاع الوطني وقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، حول المساعدة التي تقدّمها هذه القوات في مجال الأنشطة المتعلّقة بإزالة الألغام للأغراض الإنسانية.

هذه النتيجة تدعو من دون شك إلى تقدير جهود المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام، الذي كان يُفترض أن يحتفل الصيف الماضي بيوبيله الفضي، لكن الأوضاع غيّبت المناسبة. والمفارقة أنّه فيما يستحق هذا المركز أن نحتفَل بما حققه، نجد أنفسنا مجددًا في مواجهة العدو الإسرائيلي والذي من الصعب الآن تقدير حجم المشكلة التي تولدها اعتداءاته على صعيد تلويث أراضٍ سبق أن تمّ تنظيفها من مخلّفات الحروب.

برزت مشكلة الألغام والذخائر غير المنفجرة في لبنان بعد انتهاء الحرب في العام 1990، إذ أظهرت عمليات الاستطلاع الأولية وجود عدد كبير من البقع المشبوهة الخطرة والمنتشرة على مساحات واسعة، في ظل عدم وجود وعي كافٍ لدى المواطنين حول خطر الألغام، ما أدى إلى سقوط الكثير من الضحايا.

في هذه الأثناء، أطلق الجيش اللبناني حملة واسعة لمعالجة المشكلة، فقامت فرق فوج الهندسة ووحدات الهندسة في الألوية بعمليات نزع الألغام ومعالجة الذخائر غير المنفجرة في المناطق اللبنانية كافة. وبشكل موازٍ، أطلقت حملات توعية لتحذير المواطنين، وتمّ وضع إشارات تحذيرية حول البقع الخطرة والمعروفة.

في مرحلة ثانية بعد العام 2000، تفاقمت المشكلة وازداد عدد الضحايا بسبب الألغام والأفخاخ والقنابل غير المنفجرة التي خلّفها العدو الإسرائيلي وراءه، والذي عاد واستعمل في عدوان تموز 2006 وبشكلٍ عشوائي، مختلف أنواع الأسلحة والذخائر لا سيما القنابل العنقودية المحظورة وفق القانون الدولي الإنساني (ما يقدر بـ ٤ ملايين قنبلة)، والتي امتدت خطورتها على مساحات واسعة من الوطن.
لاحقًا، في صيف 2017، وبعد تحرير جرود عرسال ورأس بعلبك من الجماعات الإرهابية في عملية «فجر الجرود»، برزت أيضًا مشكلة الألغام والذخائر غير المنفجرة والعبوات غير النظامية التي خلّفها الإرهابيون وراءهم وألقت مسؤوليات إضافية على عاتق المركز.

رغم الصعوبات تم تحرير معظم الأراضي من خطر الألغام
اصطدم العمل في مجال إزالة الألغام وسواها من الأجسام المتفجرة بالعديد من الصعوبات، فمن عدم وجود خرائط لحقول الألغام، وتغيّر موضع هذه الأخيرة بفعل عوامل الطقس ومرور الزمن، إلى مسألة التمويل والعتاد وتدريب الكوادر المختصة، وصولًا إلى العبوات غير النظامية التي زرعها الإرهابيون في الجرود بطرق غير مألوفة، وسوى ذلك الكثير.

غير أنّ التصميم والجدية والكفاءة كما تعاوُن المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية التي تعمل بإشراف المركز، كانت جميعها عوامل أسهمت في التغلّب على الصعوبات. وهذا ما أدى إلى معالجة 84% من الأراضي الملوّثة، فيما يستمر العمل لإنجاز ما تبقى.

 

المهمات والقدرات
تتمثّل رؤية المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام في التوصّل إلى تحرير كل الأراضي اللبنانية من خطر الألغام ومخلّفات الحروب، وهو يمارس مهماته في هذا المجال وفق الأولويات الوطنية الاستراتيجية، ويسهم في إدارة النشاطات وتأمين الدعم اللوجستي والإداري للمنظّمات الإنسانية المختصّة العاملة في لبنان، وينسّق جهودها ويحدد أولويات التوعية من مخاطر الألغام. كما يُعنى بتدريب وتنشئة عسكريين ومدنيين لبنانيين وأجانب، في مجال الأعمال المتعلقة بالألغام لأهداف إنسانية، وينظّم المعايير الوطنيّة لتتماشى مع المعايير الدولية.

 

فريق العمل والمراكز والدعم الدولي
يتألّف فريق عمل المركز من ضبّاط وعناصر من الجيش اللبناني، وهو يتلقّى الدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP الذي يوفّر منذ العام 2001 المساعدة التقنية لتطوير برنامج نظام إدارة المعلومات، فضلًا عن الوسائل اللوجستية والمالية، وتأمين موظّفين متمرّسين في مجال الإدارة من بين المدنيين اللبنانيين. وقد ضمّ جدول عديده وتجهيزه، إضافة إلى رئاسته، أقسام التأليل والإعلام والتوعية من مخاطر الألغام والعمليات ومساعدة ضحايا الألغام ومراقبة وضمان النوعية والإدارة واللوجستية، وتتبع له مراكز منتشرة في المناطق. ففي العام 2002، تم إنشاء مركز تنسيق فرعي في صور بموجب مذكرة تفاهم موقّعة بين حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة والحكومة اللبنانية. وهذا المركز الذي ضمّ إلى جانب الفريقين اللبناني والإماراتي فريقًا من الأمم المتحدة، عمل على تنفيذ «عملية مشروع التضامن الإماراتي» لغاية العام 2004.

