تأثير القضية الكردية في المصالح التركية - الإيرانية

تأثير القضية الكردية في المصالح التركية - الإيرانية
إعداد: العميد الركن ميشال بطرس

المقدمة

لا يمكن اعتبار القضية الكردية وتجدّد اشتعالها مؤخرًا أنها نتيجة الأحداث الدراماتيكية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات،  ومع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، أو أنها وليدة التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة عقب أحداث الربيع العربي، بل تعود جذور هذه القضية إلى ما قبل توقيع اتفاقية ”سايكس – بيكو“ سنة 1916، بين البريطانيين والفرنسيين. لقد قسّمت هذه الاتفاقية أراضي السلطنة العثمانية إلى مناطق نفوذ، وحرمت الأكراد من إقامة دولة ووزعتهم على أربع دول هي: تركيا، إيران، العراق وسوريا. من جهة أخرى، فإنّ الحرب الإيرانية – العراقية التي دارت بين عامَي 1980 و1988، وجرت بعض فصولها في المناطق الكردية - العراقية المحاذية للحدود الإيرانية، كان لها التأثير الكبير في القضية الكردية.

فهذا التوزع الجغرافي والبشري الكردي على هذه البلدان الأربعة، إضافة إلى المعاناة التي تعرّض لها الأكراد، لم تخمد جذوة السعي التحرري لديهم، ومحاولة تحقيق حلمهم في نيل حقوقهم القومية والثقافية، رغم كل المآسي التي عاشوها.

من هنا تبرز القضية الكردية كواحدةٍ من أهم القضايا التي تتعلق بمسألة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، كما تُعد من أبرز المشكلات التي تهدد أمن منطقة الشرق الأوسط وسلامتها، خصوصًا أن الشعب الكردي یعیش في إقليم حساس جیوبولیتیكیًا وله أهمية بالغة في الاستراتيجية الدولية وموزع بین العراق، سوریا، تركیا وإیران، وإن لكل دولة أهمية خاصة وموقع بارز في العلاقات الدولية. وللتعمق أكثر في المسألة الكردية من الضروري البحث في تطور نشأة القضية الكردية وتحديد تأثيراتها في العلاقات التركية - الإيرانية.

القسم الأول

القضية الكردية وتطورات نشأتها

دامت الثورات الكردية أكثر من 100 عام ولا تزال مستمرة على شكل حركات وأحزاب منظمة، وعلى درجة عالية من القدرة السياسية والتعبئة العسكرية والجماهيرية من أجل تحقيق أهدافها والدفع في اتجاه استيعاب حقوق الشعب الكردي، ووضعها في أطر دستورية والالتزام بها.

تخص القضية الكردية أكثر من دولة في منطقة الشرق الأوسط، وتطورها داخل كل دولة له تأثيره المباشر أو غیر المباشر في تطور المسألة في الدول المجاورة، ما ینعكس على طبيعة العلاقات البینیة للدول. وقد تم استخدام القضية الكردية في كثير من الأحداث كورقة ضغط من قبل بعض الجهات ضد بعضها الآخر، الأمر الذي ضاعف من محنة الأكراد ومعاناتهم، وزاد من الخلافات بين الأطراف السياسية الكردية. ويبدو أن هذه الخلافات لها جذور اجتماعية – تاريخية، ما زالت مستمرة، وتعرقل السعي التحرري الكردي بشكلٍ عام، وفي كل بلد على نحو خاص.

أولاًً: جذور القضية الكردية في تركيا

اختلف المؤرخون حول عرق الأكراد، فتوصلت بعض الدراسات التاريخية والبحوث الأنثروبولوجية إلى أن الكرد من أصل آري قدِموا من شرق بلاد فارس - إيران، وكوّنوا الشعب الكردي، واستطاعوا أن يحافظوا على استقلاليتهم خلال فترة الإمبراطورية الآشورية، ثم ما لبثوا أن انقلبوا على الآشوريين وعقدوا تحالفًا مع الميديين. وتحدّث البعض الآخر عن أنهم مزيج من أقوام آرية وسامية مختلفة سكنوا في بلادهم الحالية، وكوّنوا الشعب الكردي، ما يؤكد انتماءهم إلى الجنس الآري. وكانت الزردشتية دين الأكراد الرسمي قبل الإسلام التي لم تنتشر إلا بين الأجناس الآرية، وهناك من يدينون بهذه الديانة في بعض مناطقهم بأعدادٍ قليلة. في المقابل، ذكر البعض الآخر أن الأكراد من أصل عربي هاجروا مع غيرهم من القبائل العربية من جنوب الجزيرة، وسكنوا المناطق الجبلية، واختلطوا بسكانها، ونسوا لغتهم العربية، وكوّنوا الشعب الكردي.

ينقسم الأكراد إلى أربعة شعوب هي كرمانج، كوران، لور وكلهر، وهم من بين أقدم الشعوب الآرية التي أقامت مدنية وحضارة، وفرضت نفوذها على القبائل الأخرى كما فرضت لغتها الكردية لغة عامة تستخدمها جميع القبائل والأمم في تلك الإمبراطورية الممتدة من منابع دجلة والفرات حتى خليج العرب، وعاصمتها آكبتان، حيث تُعد القومية الكردیة رابع أكبر قومية في الشرق الأوسط بعد كل من التركية، العربية والفارسية وهي موزعة بین دول تركیا، وإیران، والعراق وسوريا، ما یجعل منها أقلية في كل دولة.

يتكلم الأكراد اللغة الكردية التي تمثّل فرعًا من أسرة اللغات الهندو - أوروبية التي تضم اللغات الكردية والفارسية والأفغانية والطاجيكية، ويطلق على اللغة الكردية لغة البهلوان، أي لغة الأبطال أو المحاربين، كما أن كلمة كرد في الفارسية تعني البطل أو المحارب.

تعود مشكلة الأكراد في العصر الحديث إلى اصطدام الدولتَين الصفوية والعثمانية في معركة جالديران1 1514، وتوقيع اتفاقية أماسيا بين السلطان العثماني سليمان القانوني والشاه طهماسب2 في العام 1555، كُرّس بموجبها رسميًا تقسيم كردستان. ونصت الاتفاقية على تعيين الحدود بين الدولتَين، وبخاصةٍ في المناطق الكردية الصرف وشهرزور، وقارص وبايزيد، ما شكّل صفعة لآمال الأكراد في الحصول على استقلالهم. تلا ذلك توقيع عدة معاهدات، منها معاهدة زهاو أو تنظيم الحدود التي وقعت في العام 1639 3، أرضروم الأولى 1823، أرضروم الثانية 1847 4، اتفاقية طهران 1911، واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتَين الإيرانية والعثمانية التي وقعت في العام 1913 في الآستانة، إضافة إلى بروتوكول الآستانة في العام نفسه، ما زاد من تعميق المشكلة الكردية.

مع اشتداد الصراع الدولي في المنطقة بين كل من بريطانيا وروسيا، دخلت القضية الكردية منعطفًا جديدًا أخرجها من الحيّز الإقليمي إلى النطاق الدولي، بعد أن بدأت ترتفع حدة الاتصالات الروسية والبريطانية والفرنسية بالأكراد. وجاءت اتفاقية سايكس - بيكو التي وقّعت في العام 1916 لتحطّم الآمال الكردية في تحقيق حلمهم بالاستقلال، بعد أن تضمنت تقسيم السلطنة العثمانية لا سيما القسم الأكبر من كردستان ما عمّق المشكلة الكردية. في المقابل، ساهمت معاهدة لوزان التي وقعت في العام 1924 في إلغاء مشروع الدولتَين الأرمينية والكردية5 بعد أن تعهدت أنقرة بمنح سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات من دون تمييز. وقد اعتبر الأكراد أن هذه المعاهدة ضربة قاسية لمستقبلهم وآمالهم، وتحطيمًا لمشروع الكيان الكردي في كردستان - تركيا عبر الجمهورية الجديدة القائمة على أساس القومية. وقد أدى ذلك إلى نشوب ثورات كردية متلاحقة ضد السياسة التركية الجديدة، حيث قام الأكراد بسبع عشرة ثورة بدأت بثورة الشيخ سعيد بيران 1925 6 وانتهت بثورة سيد رضا في درسيم7، ما نتج عنها من تدفّق الهجرة الكردية الجماعية إلى سوريا والدول المجاورة.

