من الواقع

غياب الدراما اللبنانية عن شاشاتنا كم كانت السهرات أجمل!
إعداد: ريما سليم

ريما سليم

 

في السابعة إلّا ربع من مساء كل يوم، يقفل ”العم بديع“ باب دكّانه ويهرول مسرعًا إلى منزله لمشاهدة مسلسل مدبلج يتابعه يوميًا عبر إحدى القنوات المحلية. ومثله لينا، ربة المنزل، التي تحضّر باكرًا طعام العشاء لعائلتها كي تتفرغ لمشاهدة مسلسل مدبلج آخر، ليتجدد موعد الإثنين مع مزيد من أبطال المسلسلات المدبلجة بعد نشرة الأخبار.

بديع ولينا هما عيّنة من كم كبير من المشاهدين اللبنانيين الذين أصبحت المسلسلات المدبلجة جزءًا من روتينهم اليومي، ينتظرونها كل ليلة، ويتابعونها على الإنترنت إذا لم يتمكنوا من مشاهدتها على التلفاز.

ظاهرة المسلسلات المدبلجة التي تغزو الشاشات المحلية ليست جديدة في لبنان، ولكن الارتفاع المتزايد لنسبة مشاهديها واستقطابها اهتمام المعلنين يطرحان بإلحاح أزمة الإنتاج التلفزيوني المحلي وأسباب تراجعه لصالح المسلسلات المدبلجة.

في تقرير لمركز psosا للدراسات الإحصائية، حول توزيع النفقات الإعلانية على الشاشة اللبنانية من العام ٢٠٢٠ إلى العام ٢٠٢٣، تبين أنّ المسلسلات التركية حافظت على النصيب الأكبر، حيث ارتفعت نسبة الإعلانات خلال عرضها من ٣٨% في العام ٢٠٢٠ إلى ٤٩% في العام ٢٠٢٣. والعكس صحيح بالنسبة إلى المسلسلات اللبنانية التي تراجعت نسبة إعلاناتها من ٣٢% في العام ٢٠٢٠ إلى ٢٩% في العام ٢٠٢٣.

إنّ ارتفاع نسبة الإعلانات خلال عرض المسلسلات التركية يعني أنها تستقطب العدد الأكبر من المشاهدين، فما السبب؟

 

مرشليان: لا إنتاج من دون دعم

تؤكد الكاتبة والممثلة كلوديا مرشليان أن عدم توافر الإنتاج أي التمويل، هو أبرز العوامل المسبّبة لتراجع المسلسلات المحلية لمصلحة الإنتاج التركي، موضحةً أن غياب الدعم المالي يحول دون تطوّر الدراما اللبنانية إلى صناعة وطنية قادرة على المنافسة. وتضيف أنّه لطالما كانت الدراما في لبنان قائمة على المجهود الشخصي ولم تلقَ أي دعم من أي جهة رسمية، على عكس ما نشهده في غالبية الدول الأخرى التي تعتبر الدراما من بين الصناعات المهمة وتحقق من خلالها عوائد مالية كبيرة، والمثل على ذلك تركيا. هذا وللأسف، ما يجعل المسلسلات التركية تحتل الحيّز الأكبر على شاشاتنا المحلية بدءًا من الخامسة بعد الظهر وحتى منتصف الليل، خصوصًا أنّهم يبيعون المحطات اللبنانية مسلسلات عرض رابع وخامس، حيث لا يتجاوز ثمن الحلقة الألفي دولار أميركي في الحد الأقصى، في حين تتراوح كلفة إنتاج الحلقة الواحدة محليًا ما بين خمسين ألف دولار وستين ألف دولار كحدٍ أدنى.