وبعد 5 سنوات، باشر المركز الإقليمي للأعمال المتعلقة بالألغام عمله في ثكنة عصام شمعون- النبطية الذي تم تشييده بدعم من الحكومة الأميركية، من أجل التخطيط للعمليات المتعلّقة بالألغام وإدارتها والإشراف عليها في جنوب لبنان. وفي كانون الأول 2018، افتُتح في ثكنة النقيب الشهيد الياس الخوري – رأس بعلبك، المركز الإقليمي للأعمال المتعلّقة بالألغام الذي تمّ تجهيزه بمبادرة من السلطات البريطانية، وهو يقوم بالإشراف على أعمال الإزالة في جرود عرسال ورأس بعلبك.

 

المدرسة الإقليمية خطوة رائدة
تعمل المدرسة الإقليمية لنزع الألغام لأهدافٍ إنسانية في ثكنة سعيد الخطيب في حمانا منذ تشرين الأول 2017، ويُعتبر إنشاؤها خطوة رائدة وسابقة فريدة من نوعها في المنطقة، وقد شكّلت علامة فارقة في تفرّدها بتعليم الدروس باللغة العربية، علمًا أنّ إمكاناتها تسمح أيضًا بالتعليم باللغتين الفرنسية والإنكليزية.
انطلقت المدرسة بدايةً نتيجة تعاون لبناني – فرنسي، وفي ما بعد ساعدت بالتمويل عدة جهات مانحة من بينها الاتحاد الأوروبي و «بنك لبنان والمهجر»، بهدف مساعدة مجتمعات الدول الشقيقة والصديقة على التخلّص من الألغام والذخائر غير المنفجرة، من خلال تدريب عناصر على معالجة الذخائر غير المنفجرة والأجسام المشبوهة، وتنشئة مدرّبين على إدارة الأعمال المتعلّقة بالألغام والأنشطة المرتبطة بها (مساعدة الضحايا – التوعية من مخاطر الألغام – ورش العمل والندوات…)، وذلك باعتماد مناهج متطوّرة تتوافق مع المعايير الدولية والعالمية.
تتعاون المدرسة مع المدارس المماثلة في الدول الصديقة، ومع منظّمات الأمم المتحدة والأخرى غير الحكومية والمراكز العلمية التي تعمل في مجال نزع الألغام بهدف تبادل الخبرات والمهارات.
ونتيجة الممارسات والخبرات التي اكتسبتها من خلال التدريب على إدارة برنامج العمليات الإنسانية لنزع الألغام والتوعية من مخاطرها، حقّقت المدرسة في وقت قصير نسبيًا شهرة وصدقية ومهنية وحرفية عالية.

 

التوعية والإعلام
تُعتبر التوعية من صلب مهمات المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام، وأهم النشاطات في هذا السياق إطلاق حملات توعية منظمة ومبنية على أسس علمية، في المناطق المتضررة من وجود الألغام. فمنذ إنشاء المركز باشرت اللجنة الوطنية للتوعية من مخاطر الألغام إقامة محاضرات توعية في الجامعات والمدارس والبلديات والأندية، وورش عمل ومعارض، وشاركت في أنشطة سباق الماراثون، ووجّهت رسائل توعية عبر جميع وسائل الإعلام. كما عملت على تدريب معلمين من المدارس لتوعية تلامذة مدارسهم، وناشطين من الجمعيات الأهلية وقادة كشفيين حول التوعية من مخاطر الألغام، وأقامت سلسلة نشاطات توعية استثنائية بمناسبة «اليوم العالمي للتوعية من مخاطر الألغام» خلال شهر نيسان من كل عام.

 

مساعدة الضحايا
تتولّى اللجنة الوطنية لمساعدة ضحايا الألغام الاهتمام بالضحايا، وتتعاون في ذلك مع المجتمع المدني وبعض الجهات الحكومية. تبدأ الرعاية مباشرة بعد الإصابة، بالتواصل ومتابعة وضع المصاب بعد تلقّيه العلاج جسديًا ونفسيًا، وتتم متابعته لجعله عنصرًا منتجًا في المجتمع وقادرًا على إعالة نفسه وعائلته. وتشمل المساعدة أيضًا ذوي الضحايا المتوفين.
وتعمل اللجنة من خلال ورش عمل ومؤتمرات واجتماعات محلية ودولية لوضع لبنان على خارطة المساعدات التي تُقدَّم لضحايا الألغام في العالم.

 

دور متميّز
يتطلّع المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام إلى تأدية دور إقليمي ودولي مستقبلًا من خلال نشر خبراته المكتسبة وتعميمها، وتأكيد دور لبنان الرائد إقليميًا ودوليًا نظرًا لخبرته الطويلة في مجال التعامل مع الألغام وسواها من الأجسام المتفجّرة. وللسنة الثالثة على التوالي يحتلّ المركز المرتبة الأولى عالميًا وفق تصنيف يوضع من قبل منظّمات محايدة في سويسرا.