ظلت المناطق الكردية المحرومة في شرقي تركيا تعاني نقصًا في مجالات الزراعة والصناعة والتعليم، ولجأت الحكومة التركية إلى عدة وسائل لإخماد الثورات والانتفاضات الكردية، من ضمنها العسكرية، بالإضافة إلى حرمان الأكراد التحدث بلغتهم وفتح مدارس لهم، أو إصدار المطبوعات الكردية باللغة الكردية، وبخاصةٍ في فترات الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا الحديثة في الأعوام 1960 و1971 و1980. كذلك لم تسمح الدساتير التركية، في الأعوام 1924 و1961 و1981، للأقليات القومية في تركيا، بتأسيس أحزاب سياسية، ما ولّد في نفوس الأكراد شعور التململ والتطلع إلى التحرر، فأسسوا الجمعيات والأحزاب السرية، التي كانت تأخذ بالمناهج الماركسية - اللينينية.

1 - تطور القضية الكردية في تركيا

شهدت تركيا صراعًا عنيفًا بين الدولة المركزية والأكراد استمر قرابة العام والنصف بين تموز 2011 وكانون الأول 2013. وبعد وصول المفاوضات بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني بشخص زعيمه عبد الله أوجلان إلى طريق مسدود، دخلت تركيا في دوامة جديدة من الاشتباكات العنيفة والاعتقالات، ارتفعت خلالها حدة التوتر السياسي الداخلي وساد الغضب العارم الذي أوشك على الانفجار، خصوصًا بين قاطِني محافظة ديار بكر وما يجاورها من المحافظات الأخرى ذات الأغلبية الكردية. أتت بعدها التطورات الإقليمية لتشكّل عاملًا سلبيًا في إنهاء الصراع التركي - الكردي، لا سيما مع تنامي طموح حزب العمال الكردستاني في تكرار تجربة شمال العراق في تركيا، خصوصًا أن حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي ووحدات الشعب في سوريا استطاعا صد هجمات تنظيم داعش الإرهابي على مدينة عين العرب «كوباني»، الأمر الذي ساهم في تدويل القضية الكردية وجذب التعاطف الدولي معها، ودَفَعَ تركيا إلى السماح بتمرير السلاح والمقاتلين الأكراد عبر أراضيها إلى المناطق الكردية في سوريا على الرغم من تصنيفها حزب الاتحاد حزبًا إرهابيًا كونه يشكّل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني. ضاعف ذلك صعوبة الوصول إلى اتفاق سلام نهائي مع الأكراد داخل تركيا، في ظل تنامي حدة الاستقطاب الداخلي على أسس طائفية وعرقية، خصوصًا أن الثورة الكردية قامت أساسًا بسبب تجاهل الهوية العرقية للأكراد في النظام السياسي والاجتماعي8.

تبدو القضية الكردية في تركيا حاليًا على مفترق مهم. فبعد موجات التصعيد الأخيرة، وبعد تصريحات قادة حزب الشعوب الديموقراطي المستفزة للدوائر السياسية والقانونية في تركيا9، والتي أدت إلى بدء التحقيق مع دميرتاش وطرح فكرة نزع الحصانة الدبلوماسية منه ومن بعض قادة الحزب الذين نادوا بالإدارة الذاتية وهو ما اعتُبر انتهاكًا لدستور البلاد10. وعلى الرغم من كل هذا التدهور في العملية السياسية، لا يزال الحل السياسي هو المخرج الوحيد، فضلًا عن أنه خيار الدولة التركية التي ترى أن حالة التصعيد مقصودة لإحراج الحكومة أمام الشعب الكردي. فلا بد من وجود أفق لحل القضية الكردية ترتكز على عدة اعتبارات، أبرزها توفر القناعة المتبادلة لدى كل من الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بعدم إمكان حل الأزمة بالطرق العسكرية والأمنية. فلا الحكومة التركية قادرة على إنهاء الحزب عسكريًا، ولا هو قادر على هزيمة الجيش التركي، كما أن المواجهة العسكرية بين الطرفَين ليست سوى تعميق للأزمة. فالطرفان قد تكبدا خسائر بشرية ومادية كبيرة خلال أكثر من 30 عامًا من الصراع، وزاد الضغط الشعبي والنخبوي عليهما لإنهاء ملف العنف وخصوصًا بعد النجاحات السابقة التي أكسبت العملية السياسية صُدقية، وأشاعت جوًا من التفاؤل، وبعد مساهمة بعض العوامل الإقليمية والدولية في تقوية الموقف التركي في إقناع حزب العمال بالتزام العملية السلمية، كتحسن العلاقات بين أنقرة وإقليم شمال العراق الكردي، وبروز آفاق الحل السياسي في سوريا، إضافة إلى التحسن المتوقع في العلاقات التركية - الروسية.

ويتوقف أفق حل القضية الكردية على مدى قناعة الحكومة التركية بخطورة المشكلة الكردية بالنسبة إلى مستقبل تركيا، وضرورة حلها بالطرق السياسية، مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات كبيرة، كمصير أوجلان والمسلحين الأكراد والعمل على إدماجهم في المجتمع بعد عفو عام أو تسوية ما، وقناعة الأكراد عمومًا وحزب العمال الكردستاني خصوصًا بأهمية اقتناص الفرصة المتاحة لإنهاء مرحلة من الصراع امتدت عشرات السنوات من دون إنجاز يُذكَر.

لقد التصقت القضية الكردية بحزب العمال الكردستاني، لذلك كان له التأثير الأبرز في القضية، من هنا ضرورة إلقاء الضوء حول نشاطاته على المستويَين الداخلي والخارجي.

2 - تأسيس حزب العمال الكردستاني ونشاطاته

أَولى قادة الحركة القومية الكردية في تركيا ثقافة الشعب الكردي اهتمامًا كبيرًا، فنشطوا في نشر نتاجهم الأدبي باللغة التركية. كذلك نشأت منظمات سرية كردية في كردستان تناضل من أجل الاعتراف بحقوق الأكراد القومية. فأُسس الحزب الديموقراطي الكردستاني في أواسط الستينيات، كذلك أُنشِئ حزب تحرير الأكراد في تركيا، ورابطة الحرية ومنظمة مقاتلي كردستان إلى جانب عديد من المنظمات الشبابية التي عملت على تطوير اللغة والفلكلور الكرديَين. وفي العام 1979، ومنذ الإعلان عن تأسيسه رسميًا استطاع حزب العمال الكردستاني أن يغير من معادلة الصراع بين الأكراد والحكومة التركية، وذلك بنشاطه المستمر في تعميق الوعي الكردي وتأكيد الهوية الكردية ومطالبها وحقوقها القومية11. فأصبح الحزب أحد مصادر التهديدات الرئيسة للأمن القومي التركي بعد تشكيله جيشًا (قوات كردستان) وإعلانه الكفاح المسلح وتشكيله الجبهة الشعبية الكردستانية التي تمثّل الجناح العسكري للحزب بقيادة أوجلان12.

ظهر تأثير حزب العمال الكردستاني في المسألة الكردية على المستويَين الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الداخلي، استُخدم العنف ضد الأهداف العسكرية والمدنية مشكّلًا هزات سياسية وعسكرية للنظام الأمني والسياسي في تركيا. أما خارجيًا، فقد اعتمد الحزب على النضال السياسي للتعريف بالقضية الكردية، وما يعانيه الأكراد من اضطهاد وتهميش، ولتنوير الرأي العام العالمي للتعاطف معهم، من خلال إنشاء عديد من المكاتب والمنظمات السياسية والحقوقية، وإصداره عديدًا من الصحف والمجلات في مختلف الدول الأوروبية والعربية الناطقة باللغة الكردية والعربية والأجنبية، واستغلاله لكل وسائل الدعاية والتثقيف. واستفاد بذلك من «الدياسبورا» الموجودة في أوروبا وعمل على تجنيدها وتعبئتها للقيام بأنشطةٍ ضد تركيا في الخارج، حيث تم تأسيس عديد من الجمعيات التي كانت تُعنى بالتعريف بالقضية الكردية، وإنشاء البرلمان الكردي في المنفى في لاهاي 1995، والذي لم يقتصر تمثيله على أكراد تركيا إنما ضم أكراد إيران والعراق وسوريا أيضًا، بهدف إظهار ضعف تمثيل الشعب الكردي في البرلمان التركي، مطالبًا بوقف القتال وحل المشكلة الكردية بطريقةٍ سلمية وديموقراطية. وقد استمد حزب العمال الكردستاني قوّته من دعم الجالية الكردية في الخارج، ومن مساندة بعض الدول كاليونان وأرمينيا والاتحاد السوفياتي السابق.

