شعراء وقصائد

نزار فرنسيس وما في الشرايين من وطن
إعداد: د.هيام كيروز

د.هيام كيروز

 

ولد نزار فرنسيس في رأس بعلبك، أما ولادته كشاعر فتمّت في المدرسة، في لحظة تحدٍّ كشفت موهبة ابن الثانية عشرة… منذ ذلك الحين، أخذ الفتى اليافع يتلمّس الطريق التي توقّدت في روحه، وأحدثت تحوّلًا شاملًا في مسيرته. فانصرف إلى القراءة في مواضيع التاريخ والجغرافيا والسياحة والأدب والتراث الشعبي. ونهل من الشعر معزّزًا ولعه به بإبداعات سعيد عقل وتحليقاته وفكره، وبافتخارات المتنبّي، ولمعات إيليا حاوي، وجماليات خليل روكز، وطراوة ميشال طراد، وتلوينات جوزف حرب. فالمعرفة مفتاح أساسي في حقل الموهبة، واتساعها يغني البوح الشعريّ. وهو راكم على مدى سنوات، ثقافة متنوعة قادته إلى منظور جديد للحياة يوحّد بين الشاعر ورسالته الوطنية والاجتماعية.

المتابع لشعر نزار فرنسيس يدرك أنه خصّص موهبته لعناق شعريّ مع جوهر الكينونة اللبنانية في رموزها ودلالاتها وتعابيرها الأكثر غنًى. الأرز والجيش ركنان أساسيان في قصائده، ثالثهما مبادئ الحرية والكرامة والسيادة. والمتابع لشعره يُدرك أيضًا أنّ جماليات شعره اختمرت في معجن العاطفة، وكأنّ الشعر بالنسبة إليه نافذة تتيح لما في داخله أن يتفجّر إبداعًا.

 

ولادة شاعر

الحوار في بيته، تحوّل إلى «دردشة» ودّية حول نتاجه الشعري، انطلاقًا من البدايات.

لكل موهبة لحظة تُشكّل محطة مفصلية في ظهورها وتجلّيها، وعن هذه المحطة يُحدثنا نزار فرنسيس، فيروي:
كنت بارعًا في إلقاء الاستظهار بنبرةٍ تعبيرية أخّاذة، لذا اختارتني إدارة مدرسة راهبات القلبين الأقدسين، حيث كنت أتعلّم، لإلقاء قصيدة للشاعر أحمد شوقي في مناسبة عيد المعلم، وهي القصيدة الشهيرة التي يقول مطلعها: «قمْ للمعلّم وفّه التبجيلا… كاد المعلم أن يكون رسولا». كان ذلك في أوائل السبعينيات، ولي من العمر اثنتا عشرة سنة. لفرط حماستي أخبرت أهلي بالأمر، فاعتلاء المنبر كان يعني الكثير في عمري. إلّا أنني في اليوم المقرّر، أُصبت بخيبةٍ كبيرة لمّا علمت بأنّ أستاذ اللغة العربية استبدلني بزميلٍ آخر، ما أشعل بداخلي غضبًا، فرفضت الاستسلام للقرار، وأصرَرْت على مواجهته بالتحدّي. سألت الأب المسؤول حنا عوض، إذا كان بإمكاني إلقاء شعر من تأليفي بعد زميلي، فوافق. لم أكن بوارد كتابة الشعر، لكن ترقّب أبي ولهفة أمي شكّلا حافزًا عميقًا للمحاولة، كنت أريد اعتلاء المسرح مهما كلّفني الأمر.
نصف ساعة كان خلالها رفاقي يلهون في الملعب، كانت كافية لكتابة باكورتي الشعرية التي اختزلت التحدّي، وأدهشت الأب عوض، فقدّمني قائلًا: «شهد هذا اليوم ولادة شاعر!»