وتوضح مرشليان أنّ عدم توافر التمويل، لا يعني أنّ المنتجين لا يم­لكون السيولة اللازمة للإنتاج، بل المشكلة أن المحطات التلفزيونية في لبنان لا يمكنها شراء الإنتاج المحلي بسبب نقص الإعلانات، الذي يرتبط بدوره بضعف الاستهلاك نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها لبنان. هذا ما يدفع المنتجين اللبنانيين إلى إنتاج مسلسلات وبرامج للأسواق الخارجية، حيث تتوافر السيولة على عكس الوضع محليًا.

وتشير في هذا الإطار، إلى اهتمام المستثمرين بالإنتاج السوري اللبناني المشترك أو الإنتاج (pan-Arab) كونه يشمل في بعض الأحيان الحضور المصري، وذلك أنّ هذا النوع يلاقي نجاحًا كبيرًا ويستقطب مشاهدين من الخليج العربي والدول العربية الأخرى.
وترى مرشليان أنّ الحل لأزمة الإنتاج المحلي يكمن ببساطة في تأمين التمويل مؤكدةً وجوب أن يكون هناك مستثمرون مستعدون لدعم هذه الصناعة، وهذا لن يحدث إلا إذا تمكن المنتجون من ضمان بيع مسلسلاتهم. في السابق، كانت محطات تلفزيونية تطالب بالإنتاجات المحلية، مما ساعد على وجود عدد من المسلسلات اللبنانية. لكن في الوقت الحالي، بات من الصعب على المنتجين بيع أعمالهم، وهذا ما يدفعهم إلى الابتعاد عن الإنتاج المحلي.

وتؤكد الكاتبة والممثلة اللبنانية أنّ المشاهد اللبناني قد يستمتع بمشاهدة مسلسلات تعكس ثقافات وعادات مختلفة، إلا أن الحاجة إلى الإنتاج المحلي تبقى ملحّة. وتوضح أنّ دعم هذا القطاع سيكون خطوة مهمة نحو إعادة إحياء الدراما اللبنانية على شاشاتنا، وهو ما لن يتحقق إلا بانتعاش الاقتصاد اللبناني وتوفير التمويل اللازم للإنتاج.

 

شلالا: تحوّل المشاهدين إلى المنصات الرقمية

يختصر المخرج شارل شلالا أسباب تراجع الإنتاج التلفزيوني المحلي بثلاثة عوامل، بدءًا من الأزمة الاقتصادية، مرورًا بغياب الدعم الرسمي، وصولًا إلى تحوّل اهتمام نسبة كبيرة من المشاهدين إلى المنصات الرقمية.
ويقول شلالا إنّ تراجع الإنتاج التلفزيوني المحلي هو انعكاس للوضع الاقتصادي المتردّي في لبنان، مشيرًا إلى أنّ هيمنة المسلسلات التركية على الشاشات اللبنانية هي نتيجة مباشرة لانحدار قيمة الليرة، إذ أصبح من الصعب تغطية تكاليف إنتاج البرامج التلفزيونية المحلية، خصوصًا وأنّ عائدات الإعلانات لم تعد تغطي تكاليف إنتاج الحلقة الواحدة، فكيف يمكن للمحطة التلفزيونية أن تربح؟ وكيف لشركة الإنتاج أن تستثمر في هذه الصناعة؟

وفي إشارة إلى التحديات التي تواجه إنتاج المسلسلات المحلية، يقول شلالا إنّ إنتاج حلقة درامية في لبنان يقضي بإنهاء التصوير في غضون يومين لتأمين الربح، بينما تستغرق عملية التصوير في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وتركيا من ثمانية إلى عشرة أيام. ويوضح أنّ هذا الضغط الزمني يمنع الإنتاج من الوصول إلى مستوى عالٍ من الجودة، مثنيًا على الجهود الكبيرة التي يقوم بها الممثلون اللبنانيون الذين يبذلون كل ما في طاقتهم، وبأقل الإمكانات المتوافرة ليقدموا عملًا جيدًا. ويضيف: «في حين تدعم دول العالم الفن والإنتاج المحلي، فإن هذا الدعم مفقود في لبنان، لذلك تعتمد بعض شركات الإنتاج المحلية على اجتهاد شخصي وتعمل جاهدة لبيع إنتاجها إلى الدول العربية التي يفوق عدد سكانها الـ 350 مليون نسمة، كي يتاح لها أن تستمر.»