وفي مقابل النشاط الداخلي والخارجي لحزب العمال الكردستاني، اتخذت الحكومة التركية بحق الحزب عديد من الإجراءات. فقامت بحملاتٍ عسكرية واسعة ضد أعضائه ولاحقتهم، وأبرمت اتفاقيات أمنية مع بعض الدول لمراقبة حركة المواطنين واتصالاتهم المحتملة معه، بإشراف المؤسسة الأمنية والعسكرية التركية. كذلك عملت من الناحية السياسية على إقناع الغرب بتعريفها للإرهاب، في ما يتعلق بحزب العمال الكردستاني والمنظمات التابعة له والمتعاطفة معه، وبخاصةٍ منظمات الدعم الإعلامي والسياسي وشبكات التمويل، وقد أدرجت أسماء تلك المنظمات والشبكات في القوائم الأميركية والأوروبية لمنظماتٍ إرهابية13.

ومع تفاقم الأوضاع وزيادة الخسائر البشرية والمادية، حاول بعض القادة الأتراك ثني الحزب عن العمل المسلح عبر الدخول معه في مفاوضات سياسية لتحقيق مطالبه، لكن أوزال توفي قبل إتمام المشروع، ولم يلبث أربكان في الحكم إلا بضعة شهور فقط، لتستمر دوامة المواجهات العسكرية، وتبقى رؤية الدولة أمنيًا سيدة الموقف. وبقي الصراع المحدد الأساسي للعلاقات التركية - الكردية حتى العام 1999، حيث وُجّهت ضربة قاسية للحزب بعد اعتقال زعيم الحزب عبد الله أوجلان في نيروبي ونقله إلى تركيا في ١٦ تشرين الثاني ١٩٩٩، والحكم عليه بالإعدام، ثم خُفّف لاحقًا في العام ٢٠٠١ إلى السجن مدى الحياة انسجامًا مع توقيع تركيا بروتوكول إلغاء عقوبة الإعدام، كجزءٍ من متطلبات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي14.

وخلال محاكمته، أقر أوجلان بتلقّي منظمته الدعم من قبل عدد من دول المنطقة التي سمحت بشحن أسلحة إلى حزب العمال الكردستاني، كما وفّرت له معسكرات التدريب داخل أراضيها، وأرغمت الاتحاد الوطني الكردستاني على السماح بعمليات حزب العمال الكردستاني. واستطاعت الحكومة أن تخرج بنصرٍ حاسم بعد خمسة عشر عامًا من الصراع مع الحزب، وتمكنت القوات الأمنية التركية من القضاء على معظم مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وفرار عديد من الوحدات المتبقية إلى خارج الأراضي التركية15.

ثانيًا: تطور القضية الكردية في إيران

يقارب عدد الأكراد في إيران حوالي 10 مليون نسمة، ويشكّلون 14.3% من السكان البالغ عددهم 70 مليون نسمة، وتشمل كردستان - إيران أربع ولايات، هي إيلام وكرمنشاه وكردستان وأذربيجان الغربية، وتبلغ مساحتها 120 ألف كيلومتر مربع، أي 7.7% من مساحة إيران البالغة 1.548 مليون كيلومتر مربع. يتوزع قسم من أكراد إيران على المدن الإيرانية كطهران وخورسان ومشهد، حيث يمثّل الكُرد القومية الثالثة في البلاد، بعد الفرس والآذريين، وغالبيتهم من المسلمين السنّة، وقسم منهم شيعة، إضافة إلى ديانات وطوائف أخرى كاليزيدية، والكاكائية، واليهودية والمسيحية16.

يشكّل الأكراد إحدى المجموعات العرقية المكونة للمجتمع الإيراني ذي الأغلبية الشيعية. وكانت القضية الكردية إحدى القضايا المهمة التي كان لها تأثيراتها في الحياة السياسية والأمنية الإيرانية في تاريخ إيران. ومنذ إعلانه عن قيام الإمبراطورية الإيرانية في نيسان 1926، كانت أولى اهتمامات رضا شاه بهلوي المحافظة على وحدة الإمبراطورية الفارسية واستقرارها، في ظل التنوع العرقي والديني واللغوي ونشر الثقافة واللغة الفارسية في المنطقة الكردية في إيران. وقد تطورت القضية الكردية في إيران حيث كانت من بين اهتمامات شاه إيران عبر عديد من المراحل.

1 - إيران والقضية الكردية قبل الجمهورية الإسلامية

دخلت الحركة الكردية في إيران بعد أن تبلور الوعي القومي لديها في أول تجربة لدولةٍ كردية بعد الحرب العالمية الثانية، في وقت لم يعرف فيه العراق وتركيا مثل هذه التجربة، على الرغم من أن الحركات الكردية داخل هاتَين الدولتَين كانت أكثر نضجًا. جاءت تجربة ماهاباد في فترة عرفت فيها إيران ظروفًا داخلية خاصة. وفي ظل اشتداد التنافس بين دول الحلفاء ودول المحور على إيران، وتدخّل كل من الاتحاد السوفياتي وبريطانيا فيها، وبعد أن رفض شاه إيران الاستجابة للمطالب السوفياتية بإبعاد النفوذ الألماني عن الأراضي الإيرانية، أدى ذلك إلى تقسيم إيران إلى منطقتَين، الأولى شمالية سيطرت عليها القوات السوفياتية، بما فيها منطقة أذربيجان الإيرانية والمنطقة الكردية، والأخرى جنوبية سيطرت عليها القوات البريطانية17. وقد أدى الوجود السوفياتي شمال غرب إيران في المناطق الكردية، إلى تراجع النفوذ الإيراني فيها ما سمح للعناصر القبلية الكردية باسترجاع سيطرتها عليها. كذلك عمل الاتحاد السوفياتي على كسب هؤلاء العناصر إلى جانبه من خلال رفع شعارات تحقيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، الأمر الذي ترك لدى الزعماء الأكراد انطباعًا بإمكان الدعم السوفياتي لهم لتحقيق مطالبهم في إيران.

من هنا تم تأسيس حزب سياسي كردي في إيران تحت اسم جمعية بعث كردستان في العام 1942. وقد أخذ بداية طابع العمل السري، ثم تمكن من توسيع دائرة نشاطاته في المنطقة الكردية وبخاصةٍ في منطقة ماهاباد، وتولى قيادته قاضي ماهاباد محمد. وقد أثارت جمعية بعث كردستان مسألة إنشاء منطقة حكم ذاتي في أذربيجان الإيرانية عرفت بجمهورية أذربيجان المستقلة ذاتيًا18، مستفيدة من دعم الاتحاد السوفياتي للجمعية بعد استحصالها على التسمية الجديدة باسم الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني، للعمل العلني ولإنشاء دولة كردية مستقلة ذاتيًا في ماهاباد. كل ذلك بعد أن قام الحزب بثورةٍ في أذربيجان الغربية ضد الحكومة المركزية الإيرانية، والتي أدت إلى الإعلان عن قيام الجمهورية الشعبية الكردية بصفةٍ رسمية في ماهاباد في كانون الثاني 1946، وانتخاب القاضي محمد ماهاباد رئيسًا لهذه الجمهورية.