وانطلقت صادحًا بفخر:
يا معلّم الأجيال بحروف الأبجديّي يا محقّق الأحلام بزنـود الطريـــيّ
يا ريــــــت فيّي ع السمـــــــــا أطلـــــع وجبلك النجمات باقة ورد جوريّي
وحطّ القمر بيناتهن يضوي ويلمع وأعملّك من القلب أجمل مزهريّــي

 

المعرفة ومفاتيح الشعر

علا التصفيق، وعلت قامتي مزهوّة بتحقيق أمنيتي أمام أمي وأبي وإخوتي وقد علت أذرعهم ملوّحة بفرحٍ، وأرفق الأب حنا عوض الثناء بنصيحة: «عليك بالاطّلاع والقراءة لأنّهما يغنيان مخزونك الفكري، ولأنّك بالمعرفة تقبض على مفاتيح الشعر بفعالية».
كانت تلك الشرارة التي أشعلت ذلك الميل الرابض داخلي، رحت أراكم معرفتي بالقراءة المتواصلة في الميادين كافة، استقيت من الشعراء اللبنانيين، ومن الأخوين رحباني، وتأثرت بمحمود درويش.
وعلى ضوء إلهاماتهم اكتمل شكل قصيدتي بتطويع قواعد العروض الكلاسيكية. وبزغ شعري وتطوّر ونما بالمخيّلة والرؤى وآفاق التاريخ، فالنهر ما كان له أن يكون غزيرًا، إلّا لأنّ عدّة روافد غذّته. وقد منحتني المعرفة الوارفة التي صقلت شعري في ظلّها لقب «الشاعر» وأنا في عمر يافع.

 

الشعر خطة مضادة لليأس

ماذا عن تأثير الحرب والأحداث المأسوية التي ألمّت بلبنان في شعر نزار فرنسيس؟
في السابعة عشرة من عمري، وجدت نفسي وسط جولات العنف والاقتتال، وحالات الرعب والحزن، ودوّامة الدّموع والدماء التي تسقي اليوميات، «فحوّلت المعاناة شديدة الإلحاح إلى إدانة للحرب وما ينتج عنها من تفريق الناس أشتاتًا، وما تفرزه من انهيار خلقي. البعض تدفعه الحرب إلى الانطواء والانسحاب، لكنّها أسهمت في تعزيز الشاعر داخلي، وتسلّلت وطأتها إلى لبّ العبارة الشعرية، فانطلقت كصرخةٍ تدعو إلى نبذ الفتنة والتماسك والوفاء للانتماء الوطني».

إذا ما وقفنا وقفة أخــوّي وبقينــــــــا ســــــــــوا
بكرا غصـون الأرز بتلـــــوي قـــــــــــدّام الهــــــــوا

ويضيف قائلًا: «أردت الشعر خطّة مضادة للبكاء ولليأس، من خلال العودة إلى الجذور والقيم. منحت الشعر همًّا وثيق الصلة بهموم الناس يعتمل داخلي، فليس كالشاعر من يعكس التفاعل مع الأحداث وشراستها، وليس كمثله يغدق من روحه ويطوّع مخيّلته للإضاءة عليها، محوّلًا قلقه إلى إبداع، كي يبقى المتلقي في حالة من التوهّج».
لبنان قبل الدني ودهور خلف دهور اجتمعو تَ صارو دني عَ كتاف تلّاتو
وتاريخ عمر الزمن قبل الزمن محفور بإيدين شِغْل السما عَ جبين صخراتو

تمجيده للبنان نسق ثابت في شعره ينسحب على الانتماء الذي يعتبره الشاعر خط الدفاع الأول عن الوطن، وفي هذا السياق يقول:
«انتمائي الوطني يلازمني منذ ربيعي الشعري، وقد شكّل عصبًا في روح نتاجي وفي صياغته، بل حثّني على ابتكار أفق رحب في التعبير، بما تحمله الكلمات من طاقات مخزونة تحكي عن الوجع الواحد في الوطن الواحد، ذي الفرادة المتميّـزة، الشبيه بلوحة من الفسيفساء، إذا نزعت قطعة منها تغيّرت معالمها. أكثر ما نحتاج إليه في التربية والمناهج ثقافة الانتماء. في هذا السياق يتحمل الفنان مسؤولية كبيرة، لأنّه يمتلك قدرة التفاعل مع الجمهور، وبالتالي عليه إيصال رسالة لبنان الواحد الجامع المشترك عبر فنّه.