ويتحدث المخرج اللبناني عن تحدٍ مهم يواجه المحطات التلفزيونية اللبنانية ألا وهو تراجع كبير في أعداد المشاهدين لمصلحة وسائل الإعلام الرقمية أي السوشال ميديا، والإنترنت، ومنصات البث الإلكتروني مثل نتفليكس وشاهد وغيرهما. هذه المنصات تقدم للمشاهدين بدائل جذابة وشاشات بديلة، ما يخلق منافسة لا يُستهان بها للتلفزيون التقليدي.

 

هل من الممكن تشجيع الإنتاج المحلي في ظل هذه الظروف؟

يقول شلالا إنّ السبيل الوحيد هو إنتاج أعمال يمكن بيعها للخارج. فإنتاج أعمال ضخمة مثل «وأشرقت الشمس» ليس مجديًا حاليًا، لأنّها لا تثير اهتمام الدول العربية التي يختلف تاريخها عن تاريخ لبنان. ولذلك، تلاقي المسلسلات التركية نجاحًا إذ تقدم قصص حب تستقطب المشاهدين في مختلف الدول.

وإذ يشير إلى أنّ إنتاج الحلقة الدرامية اليوم أصبح يتطلب ميزانيات تفوق قدرة السوق الإعلاني اللبناني المحدود بسبب قلة عدد السكان، فإنّه يؤكد أنّ القدرة على إنتاج مسلسلات لبنانية بحتة تبقى ضعيفة، إلا إذا كانت من نوعية الـ Sitcom – situation comedy التي تتطلب تكاليف أقل.

 

الأقوى ولكن…

هل تقوم المحطات التلفزيونية المحلية بدورها على صعيد تشجيع الإنتاج المحلي؟

تؤكد إدارة البرامج في المؤسسة اللبنانية للإرسال أنّ الدراما اللبنانية هي الأقوى في لبنان، وباستطاعتها منافسة أهم الأعمال المدبلجة. لكن، وللأسف، فإنّ الأزمة المالية والاقتصادية الحادة وغير المسبوقة، بالإضافة إلى تراجع سوق الإعلانات، والمخاوف المتزايدة من الحرب، حالت دون استطاعة القنوات المحلية تلبية حاجة السوق المحلي من الإنتاجات المحلية، فكان البديل الطبيعي المسلسلات المدبلجة (التركية وغيرها)، والتي تنافس عالميًا من حيث الكلفة والمضمون، علمًا أنّ إدارة المحطة حريصة على الدراما اللبنانية وواعية لضرورة عودة المسلسلات اللبنانية، وهي تبذل مجهودًا في هذا الاتجاه من خلال إيجاد نماذج عمل قابلة للحياة ومستدامة، على أن تكون هناك عودة قريبة للدراما اللبنانية في شبكة البرامج الجديدة.

صحيح أنّ صناعة المسلسلات تندرج في إطار صناعات الترفيه، لكن لا أحد يجهل أنّ لها دورًا ثقافيًـا واجتماعيًـا مهمًـا، وأنّ من خلالها يمكن تعزيز مكانة القِيَم الوطنية والإنسانية، ومعالجة القضايا والمشكلات التي نعيشها خصوصًا في هذا الزمن الصعب. وبالتالي، فإنّ غياب الدراما اللبنانية عن شاشاتنا لا يطرح فقط مسألة اقتصادية تتصل بما يمكن أن تحققه صناعة الترفيه من عائدات، وإنما يتخطى ذلك إلى كثير من الأسئلة المتّصلة بهويتنا وتراثنا ومجتمعنا. وهذا ما يجعلنا نتحسّر على أيام الماضي، كم كانت السهرات أجمل!