وعلى الرغم من أهمية تجربة ماهاباد بالنسبة إلى الحركة الكردية في إيران، فإنّ وجودها ارتبط بالوجود السوفياتي في المنطقة، لكنها لم تدُم طويلًا. فسرعان ما انهارت مع انسحاب القوات السوفياتية من شمال غرب إيران، على أثر الضغوطات التي تعرّض لها الاتحاد السوفياتي نتيجة الخلافات التي ظهرت بينه وبين إيران من جهة، وبينه وبين مجلس الأمن الدولي والمعسكر الغربي من جهة أخرى بسبب مسألة وجوده في هذه المنطقة، ومطالبة إيران بسحب قواته من المنطقة، مدعومة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه لم تتم الاستجابة للطلب الإيراني إلا بعد انسحاب بريطانيا من جنوب البلاد19. أدى هذا الانسحاب إلى انهيار كل من الجمهورية الأذربيجانية والكردية، بعد أن تمكنت القوات الإيرانية من استعادة سيطرتها على هذه المناطق من دون مقاومة كردية، وانهارت معها تجربة ماهاباد بصورةٍ نهائية في كانون الأول 1946، الأمر الذي أدى إلى تراجع نشاط الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني العلني، ليشكل جبهة معارضة للنظام الإيراني الذي تولى قيادته محمد رضا شاه بهلوي في العام 1941 خلفًا لأبيه رضا شاه بهلوي20.

في بداية الخمسينيات، عرفت الحركة الكردية في إيران نوعًا من الانتعاش في فترة حكم رئيس الوزراء مصدق بعد نجاحه في حركة المعارضة التي قادها ضد حكم الشاه، إلا أن سقوط حكومته أدى إلى تراجع الحركة الكردية مع سيطرة القوات الإيرانية على عديد من القرى الكردية، وتعرّض أعضاء الحزب الديموقراطي الكردستاني لحملةٍ من الاعتقالات، لمنع انتقال الحركة الكردية التي بدأت تتطور في العراق في بداية الستينيات إلى إيران. كذلك اتخذت حكومة شاه إيران عدة إجراءات كالعمل على نشر اللغة الفارسية في المنطقة الكردية، وحظر اللغة الكردية في المدارس، مع إبقاء البث التلفزيوني بها، إضافة إلى دمج الأكراد داخل المجتمع الإيراني، والتشديد العسكري، السياسي، الاقتصادي والثقافي في المناطق الكردية التي ظلت طوال فترة الستينيات تعيش أوضاعًا اقتصادية واجتماعية صعبة.

إلا أنه وفي مطلع السبعينيات، ومع بداية الدعم العراقي له، استعاد الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني نشاطه، وتبنّى بذلك مطلب الحكم الذاتي لكردستان إيران في إطار الدولة الإيرانية الديموقراطية، متبعًا العمل المسلح ضد حكم الشاه من دون التخلي عن أشكال النضال الأخرى لتحقيق أهدافه. فدعا إلى ضرورة إقامة نظام ديموقراطي يضمن الحريات الديموقراطية للشعب الإيراني، مع الاعتراف بالحكم الذاتي، وتحسين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمستوياتها المختلفة للشعب الإيراني بما فيه الشعب الكردي. وقد أدرج نضاله ضمن عمل القوى المعارضة لنظام الشاه الذي حاصر الحركة الكردية – الإيرانية، وشدد الإجراءات الأمنية في المناطق الكردية، ابتداءً من العام 1974 لغاية 1978. هذا وإن التطور الأبرز الذي طبع القضية الكردية كان بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979.

2 - المسألة الكردية في إيران بعد قيام الجمهورية الإسلامية

انتظم نشاط الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني في حركة الاحتجاج العامة ضدّ حكم الشاه التي انطلقت مع مطلع 1978، لتمتد المظاهرات والاضطرابات إلى المنطقة الكردية. ومع تزايد الضغط الشعبي وتطور الأوضاع السياسية التي عرفتها إيران خلال تلك المرحلة، أعلنت الحكومة الإيرانية علانية الأحزاب السياسية، ما مكّن الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني من استعادة نشاطاته بصفةٍ رسمية في منطقة كردستان.

بعد نجاح الثورة الإسلامية في العام 1979، تمكن الأكراد من تجسيد الحكم الذاتي داخل المنطقة الكردية، فقاموا بإنشاء مؤسسات لإدارة الشؤون المحلية، وتشكيل ميليشيات شعبية مسلحة، كما تم تعيين عبد الرحمن غاسملوا أمينًا عامًا للحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني، وتشكيل مجلس الشعب الكردي، الذي تولى الدخول في مفاوضات مع الحكومة الإيرانية للحصول على اعتراف رسمي بالحكم الذاتي21. إلا أن هذا المطلب لم يكن مقبولًا من قبل السلطة الإيرانية الجديدة باعتباره سيكون بمنزلة خطوة أولى أمام طرح مطالب من نفس النوع لدى القوميات الأخرى، ما قد يؤدي إلى تعريض إيران إلى الانقسام والتشتت. أدى ذلك إلى بروز الخلافات والتوترات في العلاقات بين الحركة الكردية والقوات الإيرانية حول المسألة الكردية التي وصلت إلى مرحلة المواجهات المسلحة بينهما، وتمكنت بنتيجتها القوات الإيرانية من استرجاع رقابتها على المدن الكردية في نهاية 1979. ودخل الطرفان في مفاوضات فشلت بسبب رفض الحكومة الإيرانية مطلب الحكم الذاتي المقدم من قبل الحزب الديموقراطي الكردستاني، وبسبب رفض الأكراد الاستجابة لطلب الحكومة الإيرانية في ما خص تسليم السلاح كشرطٍ أولي للتوصل إلى أي حل للمشكلات العالقة بين الطرفَين. فعادت المواجهات بين الطرفَين خلال 1980، كما زادت حدة التوتر بينهما نتيجة رفض القادة الأكراد سيطرة رجال الدين على مجال السياسة في البلاد، ومواجهة عديد من الأحزاب الكردية لهذه المسألة من خلال تبنّي العمل المسلح22.

أتت الحرب العراقية الإيرانية لتساهم بعودة النشاط الكردي المناهض للنظام الإيراني. وعملت إيران على مقاومتها ومواجهتها كجبهةٍ داخلية إلى جانب جبهة العراق الخارجية، ما أدى إلى إضعاف الحركة الكردية وتراجع الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني ومقاتلي كومله (البشمركة) على الرغم من الدعم الذي كانوا يتلقّونه من العراق، وانتقلت معظم البشمركة الكردية إلى شمال العراق. كذلك فشلت محاولات التفاوض بين السلطة الإيرانية والمعارضة الكردية المسلحة. فاستمر الخلاف حول مسألة الحكم الذاتي الذي رفضت السلطة الإيرانية منحه للأكراد، وقدّمت دعوة لهم بالتخلي عن العمل المسلح، فيما عمدت في المقابل إلى التقدم بمشاريع لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمناطق الكردية، ومنح حقوق ثقافية للأكراد، على غرار بقية القوميات، من خلال السماح بنشر اللغة والثقافة الكردية، بشكلٍ لا يتعارض مع توجهات الجمهورية الإسلامية.

حسمت نهاية الحرب العراقية - الإيرانية النزاع بين الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي وجد نفسه من دون دعم خارجي والنظام الإيراني، ما دفع الحزب إلى اعتماد العمل السياسي واللجوء إلى المفاوضات مع السلطة الإيرانية بين عامَي 1988 و1989 في مدينة فيينا بعد تولّي هاشمي رفسنجاني السلطة في إيران، والذي تمثلت سياسته الخارجية بالانفتاح والداخلية بالتحرر. ومُنِحَ الأكراد حريات كبيرة على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي عبر نشر اللغة الكردية، من دون السماح بتحقيق الأهداف السياسية المتمثلة في الحكم الذاتي. وأتت عمليات الاغتيال التي استهدفت أهم قادة الحزب الديموقراطي الكردستاني من «قاسملو» الذي شكّل اغتياله في 13 تموز 1989 ضربة قاتلة للحزب، إلى «شرفكندي» الذي اغتيل في أحد مطاعم برلين في 17 أيلول 1992، حيث خلفه بعد ذلك مصطفى حاجي الذي اضطر إلى التخلي عن منصبه كأمينٍ عام للحزب لعبد الله علي حسين زادة في العام 1995، بعد تعرّضه للملاحقة من قبل القوات الإيرانية داخل العراق23.

