- En
- Fr
- عربي
صحتنا النفسية
ميا عطوي – اختصاصية نفسية ورئيسة جمعية Embrace
في أوقات الحروب والأزمات، تتصدّر معركة البقاء على قيد الحياة جميع المعارك والأولويات، وبطبيعة الحال تطغى على كل المعارك الأخرى مهما كانت أساسية، وتبقى تلك الصراعات الأخرى مخفية، لتظهر مجددًا في وقت لاحق. يكافح لبنان على مدار السنوات الخمس الماضية، أزمة اجتماعية واقتصادية مستمرة أثّرت وما زالت تؤثر بعمق على كل مواطن. تعرّضت العائلات والشركات لخسائر مالية تجاوزت الماديات، وأثرت بشكل كبير على جودة الحياة والصحة النفسية لجميع اللبنانيين. بالإضافة إلى هذه الأزمة، فإنّ التطورات عند الحدود الجنوبية للبنان منذ عشرة أشهر قد زادت من حدة التوتر والقلق بين السكان.
في مثل هذه الأزمات، تصبح التحديات النفسية أمرًا طبيعيًا إذ تتسلّل المخاوف إلى حياتنا اليومية وتصبح جزءًا أساسيًا منها، ما يجعلنا في حالة قلق. يتشارك الناس مخاوفهم في المحادثات، وقد يجدون في هذا التفاعل بعض الارتياح والفهم المتبادل. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا العبء المشترك إلى العزلة، فقد يتردد الأفراد في الكشف عن معاناتهم خوفًا من زيادة العبء العاطفي على الآخرين الذين يمرون بصعوباتٍ مشابهة. ويؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى تعامل الأشخاص مع الصعوبات بمفردهم، وكبت مشاعرهم، وإهمال الرعاية الذاتية، وتطبيع مشاعر العزلة والحزن والقلق. لتجنب الوصول إلى مرحلة تصبح فيها التحديات النفسية معطِّلة، وتتداخل مع الحياة اليومية، تأتي التوعية حول هذه العلامات كأولوية للوقاية من الإصابة بصعوبات وتحديات نفسية حادّة.
في لبنان، سيعاني واحد من كل أربعة أشخاص مشكلة نفسية في مرحلة ما من حياتهم، ممّا يمثل حوالى ٢5٪ من السكان، بما في ذلك الأطفال والبالغين. تشير الأدلّة إلى زيادة في هذا الانتشار في السنوات الأخيرة بسبب عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتزايد، إذ يمكن أن تسهم هذه التحديات الخارجية في ظهور أمراض نفسية لدى الأفراد الذين لم يعانوها سابقًا، أو في تفاقم الحالات النفسية الموجودة. وتُظهر الدراسات الوطنية أنّ القلق والاكتئاب هما أكثر الأمراض النفسية شيوعًا في لبنان. في هذا الإطار، يتساءل عديد من اللبنانيين عما إذا كان ممكنًا تجنّب الشعور بالقلق أو الحزن في المناخ الحالي، وهو سؤال مشروع يستحق مزيدًا من الاستكشاف.
القلق وأعراضه
القلق، بمعناه السريري، هو اضطراب يتطلّب تدخلًا طبيًا ونفسيًا، ويعاني المصاب به من حالة مستمرة من القلق والتوتّر التي يصعب السيطرة عليها. تؤثر هذه الحالة في قدرة الشخص على العمل، مما يسبب له ضغوطًا كبيرة ويؤثر في حياته الاجتماعية والعائلية والعملية.
تشمل أعراض القلق السريري ما يأتي:
- مشاعر العصبية.
- الأرق واضطرابات النوم.
- التململ.
- الشعور بالتعب المستمر.
- صعوبة التركيز وأخذ القرارات.
- التوتر العضلي أو آلام الجسم غير المبررة طبيًا.