بعد أكثر من ألفي قصيدة…
بعد أكثر من ألفي قصيدة أضافها إلى الإرث الشعري المحكيّ، ما زال نزار فرنسيس يُشهر ما في الشرايين من وطن، تقوم مداميكه على المؤسسة العسكرية، على الجيش الذي يأخذ حيّزًا واسعًا من شعره.
لا يرسم الشاعر حدودًا بين الوطن والجيش، فشعره يتوغّل في أبجديّة التعبير لـ«حامي الوطن»، و«خط دفاعه»، و«الصورة الحقيقية» عن «لبنان الحقيقي»، و«القلعة الوحيدة الصامدة». لا يهادن ولا يساوم بشأنه، ولا يتردّد في التحدي والتصدّي لكل من يحاول التطاول عليه، مؤسسة وعناصر يبذلون أنفسهم من دون حساب ليبقى الوطن.
ومن الطقوس الملازمة للشاعر مواكبة الجيش في عيده ومناسباته:
شو بقلّك بعيدك يا غلّاب المحـــــن ببصم إلك بالدم وبحبر الدمـــوع
إنت عرين سباع يا جيش الوطـــــــــن والـعمر عمـرك سبعتين طلــــوع
ويقول أيضًا:
وحقّ يلي استشهدوا تيضلّ في لبنان ووحيـاة أرزة ع كتـف الكون علياني من قلب قلبي أنا عن حـبّ عن إيمان بعلن ولائي إلك… يا جيش لبناني
تأكيدًا على تمسّكه بالمؤسسة العسكرية، يستدعي الشاعر صورًا تتشكّل لحمتها من الجيش وتلوذ الوطنية بكلماتها:
تســـلم الإيد الحـــاميــــة بيـــروت ويسلم لها زند اللي حاميهـــا
بيـروت بدهــا تضل مــا بتمـوت ما زال حسّك يا وطن فيهـــا

 

حسبي أن أكون غصنًا…

اتسم شعرك بإيقاعٍ نغمي عذب، الأمر الذي جعل قصائدك تتطاير على الشفاه، وتستقطب عددًا كبيرًا من المطربين والمغنين، مَن كان أول من غنى لك؟ ومن هو الصوت الذي تتمنى أن يغني شعرك؟
أول من غنّى كلماتي، ابن ضيعتي، عاصي بيطار (صهلة خيل)، ومع احترامي ومحبتي لكل المغنين والمطربين الذين تعاونت معهم، كنت أتمنى لو تخلّد كلماتي بصوت فيروز الأيقونة. حَسبي أن أكون غصنًا في هذه الأرزة المتألّقة، وأن أكون قد مررت بأحد الأقانيم الرحبانية التي ارتفعت بحضورها، وكوّنت مدرسة متكاملة متفرّدة لا يزول تألقها، ووحدة فنية جسّدت فلسفة الحركة الإنسانية المجتمعة عبر الشعر والصوت واللحن والموسيقى، وتفجّرت عطاءً عظيمًا جميلًا مهر حياتنا بنكهة طيبة.

 

كلمة أخيرة؟

ما زلت أُراكم معرفتي، وأبحث عن الجديد، وعن تعابير أكثر نضجًا، وأسعى لأن تتضمّن أشعاري إشعاعًا وطنيًا وإنسانيًّا، فالأفق مفتوح وكل يوم يشعّ.