لقد تمكنت إيران من إضعاف الحركة الكردية، ومنعها من التطلع إلى تحقيق أهدافها السياسية المتمثلة بمطالبتها بالحكم الذاتي، وحصر مطالبها في الأمور الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. في المقابل، لم يتمكن أكراد إيران من تحقيق ما توصل إليه أكراد العراق من تجاوز لمسألة الحكم الذاتي إلى إقامة حكومة كردية شمال العراق، وذلك بسبب غياب الدعم الخارجي وملاءمة الظروف الدولية والإقليمية، والانقسامات الطائفية بين الكرد السنة الموجودين في إقليم كردستان وبعض أجزاء من أذربيجان الغربية، والكرد الشيعة الموالين لطهران والقاطنين في محافظتَي كرمانشاه وإيلام.

لقد عمّقت الأحداث الدامية عدم الثقة بين الجماعات السياسية الكردية التي كانت تتمركز في المنطقة الحدودية الجبلية المتاخمة لتركيا والعراق وإيران، وكان يصعب على الحكومة الإيرانية السيطرة على مناطق انتشار الجماعات الكردية بسبب صعوبة تضاريسها، ما وفّر للمتمردين الأكراد درجة عالية من التحرك، ودفع الحكومة الإيرانية إلى اعتبار المناطق ذات الغالبية الكردية مناطق اضطرابات بين قوات الأمن الإيرانية ومقاتلي الحياة الحرة المتفرع من حزب العمال الكردستاني - الإيراني، كما رفضت الاستثمار فيها ما ساهم في بقائها أقل نموًا24. وقد طالب مرارًا حزب العمال الكردستاني بالفيدرالية الإيرانية التي من شأنها ضمان قدر كبير من الحكم الذاتي ومن الحقوق الثقافية الأكبر للكرد الإيرانيين، واستمرت الاشتباكات بين الطرفَين لغاية تموز 2011، حين أعلن الحزب وقف إطلاق النار، إلا أن ذلك لا يلغي بالطبع تأثير القضية الكردية في إيران وعلاقاتها مع تركيا25.

القسم الثاني

القضية الكردية والعلاقات التركية - الإيرانية

تسببت أنشطة حزب العمال الكردستاني المتواصلة في تركيز جهود الحكومة التركية على المنظار الأمني للحركات الكردية وعلى المحاولات الإيرانية للعب الورقة الكردية ضدها. ولهذا حاولت أنقرة التنسيق مع الحكومة الإيرانية في إجراءاتها ضد الحركات الكردية المسلحة، إلا أن المصالح المتضاربة بين البلدَين حالت دون التعاون الفعال. فتصاعُد الكفاح المسلح الكردي خلال ثمانينيات القرن الماضي أثّر سلبًا في العلاقات التركية - الإيرانية، حيث ألقت إيران اللوم على تركيا لإيوائها الجماعات الكردية المسلحة، ما عزز عدم الاستقرار في المناطق الكردية في شمال غرب إيران بسبب الهجمات المنطلقة من الأراضي التركية. كذلك ساهم تعاون حزب العمال الكردستاني مع الحزب الديموقراطي الكردستاني الحليف لإيران في التأثير سلبًا في العلاقات التركية الإيرانية، حيث رفضت طهران طلب أنقرة بمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني وملاحقته داخل الأراضي الإيرانية، على الرغم من الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين البلدَين في تشرين الثاني 1984 في أنقرة ومن البروتوكول الأمني الجديد، واللذين يلزمان الطرفَين بمنع أنشطة أي مجموعة تنخرط في أعمال تخريبية ضد أمن الطرف الآخر، وكذلك بإقفال المعابر الحدودية غير الشرعية بين البلدَين، وإنشاء لجان أمنية على مستوى الخبراء وكبار المسؤولين26.

وقد تميزت العلاقات التركية - الإيرانية بالتنافس حول بعض جوانب القضية الكردية وبالتعاون حول جوانب أخرى.

 

أولاًً: التنافس والتعاون التركي - الإيراني حول القضية الكردية

على الرغم من الاتفاقيات الأمنية بين البلدَين، تواصلت الاتهامات التركية لإيران بالسماح لحزب العمال الكردستاني بإنشاء معسكرات تدريب على أراضيها، للقيام بعملياتٍ إرهابية ضد تركيا، وقد أنكرت طهران وجود هذه المعسكرات، لكنها اعترفت في الوقت نفسه بصعوبة ضبط المنطقة الحدودية التي يستغلها بعض أعضاء حزب العمال الكردستاني. وقد أتت اعترافات زعيم الحزب عبد الله أوجلان الذي اعتقل في شباط 1999 خلال محاكمته لتُفاقم التوترات وتؤثر سلبًا في العلاقات بين أنقرة وطهران. وما زاد الأمر سوءًا خرق طائرة تركية المجال الجوي الإيراني، وقصفها لموقعٍ عسكري بالقرب من بيرانشهر في تموز 1999 ومقتل خمسة جنود إيرانيين، ما أدى إلى رد فعل قوي من وزارة الخارجية الإيرانية، وإعلان رئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية عن حق بلاده في الثأر، واعتقال حرس أمن الحدود الإيراني جنديَين تركيَين لعبورهما الحدود بشكلٍ غير قانوني27.

 

1 - التنافس التركي - الإيراني حول القضية الكردية

تأثرت العلاقات التركية الإيرانية بالتنافس في إقليم كردستان - العراق، حيث استقر كل من المعارضة المسلحة الكردية - الإيرانية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وواصلوا هجماتهم عبر الحدود على تركيا وإيران، ما دفع بالدولتَين إلى الاقتراب من الأحزاب الكردية - العراقية لاحتواء هذه الهجمات. وبعد إتمام تركيا المصالحة مع الأكراد العراقيين وتعزيز وجودها الأمني والاستخباراتي في شمال العراق، تفاقمت المخاوف الإيرانية حول رغبة تركيا وطموحاتها في السيطرة على المنطقة في الوقت الذي عززت فيه علاقاتها مع ”إسرائيل“. فرفعت طهران من مستوى دعمها السياسي واللوجستي للاتحاد الوطني الكردستاني بهدف احتواء أنشطة المعارضة الكردية - الإيرانية التي استقرت في هذه المنطقة. كذلك اتخذت القوات الإيرانية بعض التدابير العسكرية في المناطق الحدودية، ودعمت طهران حزب الله الكردي الذي كان نشطًا في الجزء الذي يسيطر عليه البارزاني في شمال العراق كوسيلة ضغط ضد الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي أُجبر على وقف عملياته المسلحة داخل إيران. فاتهمت تركيا إيران بمحاولتها توسيع نفوذها في العراق، وضرب العلاقات التركية - العراقية بهدف غرس دولة كردية تحت حمايتها، لاستخدامها في زعزعة استقرار تركيا. لكن العلاقات التركية - الإيرانية ما لبثت أن تحسنت بسبب التقاء المصالح بعد الغزو الأميركي للعراق.

هذا وكان لتأسيس السلطة الكردية الذي تم في شمال العراق في العام 2010 دورًا في دفع تركيا إلى إعادة النظر في نهجها تجاه حكومة إقليم كردستان، بسبب حاجتها المتزايدة إلى الطاقة وخدمة لمصالحها التجارية، إضافة إلى رغبتها في تنشيط الدعم الكردي - العراقي لاستراتيجيتها الجديدة للحل السلمي للقضية الكردية في تركيا. ففتحت قنصلية لها في أربيل في آذار 2010، وزادت من علاقاتها الاقتصادية مع حكومة إقليم كردستان الذي أجبره وضعه الجغرافي على الانفتاح على تركيا بشكلٍ كبير، فكانت هذه الخطوة بمنزلة فرصة لتطبيع العلاقات مع الأكراد سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، فأصلحت العلاقات الاقتصادية ما أفسدته السياسة. وفي العام 2011، مثّلت حكومة إقليم كردستان سادس أكبر سوق للصادرات التركية، حيث بلغت 5.1 مليار دولار ووصل في العام 2013 ليصبح ثالث أكبر سوق للصادرات التركية التي بلغت قيمتها 8 مليار دولار، في حين بلغ إجمالي التعاملات التجارية بين حكومة الإقليم وتركيا حوالي 11 مليار دولار أميركي، في حين بلغ حجم العلاقات التجارية بين حكومة إقليم كردستان وإيران حوالي 6 مليار دولار28. وقد توّج هذا التقارب الاقتصادي من خلال اتفاق الطاقة الذي وقع في آذار 2013 لتسهيل تصدير النفط من إقليم كردستان، بعد أن قام بتركيب خط أنابيب جديد انضم إلى خط كركوك – جيهان، ووصل إلى محطة جيهان النفطية على البحر المتوسط، كما تم تزويد الأسواق العالمية بأول دفعة من نفط الإقليم في نيسان من العام نفسه، ما دفع إيران إلى السعي إلى إبرام اتفاقيات للطاقة مع حكومة كردستان العراق29 أيضًا.