في أوقات الأزمات من الطبيعي أن نقلق حيال المستقبل، والسلامة والأمان، وكيفية تلبية الاحتياجات، لكن من المهم التمييز بين القلق الموهن الذي يصبح غير قابل للتحكم، ويؤثر بشكل جدّي في الأداء، وبين القلق الذي يمكن أن يدفعنا إلى الأمام ويبقينا متجهين نحو أهدافنا. يؤدي القلق غالبًا وظيفة تكيفيّة تدفعنا نحو الإنجاز، ولكن عندما يبدأ هذا القلق في منعنا من الأداء والتواصل مع الآخرين، حتى في أوقات الأزمات، فهنا قد يحتاج الشخص إلى تقييم حدة هذه العوارض، وعدم اعتبارها حالة طبيعية نتيجة الظروف، واستشارة اختصاصي نفسي.
بالإضافة إلى القلق، يعتبر الاكتئاب حالة نفسية شائعة تؤثر في عديد من اللبنانيين. والاكتئاب هو أكثر من مجرد الشعور بالحزن أو المرور بفترة صعبة؛ إنّه حالة نفسية وطبية جديّة تتطلب الفهم والرعاية الطبية. يمكن أن تختلف أعراض الاكتئاب في الشدة والمدة، لكن العلامات الشائعة تشمل:
- شعور مستمر بالحزن أو الفراغ أو اليأس الذي لا يزول.
- فقدان الاهتمام أو المتعة في الأنشطة التي كانت سابقًا مصدر متعة.
- تغييرات في الشهية أو الوزن.
- الأرق أو النوم المفرط، ما يؤدي غالبًا إلى التعب.
- آلام وأوجاع غير مبررة، أو صداع، أو مشكلات في الجهاز الهضمي لا تتحسن مع العلاج.
- الشعور بالتعب المستمر.
- مشاعر الذنب أو عدم القيمة غير المتناسبة.
- صعوبة التفكير أو التركيز أو أخذ القرارات.
- العصبية أو الغضب.
- أفكار متكررة عن الموت، أو تفكير في الانتحار، أو محاولات انتحار.
يجب أن تكون هذه الأعراض موجودة لمدة أسبوعين أو أكثر، وفي معظم أيام الأسبوع، ومعظم ساعات اليوم، ويجب أن تؤثر بشكلٍ سلبي في أداء الشخص وحياته الاجتماعية أو العائلية أو العملية، ليتم تصنيفها كاضطرابٍ اكتئابي.
اضطراب ما بعد الصدمة
في حين أن القلق والاكتئاب هما الأكثر شيوعًا بين الأفراد في لبنان، فإنّ التطورات الميدانية على الحدود الجنوبية ونزوح آلاف المواطنين قد تؤدي أيضًا إلى تطوير حالات نفسية أخرى، مثل اضطراب ما بعد الصدمة. بالإضافة إلى المخاطر الجسدية والمادية، تؤثر الأحداث عند الحدود الجنوبية للبنان بشكلٍ عميق في الصحة النفسية للأشخاص الذين يعيشون في المناطق الأكثر عرضة لتداعياته، وذلك سواء طاولتهم هذه التداعيات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وسواء كانوا عسكريين أو مدنيين.
واضطراب ما بعد الصدمة PTSD- Post-Traumatic Stress Disorder هو حالة نفسية خطيرة قد تتطور بعد تجربة أو مشاهدة أحداث صادمة، مثل القتال أو العنف أو الحالات المهددة للحياة. قد يعاني الأفراد الذين يعيشون حالة PTSD أفكارًا ومشاعر مزعجة ومكثفة تتعلق بتجاربهم الصادمة لفترة طويلة بعد انتهاء الأحداث. تشمل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، ذكريات حول الأحداث الصادمة، كوابيس، قلقًا شديدًا، أفكارًا لا يمكن السيطرة عليها بشأن الحدث، والتخدير العاطفي. ويمكن أن تعطّل هذه الأعراض الحياة اليومية، ما يجعل من الصعب على الأفراد العمل بشكل طبيعي والحفاظ على علاقاتهم. في سياق الأحداث الحالية، يرتفع خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. وإنّ التعرض المستمر للخطر، وفقدان الأحباء، والتوتر جرّاء العيش في مناطق النزاع يمكن أن يؤدي إلى تحفيز الاضطراب أو تفاقمه.