ومع دخول تنظيم داعش الإرهابي كلاعبٍ جديد في العام 2014 واستيلائه على الموصل، وبسبب العلاقات المتوترة بين حكومة إقليم كردستان - العراق والحكومة المركزية في بغداد، طلب رئيس الإقليم مسعود البارزاني من برلمان كردستان إعداد استفتاء على الاستقلال، إلا أن إيران حذّرت حكومة إقليم كردستان من أي محاولة للاستقلال، مؤكدة أهمية الحفاظ على سلامة الأراضي العراقية ووحدتها من أجل إيران، خوفًا من بروز دولة كردية مستقلة، ومن احتمال أن تُكسب تركيا «إسرائيل» نفوذًا أكبر على كردستان العراق30. وفي الوقت الذي قدّمت فيه تركيا قليلًا من الدعم لحكومة إقليم كردستان، برزت إيران كداعمٍ رئيس لحكومة الإقليم ضد هجمات «داعش»، وزودتها بالأسلحة والذخائر والخبراء لتنسيق العمليات العسكرية، ما ساهم في تحسين العلاقات بين إيران وحكومة إقليم كردستان31. وبعد انضمام تركيا إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الذي تم تشكيله في آب 2014 لمكافحة داعش، نشرت قوة عسكرية صغيرة في بعشيقة بالقرب من الموصل، بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية من أجل تدريب كل من السكان المحليين وقوات البشمركة الكردية. وقد أثار ذلك خلافًا بين أنقرة والحكومة المركزية العراقية بسبب مخاوف العراق التاريخية من الطموحات التركية في شماله، كما دفع إيران إلى إدانة الوجود العسكري التركي في شمال العراق. فالتنافس بين إيران وتركيا حول كردستان - العراق قد امتد إلى شمال سوريا، حيث برز القلق التركي والإيراني من احتمال قيام دولة كردية، إلا أنهما لم تتمكنا من تنسيق سياساتهما في ما يتعلق بهذا التطور بسبب خلافاتهما الإقليمية والحذر في العلاقة بينهما.

2 - التعاون التركي - الإيراني حول القضية الكردية

باتت القضية الكردية من أكثر القضايا الملحة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وذلك بسبب المتغيرات السياسية والاجتماعية والأمنية التي ترتبط بها وتؤثر في المنطقة بأسرها. فإيران التي يقطنها نحو 11 مليون كردي، ظلت تتابع باهتمامٍ كبير تطورات القضية الكردية في تركيا والعراق وسوريا، وبخاصةٍ بعد حصول الأكراد في هذه الدول على بعض حقوقهم القومية، لكنها ظلت تعارض أبسط الحقوق القومية، كالزي الكردي في الإدارات والمؤسسات وتعليم اللغة الأم في المدن الكردية. فلجأت إلى ملاحقة الناشطين الأكراد المطالبين بالحقوق القومية والسياسية الدينية بتُهَم الإخلال بالأمن القومي والاتجار بالمخدرات ومعاداة النظام الإيراني.

تعود المخاوف الإيرانية من تطور القضية الكردية إلى فترة الوجود الأميركي في العراق وسقوط نظام صدام حسين في العام 2003، حيث كانت خشية طهران من توسع الأكراد في حكمهم الفيدرالي، ومن تصاعُد مطالباتهم الداعية إلى الانفصال وإنشاء كيان كردي مستقل، الأمر الذي قد يشجع الأكراد - الإيرانيين وبقية القوميات المنتشرة في عدد كبير من المدن والمناطق، على المطالبة بالحقوق نفسها، لذلك سعت إلى إفشال أي طموح كردي للانفصال عن العراق، وحذرت مسعود بارزاني مرات عديدة من السعي لتقسيم العراق.

بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وبعد عقدَين من عدم الثقة المتبادل والتنافس بين إيران وتركيا، وجدت الدولتان أن مصالحهما قد تلتقي حول موضوع القضية الكردية بعدما راودتهما شكوك حول نوايا الولايات المتحدة الأميركية بمنح الأكراد العراقيين استقلالهم، ما دفع بالأكراد إلى إرسال عدد من الوفود إلى كل من إيران وتركيا وبعض الدول العربية، كسوريا ومصر والمملكة العربية السعودية من أجل تهدئة مخاوفهم وطمأنتهم بالتزامهم العراق. واتبعت تركيا وإيران تجاه العراق والأكراد العراقيين سياسات متباينة. ففي حين عارضت تركيا إقامة نظام فيدرالي وإضفاء الصفة الرسمية على حكومة إقليم كردستان بعد اعتراف الدستور العراقي لعام 2005 بإقليم كردستان كإقليمٍ فيدرالي، دعمت إيران النظام الفيدرالي في العراق، بينما عارضت الاستقلال الكردي وسعت جاهدة لبناء تحالف سياسي يجمع الشيعة والأكراد العراقيين، كما وسّعت علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان. ففتحت قنصلية ثانية في أربيل 2005، بعد قنصليتها في السليمانية، كذلك افتتحت حكومة إقليم كردستان مكتب تمثيل لها في طهران 2007، إضافة إلى المكاتب الموجودة سابقًا للأحزاب الكردية العراقية في إيران. وساهم وجود القوات الأميركية في العراق في الحد من التدخلات الإيرانية والتركية في شمال العراق ومن أنشطتهما الاستخباراتية، فأصبح الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني يشجعان على انتقاد التدخلات الإيرانية والتركية في المنطقة وسياساتهما تجاه القضية الكردية، وتحولت حكومة إقليم كردستان إلى مركز للدعاية القومية الكردية والنشر والبث، فاستضافت عديدًا من المؤتمرات التي تناولت مستقبل الأكراد في تركيا وإيران32.

أدانت تركيا وجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، متهمة الولايات المتحدة الأميركية في فشلها في تقييد الأنشطة الإرهابية، التي كان يمارسها كل من حزب العمال الكردستاني وحزب الحياة الحرة الكردستاني من معقلَيهما في جبل قنديل في إقليم كردستان على إيران وتركيا، وبخاصةٍ بعد العام 2004. ساهم ذلك في مزيد من التعاون بين أنقرة وطهران، فشنّت المقاتلات التركية غارات جوية، في حين قصفت المدفعية الإيرانية قواعد مشتركة للحزبين في جبل قنديل، كما تبادلت الدولتان المعلومات الاستخباراتية، ونسّقت عملياتهما العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني. لكن هذا التعاون بين تركيا وإيران لم ينفِ الاختلاف في الرؤية والمقاربة بينهما حول القضية الكردية.

وعادت القضية الكردية إلى الواجهة بقوةٍ عندما أعلن رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني توصله إلى اتفاق مع عدد من الأحزاب الكردية، حول إجراء استفتاء لأكراد العراق لتحديد رغبتهم في الاستمرار في الحكم الذاتي، أم الانفصال عن العراق. قُوبِلَ هذا الإعلان بمعارضةٍ شديدة من قبل المسؤولين الإيرانيين، لأن من شأن ذلك أن يفاقم المشكلات ويوتر الأوضاع الأمنية في العراق. وبعد إعلان إجراء الاستفتاء في الإقليم، وجدت إيران نفسها أمام خطر حقيقي قد يهدد أمنها الداخلي ووحدة أراضيها، فبدأت في البحث عن سبيل لوقفه أو مروره بأقل تأثير على الأكراد في الداخل الإيراني الذين بدأوا حراكًا مكثفًا ضد طهران، خصوصًا بعد انضمام عدد من الأحزاب الكردية مثل الحزب الديموقراطي الكردستاني - الإيراني وحزب الحياة الحرة، إلى النضال المسلح ضد النظام الإيراني. فلجأت السلطات الإيرانية إلى التحالف مع بعض الأحزاب الكردية، ووظفت علاقاتها الجيدة مع البعض منهم، وخصوصًا المناهضة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني33، مستغلة إعلان هذين الحزبَين رفضهما القاطع لإجراء أي استفتاء لانفصال الإقليم، بحجة انتهاء ولاية بارزاني وعدم أحقيته في إدارة الإقليم وتقرير مصيره. كذلك استفادت من رفض حركة التغيير استمرار مسعود بارزاني في قيادة الإقليم، والاستفتاء في كردستان العراق، بحجة أن الأرضية غير ممهدة لإجرائه، وبسبب ملف المناطق المتنازع عليها مع بغداد والمشكلات العالقة داخل الإقليم، بعد أن كثفت لقاءاتها مع قادة الحركة وأقطابها، لحثّهم على رفض الجهود التي تبذلها حكومة الإقليم لإقناعهم بضرورة المشاركة في الاستفتاء.

ثانيًا: تأثير الطموح الكردي في تركيا وإيران

أثّرت القضية الكردية بشكلٍ عميق في تركيا وإيران لسنواتٍ عديدة، كما تسببت في مخاوف أمنية، فكانت حينًا مصدرًا للخلاف وحينًا آخر دافعًا للتعاون بين البلدَين اللذين استمرا في النظر إلى القضية الكردية على أنها مسألة أمنية، وإلى محاولات الأكراد من أجل تحقيق الحكم الذاتي كتهديدٍ لأمنهما القومي. وقد حالت المصالح الإقليمية المتنافسة لأنقرة وطهران دون تبنّي سياسات إقليمية منسقة ومتماسكة في ما يتعلق بالقضية الكردية، كما أفضى التنافس بينهما إلى مزيد من تشرذم الحركات الكردية في المنطقة، وإلى التنافس في ما بينها من خلال الكتل الإقليمية.

1 - الدور التركي - الإيراني في تعزيز الطموح الكردي

كان لتمركز حزب العمال الكردستاني - التركي PKK في شمال العراق وتحديدًا في جبال قنديل الأثر السيّئ في مسار العلاقات التركية - الإيرانية. فعلى الرغم من توقيع عديد من المذكرات الأمنية بين الجانبَين من أجل وضع حد للتوغلات العسكرية التي يقوم بها عناصر الحزب على طرفَي الحدود، فإنها لم تتمكن من الحد من نشاطات الحزب وتحركاته بسبب الدور الإيراني. ومع الغزو الأميركي للعراق 2003، توثقت علاقة الحزب بإيران التي نجحت في تنسيق تحركاته في مناطق شمال العراق. وبعد تحرير سنجار من سيطرة «داعش» في تشرين الثاني 2015، أصبح الحزب بقوته العسكرية أحد الركائز الأساسية في الشرق الأوسط، حيث وفرت له إيران انتشارًا عسكريًا في سنجار34.

لقد أعادت إيران إحياء روابطها التاريخية مع كل من حزب العمال الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني - العراقي الخصم الرئيس للحزب الديموقراطي الكردستاني - العراقي، كما سعت في المقابل إلى تقويض الحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان - العراق عن الحكومة المركزية في بغداد. ووقّعت عديد من الاتفاقيات تعهّد بموجبها الحزب بعدم تنفيذ عمليات ضد إيران على الحدود الغربية، كذلك تعهّدت مجموعات المعارضة الكردية الأخرى بعدم العمل ضد النظام الإيراني، مقابل الاستفادة من التعاون والدعم الإيرانيَين وبخاصةٍ في العراق. وبذلك يكون الحزب قد أصبح قادرًا على التأثير في حكومة إقليم كردستان العراق وعلى الحدود العراقية - السورية خوفًا من سيطرة الفصائل الموالية لتركيا وحدها35.

وعلى الرغم من توقيع تركيا وإيران عديدًا من الاتفاقيات الثنائية لمواجهة حزب العمال الكردستاني - التركي، والتي كان آخرها الاتفاقية الموقعة في أيلول 2020، فإنه لم يتحقق شيء لغاية تاريخه. فإيران لا ترغب بأن تترك ورقة حزب العمال الكردستاني لتركيا من دون مقابل عملي، حيث يحصل الحزب كما عديد من الفصائل الأيزيدية المرتبطة به على الدعم اللوجستي والفني من إيران، كما ساهم اختيار جبال قنديل، التي يقع بعضها داخل الحدود الإيرانية، كمقرٍ رئيس للحزب، إلى فتح الباب أمام تطوير العلاقات بين طهران وحزب العمال الكردستاني - التركي، لمنع أي عملية عسكرية تركية مرتقبة في منطقة سنجار من دون تفاهمات مسبقة مع طهران، حيث يبدو أن سنجار ستعيد المواجهة غير المعلنة بين تركيا وإيران. فالعلاقة بين البلدَين، شهدت تفاهمات عالية المستوى في ملفات مختلفة في المنطقة، خصوصًا بعد الاستفتاء الذي نظّمه إقليم كردستان – العراق في العام 2017. وكذلك بعد انطلاق مباحثات أستانا التي أدت إلى تقارب تركي - إيراني حول عديد من الملفات، تراجعت حدة المنافسة بين الطرفَين التي وصلت أوجها في أثناء معركة الموصل ضد تنظيم داعش الإرهابي. ولعل التراشق في التصريحات بين السفيرَين التركي والإيراني في بغداد خير دليل على الضرر بالتفاهم بين الجانبَين الذي ألحقه موضوع سنجار، ويمكن أن تكون الشرارة التي تعيد التنافس والصراع بين الطرفَين في المنطقة. فالقيمة الجيو - سياسية لمنطقة سنجار وامتداداتها الجغرافية، تجعل من مسألة الاحتفاظ بها عملية استراتيجية مهمة للغاية، ولذلك فإن صراع الإرادات بين تركيا وإيران حول هذه المدينة سيجد صداه داخل العراق وخارجها، وبخاصةٍ عندما يتعلق الأمر بمستقبل الدور التركي في شمال العراق، لا سيما في إقليم كردستان ونينوى وكركوك والتي ترى فيها تركيا مجالًا للنفوذ الجيو - سياسي. وبعد سيطرة الفصائل المسلحة على مدن نينوى وكركوك، بدأت تواجه تركيا واقعًا صعبًا، خصوصًا مع امتداد هذه السيطرة نحو سنجار، حيث ترى فيها تركيا وجهًا آخر للتضييق الإيراني، وبالتالي فإن الوصول إلى بيئة هادئة في سنجار اليوم، لن يتم من دون أن تكون هناك إرادة إيرانية حقيقية في هذا المجال.

فقدرة البلدَين على مواصلة إدارة العلاقات الثنائية بشكلٍ مستقر تتقلص بفعل التحولات الإقليمية، وبسبب رغبة كل من أنقرة وطهران استغلال الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأميركي في المنطقة لتعزيز دورهما الإقليمي، فضلًا عن اتجاه أنقرة إلى بناء شراكات استراتيجية مع «إسرائيل» ودول خليجية تجعلها طرفًا في تكتل إقليمي جديد، وأحد أهم أهدافه الرئيسة مواجهة النفوذ الإيراني.