فَهْم هذه الأعراض أمر ضروري للتعرف المبكر والتدخل. والسعي للحصول على علاج للحالات النفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، هو خطوة حاسمة نحو التعافي وتحسين جودة الحياة، إذ يمكن أن يؤدي العلاج إلى تحسن كبير في المزاج، وآليات التأقلم، وتحسين القدرة على العمل في الحياة اليومية، وتحسين الصحة النفسية والرفاهية العامة.
في لبنان، وعلى الرغم من التحديات التي تفرضها الأزمات المستمرة، هناك موارد مختلفة متاحة لأولئك الذين يحتاجون إلى دعم نفسي، إذ يقدم الاختصاصيون النفسيون من معالجين وأطباء، الأدوات والاستراتيجيات اللازمة للأفراد ليتمكنوا من إدارة الأعراض التي يعانونها بشكلٍ فعّال. قد تشمل خيارات العلاج، العلاج النفسي الكلامي، الذي يساعد الأفراد على تحديد وتغيير الأنماط الفكرية والسلوكيات السلبية. وقد يشمل أيضًا العلاج الدوائي، الذي يصفه الطبيب النفسي، والذي يؤدي دورًا أساسيًا وفعالًا في إدارة الأعراض، وبخاصةٍ الشديدة منها.
يستطيع جميع اللبنانيين الوصول إلى خدمات الصحة النفسية من خلال:
- اختصاصيين نفسيين يعملون في الجمعيات غير الحكومية.
- المستشفيات (ومنها المستشفى العسكري) أو العيادات الخاصة .
أو الخدمات والموارد الوطنية المتاحة للجميع على الأراضي اللبنانية كافة، ومنها:
- متخصصو الصحة النفسية الموجودون في مراكز الرعاية الصحية الأولية المتوافرة في جميع أنحاء لبنان.
- الخط الوطني للدعم النفسي والوقاية من الانتحار 1564: يمكن للأفراد الذين يبحثون عن الدعم الاتصال بالخط الوطني. ويوفر هذا الخط الساخن المساعدة الفورية 24/7 ويربط المتصلين بمتخصصي الصحة النفسية الذين يمكنهم تقديم التوجيه والدعم والموارد. ويمكن أن يكون طلب المساعدة من خلال هذا الخط الساخن خطوة حيوية نحو الحصول على الدعم اللازم لإدارة التحديات النفسية بشكل فعال.
- تطبيق ”خطوة خطوة“ المجاني الذي يمكن تحميله عبر الهاتف. وهو برنامج دعم نفسي سري ومجاني للأشخاص الذين يعيشون ضغوطات ومشاعر صعبة. يتلقى المستخدمون دعمًا نفسيًا أسبوعيًا من خلال البرنامج عبر الهاتف من قبل أشخاص مدربين، وذلك لمدة 5 أسابيع.
في بلد يواجه اضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية هائلة، من الضروري أن تكون الصحة النفسية أولوية. يجب عدم تجاهل التحديات النفسية أو اعتبارها أمرًا طبيعيًا، وبخاصة في أوقات الأزمات. فالانتظار حتى زوال الأزمات لمعالجة المشاكل النفسية سيؤدي حتمًا إلى تأخير فترة التعافي وجعل العودة من المحن أكثر صعوبة. من خلال المعالجة المبكرة للمشكلات النفسية واستخدام الموارد المتاحة، يمكن للأفراد استعادة صحتهم النفسية وعيش حياة مليئة بالإنجازات رغم الصعوبات التي يواجهونها، فطلب المساعدة هو دليل على القوة، وليس الضعف. ومن خلال توفير خدمات الصحة النفسية الكافية، وزيادة الوعي، وخلق بيئة داعمة، يمكن التخفيف من تأثير الأزمات المستمرة في الصحة النفسية لجميع اللبنانيين. كما أنّ تشجيع المحادثات المفتوحة حول الصحة النفسية وتعزيز بيئة داعمة، يضمن للأشخاص الذين يواجهون تحديات نفسية حقوقهم، ويمكّنهم من استئناف أدوارهم في المجتمع والمساهمة فيه.