2 - القلق التركي - الإيراني من تنامي الطموح الكردي

على الرغم من الخلاف بين إيران وتركيا حول عديد من الملفات، فإن ما يجمعهما هو الطموح الكردي في الانفصال لخشيتهما من انعكاساته المستقبلية على الأمن والاستقرار في بلديهما، ومن تشكيله لتوتراتٍ ومواجهات داخل العراق لتطال دول الجوار. ولم تمنع العلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة بين الحكومة التركية ومسعود بارزاني أنقرة من التعبير عن رفضها للاستفتاء في إقليم كردستان العراق. وقد وصف رئيس الوزراء التركي آنذاك بن علي يلدرم خطة أكراد العراق لإجراء استفتاء على الاستقلال بأنها خطوة غير مسؤولة، خصوصًا أن المنطقة فيها ما يكفي من المشكلات. كذلك أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن المُضِي قُدُمًا في هذا الاستفتاء يشكل خطأً فادحًا داعيًا الأكراد إلى المحافظة على وحدة العراق، في حين تمنى أحمد داوود أوغلو على أربيل المطالبة بحقوقها ضمن الحدود العراقية الواحدة. في المقابل، اتفقت كل من تركيا وإيران على رفض الاستفتاء المقرر في إقليم كردستان العراق، وعلى التعاون والتنسيق العسكري والأمني ضد حزب العمال الكردستاني بشقّيه التركي والإيراني. وقد أثار الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق قلق الدولتَين اللتين تعترضان عليه منذ الحرب العالمية الأولى، خوفًا من امتداد عدوى المطالبة بالاستقلال إلى أكراد تركيا وإيران، ثم أتت الأحداث السورية وما رافقها من بداية تبلور لنشوء كيان كردي للمرة الأولى على طول الحدود التركية السورية من الحسكة والقامشلي إلى عين العرب وعفرين، على يد قوات سوريا الديموقراطية الكردية «قسد» التابعة لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا، والذي له موطئ قدم في إيران أيضًا تحت اسم حزب الحياة الحرة الكردستاني، لتدفع بتركيا وإيران على محاربة حزب العمال الكردستاني، كل ذلك ساهم في تحقيق التقارب في مناخ العلاقات بين البلدَين.

هذا وقد زاد التوجس الإيراني - التركي من السياسات الأميركية لجهة إقامة عدد من القواعد العسكرية الجوية في سوريا، وتوفير الدعم للقوات الكردية، وإرساء أرضية علاقات مستمرة وطويلة الأمد بين واشنطن ومناطق سيطرة الأكراد، إضافة إلى إبرام اتفاقيات عسكرية واقتصادية. كذلك ارتفعت حفيظة أنقرة وطهران نتيجة تصاعد مستوى التنسيق بين موسكو وواشنطن في سوريا بشكلٍ يتعارض مع مصالحهما، ويحدّ من نفوذهما ودورهما في سوريا. وقد تُرجم التقارب التركي - الإيراني بتفاهماتٍ في سوريا والعراق من خلال تطويق المشروع الكردي الاستقلالي في سوريا والعراق، عبر ممارسة الضغوط على الاستفتاء في كردستان - العراق ومنع ضم كركوك، وعبر تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني في العراق (جبال قنديل وسنجار)، إضافة إلى تقويض الكيان الكردي في سوريا. لكن هذه التفاهمات لم ترقَ إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، خصوصًا أن البلدَين لديهما استراتيجيات مختلفة وتتميز العلاقات بينهما بإرثٍ من الصراع والتنافس على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وآسيا الوسطى، كما تتداخل في علاقاتهما العناصر الطائفية والمذهبية والمصالح الاقتصادية والأدوار الإقليمية.

الخلاصة

استخدمت القضية الكردية في كثير من الأحداث كورقة ضغط من قبل بعض الأنظمة ضد بعضها الآخر، الأمر الذي ضاعف من محنة الأكراد ومعاناتهم، وزاد من الخلافات بين الأطراف السياسية الكردية. وتعود مشكلة الأكراد في تركيا في العصر الحديث إلى معركة جالديران في العام 1514، وتوقيع اتفاقية أماسيا في العام 1555 التي كُرس بموجبها تقسيم كردستان وتعيين الحدود بين الدولتَين الصفوية والعثمانية، ما شكّل صفعة لآمال الأكراد في الحصول على استقلالهم. كذلك تسبّبت اتفاقية سايكس - بيكو في تحطم الآمال الكردية في تحقيق حلمهم بالاستقلال، ما عمّق المشكلة الكردية وزاد من تأثير حزب العمال الكردستاني في المسألة الكردية على المستويَين الداخلي والخارجي. أدى ذلك إلى نشوب ثورات كردية متلاحقة ضد السياسة التركية الجديدة إضافة إلى أحداث منفرقة بين الدولة المركزية والأكراد، فاتخذت الحكومة التركية عديدًا من الإجراءات، وقامت بحملاتٍ واسعة ضد أعضاء الحزب، نتج عنها تدفّق هجرة كردية جماعية إلى سوريا والدول المجاورة.

أما في إيران، فيعود تاريخ القضية الكردية إلى تأسيس الدولة الإيرانية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، فتحولت التطلعات السياسية للشعب الكردي من حين لآخر إلى حركات مسلحة تهدد أمن الأراضي الإيرانية وسلامتها. واجهت طهران النضال الكردي بنجاحٍ في مراحل معينة، واستخدمت الورقة الكردية بفعاليةٍ في سياستها الخارجية في مراحل أخرى، كما تعاملت الجمهورية الإسلامية التي تأسست بعد الثورة مع التحدي الكردي عبر استخدام استراتيجية تدمج بين التدابير العسكرية واحتواء الأكراد في دوائر السلطة.

ساهمت أنشطة حزب العمال الكردستاني العسكرية في تركيز جهود الحكومة التركية على المنظار الأمني للحركات الكردية المسلحة، وحاولت أنقرة التنسيق مع الحكومة الإيرانية في إجراءاتها ضد هذه الحركات، إلا أن المصالح المتضاربة بين البلدَين حالت دون التعاون الفعال، حيث تميزت العلاقات التركية - الإيرانية بالتنافس حول بعض جوانب القضية الكردية وبالتعاون حول جوانب أخرى.

في مطلع القرن الحادي والعشرين، ظهرت مؤشرات جديدة لتشكيل السياسة الدولية في ما يتعلق بالقضية الكردية. فمع استبدال النظام في العراق بحكومةٍ فيدرالية، وقيام حكومة إقليم كردستان التي أصبحت دولة شبه مستقلة، وإلى جانب المخاوف الأمنية، بدأت المصالح الاقتصادية للجهات الفاعلة الإقليمية في صياغة سياساتها، وبخاصةٍ المحاولات التركية والإيرانية لتطوير علاقات اقتصادية مع حكومة إقليم كردستان، فأصبحت القضية الكردية قضية مهمة على أجندة تفاعلات أنقرة - طهران. بناءً عليه، وعلى الرغم من الاختلافات حول عدد من القضايا الإقليمية بما في ذلك القضية الكردية، واصلت إيران وتركيا توسيع علاقاتهما الاقتصادية والسياسية.

أثرت القضية الكردية بشكلٍ عميق في العلاقات التركية - الإيرانية لسنواتٍ عديدة، خصوصًا مع دخول تنظيم داعش الإرهابي كلاعبٍ جديد في العام 2014، واستيلائه على الموصل في العراق، واندلاع الأحداث السورية وما رافقها من بداية تبلور لنشوء كيان كردي للمرة الأولى على طول الحدود التركية - السورية على يد «قسد» التابعة لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا، والذي له موطئ قدم في إيران أيضًا تحت اسم حزب الحياة الحرة الكردستاني. جاءت هذه التطورات لتدفع بتركيا وإيران على محاربة حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي ساهم في تحقيق التقارب في مناخ العلاقات بين البلدَين. إلّا أن الرؤى والمصالح الإقليمية المتنافسة لكل من أنقرة وطهران حالت دون تبنّي سياسات إقليمية منسقة ومتماسكة في ما يتعلق بالقضية الكردية، وأفضى التنافس بينهما إلى مزيد من تشرذم الحركات الكردية في المنطقة.

حاليًا، ومع عودة الحديث عن تقارب تركي - سوري عبّر عنه مؤخرًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تمهيدًا لعودة العلاقات التركية السورية إلى سابق عهدها، أي إلى ما قبل اندلاع الأحداث السورية، لا بد من طرح التساؤل الآتي، هل ستتم التسوية على حساب القضية الكردية؟ وما تأثير ذلك مستقبلًا في وضع الأكراد في كل من العراق وإيران وفي طموحهم الدائم لتأسيس كيان مستقل؟